أبعاد العالمية في الإسلام

أبعاد العالمية في الإسلام

 

 

أبعاد العالمية في الإسلام

 

السيد مجيب جواد الرفيعي

قم ـ إيران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مدلول الاخوة الإسلامية

تقوم الاخوة الإسلامية على مجموعة ركائز:

الأولى: أنه ليس المراد من الاخوة مجرد الانتماء إلى أصل واحد برابطة دموية، بل المقصود هو الرابطة النفسية التي تورث الشعور العميق الديني بالاعتبار الإنساني للآخرين واعتبار وجودهم على كافة المستويات من إنسانية وحقوقية ودينية. وهي بذلك رابطة إنسانية ومصدر الالتزام والتكامل ومنبع للأخلاق والحقوق: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(1).

الثانية: وهكذا فقد حلّت الاخوة الدينية محل العنصرية والجنسية اللّتين كانتا في العصر الجاهلي ولقد جعلت هذه الأخوة العرب أمة جديدة وامتدت بآفاق

________________________________

1 ـ سورة الحجرات، الآية: 10.

ـ(250)ـ

الإسلام إلى أوسع مدى: صارت آفاقه العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها.

وأوجدت هذه الاخوة أيضاً عند الفرد المسلم الإحساس بالجماعة الإسلامية ومصالحها وخيرها وعند الجماعة الإحساس بالفرد وخيره ومصالحه، ونتج عن هذا الإحساس المتبدل تضامن روحي وتضامن مادي هدفهما تمتين هذه الاخوة وبقاؤها.

ورسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الاخوة ما يقويها ويبقيها ويغذيها «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالسهر والحمى».

وتقوم أصول هذه الاخوة على التقوى «الحقيقية القلبية» التي تعني إنسان القضية الذي يعي ذاته وعقيدته ومجتمعه.

فالأخوة الإسلامية ليست انفعالا مبهما أو رباطة عصبية أو دعاية سياسية أو ديماغوجية إقليمية أو خيال شاعر أو حلم فيلسوف ولكنها روح الحياة الإسلامية في شمولها الإنساني ورسالتها الإصلاحية وصياغتها السوية للمجتمع البشري مبرأة من رياح التعصب وظلم العنصرية وجفافها.

وان من أهم مظاهر الاخوة الإسلامية النص على المساواة الإنسانية أي وحدة المجتمع الإنساني في الأصل والمنشأ والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات والتكليف والمسؤولية بشروطها وتفاصيلها الحقوقية الواسعة والمساواة الاجتماعية من يحث الاعتبار الإنساني بغض النظر عن المهن والطبقات والأشكال والألوان:

1 ـ فلقد ساوى الإسلام بني الأفراد والجماعات والأمم والشعوب بما لها من حقوق وما عليها من واجبات مساواة إنسانية عامة بين جميع الخلق ورفع لواء العدالة وسار بها في طريق الواقع العملي والتطبيق

ـ(251)ـ

الفعلي.

قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾(1).

وقال عزّ اسمه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(2).

عدلاً مطلقاً مبرأ من التأثر بالهوى أو العوامل الشخصية كالحب والبغض والقرابة والغنى والفقر والقلة والكثرة، بل مبرأ من العصبية الدينية أيضاً.

الثالثة: وقد شرع الإسلام العدالة في القضاء والحكم وألزم القاضي ان يتحرى الصدق والعدل وان يسوي بين الخصمين من كل وجه وان لا يخضع للمؤثرات الشخصية وان لا يقبل هدية وان لا يقضي وهو غضبان أو في حالة نفسية تحول بينه وبين ضم القضية ومعرفة حكمها: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(3).

الرابعة: وأخيرا نص الدين الإسلامي على المساواة والعدالة الاجتماعية فكرّم العمل والمهنة والسعي والكسب وطلب العلم والفضائل الإنسانية وفتح أمامه المستقبل والحاضر السعيد على مصراعيه: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ _ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾(4).

________________________________

1 ـ سورة النساء: الآية 135.

2 ـ سورة النحل: الآية 90.

3 ـ سورة النساء: الآية 58.

3 ـ سورة قريش: الآية 3 و 4.

ـ(252)ـ

الإيجابية في تعاليم الإسلام

لكي نعرف هدف الرسالة الإسلامية في حياة الإنسان علينا ان نفعم معنى الإيجابية في تعاليم الإسلام: فالإنسان الذي صنعه الإسلام للحياة هو مثالاً للتقدم ونموذجاً لفدائية الإرادة الإنسانية وهو ذلك الفرد الإيجابي الذي يربط وجوده بمجتمعه ولا تعزله عنه أنانية أو ذاتية خاصة تحجب إمكانياته أو تبعده عن أداء ما يمكن ان يوكل إليه القيام به في خدمة مجتمع يهدف الإسلام دائماً إلى رتقيه وتقدمه استجابة لسنة التطور وإيماناً بأن طريق الحياة منطلق إلى كل جديد من أجل خير الإنسانية ورخائها وإشاعة السلام واستقراره (1).

وإيجابية إنسان الإسلام حين لا يعزل نفسه عن واقع الحياة والانخراط فيها لا تعرف الكينونة المستقلة ولا الانطلاق الفردي الطائش وأيضاً ولا الموقف الجامد الذي يعبر عن صلف وغباء، أو الموقف الهزيل الذي يفصح عن نكوص الفرد وتهربه من تحمل عبء دور يوكل إليه تجاه ما يجري حوله وإنّما إنسان الإسلام فرد في مجموع كبير هو الحياة كلها. ولا إيمان لإنسان الإسلام بما يقدم من جهد أو طاقة إلا ان يكون في خير هذا المجموع وهذا الأساس السلوكي في عقيدة المسلم وتربية الإسلام لأبنائه مستمد أصلاً من عقيدته الدينية بكل مكوناتها وشمولها حين عرف المسلم ان كل الأفعال إنّما تتجه إلى اله واحد يحاسب على الخير والشر وحين آمن المسلم ان الإسلام يربط أفراده جميعا في وحدة عالمية بعقيدة واحدة تتجه ومكوناتها إلى فاعلها الأول ومبدعها الخلاق

________________________________

1 ـ الإسلام والتمييز العنصري، صلاح الدين الأيوبي، دار الأندلس، ط 2، 1401 هـ، ص 160 وما بعدها.

ـ(253)ـ

وحده: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1).

وإيجابية المسلم حين وكل إليه أمر العمل والانطلاق به ما وسعته طاقته يختلف عن غيره من الأفراد فهو بتصوره الإسلامي يجد في نتاج عمله ثمرتين يباشر إحداهما بحسه وجوارحه حين يكون في واقع مادي وبروحه وقلبه حين يناط به معنى من الأمور التعبدية، وثمرة مختزنة في أعماق نفسه يلقاها عند ربه ليحيا بها الحياة الثانية التي يؤمن بها وتقوم عليها معاني جمة في عقيدته: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لـه مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾(2).

يؤكد الإسلام للمسلمين موقف الإيجابية المبدعة والخلافة حين يتحرر صاحبها من التقليد ويعمل عامل الثقة والإيمان عمله بما يكفل ان يكون إنسان الإسلام هو تلك الإرادة التي تنطلق تعبر عما هي معدة لـه أصلاً وهو ربط علاقة الإنسان بربه ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(3).

والعمل الصالح كمظهر إيجابي في حياة المسلم هو مبتغاه الوحيد الذي لا يعرف لـه مبتغى سواه وهو كل ما يرجوه فيما يقدم من جهد أو تضحية ومن أثر ذلك أن المسلم مهما عمل فيه التواكل وهو ليس من أساسيات الإسلام فانه ما ان ينخرط في سلك الجماعة فان أساسا عميقا من مكوناته يدفعه دفعاً إلى إنكار الذات والتفاني في أداء ما يعمل. ذلك ان أعماق المسلم مستعدة دائماً لأن تعيش

________________________________

1 ـ سورة المجادلة: الآية 7.

2 ـ سورة الكهف: الآية 88.

3 ـ سورة فصلت: الآية 53.

ـ(254)ـ

كل تقدم بل وتقوده وتبعث فيه كل عوامل الخلق والإبداع من أجل غد يحفظ للإنسانية كل مظاهر التكريم الإنساني والانطلاق نحو خير الإنسان وسعادته.

العالمية في الإسلام

قبل ان نلحظ مغزى ومصاديق العالمية في رسالة الإسلام نتبيّن ملامح هذه العالمية: لقد سلخ الإسلام حتى اليوم أربعة عشر قرنا من التاريخ، وليس ثمة أحد يستطيع ان ينكر ان التعاليم الإسلامية قد نجحت في تأسيس مجتمع إسلامي بحث.

وإذا كان الإسلام قد أثبت جدارته وصلاحيته كعقيدة دينية تزايد معتنقوها ـ على نحو لم يسبق لـه نظير ـ حتى اندرج في عقدها معظم سكان العالم في ذلك الوقت، فانه نجح أيضاً كنظام اجتماعي لـه قوانينه الصالحة ومبادئه الأخلاقية المثالية وبفضل هذه القوانين والمباديء تحقق للإسلام هذا النجاح.

وإذا كانت الدعوة إلى الإسلام قد قامت أساساً على مبدأ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ فإنه من الأسف ان ينسب انتشار الإسلام إلى عامل ما غير ذي صلة بعامل الإقناع.

وإنّما كانت عملية الإقناع نفسها مستحيلة إذا لم تتوفر للداعية الإسلامي كافة الظروف والضمانات التي تكفل لـه القيام بمهمته في حرية وبلا قيد. وفي الحقيقة ان الإسلام ليس فقط كغيره مما سبقه من الأديان، ولكنه شيء أوسع واشمل.

ولأول مرة أيضاً أعطى الله الإنسان صورة تامة ونهائية عن الطريقة المثلى التي ينبغي ان يكون عليها سلوكه على الأرض، فجاءت رسالة الله في الإسلام تامة وشاملة فهي من ناحية مفتوحة على عظمة الله التي لاتحد وهي من ناحية

ـ(255)ـ

أخرى ذات صلة باحتياجات وضرورات الإنسانية المتشعبة وكان الإسلام ومازال دينا متميزا عما سواه من الأديان. ومن الخطر كل الخطر ان ننظر إلى ما سنّه الإسلام من قوانين تنظم حياة البشر من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية دون ان نراعي الناحية الأخلاقية فيه، وهنا أيضاً لابد وان نضع في اعتبارنا حقيقة وجود الله وما أعده لنا من ثواب وعقاب لا على كل ما نعمله فحسب بل أيضاً على ما توسوس لنا به أنفسنا وما تهجس به ضمائرنا. أذن فالإسلام في حقيقته ليس إلا إيمانا خاصا حيا متجددا مع كل لحظة من لحظات الزمن في قلب كل فرد مسلم.

ونعود فنقول أربعة عشر قرناً من الزمان كانت فيها التعاليم الإسلامية هي الدافع الأقوى في ديناميكية التطور الحضاري الإنساني مادامت هذه التعاليم محل اعتبار من الإنسان.

كما ظلت العقيدة الإسلامية من حيث التعريف بذات الله وصفات العظمة والجلال والكمال فيه تريح روح الإنسان وتملأ شعوره بالإيمان الواثق المطمئن.

وإذا كان الإنسان قد ظل طوال تاريخه في هذا الوجود قلقاً شقياً يبحث عن راحة الضمير في الإيمان، وعن أمان النفس في العدل والحرية، فان الإسلام قد أتاح للإنسان حلاً لمشاكله وأتاح لـه على نطاق واسع كل ما كان ينشده ويبحث عنه حيث أعطاه ثلاثة أمور جوهرية: أولها: تفسير روحي لحقيقة العالم،

وثانياً: تحرير روحي لذات الفرد. وثالثها: نظام من المبادئ العالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على صعيد روحي ومادي معاً.

وأيضاً فقد كان نجاح الإسلام شاملاً ومثيراً معاً، وحيث لم يكن نجاحاً قومياً ولا عنصريا وإنّما كان نجاح الإسلام الخلاق المسؤول. والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية لم يبنيا على الجهود العربية وحدها ـ وربما كان المجهود

ـ(256)ـ

العربي في عملية البناء هذه ضئيلا لا يذكر ـ وإنّما ساهمت فيها بالقسط الأوفر عناصر هلينية وعناصر من ثقافات الشرق الأدنى القديم السامية وأخرى من إيران الساسانية وأخرى من الهند وكذلك ساهمت فيه عناصر من مصر وبدو الصحراء الكبرى والبربر والأندلس، وقد صهر كل ذلك في بوتقة واحدة وخرج سبيكة إسلامية جديدة متميزة عن أصولها القديمة تميزاً كلياً وكان الإسلام هو الوقود الذي اتم هذه العملية كما كان الضمان الوحيد لصيانة هذا الشيء الجديد المدهش والمحافظة عليه، كما أعطى الشكل الإسلامي لكل ناحية من نواحي الحياة مهما كان الشيء تنطوي عليه. وقد كان هذا الطابع الإسلامي هو الذي أعطى المجتمع الجديد صلابته وحيويته.

وكذلك فان التجربة الإسلامية قد برهنت على ان هذا الدين لم يلب الحاجة البشرية فحسب، انه فتح أمام الإنسان أيضاً الآفاق التي لا حدود لها، ورسم لـه الطريق واضحا لكي يستغل كل ما وهبه الله من عقل وحواس وإمكانيات في اقتحام هذه الآفاق. والقرآن الكريم كثيراً ما يحث المسلمين لأن ينتفعوا بما انعم الله به عليهم وأباح لهم الطيبات وأمرهم بالسعي وعدم القعود ورسم خطط هذا السعي حركة دائمة إلى الأمام تجدد نحو الرقي وتقدم في تيار التطور فلا وقوف ولا انتكاس وهذا المسلك السليم الذي وضحه القرآن لم يكن يعتبر إنّ بذل الجهود في سبيل التبشير بالدعوة الإسلامية واكتساب الأعضاء الجدد للمجتمع الإسلامي جهاد في سبيل الله فحسب بل انه ضاعف لذلك الثواب، فالدين الإسلامي دين البشرية جمعاء ومجتمعه أتاح الانتماء إليه لكل إنسان ودعوته عملية ديناميكية دائمة الحركة من طبعيتها إلا تتوقف في أية ناحية بل تسير في كل اتجاه حتى تغطي سطح الكرة الأرضية بمجتمع إسلامي بحث، وهذه العقيدة

ـ(257)ـ

ليست بالبعيدة أو عسيرة التحقيق لو ان كل فرد أو جماعة من المسلمين تشبعوا بالمبادئ الإسلامية وعملوا بمقتضى تعاليم هذا الدين وبذلوا الجهود الكافية للدعوة لـه واستدعوا لهذه الدعوة ووفروا لنجاحها الامكانيات.

ان الإسلام جاء لضرورة عالمية ملحة وقد حقق هذه الضرورة، فقد تكفل بهداية الإنسانية جمعاء، وأرضى ضمير الإنسان وروحه، ولبى مطلبه في العقدية والإيمان، ورسم الطريق لبناء مجتمع عالمي يقوم على أسس من العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وعالج ما كانت قد تردت فيه الإنسانية قبله من أخطاء وقضى على ما كانت تتخبط فيه من شرور.

دلالة معنى العالمية

وبعد ان اتضحت لنا أبعاد العالمية نقول: الإسلام منذ تفجرت ينابيع دعوته في الجزيرة العربية وهو دين التوحيد والتنزيه، غير ان في الإسلام خصائص موضوعية وأصولا أخرى تضاف إلى عقيدة التوحيد والتنزية. الإسلام في عالميته الإنسانية أو إنسانيته العالمية كان شيئاً معجزا لم تعرفه الأديان ولا المذاهب ـ من قبل ـ.

كان أول ما في الإسلام حين دعا إلى التوحيد أن دعوة التوحيد في الإسلام لم تكن مسائل غيبية ومتاهات ميتافيزيقية وإنّما قامت دعوة التوحيد على توحيد الإنسانية كلها في حقوق واحدة، وتوحيدها في هداية واحدة وتوحيدها في إيمان باله واحد لا اله إلا هو ولا رب لكل البشر سواه يتساوى الناس جميعاً بين يديه ولا يتمايزون إلا بمقدار ما يقدمون للإنسانية من خير وسلام، ولا يتحقق

ـ(258)ـ

التمايز بغير الفضل والصلاح والعدل والمساواة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1).

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(2). ومن خصائص هذا الدين ان مجتمعه ان صدق مع جوهر ما يؤمن به يصبح هذا المجتمع متفتحا بشكل يتحرك فيه على أساس من معنى العالمية، حتى ولم لم تكن قد تحقق لـه بعد تلك العالمية بالفعل لأن مجتمع الإسلام هو مجتمع الإنسانية كلها لا فرق لديه بين جنس وجنس ولا بين لون ولون ولا بين لغة ولغة ولا حتى بين دين ودين.

مجتمع ليس لجغرافيته حدود، وليس للعنصرية فيه وجود.

فالإسلام يواجه مجتمعه في أول لقاء ينفي كل تلك النعرات ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(3).

فباستطاعة كل إنسان ان يعيش في حمى الإسلام، وفي ضمن مجتمعه ن دون ان يحس بغربة، بل انه ـ على العكس من ذلك ـ ليحس آصرة واحدة تربط بينه وبني ذلك المجتمع، وهذا الموقف من الإسلام يحقق السلام العالمي للإنسان لأنه يقضي على أهم أسباب الحروب، ويقف في وجه التكالب الاستعماري الذي يقوم على الشعور القومي أو العنصري.

ثم والإسلام في حركته لا يحبذ فكرة الوطنية الإقليمية في مجتمعه، ولكنه يبقى على المعنى الطيب من تلك الفكرة، وهو معنى التجمع والتآخي والتعاون والنظام والهدف الذي تلتقي من أجله الجماعة من الناس.

________________________________

1 ـ سورة الحجرات: الآية 13.

2 ـ سورة الأنبياء: الآية 107.

3 ـ سورة المائدة: الآية 108.

ـ(259)ـ

فالإسلام بدعوته تلك يحرر فكرة الوطنية من مادية الأرض ويجعلها فكرة شعورية ـ لا رقعة أرضية فحسب ـ يجتمع في ظلها الناس على اختلاف الوانهم وأجناسهم وموالدهم، فإذا هم جميعاً أبناء وطن واحد.

ومنطلق تلك الفكرة في الإسلام في قولـه تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، (1) وبذلك يقضي على نزعة الاستغلال العنصري فكل ما ينشأ عنه هو شعور المسلم بأن كل أرض يظللها الإسلام هي وطنه وبأن كل مسلم يعيش على الأرض هو مواطن لـه.

وبناء على ذلك أيضاً فانه لا مجال لدى المجتمع الإسلامي لظهور تلك العصبيات لأنه لا يعتمد في ترابطه على وشيجة الجنس، أو عنصر الدم فالجنس الإنساني واحد، والدم البشري لا يختلف الاختلاف الذي يؤثر في تكوين المجتمع أو في التلاقي والتعاون. والإسلام في ذلك يحرص على ان يشد المجتمع بسبب قوي متين لا يخشى عليه التمزق السريع إذ ليس أسرع من تمزق رابطة تقوم على الجنس والدم.

أما العقدية فهي حبل لا توهيه الأحداث ومهما تكتلت قوى العدوان من الخارج ففي داخل هذا المجتمع المؤمن ما يتحمل عنه الضربات ويدفعها عنه حتى يضمن لـه السلامة.

ولأنه ـ الإسلام ـ لا يمنع من الظلم انسانه ـ فحسب ـ بل من معارك لأنه لم تكن هناك معركة واحدة يرجع سببها إلى عصبية أو إكراه أو عدوان، بل كانت لك معارك المسلمين دفعا لظلم أو ردا لعدوان ليس غير.

________________________________

1 ـ سورة الحجرات: الآية 10.

ـ(260)ـ

ومن ثم تتأكد العالمية في مجتمع الإسلام، فهو لا يقصر القتال على تحقيق مصالح خاصة لأفراده موزعين أو مجتمعين ولكنه يجعل نصرة المظلوم وتخليصه من ظلم ظالمه سببا يدعو للقتال، مع حبه للمسلم ورغبته فيه ـ ايا كان هذا المظلوم، وأيا كان هذا الظالم ـ، وان عالمية الإسلام ـ تلك القيمة التي تنبثق عن عقيدته ـ توجب على مجتمع الإسلام إلاّ يقطع الصلة بينه وبين الذين لا يدينون بالإسلام ماداموا لا يحاربونه ولا يمنعون دعوته ان تبلغ الناس، ولا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على ضعيف. يدفعه عن الناس جميعاً، ويمنع الناس جميعاً ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(1).

كل ما يريده ـ الإسلام ـ ان تترك لـه حرية الدعوة بين أهل الأرض جميعاً حتى يصلهم بالخير المطلق الذي جاء به وألاّ يقهر إتباعه على ترك عقيدتهم وان تتاح لـه القوة اللازمة لحمايتهم من العدوان عليهم واللازمة لتنفيذ شريعته بينهم.

لم يكن القتال وسيلة من وسائل نشر الإسلام، لأن ذلك يحقق العصبية بمعناها الشرير الحقير، فليس الأمر كما يحلو لدعاة السوء أن يشيعوا عن الإسلام مستغلين ما صادف والصلة بين مجتمع الإسلام وبين هؤلاء يحددها وضعهم أنفسهم، فإن كانوا خارجين عن سلطان الإسلام ـ ممن لهم دين آخر أو ممن ليس لهم دين ـ فمجتمع الإسلام لا يحاربهم ولا يقاطعهم ولا يعاديهم ماداموا لا يحاربونه ولا يقاطعونه ولا يعادونه ولا يعتدون على مستضعف من غير المسلمين.

________________________________

1 ـ سورة آل عمران: الآية: 110.

ـ(261)ـ

ونظامه ـ على أساس تلك القيمة من قيمه ـ لا يقف عند تلك السلبية ـ يعادي من يعاديه ويسالم من سالمه ـ بل انه ليسمح بالتعاون الإيجابي معهم عن طريق المعاهدات التي يحترمها الإسلام كل الاحترام ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ _ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

والإسلام إذ يعلن عن ذلك المبدأ لا يغفل ما يمكن ان ينال المسلمين من أعدائهم فيحدد موقفهم من ذلك في صراحة ووضوح لاموادبة فيه ولاغش.

والعهود في الإسلام تلتزم العالمية وتسعى لتحقيقها، فهي ليست عوداً «ميكافيلية» تقوم على العدر وتعتمد على الخديعة، بغية ان تكون أمة هي أربى من أمة ولكنها عهود تقوم على الالتزام والوفاء وتعتمد على الصراحة.

 

الإسلام مباديء عالمية

مبادي العالمية في الإسلام جلية، فمنذ بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الإسلام أصر على انه لا يأتي بشيء من عنده وإنّما يبلغ رسالة الله إلى أهل الأرض، وأيضاً فانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجرد مبعوث يردد رسالة السماء لمحض التبليغ وإنّما كان بإرادة الله معصوما وبأمره مردا وهاديا، فكان يعيش حياته ويعمل طبق هداية الله ومن ثم كانت أعماله كلها وأقواله كلها إيضاحا لآيات الله وتفسيرا لمجمل القرآن وبياناً لكيفية تطبيق نصوصه على أعمال الناس وسائر شؤون حياتهم ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ

ـ(262)ـ

الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(1). ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(2).

﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾(3).

فالإسلام وهو نهاية الأديان وخاتمها ليس وقفا على عصر وليس خاصاً بجيل، وإنّما هو دين كل عصر وكل كل جيل ومن شأن هذا الدين أن يكون ذا طبيعة تقديمية تتسع لكل تطور وكل تقدم وتناسب كل تجدد وكل تبدل في الحياة الإنسانية عبر العصور والأجيال، فإذا وقفت القواعد والأصول الكلية التي وضحها وأبانها القرآن حائلا دون تحرك الإنسانية نحو التدهور أو التخلف كان هذا ضماناً أكيدا لكي يكون سير الإنسانية دائما إلى الرقي وإلى الأمام.

ومما امتازت به أيضاً شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم انها جاءت موافقة ومتمشية مع الطبيعة البشرية وقصورها فتدرجت مع مقتضيات أحوال الناس وظروف البشر.

وفي قواعد الدين كلها أتجه الإسلام منذ البداية اتجاها عالمياً فلم تقتصر الدعوة على قوم دون قوم أو جنس من البشر دون جنس آخر وإنّما هي دعوة الله للإنسانية كلها ولسائر أجناس البشر لا فرق في ذلك بين ابيضهم أو أسودهم بين غنيهم أو فقيرهم بين رئيسهم ومرؤسهم، وإذا كان هناك تفاضل بين الناس والإنسان فإنما ذلك يعود فقط إلى قوة الإيمان والتمسك بالشريعة لا إلى سبب

________________________________

1 ـ سورة الأحزاب: الآية 21.

2 ـ سورة الحشر: الآية 7.

3 ـ سورة آل عمران: الآية 164.

ـ(263)ـ

آخر.

قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لـه مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا _ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾(1).

الإسلام عقيدة عالمية

العقيدة في الإسلام عالمية تشمل الإنسانية كلها، ورسالة تدعو ـ أول ما تدعو ـ إلى التعريف بالله وتنبيء عنه باسمه، وتقيم الدليل بيناً مقنعاً على وجوده. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ_ اللَّهُ الصَّمَدُ _ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ _ وَلَمْ يَكُن لـه كُفُوًا أَحَدٌ﴾(2).

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ _ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(3) و﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ﴾ (4).

وعلى الجملة فالله كما يتجلى من خلال الإسلام ذات أزلية سرمدية متصفة بكل كمال ومنزّهة عن كل نقص هو صانع العالم وخالق الكون، لم يلد ولم يولد،

________________________________

1 ـ سورة النساء: الآية: 123 ـ 124.

2 ـ سورة الإخلاص: الآية 1 ـ 4.

3 ـ سورة البقرة: الآية 21 ـ 22.

4 ـ سورة الأنعام: الآية 14.

 

ـ(264)ـ

واحد لا شريك لـه ولا مثيل.

والإسلام حين يعترف بما سبقه من الرسالات فانه يطلب الإيمان بأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وبأن رسالته تضمنت خلاصة الرسالات السابقة وزادت عليها ما به كمال الإنسانية التي أتاح الله لها هذه المرة ـ وبشكل نهائي ـ الطريق الواسع نحو التطور الصحيح ونحو الرقي المادي والروحي. ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(1). ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(2).

ولهذا كانت هذه الرسالة الإلهية النهائية رسالة عامة موجهة إلى جميع الناس مهما اختلفت السنتهم والوانهم وأجناسهم في كل زمان وفي كل مكان ابتداء من وقت البعثة النبوية حتى يوم القيامة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لـه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(3).

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(4).

ولقد أعتني الإسلام ـ في محيط الإنسانية ـ بوحدتها وفي الفرد باعتبار ان صلاح الفرد أساس ضروري لتكوين المجتمع الصالح.

فعمل على بناء شخصيته وقتويمها، ورسم لها طريق التصرف في حرية وعزة وكرامة، لا، هذا الفرد كوحدة يمثل نواة لكل مجتمع إنساني ابتداء من الأسرة إلى الأمة إلى المجتمع الإنساني بأسره.

________________________________

1 ـ سورة الأحزاب: الآية 40.

2 ـ سورة المائدة: الآية 3.

3 ـ سورة الأعراف: الآية 158.

4 ـ سورة سبأ: الآية 28 ـ الإسلام ضرورة عالمية، زاهر عزب الزغبي، الهيئة المصرية العامة، 1971 م، ص 134 و 145.

 

 

ـ(265)ـ

وتقويم شخصية الفرد وتربيتها على العزة والكرامة والحرية أمر جوهري للنهوض بالبشرية كلها، والقرآن مليء بالآيات التي تنبيء عن تكريم الله للإنسان وإعزازه لـه. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(1).

والإسلام قدر عنايته بالفرد الإنساني اعتنى أيضاً بالجماعة الإنسانية فارتباط الإنسان بجماعته يهيء للحيوانات الفردية وضعاً اجتماعيا هو نوع من الاخوة يشعر معها الفرد بتزايد في القوة والأمن، ويخلق عنده مجالاً للوعي الجماعي المشترك، وهذه الاخوة وهذا الوعي ينتج عنهما نوع من الترابط الإنساني يتجاوز حدود الوطن المحدد أو الجنس المحدود.

ومن هنا كانت الأمة أو الجماعة التي يريدها الإسلام ذات طابع متحرك ومن شأن حركتها ان تكون مثابرة لا تكل نحو خلق مجتمع عالمي أو حركة نامية لا يقف لها نمو قبل ان تشمل العالم جميعه فينتظم فيها سكانه بأجمعهم ينظم شؤون حياتهم قانون دائم الصلاحية، قانون لا يعرف حدودا في الزمان أو المكان، قانون دولي عام.

الإسلام شريعة عالمية

لابد للمجتمعات البشرية من ضوابط تنظم العلاقات التي تربط على الأقل بين أفرادها، ومهما كانت هذه المجتمعات فلابد من هذه الضوابط وإلا فسدت

________________________________

1 ـ سورة الإسراء: الآية 70.

ـ(266)ـ

أحوال المجتمع وآلت حاله إلى انحلال وزوال.

ومن ثم يمكن القول ان القانون بوجه عام في أية أمة من الأمم ليس إلاّ صورة صحيحة لحياتها الاجتماعية والاقتصادية، والهدف منه إقامة العدل وحفظ حقوق الفرد والجماعة بقواعد قانونية ملزمة، وهذه القواعد تكون وقتية ومحلية إذا كانت قد سنّت لتعمل في مجال لـه أوضاعه الخاصة ذات الطابع العرفي الإقليمي.

ولكنها تكون صالحة للخلود والتعامل بها على نطاق دولي إذا كانت تعبر عن مفاهيم وحقائق ثابتة مسلم بها على نطاق إنساني عام، أو اشتملت على قواعد وظائف كبرى هي: العلاج، والوقاية، والتوجيه.

وحتى يتمكن القانون من ان يؤدي وظيفته يجب ان يكون ملزماً.

والقانون أما أوامر أو نواهي، ولكي تتوفر للقانون الطاعة والالتزام في العمل يحتاج إلى نوع أضفي من الأحكام التشريعية يسمى بالمؤيدات وهذه اما زواجر مدنية وأما عقوبات تأديبية.

ومن ثم يمكن تقسيم أحكام التشريع إلى نوعين:

1 ـ أحكام محمية وهي القانون الأصلي.

2 ـ وأحكام حامية، وهي المؤيدات.

والإسلام كدين قد كفل صلاح البشر أفرادا وجماعات بالتربية والتنظيم. وقد اعتنى الإسلام أول ما اعتنى بمخاطبة عقل الإنسان وضميره ووجدانه فأتاح

________________________________

1 ـ الإسلام والحياة المعاصرة، فرانكلين بالقاهرة، مجموعة أبحاث.

ـ(267)ـ

للضمير ان يعتبر المثل الأخلاقية حين يتعامل في نطاق الشريعة.

والشريعة الإسلامية اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله أو شرع أصولها، وكلف المسلمين إياها ليأخذوا أنفسهم بها في علاقتهم بالله وعلاقتهم بالناس.

والإسلام في معالجته الإصلاحية للإنسان قد استهدف ثلاثة أهداف أساسية كل منها نتيجة لما قبله وأساس لما بعده.

أولا: تحرير العقل البشري من رق التقليد والخرافات، وذلك عن طريق العقيدة والإيمان بالله، وتوجيه العقل نحو معنى الألوهية بالدليل والبرهان والتفكير العملي الحر.

ثانياً: تربية ضمير الفرد وإصلاح نفسيته، وذلك عن طريق تعريفه بالمثل الأخلاقية وإشباع نفسه منها، وتوجيهه نحو الخير والإحسان وكل ما هو واجب أو أصلح.

ثالث: تحقيق العدالة والأمن والحريات في مجتمع صالح.

والإسلام لم يغفل أبدا عن العالمية في المجتمع الذي خطط مشروع تكوينه.

فالحج فضلا عن انه عبادة وطاعة يستلهم فيها المؤمن جلال الله وعظمته في مواطن الوحي ومنبع الرسالة، فهو أيضاً مؤتمر عالمي يلتقي فيه المسلمون على صعيد واحد من شتى إنحاء الأرض فيتدارسون ويتشاورون فتمتزج المعارف وتتوالد التجارب وتتوطد العلاقات وتتدعم الاخوة في الله تحت راية الإسلام وفي كنف الأمان والاطمئنان.

ومما هو جدير بالذكر هنا ان الشريعة الإسلامية في مجال ضبط الأحوال الشخصية قد كفلت للإنسانية عدالة لم تتوفر لها من قبل.

ونستطيع هنا ان نقرر جازمين انه حتى في عصر النهضة والمدنية كانت

ـ(268)ـ

محاولات الإنسان في الدول المتحضرة غير الإسلامية لإنصاف نفسه بوضع التشريعات التي حسبها توفر لـه أقصى قدر من العدالة والمصلحة، كانت هذه المحاولات شيئاً حقيرا لا يمكن ان ينافس الشريعة الإسلامية في دقتها وقدرتها على تحقيق العدالة المطلقة.

ان الشريعة الإسلامية ليست إلا شريعة متطورة متجددة تنبذ الجمود ولا تقبله، وإنها شريعة تتسع لكل ما يمكن ان يعرض للإنسانية من أمور ومشاكل واحتياجات أو بعبارة دقيقة صريحة حاسمة (شريعة إنسانية عالمية عامة تصلح لكل زمان ولكل مكان).

والله ولي التوفيق