أساس الحكومة بين النظرية الإسلامية والنظرية الوضعية

أساس الحكومة بين النظرية الإسلامية والنظرية الوضعية

 

 

أساس الحكومة بين النظرية الإسلامية والنظرية الوضعية

 

الشيخ فؤاد كاظم المقدادي - قم

رئيس تحرير مجلة رسالة الثقلين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ان من ابرز التحديات المعاصرة التي تواجهها الأمة الإسلامية وصحوتها الرائدة هي مسألة الحكم والحكومة كأطروحة نظرية في مقابل الاطروحات الوضعية، وكقابلية على التطبيق في الواقع واستيعاب المستجدات والتطورات الهائلة في مجال تقنين حركة الإنسان وحاجاته المتجددة كماً وكيفاً، خصوصا وان التحدي هذا قد حشدت لـه كل عوامل القوة المادة العظمى التي تمتلكها الكارتلات الدولية للأنظمة الوضعية، مدعومة بالأجواء المحمومة للعقل الجمعي المختلق بأعظم وسائل التقنيات الإعلامية المعاصرة، في سعتها وفنونها وأساليبها المتنوعة، للتحكم في اتجاهات الرأي العام للمجتمعات الإنسانية.

وكلما صدع للإسلام صوت ولاحت بوارق انتصاره في أمة من الناس أو بقعة من الأرض تصاعدت الوتيرة الإعلامية والهجمة الثقافية والسياسية لمختلف أجهزة الاستكبار العالمي ويعلو ضجيجها بشعار الديمقراطية العائم، فهي تثيره دخانا وتلوح به عصا؛ تارة بهدف جر الدولة الضعيفة ـ وخصوصا ذات الأغلبية الإسلامية ـ إلى

ـ(452)ـ

أحضان المعسكر الرأسمالي الغربي، وتارة أخرى لتمرير مخططاتها في احتواء الموجة الإسلامية المتنامية التي تطالب بإقامة الحكومة الإسلامية وتحكيم شرعة الله قوانينه في واقعهم السياسي والاجتماعي، وثالثة لتشويه صورة النظام الإسلامي الرائد وتجربته الفريدة في إيران الإسلام... فتتهمه أحياناً بالدكتاتورية والاستبداد، وأخرى بالقصور عن تحقيق مصالح المجتمع وسعادته، وأخيرا ـ وهو الأخطر ـ محاولتها الدس والتشويه لخلق تصورات منحرفة، خصوصا في أوساط المثقفين، مدعين ان النهج الديمقراطي هو السبيل الذي لابد من الأخذ به لتطوير النظام السياسي الإسلامي وسد ثغراته وتجيده ليتناسب وتطلعات الشعوب لتقرير مصيرها ولينسجم والنظام السياسي الدولي القائم على ساس ديمقراطيتهم الغربية. وهذا في حقيقته محاولة تمهيدية لاحتواء النظام الإسلامي وتفريغه من محتواه الإلهي الأصيل، بل وإسقاطه في حضيض أنظمتهم الوضعية ونظرياتهم المادية. وليس هذا بغريب أو جديد في أفق المواجهة مع الجاهلية الحديثة وشياطينها الإنسية.

ولنتناول القضية من جذورها، ثم نجلي الحقيقة ونظهر الحق مميزا عن الباطل ليدمغه ويعلو عليه، انطلاقا من قولـه تعالى ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾(1).

 

أساس الحكومة في النظرية الوضعية:

منذ الغزو الحضاري الأوروبي لعموم الشرق وخصوص الحواضر الإسلامية، والنظريات الوضعية تتوالى في الأفق الثقافي بكل مؤسساته السياسية والإعلامية والتعليمية وغيرها من جوانب المجتمع والدولة، متخذة أشكالا متنوعة وأنماطا براقة توحي بالحداثة والجدية، وهي في الواقع لا تخرج عن براقة أصول الثقافة العلمانية

ـ(453)ـ

ومقولاتها التي لا تتفاوت كثيرا في إنكارها ورفضها للدين ودوره في بناء الإنسان والمجتمع والدولة على أسس الحق والعدل.

والعلمانية ـ كما هي مبانيها ـ بين حدين في نظرتها إلى الدين؛ ففي حدها المتطرف الأول تنكر الدين وتقيم نظريتها على أساس الإلحاد المطلق، وفي حدها المتطرف الثاني تحاصر الدين وتجرده من هويته الاجتماعية، بل والإنسانية، وتجعله مجرد تصورات ذهنية محضة وحالة ذاتية محاصرة في الباطل، إذ ليس لـه أية مصداقية واقعية تعبر عن إيمان الإنسان به، وليس لـه أي انعكاس ملموس ومحسوس في سلوكه كإنسان اجتماعي والديمقراطية ـ كنظرية سياسية تأسست على ضوء مقولة العقد الاجتماعي لـ«جان جاك روسو» في إقامة السلطة والحكومة في الواقع الإنسان ـ تقع في الحد المتطرف الثاني من صور العلمانية التي نادت بها أوروبا أبان الثورة الصناعية.

ولقد أخذت العلمانية بريقها وموقعها في أوروبا لعاملين رئيسيين أحدهما سلبي والآخر إيجابي:

أما العامل السلبي منهما فهو الدكتاتورية المطلقة التي حكمت أوروبا قرونا بما فيها دكتاتورية الكنيسة وهيمنتها باسم الدين والرب، التعسف البشع لرجالاتها في مواجهة التجديد والإبداع العلمي والحرية الفكرية والثقافية، وما رافق ذلك من اضطهاد للعلماء والمفكرين وسفك لدمائهم لمجرد اكتشافهم حقائق أو وصولهم إلى نظريات علمية مخالفة لنظريات الكنيسة.

وأما العامل الإيجابي فقد تمثل بالثورة الصناعية التي قلبت موازين التفكير الأوروبي ـ خصوصاً تجاه الكنيسة ـ الذي ظل متحجرا على العديد من النظريات العلمية الباطلة والمقولات الخرافية المتخلفة، أثبتت الثورة الصناعية وما رافقها من اكتشافات علمية خلافها، وحطمت قدسية الكنيسة ومقولاتها، معلنة ـ كرد فعل على منهج الكنيسة ـ ألوهية العلم في منهجه التجريبي المادي، وأنه المقياس الأوحد في

ـ(454)ـ

صدق وكذب أية رؤية فكرية أو دعوى نظرية، بما في ذلك المقولات الدينية. لهذا وذاك احتل العلم والمختبر العلمي مكان الدين والكنيسة في تنقيح العقائد والنظريات وقبولها أو رفضها. وهذا ما أطلق عليه اسم العلمانية.

والديمقراطية في واقعها نظرية قائمة على الأساس العلمانية في مجاله السياسي، فهي منهج وطريقة منح السلطة وتشكيل الحكومة وبناء الدولة وأجهزتها بمعزل عن الدين ومؤسساته.

ونحن هنا في معرض بيان الأساس المقوم للحكومة في كل من النظرية الإسلامية والنظرية الديمقراطية ثم نعقد مقارنة نكتشف من خلالها مدى التباين النظري بين الديمقراطية والإسلام في المنهج السياسي... وهل هناك نقاط التقاء على المستوى النظري أو التطبيقي أم لا؟

وقيل الدخول في مفردات الجواب لابد لنا من الإشارة إلى مسألتين مهمتين:

المسألة الأولى: خطأ الإسقاط التنظيري على الإسلام

إن الإسقاط التنظيري على الدين الإسلامي الذي يقوم به العلمانيون من المنادين بالديمقراطية العلمانية ومحاكمته على أساس تصوراتهم عن الكنيسة كرؤية وموقف خطأ فاحش؛ ذلك لأن العلمانية وديمقراطيتها جاءت كرد فعل تجاه السلطة المتحجرة للكينسة وحكومتها الفكرية والسياسية في الحقبة المظلمة، وهذا يختلف أمره كليا والدين الإسلامي وعلماءه ومفكريه؛ حيث ان الإسلام في مبانية ـ أصولا وفروعا ـ يقوم على أساس المنهج العقلي في الاستدلال والبرهان على عقائده: وانطلاقاً من ذلك تقوم الاستنباط لأنظمته وتشريعاته من مصادرها الشرعية في مختلف مجالات الحياة بما فيها المجال السياسي ونظريته حول السلطة والحكم. وهكذا كانت

ـ(455)ـ

سيرة علمائه ومؤسساته الرسالية بالرغم من محاولات التحريف والتزوير التي حاول أعداء الإسلام وحكام الجور القيام بها على مر العصور للإجهاز على أصالة الدين الإسلامي أو لتوظيفه في خدمة مصالحهم وأهوائهم الخاصة تكريسا لدكتاتوريتهم في السلطة والحكم.

المسألة الثانية: الفارق في أساس الحكومة بين النظرية الإسلامية والنظرية الوضعية

ان عملية تقويم أية نظرية أو أطروحة في مجال الولاية والحكم لابد فيها من النظر إلى فارق أساسي بين النظريات والاطروحات الوضعية من جهة والاطروحات الإلهية المتمثلة بنموذجها الأكمل في الدين الإسلامي من جهة أخرى، وهو ان السلطتين التشريعية والتنفيذية في الأنظمة الوضعية من صنع البشر وليس وراءهم أو فوقهم أي مصدر أو سلطة عليا، وان السلطة في احسن صورها القائمة على أساس العقد الاجتماعي تفتقر إلى القدرة على إصابة واقع العدل والقسط والمصلحة الاجتماعية، بل ان للميول والرغبات والمصالح الشخصية أو المشتركة للفئة المنتخبة مطلق العنان في التحكم فيها. أما في الإسلام فإن السلطة التشريعية مقومة بواقع العدل والقسط والمصلحة الاجتماعية، وهذا لا يمكن تحقيقه ومعرفته إلا من خلال الرسالات الإلهية، لأن الله وحده هو العالم بالمصالح والمفاسد الواقعية للحياة الإنسانية، وطريقته في بيان تشريعه وإيصاله إلى البشرية هي إرسال الرسل الأمناء بكتبه وبياناته، وهو مفاد قولـه تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(2).

﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(3).

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(4).

ـ(456)ـ

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(5).

وغيرها من الآيات القرآنية الكريمة الدالة على ذلك.

أما السلطة التنفيذية الموظفة لتطبيق هذه الشريعة الواصلة وإقامة حكومتها في الناس فأمرها منحصر بالإنسان العالم العادل الخبير والقادر على تحمل مسؤولية إقامة العدل والقسط في المجتمع الإنساني؛ لذا فإن الله سبحانه يصطفي لها من البشر الأعلم بشريعته والعادل الأقدر على الاستقامة عليها والأكفأ في حملها رسالة إلى الناس، وهو المنصب الذي يصطلح عليه في الإسلام بالإمامة أو الولاية، وهو مفاد قولـه تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(6).

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾(7).

﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾(8).

وغيرها من الآيات القرآنية الكريمة الدالة على ذلك.

مقارنة بين الأساسين

ولعقد المقارنة المفترضة نقول: ان هناك أمرين أساسيين من مقولات الوجدان الإنساني لابد من توفرهما معا وفق المنطق العقلي والعقلاني لتسرغ إقامة الحكومة وبسط سلطانها التشريعي والتنفيذ وأعمال ولايتها على الناس:

الأول: مصدر مشروع تستمد منه الحكومة المفترضة السلطة والولاية.

الثاني: قيام سلطة الحكومة المفترضة وبرامجها وفق المصالح الاجتماعية ويهدف تحقيق العدل في واقع المجتمع.

ـ(457)ـ

أما الأمر الأول: ففي الديمقراطية العلمانية ـ بمختلف صورها ـ يكون مصدر السلطة والحكومة في التشريع والتنفيذ هو الناس أو مجموعة منهم، أما في الإسلام فمصدر السلطة والولاية هو الله تعالى، وهذا كما يشمل اصل الولاية والحكومة فهو يستوعب السلم الطولي لها من السلطتين التشريعية والتنفيذية ـ على فرض صحة هذا التقسيم على ضوء الإسلام ـ والله سبحانه يصطفي لتبليغ رسالاته وتشريعاته الناس والولاية عليهم من تمّحض الإيمان والإخلاص والعدالة على دينه وإرادته سبحانه وتأهل لمنصب الولاية الإلهية بجعله واعتباره مبلغا وإماما وحاكما يبلغ الناس رسالات ربه، ويمارس هذه السلطة والولاية عليهم وفق الأنظمة والتشريعات الإلهية المبلغة إليه منه سبحانه، كما لـه ان يجعلها ويعتبرها لمن يليه ممن تتوفر فيه مواصفات الولاية الإلهية بشكل خاص أو عام، حسب الظروف والعوامل التي تمر بها مسيرة المجتمع الإنساني.

وفي هذا الأمر نقطة افتراق أساسية وجوهرية ـ كما هو واضح ـ بين الديمقراطية العلمانية والنظرية السياسية في الإسلام.

وأما الأمر الثاني: فعلى أساس الديمقراطية العلمانية تبقى مشكلة تشخيص المصالح والمفاسد الواقعية للحياة الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي مستعصية وقائمة تفتقر إلى حل واقعي يصدقه العقل والمنطق ويذعن لـه الوجدان وتطمئن به النفس. وعليه فإن معالم طريق تحقيق العدالة والسعادة للمجتمع الإنساني على أساس الديمقراطية العلمانية تبقى غامضة تاركة المجتمع يتخبط في مجال تشخيص التشريع والنظام الصالح واختيار السلطة والحكومة العادلة والمؤتمنة على مصالحه وأهدافه.

وبتعبير آخر ان العقبة الكؤود في وجه الديمقراطية العلمانية هي مسألة الجهل بالمصالح والمفاسد وعدم إحراز العدالة كشرط في من يتم اختياره للسلطة والولاية، فهما نقصان جوهريان تعجز الديمقراطية العلمانية عن رفعهما بعيدا عن الدين الحق.

ـ(458)ـ

ويمكننا تفصيل هذه المشكلة الأساسية بالنظر إلى أهم جوانبها من خلال طرح هذه المقارنة:

1 ـ كيف يمكننا ان نتصور قدرة الناس ـ عند غياب الدين الإلهي الحق ـ على اختيار ما به تحقيق المصلحة الاجتماعية في التشريع والتنفيذ، وهم يجهلون مقاييس الصواب والخطأ في الاختيار؟‍‍‍‍‍‍!

إضافة إلى أنهم محكومون بطبيعتهم الأولية للأهواء والنزعات الخاصة!

2 ـ كيف يمكننا عمليا معالجة مشكلة التصرف بآراء الأكثرية من الناس عن طريق شراء الأصوات أو التغرير بالوعد الكاذبة والأعلام الخادع أو ممارسة الإرهاب لتحميل اختيار معين دون غيره بعيدا عن لحاظ المصلحة الاجتماعية وسبيل العدالة؟ وكشاهد شاخص على ذلك ما يحصل في الدول المدعية للديمقراطية، كما في أميركا ودول أوروبا الغربية ومن يحذو حذوهم من دول العالم الثالث، وما جرى في الجزائر وتركيا وأمثالهما ليس ببعيد عن ذاكرتنا.

3 ـ ما هو الضمان لاستقامة المنتخبين للحكم والسلطة وتغليبهم لمصلحة المجتمع على مصالحهم الذاتية وأهوائهم الخاصة عند تشريع الأنظمة والقوانين أو تنفيذها؟ خصوصا وان المقياس والغاية لديهم لا يعدوان هذه الحياة المادية بكل زينتها وشهواتها، بل إننا نجد هذه الفئة المنتخبة تنتهي عادة إلى تغليب مصالحها الفردية والفئوية عند التشريع وسن القوانين. أما في المجال التنفيذي فتعتمد إلى التعسف الحكومي وبسط سطوتها الانتهازية على الشعوب والأمم عن طريق تشكيل الأجهزة العلنية والسرية لأحكام السيطرة وأعمال النفوذ ولمنع أعمال أية إرادة خارج أرادتها وسلطتها. والنموذج البارز لذلك هو النظام الحاكم في أميركا ودول الغرب عموما ومن سار على نهجهم السياسي من دول العالم الثالث.

ولم تنفع كل عمليات الترقيع والتحديث للديمقراطية العلمانية حيث ظلت عاجزة

ـ(459)ـ

عن حسم هذه المشاكل ورفع صور التهافت عن مبانيها وبنائها، على أن أصل هذه المشكلة يمكن في عجز الإنسان ـ فردا أو مجتمعا ـ عن تشخيص المصالح والمفاسد الواقعية في مجالات حياته الخاصة والعامة، فكيف يمكنه إصابة الاصلح في السلطة والولاية على صعيدي الصواب في التشريع والعدالة في التطبيق؟ ! والتجربة الإنسانية الوضعية طرّاً بكل انتكاساتها وصراعاتها وما تحملته من آلام ومعاناة وشقاء إلى يومنا هذا دليل صارخ وشاهد حي على ذلك.

أما في الإسلام فلأن المشرع والحاكم المطلق هو الله تعالى وهو العالم بمصالح ومفاسد الحياة الإنسانية فلا وجود لهذه المشكلة؛ فهو العادل الذي خلق بالحق وقدر بالحق وشرع بالحق وأعطى كلا حقه بلا حيف ولا ظلم، وعندما يرسل رسله لتبليغ تشريعاته للناس يصطفي الصادق الأمين، وعندما يعين حاكما عليهم يختار الأعلم بتشريعاته وذا العدالة الأوثق في الاستقامة عليها وصاحب العزم الأكفأ في حمل رسالته وتطبيقها في حياة الناس.

لذا فان التشريعات والقوانين الصالحة للبشرية مضمونة من الله لعلمه سبحانه بمصالح ومفاسد الحياة، وعامل العدالة والكفاءة في تحقيق المصلحة العامة عند التطبيق شرط أساسي جعله الله ـ منظما إلى شرط العلم والفقاهة بشريعته ـ في كل حاكم يلي أمور الناس، وبذلك تتكامل الشروط ويتحقق الأمران الضروريان المسوغان لاقامة أية حكومة وبسط سلطانها على الناس؛ فالمصدر المشروع الذي تستمد منه سلطتها وولايتها على الناس هو الله سبحانه لكونه الكمال المطلق، إذ الأصل ان لا ولاية لأحد على أحد إلا بمرجّح، فكيف إذا كان الإنسان محض الافتقار، والله سبحانه ذاته عين الكمال المطلق.

كما ان العلم والفقه بالشريعة الإلهية والعدالة والاستقامة عليها هو الضمان لسير الحاكم وحكومته وفق المصالح الاجتماعية ونهج العدل الإلهي في واقع المجتمع.

ـ(460)ـ

وهنا يتكامل لدينا الرد الحاسم والجواب التام على الشبهة التي حاول أنصار الديمقراطية العلمانية إلصاقها بالحكم الإسلامي من أنه ينتهي إلى الاستبداد والدكتاتورية، وذلك في إطار ادعائهم بأن مثل هذا الحكم الديني يعني الالتزام بالثيوقراطية، التي تقول بأن السلطة الحاكمة هي التي تستمد سلطتها وقدرتها على الحكم من الله تعالى وتضفي القدسية على أوامرها ونواهيها من قدسيته، لذا فحكمها مطلق لا منازع لـه ولا رادع، ومن ثم فهي مصونة من أي حساب، فالراد عليها راد على الله وهو على حد الشرك به، وهل هذا إلا أشد أنواع الاستبداد والديكتاتورية؟!

فمما اتضح لنا سابقا ان هناك أمرين أساسيين قائمين في نظرية الحكومة الإسلامية ينفيان بشكل قاطع ورود هذه الشبهة مطلقاً:

الأمر الأول: كون التشريع لله تعالى وهو العالم بكل شيء دون الإنسان، وما يمارسه الإنسان ليس إلا الاجتهاد في استنباط الأحكام الإلهية من مصادرها الشرعية وتنقيح موضوعاتها الخارجية، وبذلك يتحقق أول شروط السلامة من أهواء الاستبداد والديكتاتورية الإنسانية في الحكم.

الأمر الثاني: ان الله سبحانه لم يترك أمر منصب الحكم تتحكم فيه الأهواء الإنسانية التي غالبا ما تقوم على أساس القهر والغلبة اللذين هما قواما أية ديكتاتورية واستبداد في الحكم، بل وضع شروطا أساسية لابد من توفرها في الحاكم حدوثا وبقاء ليكون صالحنا لمنصب الحكم والولاية في الإسلام. وعمدة هذه الشروط ـ كما أسلفنا ـ هي الفقاهة والعلم بالشريعة، والعدالة والاستقامة عليها، والعزم والكفاءة في حمل رسالته سبحانه والحكم وعلى ضوئها. وللأمة الإسلامية الراشدة مراقبة مدى توفر الأمة الإسلامية الغابر والمعاصر حافل بشواهد المواجهة المختلفة، خصوصاً تلك التي قادها أئمة أهل البيت عليهم السلام واتباعهم من العلماء المجاهدين ضد الحكام المنحرفين عن الإسلام.

ـ(461)ـ

وبهذين الأمرين الأساسيين القائمة في نظرية الحكومة الإسلامية نقطع بعدم الانسجام بين طبيعة وشكل الحكم الإسلامي وبين الديكتاتورية والاستبداد، فهما متباينان جوهريا ولا يلتقيان أبدا.

ويتأكد هذا عقليا وشرعيا وفق مباني المدرسة الإسلامية الكبرى لأهل البيت عليهم السلام التي ترى العصمة في الحاكم الإسلامي؛ فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعنوانه رسولا مبلغا وبعنوانه واليا حاكما معصوم من الخطأ والزلل، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم نص ـ بأمر الله سبحانه ـ على الخلفاء والحكام من بعده، وانهم معصومون، أما في عصر غيبة الإمام المعصوم فإنه عليه السلام قد جعل بالتنصيب العام الحكم والولاية في من تتوفر فيهم الشروط الأساسية للحاكم الإسلامي الصالح من العلم والفقاهة، والعدالة، والعزم والكفاءة، وهذا ما نراه اليوم نموذجا متوفرا في حكومة الفقيه العادل الكفوء في إيران الإسلامية.

هذه هي وجوه المقارنة الأساسية بين الديمقراطية العلمانية في الحكم ونظرية الحكم الإسلامي. فهما متقابلان لاشيء من أحدهما يلتقي مع الآخر.

الشورى في الحكم

 أما لو جردنا الديمقراطية عن علمانيتها وأخذناها بما هي مجرد انتخاب وتصويت، أي بما يساوي الشورى في الإسلام، فالأمر سيختلف عند ذلك.

وهنا لابد لنا من توضيح معنى الشورى في الإسلام، فنقول: ان الشورى يدعى لها معنيان رئيسان:

المعنى الأول:

أنها الأساس الذي يثبت به جزء أو كل شؤون منصب الحكم والولاية العامة.

وهو المعنى الذي ذهبت إليه المذاهب الإسلامية الأخرى وسارت عليه الخلافة الراشدة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويقوم على أساس شورى المسلمين وهي ان تكون

ـ(462)ـ

الولاية للمسلمين على أنفسهم وهم يمنحونها بالطريقة التي يتوافقون عليها إلى من يرونه مناسبا لها ضمن الضوابط العامة للإنسان المسلم.

ورغم عدم وضوح الطريقة التي تمارس بها الشورى لاختيار الولي وتعيينه إلا أنها عملا مورست بأربعة أساليب في مرحلة الخلافة الراشدة وهي:

الأسلوب الأول: طريقة شورى أهل الحل والعقد، وفيها تجتمع مجموعة مختارة من المسلمين ليتفقوا بالإجماع أو بالأغلبية على اختيار وبيعته ويكون هذا الاتفاق ملزما لبقية المسلمين بالإقرار والبيعة. وهي الطريقة التي تم بموجبها اختيار الخليفة الأول أبي بكر وبيعته في سقيفة بني ساعدة ثم الطواف به في أزقة المدينة والمسح بيده على كل من صودف في الطريق من بقية المسلمين في المدينة.

الأسلوب الثاني: طريقة تعيين الخليفة السابق للخليفة اللاحق بعد استشارة مجموعة من كبار المسلمين، والزام سائر المسلمين بها، وهي الطريقة التي تم تولية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بها.

الأسلوب الثالث: طريقة حصر الخليفة السابق الاختيار في انتخاب الخليفة اللاحق بالأكثرية المطلقة في معينين يرى فيهم الصلاحية والأهلية لهذا المنصب وعند التساوي ترجح كفة من فيهم أحدهم المعين من قبل الخليفة السابق وهو الطريق التي تم بها انتخاب الخليفة الثالث عثمان بن عفان حيث حصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الترشيح والانتخاب في ستة أشخاص افتراض انهم موضع رضا المسلمين ويقوم هؤلاء الستة بانتخاب واحد منهم الأكثر المطلقة، وعند التساوي ترجح الكفة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف. وهذه الطريقة هي تلفيق بين الشورى النسبية والتعيين.

الأسلوب الرابع: طريقة البيعة العامة لأهل الحل والعقد وجمهور المسلمين. وهي الطريقة التي تم بها انتخاب الخليفة الرابع علي بن أبي طالب عليه السلام باجتماع عموم

ـ(463)ـ

المسلمين وكبار الصحابة في المدينة، وقد ابلغ في وصفها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع الي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(9).

ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه الأساليب ومدى مشروعيتها إسلامياً ولا مناقشة صحة المعنى الأول للشورى أو عدم صحته فإن لـه محله(10)، إنّما الذي يهمنا هنا هو ان القول بالشورى بهذا المعنى لا يقصد منه أصحابه ـ ولو نظريا على الأقل ـ سلب الولاية التشريعية عن الله سبحانه والتصرف بها من قبل الحاكم والخليفة المنتخب بالشورى، كما ان سلطته التنفيذية كحاكم يفترض تقيدها بقيود الإسلام المقرة شرعا، كالعلم والعدالة والكفاءة ـ ولو بالجملة ـ وإلا فعلى الأمة ـ وخصوصا علماءها ـ نصيحته وإتمام الحجة البالغة عليه، فان لم ينفع ذلك فلها عزله وانتخاب حاكم اصلح غيره من بين المسلمين. وهذا يختلف في أساسه عن أساس النظام الديمقراطية في منح السلطة والحكم كما هو واضح.

المعنى الثاني:

إنها طريقة لتجميع وتطوير التجارب والخبرات وتوظيفها لإسناد الحاكم والحكومة الإسلامية والمشاركة في تحمل مسؤولية أداء وظائفها الرسالية.

ومن أساليب تحقيق المعنى الثاني للشورى هو الانتخاب والتصويب، بل ان مشاورة أهل الخبرة والتجربة من المتخصصين في مختلف شؤون الحياة من قبل الحاكم الإسلامي في عصر الغيبة هي أحد ملاكات تحقق شرط الكفاءة والتدبير في إدارة شؤون الحكم الإسلامي.

وقد يوجب الحاكم الإسلامي عند اقتضاء مصلحة الإسلام والمجتمع وفي إطار ظروفه الداخلية ما يحيطه من أوضاع سياسية سائدة في العالم انتهاج أسلوب الانتخاب

ـ(464)ـ

والتصويت، كما وقد يلزم بنتائجه. والذي نراه اليوم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو مصاديق حاكية عن هذا النهج. كالتصويت على نظام الجمهورية الإسلامية والتصويت على الدستور الإسلامي وانتخاب مجلس الفقهاء العدول وانتخاب الأخير فقيها عادلاً كفوءاً من بينهم لولاية أمر المسلمين وقيادتهم وانتخاب رئيس الجمهورية مشروطاً بإمضاء ولي الأمر القائد وانتخاب أعضاء مجلس الشورى وفق شروط النائب الصالح، وهكذا في اختيار رئيس الجمهورية المنتخب أعضاء حكومته وأجهزتها التنفيذية مشروطاً بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الشورى ـ باعتباره ممثلا للشعب ـ وإمضائه لـه، وغير ذلك مما هو واقع أو يستجد حسب مقتضيات مصلحة المجتمع الإسلامي.

فبهذا المعنى من الديمقراطية نجد أنه أسلوب مساوي لمعنى الشورى في الإسلام الذي ندب إليه القرآن الكريم والرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيت الطاهرين عليهم السلام، كما وقد يجب ـ كما أوضحناه ـ وفق ضوابط وهدف تحقيق مصلحة الإسلام وأمته المجيدة. وتشخيص هذه المصلحة يتم وفق قواعد الشريعة من قبل ولي الأمر والحاكم الإسلامي الجامع للشرائط الشرعية التي فرضها الإسلام فيه.

بهذه الحدود وعلى هذا الأساس يمكننا ان نتصور للديمقراطية اللاعلمانية ـ بمعنى الانتخاب والتصويت ـ موقعا ومكانا في المنهج السياسي الإسلامي.

لغة المصطلحات ومنطق العقلاء

وبالرغم من إننا لسنا معقّدين من هذه الاطلاقات الاصطلاحية إذا كان الهدف منها هو إيصال الحقيقة إلى طلابها وتيسير الخطاب والبيان لمن لا يفهمه إلا بهذه الاصطلاحات، ولكننا نخشى سوء السريرة ومداخل الخلط والتشويه للمتربصين بالإسلام وحركته الرسالية الرائدة، فلا شك ان للإسلام لغته واصطلاحاته العقائدية

ـ(465)ـ

والشرعية الخاصة به، كما ان للأنظمة والاطروحات الوضعية لغتها واصطلاحاتها الخاصة بها، وبين اللغتين فوارق أساسية؛ فاستعمال إحداها في بيان مطالب الأخرى لا يخلو من احتمال الخلط أو القصور في مفادها.

وعليه فمن أراد معرفة مباني وحقائق مبدأ معين عليه ان يحيط بلغة ذلك المبدأ واصطلاحاته الخاصة، ويتجنب اسقاطات الاصطلاحات الأجنبية عليه.

على ان لغة المنطق والعقل هي لغة مشتركة بين العقلاء يكفي استرشادها والتوجه إليها لتتوحد الرؤية على ضوئها. ونهج القرآن الكريم والرسول الأمين صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، واحد في هذا السبيل. فمن الروائع القرآنية التي تختصر لنا مقولتنا هذه في أصول الحكم والحاكم على هذا النهج قولـه تعالى في الصدر المشروع للولاية والسلطة: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(11) والحمد لله رب العالمين.

المصادر:

___________________________

1 ـ سورة الأنبياء: 16 ـ 18.

2 ـ سورة الحديد: 25.

3 ـ سورة النحل: 36.

4 ـ سورة الجمعة: 2.

5 ـ سورة البقرة: 129.

6 ـ سورة البقرة: 124.

7 ـ سورة السجدة: 24.

8 ـ سورة الفرقان: 74.

9 ـ نهج البلاغة خطبة رقم 3 المعروفة بالشقشقية.

10 ـ راجع على سبيل المثال كتاب الحكومة الإسلامي للإمام الخميني v، وكتاب أساس الحكومة الإسلامية، وكتاب ولاية الأمر للسيد كاظم الحائري، وكتاب الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق للسيد محمد باقر الحكيم.

11 ـ سورة يونس: 35.