إيران الإسلامية وفلسطين ومبدئية الموقف

إيران الإسلامية وفلسطين ومبدئية الموقف

 

إيران الإسلامية وفلسطين ومبدئية الموقف

 

   د. محمد البحيصي

رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية الإيرانية

مقدمة تاريخية :

منذ انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران والعودة المظفّرة لمفجّر الثورة الإمام الخميني v، والمنطقة بل والعالم مشغول بهذه الظاهرة التي لم يُؤرّخ لمثلها في التاريخ، وكأنها الصاعقة التي نزلت من السماء، أو الإعصار الذي عبر المحيطات واستقر في هذه الأرض التي تميّزت بإنسانها وجغرافيتها ودورها، وهو الدّور الذي لم ينفك عن موقعه الحضاري الذي أعطاه الإسلام بعده الإنساني والأخلاقي والقيمي، منذ أن تعانقت إيران مع الفتح والانفتاح، وحين أقبلت على مدرسة أهل البيت b ، ومرة ثالثة حين قدّمت هويّتها للمستضعفين والمظلومين وللمسلمين جميعاً، ثورة إسلامية هي امتداد لثورة الإسلام الأولى، ونهضة الإمام الحسين A  غيّرت المعادلات الاستراتيجية، وأصابت مصالح الاستكبار العالمي في الصميم، وزلزلت عروش الطغاة المستبدين، ووظّفت رصيدها القيمي والواقعي لصالح عزّة الأمة الإسلامية ووحدتها، ووقفت مع مظلومية الشعب الفلسطيني بلا حدود..

ومع هذا فإننا لو تتبعنا مواقف علماء الدين في إيران من القضية الفلسطينية لوجدناها منذ بداياتها مواقف متميّزة، ويذكر العلامة مرتضى المطهري (رضوان الله عليه) سبب هذه الخصوصية لعلماء الشيعة قائلاً:

"إنّ علماء الشيعة يمثلون في ذاتهم مؤسسة مستقلة، فهي تعتمد على الله من الناحية الروحية، وعلى قوة الشعوب من الناحية الاجتماعية، لذلك فقد ظهرت هذه المؤسسة على مرّ التاريخ على شكل قوة منافسة في مقابل الطغاة".

ووجدت شريحة من العلماء تتعامل مبدئياً مع موضوع فلسطين ونفوذ الصهاينة، وتكشف لنا دراسة التاريخ المعاصر للحركات الإسلامية (الشيعية) أنّ هذه الشريحة من علماء الدين لم تؤدِ دور قيادة الجهاد فحسب، بل إنها بفكرها العميق ودقة نظرها حدّدت المطامع الاستعمارية، أو أهداف الأجانب البعيدة المدى، وحالت دون وصولهم إلى أهدافهم النهائية، كما رأينا في ثورة العشرين في العراق، وفي الثورة الدستورية في إيران، وفي حركة السيد موسى الصدر ومن ثم المقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان .. وهكذا ..

وقد مثّل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أحد مشاهير علماء النجف الأشرف موقف هذه الشريحة، حين دعا علماء سورية ولبنان ومصر والأردن واليمن والخليج، وتركيا وأفغانستان وإيران للاجتماع تحت قبّة أمير المؤمنين A في النجف في 15/06/1938، حيث أصدر العلامة كاشف الغطاء حكم الجهاد مخاطباً المسلمين والعالم قائلاً : "إنّ الحالة التي آلت إليها فلسطين الذبيحة يشهدها الجميع، وكما قلنا ونقول مرّة أخرى فإنّ موضوع فلسطين ليس قضية خاصة بفلسطين نفسها... لقد أصبح الجهاد في فلسطين واجباً على كل إنسان، لا على الأمة العربية والإسلامية فقط .. ثم مؤكداً أنه لولا ازدحام أنواع العلل والآلام على عظامه النخرة لكان أول شخص يستجيب لهذه الدعوة .."

وفي الستينات من القرن الماضي، كان لبداية حركة الإمام الخميني v ومساعيه الجادة في مجال السياسة دوراً أساسياً في التأسيس لموجة جديدة من اليقظة الإسلامية في إيران والعالم الإسلامي، وكان الهدف الداخلي من جهاده : إسقاط النظام البهلوي، وإقامة نظام على أساس سيادة الشعب الدينية، وفي المنطقة الجهاد ضد الصهاينة والسعي لتحرير فلسطين، وعلى المستوى العالمي مواجهة الاستكبار وعلى رأسه أمريكا.

ونحن بهذه المقدمة وما بعدها لسنا بصدد الدفاع عن المواقف المبدئية الثابتة للثورة الإسلامية تجاه ما يخص الحق الفلسطيني وحق الأمة في فلسطين، ولا بصدد المنّ والأذى الذي يغلب على أحاديث أولئك الذين يمنّون على الفلسطينيين عند كل مناسبة أو موقف متعلق بدعم القضية، لا هذا ولا ذاك مقصدنا، وإنما حديث الإنصاف والوفاء، وتسجيل الحقائق التي يسعى أعداء الأمة من داخلها وخارجها لطمسها وتزييفها، وحديث الشكر لأنّ من لا يشكر الناس لا يشكر الله، وحديث تسمية الأشياء بمسمياتها حتى لا تختلط على الناس وتلتبس المواقف، فليس من جعل من قضية فلسطين همّه وهدفه كمن جعل منها قضية للمتاجرة والابتزاز والسمسرة..

 

الإمام الخميني v وفلسطين :

 وهنا لا أريد الحديث عن مواقف الإمام وفتاواه حول وجوب الجهاد لتحرير فلسطين، ووجوب دعم الثورة الفلسطينية، والتحذير من خطر الكيان الصهيوني ليس على فلسطين فحسب وإنما على كل الأمة، وكل ذلك كان قبل تفجير ثورته المباركة بعقود، وقبل أن يخطر ببال أحد أنّ إيران في زمن الطاغية التي كان يتحكّم في سياستها أكثر من ستين ألف خبير أمريكي يخضعون لمخططات الصهاينة ومصلحة الكيان الصهيوني يمكن أن تتحول لتصير الأرض  والبلاد التي تحتضن أعظم ثورة شعبية في التاريخ، ثورة تنطلق من الإسلام  لتقيم له دولة تعيد من خلالها دور الإسلام المحمّدي في نهضة الأمة وخلاص البشرية من الطواغيت الذين طمسوا دور ووظيفة الإنسان في هذه النشأة..

وهكذا فإن الإمام خطّ قاعدة إيران للإسلام، ولم يكتف بقاعدة الإسلام لإيران مستعيناً بذلك بدورين تاريخيين : دور دخول الإسلام لإيران و احتضان وقناعة الإيرانيون به ودور الخدمات التي قدّمها الإيرانيون للإسلام..

ومَن غير الإمام الخميني كان قادراً على إحياء هذين الدّورين اللّذين لعبا دوراً مركزياً في تاريخ الأمة وسيادتها..

لقد كانت فلسطين في قلب الخطاب الديني والسياسي للإمام، تعامل معها على أنها قضية من قضايا الشأن الإيراني، وطوال سنوات الصراع مع الشاه ونظامه كان الإمام يربط بين بهلوي وإسرائيل، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وحين كان الشاه يشترط عدم مهاجمة إسرائيل كان الإمام يرد بسخرية عميقة :

" ولماذا ؟؟ وهل كانت أمّهُ يهودية ؟!!.

وفي منفاه عام 1964 كان يقول : " إن إسرائيل هي في حالة حرب مع الدول الإسلامية، لقد حذّرتُ من هذا الخطر مراراً، وأنا أعلن لجميع الدول الإسلامية، وإلى كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بأن المسلمين الشيعة هم أعداء لإسرائيل وعملائها، وهم بريئون من الدول التي تعترف بإسرائيل".

وعندما اشتعلت حرب حزيران (يونيو) عام 1967، واحتل الصهاينة ما تبقى من فلسطين بما في ذلك بيت المقدس والمسجد الأقصى أفتى الإمام بإدانة العدوان، ودعا إلى وحدة المسلمين، وحرمة التعامل مع إسرائيل، وحرّض على القتال ومواجهة الكيان الغاصب، كما أفتى بجواز صرف الحقوق الشرعية لصالح العمل الفدائي والمجاهدين في فلسطين... ومدّ جسوراً من العلاقات مع الثورة الفلسطينية إلى أن كانت ليلة الانتصار والظفر في 11/2/1979، حيث حوّلت الجماهير الإيرانية الثائرة سفارة  العدو الصهيوني إلى سفارة فلسطين، لتكون أول سفارة لفلسطين في العالم، واستقبل الراحل ياسر عرفات وقادة الثورة الفلسطينية في طهران كما لم يُستقبلوا في مكان آخر من قبل، (وجدت كلّ إيران حتى خراسان) على حد تعبير رئيس منظمة التحرير الفلسطينية (العمق الاستراتيجي للثورة الفلسطينية).

 

يوم القدس العالمي:

كم كان الإمام v ملهماً وعبقرياً وموفقاً وهو يجعل من جمعة رمضان الأخيرة يوماً للقدس، بعد شهر من الصيام والقيام والتطهّر، لتتجلّى لهم في هذا المقام مدينة الله المقدسة لتكون في بؤرة اهتمامهم وفي مركز وعيهم، ووجهة لبوصلة سلوكهم وسيرهم.. وهنا يأتي الإمام معلناً هذا اليوم يوماً للقدس كما هو يوماً للإسلام، ويوماً للمستضعفين في كل العالم، ويوماً لتحرّر إرادة الأمة وتحقيق وحدة وجهتها ..

وكأنّ القدس في هذا اليوم اختزلت الكون أو الوجود الإنساني لتلتقي أرواح وسواعد المؤمنين على طريق تحريرها وإزالة الوجود الصهيوني الذي يجثم على صدرها كغدة سرطانية يجب إزالتها واجتثاثها من الوجود ..

فلسطين في الدستور والقوانين الإيرانية :

كان مبدأ الدفاع عن حق الأمة في فلسطين والمظلومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني جرّاء العدوان الصهيوني الإحلالي والإلغائي الذي شرّد شعباً بأكمله، ليحل مكانهم أوزاعاً من البشر لا ينتمون إلى هذه الأرض، وليس لهم أدنى حق فيها، كان هذا الموقف ملهماً لواضعي الدستور الإيراني والقوانين اللاحقة  لهذا الدستور والمؤسسة عليه، وقد نصّت المادة الثانية والخمسون بعد المئة من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي استفتى عليه الشعب الإيراني وأيده  بنسبة 99% من الأصوات :

تقوم السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية على أساس الامتناع عن أيِّ نوع من أنواع التسلّط أو الخضوع له، والمحافظة على الاستقلال الكامل، ووحدة أراضي البلاد، والدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعدم الانحياز مقابل القوى المتسلطة، وتبادل العلاقات السلمية مع الدول الغير محاربة.

كما نصّت المادة الرابعة والخمسون بعد المئة على :

وتعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقّاً لجميع الناس في أرجاء العالم كلّه، وعليه فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشئون  الداخلية للشعوب الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك فقد كانت القضية الفلسطينية من أهم أسس السياسة الخارجية والأمنية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في أولويات السلطة التنفيذية والأجهزة الإعلامية والدعائية، بحيث أصبحت الفكرة الأساسية والتطور العام بشأن القضية الفلسطينية للجمهورية الإسلامية نابعة من تأثير ونشاط المنجزات في المجالين الدعائي والتنفيذي.

هذا في الوقت الذي كانت فيه القضية الفلسطينية وأخطار الكيان الصهيوني ضد العالم تحتل مكانة خاصة إلى جانب المجالات المذكورة، وفي هذا المجال تم تنظيم وتقرير مجموعة من القوانين والأنظمة الداعية إلى دعم نضال الشعب الفلسطيني المظلوم، ومنع أي تعامل مع الكيان الصهيوني، وإبلاغها للسلطة التنفيذية لتنفيذها، وهذا يدل على اهتمام السلطة التشريعية كأهم مؤسسة ديمقراطية وشعبية ومشاركتها بصورة جادة فيما يخص القضية الفلسطينية في مجال إضفاء الصبغة القانونية على دعم نضال الشعب الفلسطيني .

هذا وقد تم تأسيس لجنة حماية الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني عام 1989 في رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، استناداً على مكانة القضية الفلسطينية شعبياً، هذه اللجنة أصبحت مكاناً للنشاطات المؤثرة في مجال الهدف الأسمى وهو تحرير فلسطين، ووفرت مساراً للأجهزة الحكومية وغير الحكومية لدعم الحكومة في هذا المجال.

 

قانون دعم الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني:

وهذا القانون يتكون من ثماني مواد وملاحظة واحدة، وقد تم تقريره في الجلسة العلنية ليوم الأربعاء 9/5/1989 في مجلس الشورى الإسلامي، وتم تأييده من قبل مجلس صياغة الدستور في 9/5/1989، وهو يلزم المؤسسات والوزارات ذات العلاقة في إيران بوجوب تقديم كل أشكال الدعم لثورة الشعب الفلسطيني حسب الإمكانيات المتاحة لها في نفس الوقت يمنع أي نوع من العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية مع الشركات أو المؤسسات التي تدعم الكيان الصهيوني في أي مكان في العالم.

وبموجب هذا القانون قام مجلس الوزراء  في 3/9/1998 بالمصادقة على النظام التنفيذي لدعم ومساندة الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني، وتم تشكيل لجنة لهذا الأمر يتولّى  رئيس الجمهورية رئاستها، ولدى غيابه يتولى مستشار رئيس الجمهورية في اللجنة رئاستها، وتتألف هذه اللجنة من بين مساعدي الوزراء، وبتعريف من قبل الوزراء، أو نائب المنظمة المسئولة.

-       قانون موحّد إسلامي بشأن مقاطعة إسرائيل، وقد تم إقراره بمجلس الشورى الإسلامي في 20/9/1990.

-       قانون وجوب الدعم الشامل من قبل الحكومة للشعب الفلسطيني المظلوم والمقر من مجلس الشورى في 1/1/2008.

-       قانون إعلان يوم 19/ يناير ( كانون الثاني) يوم غزة رمزاً للمقاومة الفلسطينية في 17/7/2009 ، ويعمل به ويسجّل كل عام في التقويم الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

هذه القوانين بمجموعها تشكّل منظومة تحكم العلاقة على المستوى القانوني بين إيران والشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ولا تدع مجالاً للالتفاف عليها فيما لو أراد البعض ذلك، وهي مع المواقف الشرعية التي هي بمثابة أحكام ولائية والتي أطلقها الإمام الخميني (قدّس سرّه) وخلفه الصالح الإمام الخامنئي (دام ظله)، يجعل من القضية الفلسطينية قضية إيرانية إسلامية بامتياز، وأنّ الوقوف مع الحق في فلسطين فضلاً عن كونه واجباً إسلامياً فإنه يحقق مصالح شعوب المنطقة ومنها بالطبع مصلحة إيران.

يقول الإمام الخامنئي (حفظه الله): "إنّ إنقاذ فلسطين وإزالة الدولة الصهيونية الغاصبة يمثلان قضية ترتبط بمصالح شعوب هذه المنطقة ومنها مصالح بلدنا العزيز، الذي اتخذ مواجهة نفوذ الصهاينة واقتدارهم منهجية له، فإنه قام بهذا العمل وفق مخطط مدروس، وقد اختير هذا المنهج بناءً على مصالح البلد والمصالح العامة للجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني". حديثه في خطبة صلاة الجمعة في طهران 15/12/2000

وهنا نجد القائد السيد الخامنئي (حفظه الله) ينطلق من الموقف الذي وضع أسسه الإمام الراحل (قدّس سرّه) الذي جعل قضية فلسطين على رأس مطالبه، وتابعها طيلة مسيرة جهاده وبعد انتصار الثورة، وتحدّث عنها بعد رحلته الملكوتية عبر وصيته السياسية الإلهية ( معنا ومع كل مسلمي العالم، وهذا هو الواجب الذي لا يمكن التخلّف عنه) كما يقول القائد (حفظه الله).

 

إيران الإسلام ملهمة الصحوة الإسلامية في فلسطين:

في مواجهة الكيان الغاصب يجب أن تُحشد كل طاقات الشعب الفلسطيني ومعه الشعب العربي والشعوب الإسلامية، وفي سياق الأحداث القطرية في المنطقة والتدخلات الاستكبارية لفرض الهيمنة، تم دفع الإسلام عن موقعه القيادي ليُكتفى به ديناً فردياً شخصياً لا دخل له بالحياة، قائماً في زوايا المساجد وعلى رفوف المكتبات، وهذا ما كان يسعى إليه الغرب والشرق معاً فيما كان يعرف  بالمعسكرين الغربي والشرقي، وهو ما كانت تسعى إليه الحركة الصهيونية، والحكام المستبدّون أدوات هذا المعسكر أو ذاك..

 والساحة الفلسطينية مثلها مثل غيرها من الساحات عاشت هذا الواقع المؤلم، وقد ساهمت بعض (الحركات الإسلامية) في تكريس هذه الخطيئة من خلال تبنّيها برامج ومشاريع تتعاطى مع الإسلام بانتقائية واختيارات خاطئة تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، وتلبس الإسلام الثوب الذي فصّله له الآخرون ليعزله عن الحياة وقيادتها..

وهذا ما يُفسر الانقطاع الذي وقع في الحركة الوطنية الفلسطينية التي تبنّت المواجهة مع المحتل الصهيوني وقد خلا منها البعد الإسلامي كمرجعية موجهة وحاكمة رغم أنّه البعد الأهم والأعمق، إن على مستوى تديّن الشعب الفلسطيني أو على مستوى تديّن المنطقة العربية والعالم الإسلامي ..

وانشغلت الحالة الإسلامية في فلسطين والمنطقة بقضايا اجتماعية ودعوية وتربوية بعد أن أعطت ظهرها لمظلومية فلسطين، ولخطورة زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة، ونأت بنفسها عن ممارسة الجهاد المسلح تاركة الساحة لقوى أخرى لتقوم بهذا الواجب، وكانت هذه إحدى نقاط الضعف في تاريخ ( الإسلاميين)، ولعل ذلك يعود إلى سطحية فهم الحالة الإسلامية لطبيعة الكيان الصهيوني من جهة، ومن جهة ثانية لقلة تقدير (الإسلاميين) لقدرة الجماهير الفلسطينية، والثالثة ارتباط تلك الحالة بموقف الجماعة المركزية  خارج فلسطين التي لم تكن ترى أن الوقت مناسب للمواجهة مع العدو مع مشروعية تلك المواجهة، وإن الأولوية للأشكال الأخرى المتمثلة في الدعوة وبناء المجتمع ومن ثم إقامة (الخلافة الإسلامية) التي ستقوم هي بإعلان الجهاد ..

والحقيقة أنّ هذا الموقف كان ينسحب على كافة العاملين في المجال الإسلامي على الأقل في أطره التنظيمية، دون أن يمنع قناعات بعض أفراد هذه الأطر بخلاف ذلك ، لكن بدون مبادرات فردية تخالف هذا الموقف.

وهذا الطريق الطويل الذي يمثله هذا الموقف ظل مانعاً من انخراط (الإسلاميين) في الثورة الفلسطينية وهو ذاته الذي دفع ببعض الشباب في حينه لمغادرة هذه الحالة والانشغال بالتحضير للانخراط في العمل المسلّح ضد العدو باعتبار ذلك أولوية شرعية، وتكليف لا مهرب منه وقيام بالواجب الذي أهمله (الإسلاميون) متذرّعين بما أسلفنا من ذرائع غير واقعية ..

وهنا جاءت الثورة الإسلامية في إيران على قدر وكانت بمثابة الهبّة الإلهية لكل الذين يسعون إلى التحرر والانعتاق من طواغيت العصر وسيّما الطاغوت الصهيوني، وتلقف الشباب الفلسطيني (الإسلامي) هذه اللحظة دونما تأخير واعتبروها استجابة لكل تطلعاتهم وطموحاتهم وأمانيهم، ولأرواحهم المتعطشة إلى نموذج الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وثورته التي جمعت بين (القائد والمشروع والشعب) في بوتقة واحدة، فضلاً عن أن فلسطين في قلب هذا المشروع، وهو ما وضع كل (الإسلاميين) في فلسطين أمام الحقيقة الجديدة، مما أحدث الانقلاب الكبير في وعيهم وفي ترتيب أولوياتهم، وفي جوهر موقفهم من الصراع والمواجهة مع العدو، ليبدأ هؤلاء مع فلسطين بداية جديدة مختلفة، تليق بحجم الإلهام والتأثير الذي تركه انتصار الثورة الإسلامية عليهم وعلى المنطقة والعالم، فكانت حركة الجهاد الإسلامي أولاً، ومن ثَمّ حماس وجاءت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) وهكذا ..

وبادرت إيران لرعاية هذه القوى وغيرها من قوى الثورة الفلسطينية التي تؤمن بالمقاومة سبيلاً لاستعادة الحق وما تزال ، ولا معيار لهذه الرعاية سوى الإيمان بهذا السبيل حتى بات الأمر من واضحات  العلاقة بين إيران الإسلام وفلسطين، ولهذا فإن هذه القوى نظرت لإيران كحليف استراتيجي وشريك كامل الشراكة في عملية المقاومة والتحرير، ويجب أن تستمر هذه النظرية بدون تردّد ولا انحراف مع تعميق العلاقة مع محور المقاومة الذي تقوده الجمهورية الإسلامية.

إيران الإسلامية ودورها في حفظ القضية الفلسطينية:

بعد معركة عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، وبدل استثمار الإنجاز العسكري الأهم على صعيد المواجهة مع العدو قبل هذا التاريخ، وجدنا أن قطار التسوية مع العدو ينطلق من القاهرة بقيادة الرئيس المقتول السادات ليحطّ في محطته التي انتظرته طويلاً في الكيان الصهيوني، ليحقق هذا الكيان حلمه القديم في إخراج أكبر دولة عربية من دائرة الصراع، وليفتح الباب واسعاً لكل المتساقطين من الأنظمة العربية وسواها باتجاه الاعتراف والتطبيع مع هذا الكيان، وبالقطع فإنّ هذا ما كان ليتم لولا الغطاء غير المعلن الذي تلقاه السادات من النظام السعودي وأنظمة أخرى من تلك الأنظمة التي ربطتها علاقات سريّة مع الكيان الصهيوني دفع المشروع الصهيوني قبل إنشاء هذا الكيان ..

لقد وجّهت اتفاقيات (كامب ديفيد) ضربة قاصمة للقضية الفلسطينية، وفتحت ثغرة واسعة من الأمن العربي والإسلامي، وراهن الكثيرون على أنّ المعركة على فلسطين باتت محسومة لصالح العدو الصهيوني ومشروعه في المنطقة ..

ولولا أنّ الموقف السوري  الرافض حينه وبعض المواقف العربية الأخرى مثّل عائقاً أمام تمدد هذه الظاهرة الخطيرة وانتشارها لكان الأمر أخطر وأسوأ، هذه الإعاقة كان لها دور في المواقف التي اتخذها الإمام الخميني (رحمه الله) إبّان الثورة الإسلامية وبعد انتصارها، فكانت بمثابة السد الذي وقف في وجه طوفان الاستسلام الذي رعاه بعض الحكّام لصالح الكيان الصهيوني .

ولنا أن نتخيل كيف كان سيكون حال القضية الفلسطينية لو بقيت برسم نظام كامب ديفيد وامتداداته في المنطقة، وحجم الانهيار الذي كان يمكن أن يلحق بالحق الفلسطيني من جرّاء مسلسل التنازلات والسقوط السياسي والقيمي الذي مثّلته أنظمة السلام المزعوم مع هذا الكيان ..

وفي الوقت الذي شعر فيه هذا الكيان أنه قد انتهى الأمر، وأن صفحة القضية الفلسطينية قد طُويت، جاء الرد السريع من الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران، وكأنها بحضورها كانت الروح التي نُفخت في الجسد الفلسطيني والعربي  والإسلامي، فأعادت له حياته وعافيته ووعيه، وأحيت من جديد آمال المستضعفين في فلسطين، وفتحت باباً واسعاً من أبواب الجهاد والمقاومة والصمود، وأعادت فلسطين التي أُريد لها الغياب والنسيان إلى واجهة قضايا المنطقة والعالم، وإلى موقعها المركزي للأمة، وحشدت الشارع الفلسطيني من جديد في خط المواجهة التي تجلّى في صمود هذا الشعب رغم الخذلان، فخاض المعارك الكُبرى التي مثلتها الانتفاضات المتعاقبة والحروب التي شُنّت عليه في غزة بكل شجاعة واقتدار مرتكزاً على حقّه في المقاومة والمواقف المبدئية التي تبنتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه الحق الفلسطيني والتي مثّلت العمق الاستراتيجي لكل مقاومات الشعب الفلسطيني على مدار العقود الأربعة الأخيرة.