الأسس المبدئية لأخلاقية الوحدة والأخوة بين المسلمين

الأسس المبدئية لأخلاقية الوحدة والأخوة بين المسلمين

 

 

الأسس المبدئية لأخلاقية الوحدة والأخوة بين المسلمين

 

 

فؤاد المقدادي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل:

لعلّ من أبرز المسائل التي تعيش أملاً حيّاً في ضمير المسلمين، وهدفاً أكيداً في تطلعات الأمة الإسلاميّة، ورغبة ملحة لدى رجالها وقادتها المجاهدين، هي مسألة الوحدة بين المسلمين، والتقارب بين مذهبهم وفرقهم، وردم الهوة الوهمية بين ابتاعها التي خلقها الجهل والهوى، وأحكمها كيد حكام الجور والفساد، وعمل على اتساعها وتكريس أمرها الكفر العالمي ومؤسساته الثقافية والإعلامية الخبيثة، حتّى استحكمت وأصبح أمرها يحتاج إلى الهمة العالية للعلماء المخلصين، والحركة الرائدة للقادة المجاهدين، والإرادة الماضية للأمة الواعية الراشدة، خصوصاً وأن المشتركات تكاد تجعل ـ وبنظرة علمية موضوعية ـ كلّ الاختلافات على الهامش فيما تحتفظ بالأصول والاركان واحدة لا تعدد فهيا، متحدة لا خلاف عليها سواء كانت بمنطق صريح مباشر للثوابت والنصوص العقائدية والتشريعية أو بالملازمة العقلية والعقلائية لها.

وتتأكد هذه الرؤية عند مراجعنا لتراث السلف الصالح وأطروحاتهم الحديثية

(354)

والعلمية لمفردات الإسلام في مختلف أصوله وفروعه، ذلك لأن يد التحريف والتزوير، ومواكبة مصالح الحكام الفاسدين والسلاطين المنحرفين لم تكن قد توغلت واستقرت بعد في كثير مما وصلنا من بعدهم، وليس أدل على ذلك من معاناة أئمة المذاهب الإسلاميّة وعلى رأسهم أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من اضطهاد وقمع وتشريد وسجن وتعذيب وقتل، منعاً للحق من أن يظهر وتدول دولته، وللأمة من أن تعي وترشد فتتحد وتردع الباطل وتسقط سلطانه. ولن ينهض بهذا العبء الثقيل ويضطلع بهذه المسؤولية الكبرى إلاّ أهل العلم المخلصون ورجال الأمة الواعون، الّذين يدركون خطورة الأمر وأهميته، ومواطن الصحة من الفساد في المنقول ومنطق الصواب من الخطأ في المعقول، بروح إسلامية مسؤولة تأمل رضا الله، وبعثول علمية متفتحة تفحص عن الحقيقة وتنشد الحق وبأخلاقية تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة.

وفي دراستنا المختصرة هذه نحاول أن نسلط الضوء وبنظرة سريعة على الأسس المبدئية لأخلاقية الوحدة والأخوة بين المسلمين، لتكون مدخلاً مفهرساً لدراسة أكثر عمقاً وأوسع تفصيلاً، ولكنا أمل ورجاء أن تتحقق بذلك خطوة أساسية، ويشيد ركن ركين في مسيرة الوحدة الإسلاميّة المقدسة، والله المسدد ومنه التوفيق والرشاد.

ويمكننا حصر هذه الأسس من خلال الاستقراء القرآني في ثلاثة، وهي:

الأساس الأول ـ وحدة العقيدة الإسلاميّة:

وهي المضمون العقائدي لشهادة «أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ».

فيقول «لا إله إلاّ الله» تبدأ مسيرة التوحيد نحو الفلاح والصلاح «يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا»([1]).

(355)

وبالشهادة لمحمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالرسالة الإلهية تنطلق رحلة التسليم والإيمان نحو الله سبحانه: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً﴾([2]).

وعليه ففي هذا الأساس مبدآن:

الأول ـ مبدأ التوحيد:

وهو الأس الأول للصراط المستقيم، ونطلق حركة الإنسان نحو الكمال الواحد الأحد ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداءً فالف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾([3]). ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾([4]).

وبدونه لا يمكن أن تتوحد حركة أي إنسان مع نظيره مهما كانت المحاولات والنوايا، ومهما توفرت العوامل المادية لذلك ﴿وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم﴾([5]).

بل سنجد كلّ إنسان قد افترق إلى فرقة بنفسه، وبعدد أهواء النفوس وشهواتها ستكون هناك سبل وفرق ﴿وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون﴾([6]). ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به

(356)

نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾([7]).

كما أن التوحيد هو الأساس في بناء الأمة الواحدة﴿إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾([8])، ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾([9]). وهو الأساس أيضاً في قلب الموازين الاجتماعية في بناء العلاقات والجماعات، وتغيرها من موازين النسب والحسب إلى موازين الإيمان بالله والتحزب له ومن أجله سبحانه ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون﴾([10]).

الثاني ـ مبدأ الإيمان بالرسول والطاعة له:

وهو المبدأ الثاني من مبادئ العقيدة الإسلاميّة الواحدة، التي عاش المسلمون الأوائل حقيقتها على الأرض، وتفاعلوا معها قيماً وسلوكاً وجهاداً وآثاراً، وأقام على ذلك اللحوقو من بعدهم بعقولهم وعواطفهم وسلوكهم، وقولهم فيه قول الله عزّ وجلّ في محكم كتابه المجيد:(إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الّذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً﴾([11]).

ويمكننا الإحاطة الاجمالية بهذا المبدأ ودوره في التوحيد والوحدة الإسلاميّة من خلال تناول المفردات التالية:

(357)

أ ـ الكتاب الإلهي الواحد «القرآن الكريم»:

باعتباره الكتاب الذي جاء به الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ من عند الله تعالى، وقام بتبليغه للناس، وعمل على تثبيت مكانته المقدسة ووحدته في عقيدة المسلمين، وحفظه لهم بإذن الله، ودعاهم إلى أن يكون الدستور الأبدي لهم، ومن أبرز مداليل أن القرآن الكريم، باعتباره الكتاب الإلهي الاوحد للمسلمين، أساس أخلاقية الوحدة والاخوة بين المسلمين هي:

1 ـ كونه امام الأمة الصامت، ورحمة الله الواسعة، الذي يتوحد المسلمون تحت لوائه وذلك مدلول قوله تعالى: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الّذين ظلموا وبشرى للمحسنين﴾([12])، وقوله تعالى: ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾([13]).

وهو حبل الله المتين في توحيد المبدأ وعروته الوثقى في وحدة الدين وطريقته المثلى في صراطه المستقيم، ففي الحديث عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ «عليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين والنور المبين، والشفاء النافع... من قال به صدق، ومن عمل به سبق»([14]).

وذكر الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ يوماً القرآن، فقال: «هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار»([15]).

2 ـ كونه يمتاز في هذا السبيل، سبيل الحجة التامة للواحد الأحد في المعبود، والتوحيد والوحدة الإسلاميّة في الدين، أنّه محفوظ لا ينحرف ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا

(358)

له لحافظون﴾([16]) وأنه قائم لا يبلى، وحق لا اختلاف ولا تخلف فيه، وهو مفاد قول الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ «لا يخلق من الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، وحجة على كلّ إنسان، لا يأتيه البالط من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»([17]).

3 ـ كونه المحجة البيضاء التي لا طريق للباطل والفرقة والفتن بين المسلمين معها، لو يتلونه حق تلاوته ويتبعونه حق اتباعه، وذلك مفاد قوله عز من قائل في كتابه الكريم ﴿الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون﴾([18]). وهو بعد ذلك مقوم مبدئي للأخوة الإسلاميّة التي نادى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

فعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: أوه على إخواني الّذين تلوا القرآن فأحكموهُ، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه»([19]).

وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «أتاني جبرئيل فقال: يا محمّد سيكون في أمتك فتنة، قلت: فما المخرج منها ؟ فقال: كتاب الله..»([20]).

4 ـ كما أن في القرآن الكريم حل مشاكل المسلمين وحكم ما بينهم، ونظم أمرهم، وبذلك يحكم بناء الأمة الواحدة ويشتد عودها وتقوى شوكتها.

فعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»([21]).

(359)

وقال أيضاً: «...ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم»([22]).

وقال الصادق ـ عليه السلام ـ: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّوجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»([23]).

ب ـ عظمة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وصفاته الكمالية:

إنّ الخصال المثالية والصفات الكمالية التي حباها الله تعالى رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ وتعاهده عليها تحقق هدفين أساسيين في مضمار إمضاء الإرادة الإلهية على الأرض، وسوق الإنسان المسلم في مدارج الكمال إلى ربه العزيز المتعالي وهما:

1 ـ على صعيد تبليغ رسالة الله ودعوة الإنسان لعبوديته سبحانه سيكون كمال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وعصمته من الخطأ والنسيان والخيانة منجزاً للحجة الإلهية التامة على الأرض والبلاغ المبين في الدين للإنسان، ذلك لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لا ينطق إلاّ عن وحي وتسديد إلهي لقوله تعالى في كتابه الكريم:﴿وما ينطق عن الهوى * إنّ هو إلاّ وحي يوحى * علمه شديد القوى﴾([24]). وبهذا تتحقق وحدة الدين ووحدة الطرح الإلهي للبشرية.

2 ـ على صعيد التربية والإعداد لإنسان الرسالة الإلهية ومجتمع العدل الإلهي والأمة الواحدة الراشدة ستكون الأخلاق العظيمة لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ورأفته ورحمته سبيلاً حسناً، وحكمته ودرايته منهجاً ربانياً لتحقق المصاديق النموذجية للاقتداء والتأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي أمر الله عباده به حيث قال في محكم كتابه الكريم: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾([25]).

(360)

ومن الواضح الجلي أن التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يعني بمفهوم لازم وحدة التلقي والأخذ، ووحدة السلوك ووحدة الدعوة والتبليغ في واقع المسلم المتأسي، كما هو شأن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ مع ربه عزّوجلّ حين أدبه ورباه، فقد ورد عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: «إنّ الله أدب نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ حتّى إذا أقامه على ماأراد، قال له ﴿... وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾([26]) فلما فعل ذلك له رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ زكاه الله فقال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾([27]) فلما زكاه فوض إليه دينه فقال: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...﴾([28])»([29]).

وهكذا تكون أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ العظيمة، وخصاله الكريمة باعث شوق المسلمين وحبهم لله الواحد الأحد، ورائد هديهم ورشادهم لصراطه المستقيم، وحجة تامة على صدق ما آتاهم من الدين، وعامل شدهم وتحريكهم لتولي أمرهم في تحقيق إرادة الله وإعلاء كلمته في الأرضين، وكل ذلك عوامل بناء وترسيخ لوحدة الأمة وتأسيس أرضية خلقية كاملة للأخوة بين المسلمين.

وقد صدق الله في محكم كتابه إذ قال في ذلك: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾([30])، وقوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين﴾([31]).

(361)

ج ـ قيمة وآثار طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ:

إنّ لطاعة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قيمةً وآثاراً ذكرها القرآن الكريم وأشارت إليها السنة الشريفة، خصوصاً في تحقيق أخلاقية الوحدة والاخاء بين المسلمين، ومن أبرز تلك القيم والآثار:

1 ـ إنها تؤدي إلى توحيد الله، والتوبة والإنابة له سبحانه، وهي بذلك ترتب آثار هذا التوحيد وتلك الإنابة في تحقيق وحدة المبدأ والمسار والمصير للمسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً﴾([32])، وجاء أيضاً: ﴿وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً﴾([33]).

2 ـ تحقيق وحدة الإمامة والقيادة، وبالتالي وحدة القرار والحركة والهدف في مسيرة المسلمين، وهو مفاد قوله تعالى: ﴿يا أيها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللهِ والرسولِ إنّ كنتمْ تؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلاً * ألمْ ترَ إلى الّذين يزعمون أنَّهم آمنوا بما أُنزلَ إليكَ وما أُنزلَ من قبِلكَ يُريدونَ أنْ يتحاكموا إلى الطاغوتِ وقدْ أُمروا أنْ يكفروا بهِ ويريدُ الشيطانُ أنْ يُضلَّهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ رأيتَ المنافقينَ يصدّونَ عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبةٌ بما قدّمتْ أيديهِم ثمّ جاؤكَ يحلفونَ باللهِ إنْ أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً * أُولئك الذينَ يعلمُ اللهُ ما في قلوبِهم فأعرضْ عنهمْ وعِظهمْ وقلْ لهمْ في أنفسهم قولاً بليغاً * وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤكَ فاستغفروا الله َ واستغفر لهمُ الرسولُ لو جدوا اللهَ توَاباً رحيماً * فلا وربِّكَ لا يؤمنونَ حتّى يحكّموكَ فيما شجرَ بينَهمْ ثمَّ لا يجدوا

(362)

في أنفسِهم حرجاً ممّا قضيتَ ويسلّموا تسليماً﴾([34]).

3 ـ منع سيادة حالة النفاق في أوساط المسلمين، وبالتالي الوقوف في وجه التفرّق والتشر ذم والانكفاء عن الأهداف الإلهية للإسلام في هداية الناس، وتحقيق وحدة الأمّة الإسلاميّة وبناء كيانها الشامخ، وهو مدلول قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ويقولونَ آمنّا باللهِ وبالرسولِ وأطعنا ثمّ يتولّى فريقٌ منهم من بعدِ ذلكَ وما أولئكَ بالمؤمنين * وإذا دُعوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقُ منهم معرضون* وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرضٌ أمِ ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهمْ ورسولُه بل أولئك هم الظالمون * إنّما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك همُ المفلحون * ومن يطع اللهَ ورسولهَ ويخشَ اللهَ ويتقهِ فأولئك همُ الفائزون * وأقسموا باللهِ جهدَ أيمانِهم لئمن أمرتهم ليخرُجُنّ قل لا تُقسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ اللهَ خبيرٌ بما تعملون* قلْ أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ فإنْ تولّوا فإنّما عليه ما حُمّلَ وعليكم ما حُمّلتُم وإنْ تُطيعوه تهتدوا وما على الرسولِ إلاّ البلاغُ المبين﴾([35]).

وقوله تعالى: ﴿فقاتل في سبيل اللهِ لا تُكلّفُ إلاّ نفسَكَ وحرّضِ المؤمنينَ عسى اللهُ أن يكفّ بأس الذينَ كفروا واللهُ أشدّ بأساًَ وأشدّ تنكيلاً﴾([36]).

الأساس الثاني ـ وحدة الأمة الإسلاميّة اجتماعياً وسياسياً:

وينطلق هذا الأساس المبدئي من الآية الكريمة: ﴿إنّ هذه أمتكُم اُمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدونِ﴾([37])، وتؤكّد آية كريمة اُخرى ذات المفهوم فتقول: ﴿وإن هذه أُمتكُم اُمّةً

(363)

واحدةً وانا ربك فاتقون﴾([38]).

ومن ظاهر الآيتين الكريمتين نجد أن علّة وحدة الأمة الإسلاميّة هي وحدة الرب والمعبود، وأن هذه الوحدة لا تتحقق في اطارها الاجتماعي والسياسي إلاّ إذا تجسّدت هذه العقيدة عبادةً لله، وتقوىً على هديه وشريعته التي أرادها حياةً للأمة، وتوحيداً لها في سيرها الشامل نحو الله تعالى...

ونجد مخطط هذه الوحدة الشاملة لجميع جوانب حياة الأمّة وحركتها الإلهية في الجوانب التالية:

1 ـ وحدة الشعائر الإسلاميّة:

كالقبلة الواحدة والصلاة والحج وغيرها.. ولهذا الجانب أثرٌ كبير في إبراز الصفة القدسية لمظهريّة وحدة الأمة من خلال الشعائر الإسلاميّة الواحدة، فالقبلة الواحدة وهي الكعبة المشرّفة بيت الله الذي أقام قواعده نبيا الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأمر الله ووحيه: ﴿وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربّنا تقبّلْ منّا إنكَ انتَ السميعُ العليمُ﴾([39]).

والقيمة الرسالية المميّزة لقبلة المسلمين هذه أنها لم تكن قبلتهم بادئ الأمر إلى أن أمر الله رسوله أن يتحول إلى الكعبة المشرفة قبلة خاصة للمسلمين، فقد روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال: «تحوّل القبلة إلى الكعبة بعدما صلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثم وجه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا، فاغتمَّ رسول الله من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر

(364)

وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعين، فنزل جبرئيل ـ عليه السلام ـ فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: ﴿قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام...﴾([40]) وكان صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ﴿... ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾([41])»([42]).

وبذلك تميز المسلمون عن اليهود وكانت الكعبة قبلتهم دون سواهم، وحدوا الله باستقبالهم في صلاتهم وشعائرهم المتعلقة بها، فعن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال: «إذا استقبل المصلّي القبلة استقبل الرحمن بوجهه لا إله غيره»([43])، فكانت بحق إحدى عوامل شعورهم بالأمة الواحدة في مبدئها ومسارها وغايتها، وكذلك الأمر في الصلاة فهي مبدأ بناء أمة التوحيد والعدل، وذلك مفاد قوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء﴾([44]).

وشان الصلاة توحيد المسلمين، لكونها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «ليكن همّك الصلاة، فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين»([45]).

ولكونها أيضاً وجه الدين، فعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال: «لكل شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة»([46]). وكونها خير العمل وعمود الدين، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «الصلاة عمود الدين»([47]). وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: «أوصيكم بالصلاة وحفظها، فإنها خير العمل، وهي عمود دينكم»([48]).

(365) وعنه ـ عليه السلام ـ أيضاً: «الله الله في الصلاة ! فإنها عمود دينك»([49]) ولكون إقامتها إقامة للملّة، بل هي الملّة كما ورد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حيث قال: «عباد الله ! إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى جلَّ ذكره الإيمان بالله وبرسُلهِ وما جاءَت به من عندِ اللهِ وإقامة الصلاة، فإنها الملّة»([50])، وهل أدلُّ من ذلك في شأنية الصلاة على وحدة المسلمين في الدين والملّة ؟ خصوصاً إذا توّج أداؤها جماعة، ففي ذلك إظهار للحجة، وإعلان للتوحيد في العبادة، وبناء لأمة الإسلام الواحدة.

فعن صلاة الجماعة قال الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ: «إنّما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلاّ ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنَّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخفّ مؤدياً لما أقرَّ به، يظهر الإسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرِّ والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عزّ وجلّ»([51]).

والحج هو الآخر شعار من شعائر الله الكبرى التي تعبر وبشكل عظيم عن وحدة المسلمين وتواصلهم وتعارفهم وتناصرهم من خلال الاجتماع الهائل للحجاج المسلمين في مكّة المكرّمة على اختلاف قومياتهم وأوطانهم واجتهاداتهم الإسلاميّة، ومن خلال أدائهم الواحد وتناسقهم الفريد في أعمال الحج وشعائره الموحّدة. وجَعْلُ الشارع الحج فريضة واجبة على المستطيع يبرز أهميته وأثره في تحقيق أهداف الإسلام السياسية والاجتماعية الكبرى، تصديقاً للآية الكريمة: ﴿... ولله على الناس حجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً...﴾([52]). وهي بعد ذلك نداء وأذان للناس المسلمين للاجتماع: ﴿وأذّن في الناس

(366)

بالحج يأتوكَ رجلاً وعلى كلّ ضامرِ يأتينَ من كلّ فجِ عميقٍ ﴾([53]) ليتداولوا شؤونهم وينظموا أمرهم، وليتشاوروا فيما يحقق وحدتهم وعزتهم، ويقيم دينهم ويديل دولتهم، ويقوي شكوكتهم سياسياً واقتصادياً.

كلّ ذلك يتم في أجواء شعائر الحجّ الإلهية المقدسة، وفي إطار المناخ الروحي لهذه الفريضة العبادية المشهودة، فعن هشام بن الحكم قال: «سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت ؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلدٍ إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى.

ولو كان كلّ قوم «إنّما» يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والإرباح، وعميت الأخبار، لوم تقفوا على ذلك، فذلك علة الحج»([54]).

وفي باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان أنّه سمعها من الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ جاء ك «فإن قال ]قائل[:فلم أمر بالحج ؟ قيل: لعله الوفادة إلى الله عزّ وجلّ وطلب الزيادة..، مع ما في ذلك الجميع الخلق في المنافع في شرق الأرض وغربها... وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة عليهم السلام إلى كلّ صقع وناحية، كما قال الله تعالى: ﴿ فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليستفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون﴾([55]).. و ﴿ليشهدوا منافع لهم...﴾([56])»([57]).

(367)

وهكذا لو تتبعنا باقي الشعائر الإسلاميّة لوجدناها طافحة بدلالات التوحيد العقائدي والوحدة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين، مفعمة بروح التواصل والتناصر والتآخي في الله فيما بينهم.

2 ـ وحدة الشأن الإسلامي:

وفي هذا الجانب تظهر أبرز صور التكافل وأقوى الأواصر الاخوية بين أبناء الأمة الإسلاميّة، وتنشأ منه حالة اجتماعية فريدة ومعبرة عن شوكة المسلمين ومنعتهم، مما يؤهلهم لتمثل الوحدة السياسية فيما يتعلق بكيانهم الإسلامي الواحد، ومجمل حركته العامة، وهو يخوض صراع إثبات الوجود وأصالة البقاء عقائدياً وحضارياً. ونظرة فاحصة إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة نجدها قد جاءت نصاً جلياً في بيان هذا الأصل الإسلامي الشامخ، منها الآية الكريمة التي تحكي قوة الارتباط بين المؤمنين، تعبر عنها بالولاية، يحث تقول: ﴿... المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم﴾([58]).

ويحدثنا الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ عن وحدة الشأن والأمر الإسلامي فيما بين المؤمنين، وضرورة اهتمام بعضهم بقضايا وأمور بعضهم الآخر، تحقيقاً لوحدة الشأن الإسلامي فيقول: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»([59])، ويضيف ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً مؤكداً، أن كلّ ذلك مرتبط بالله، رافض للذل، محقق للعزة، مصدق قوله تعالى: ﴿... ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين...﴾([60]) فيقول ـ صلى الله عليه وآله ـ: «من أصبح من أمتي وهمته غير الله فليس من الله، ومن لم يهتم بأمور المؤمنين فليس منهم، ومن أقر بالذل طائعاً فليس منا أهل

(368)

البيت»([61]).

ويؤكد حفيده الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ذلك بقوله: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»([62]).

ثم يسلط الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ الضوء على حالة الاهتمام بأمور المؤمنين، ويصفها بأنها حالة تواد وتراحم، ويعلل ذلك بأن المؤمنين هم كالجسد في ترابطه وإحساسه الواحد، فيقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى»([63]).

ويقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في ذلك أيضاً: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، أن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده...»([64]).

ويقول ـ عليه السلام ـ أيضاً: «إنّما المؤمنون إخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على الرجل منهم عرق سهر له الآخرون»([65]).

إذن فوحدة الشأن الإسلامي أصل وحقيقة مبدئية مقومة للوحدة والأخوة بين المسلمين، وأساس بناء في قيام الأمة الإسلاميّة الواحدة.

3 ـ الولاية والتناصر بين المسلمين:

إنّ أول ما أسسه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بأمر الله سبحانه في بناء كيان الأمة الإسلاميّة، وعمل على تجسيده واقعاً محسوساً هو مبدأ الولاية والتناصر بين المسلمين، الذي عبر عنه القرآن الكريم أروع تعبير حين قال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله

(369)

ورسوله أولئك سيرحمهم الله أن الله عزيز حكيم﴾([66])، وبذل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ الكثير لشد المسلمين نحو تمثله صورة حاكيةً في جميع جوانب الحياة، سواء في بعدها الفردي أو الاجتماعي والسياسي، حتّى أصبحت السمة البارزة والميزة لهم، ولدرجات قربهم إلى الله ورسوله، وتكشف لنا الآيات القرآنية الكريمة عن هذا المبدأ الأساس وبتفصيل رائع، حيث يقول تعالى فيها: ﴿إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالك من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير * والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم * والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إنّ الله بكل شيء عليم﴾([67]).

وقد جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر التناصر بين المسلمين معياراً لانتماء المسلم وارتباطه العضوي بالأمة الإسلاميّة وكيانها الواحد، فعن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن يسمع رجلاً ينادي «بالمسلمين» فلم يجبه فليس بمسلم»([68]).

ثم جعل لدماء المسلمين حرمةً أوجب حفظها، وشرع القصاص لمن يتجاوز عليها، بل وجعل المسلمين ـ كلّ المسلمين ـ قوة واحدة متكافئة في الدفاع عن كلّ فرد ينتمي مبدئياً إليهم، فعن الصادق ـ عليه السلام ـ قال: «خطب رسول الله بمنى... إلى أن قال:

(370)

المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، هم يد على من سواهم»([69]).

وبذلك تحكم أركان الولاية والتناصر في الأمة الإسلاميّة، معبرة عن أفضل وأهم عوامل قيام الوحدة الاجتماعية والسياسية بين أبنائها، على أسس عقائدية وطريقة عملية تكاملية، تجسد مبدأ التوحيد في منهجيته لتوحيد الأمة وجوداً وحركةً وهدفاً، ليصدق فيها قول الله عزّوجلّ في كتابه الكريم: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...﴾([70]).

4 ـ التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

لاشك أن عظمة وقيمة هذا المبدأ في تكوين عصبة الإيمان، وتقوية شوكة المسلمين ورص صفوفهم، وخلق المنعة والاقتدار في كيانهم هي العلة في أن يقسم الله لأجله في قرآنه الكريم، وينص فيه على أن النجاة من الخسران المبين، والفوز بمراتب التسليم له سبحانه رهين بالتزامهم به محتوى ومنهجاً في حياتهم الاجتماعية والسياسية، حيث يقول عز من قائل: ﴿والعصر* إنّ الإنسان لفي خسر* إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر﴾([71]).

أن التواصي بالحق والتواصي بالصبر على حمله والعمل به يوجب تحقق رتب للمؤمن تترتب علاقته بالحق على ضوئها كالآتي:

أ ـ أولى هذه الرتب هي معرفة الحق: وقد حدد الإسلام طريقة معرفته، وحصرها بما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من عند الله قرآناً، إرشاداً، وسنة للعقول، وتشريعاً للحياة، حيث خاطب الله رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ في محكم كتابه الكريم قائلاً: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً...﴾([72])، وجعل معيار الإيمان وميزانه معرفة الحق من الله عزّوجلّ عن طريق

(371)

رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث قال: ﴿... فأما الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحق من ربهم...﴾([73])، ورفض المنهج الأرضي الّذين يقرر معرفة الحق بالرجال، وأثبت العكس في أن معرفة الرجال تكون بالحق ليس إلاّ، فعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: «إنّ دين الله لا يعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله»([74])، وقال ـ عليه السلام ـ أيضاً: «إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله»([75]).

وقد رسم الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ منهج معرفة الحق، وردع عن سواه فقال: «من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل أن يزول»([76])، كما حث الإسلام على طلب الحق مهما كانت الموانع والعقبات حيث لا يكون من أهل الحق إلاّ من وجده وسلم له وعمل به، فعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: «خض الغمرات ؟ إلى الحق حيث كان»([77])، وقال ـ عليه السلام ـ في ضرورة لزوم الحق عند معرفته ليكون من أهله: «الزم الحق ينزلك منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلاّ بالحق»([78]).

ب ـ وثانية هذه الرتب التسليم للحق والعمل به: وهو أول مصاديق معرفة الحق وآثاره الحقة، وقد تألق أمير المؤمنين في وصف هذه الرتبة، فقال بلاغته الفريدة وفصاحته السديدة: «ألا وإن الحق مطايا ذلل، ركبها أهلها وأعطوا أزمتها، فسارت بهم الهوينا حتّى أتت ظلاً ظليلاً»([79])، وعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال: «العز أن تذل للحق إذا

(372)

ألزمك»([80]).

وفي العمل بالحق قال ـ عليه السلام ـ: «إنّ أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكرثه([81]) من الباطل وإن جر فائدة وزاده»([82]).

وفي بيان الثمار الوفيرة والآثار العظيمة للتسليم للحق والعمل به يقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: «إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك أنطق الله لسانه بالحق فعمل به، فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه...، وإذا لم يرد الله بعبد خيراً ولكه إلى نفسه، وكان صدره ضيقاً حرجاً، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به...»([83]).

ج ـ وثالثة الرتب الصبر على الحق: لأن الحق ثقيل كمبدأ يحمله الإنسان المؤمن والجماعة المؤمنة، وكمنهج حياة وعمل وجهاد يتنكبه العاملون في طريق الله، ويقارعون به الجبت والطاغوت من أعداء الله والمستكبرين في الأرض، وقد نزلت في بيان شدة الحق وثقله على الإنسان آيات كريمة منها قوله تعالى: ﴿لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون﴾([84])، وتكرر هذا المعنى في أكثر من آية.

وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في ذلك، وفي أن العاقبة في الصبر على الحق قال: «الحق ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة، فصبروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لمن صبر واحتسب، فكن منهم واستغن بالله»([85])، وقال ـ عليه السلام ـ أيضاً: «لا يصبر للحق إلاّ من يعرف فضله »([86])، وعن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال: «لما حضرت أبي علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: ابني أوصيك بما أوصاني أبي حين حضرته

(373)

الوفاة، وبما ذكر أن أباه ـ عليه السلام ـ أوصاه به: أي بني أصبر على الحق وإن كان مرّاً»([87]). وعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال «... أصبر على الحق فإنه لم يصبر أحد قط لحق إلاّ عوضه الله ما هو خير له »([88]).

د ـ ورابعة الرتب إعلان الحق والدعوة له: تخلقاً بأخلاق الله في ذلك حيث يقول عز من قائل في كتابه الكريم: ﴿... والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾([89])، وهذه الرتبة هي أعلى الرتب وأسماها لما فيها من إقامة الحق وإرساء قواعده في الأمة وردع الباطل وأهله ومواجهة الجور وسلاطينه.. وقد تواصلت آيات القرآن الكريم يؤكد بعضها الآخر على ضرورة اضطلاع الأمة المؤمنة بمهمة بيان الحق والدعوة إليه، منها قوله تعالى: ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾([90])، وقوله تعالى: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾([91])، كما أن هذه المهمة تعتبر من ممحصات الإيمان ومحكات اختباره، لا يفرق فيها من يتحملها بين أن تكون له وللأقربين منه أو عليه وعليهم ﴿يا أيها الّذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الولدين والاقربين إنّ يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾([92])، كما لا يفرق فيها بين رضا أو غضب، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «ما انفق مؤمن نفقة هي احب إلى الله عزّوجلّ من قول الحق في الرضا والغضب»([93]) وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وصيته لابنه الحسين ـ عليه السلام ـ قال: «يا بني أوصيتك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب »([94]).بل أن مهمة إعلان كلمة الحق والصدع بها هي من أفضل الجهاد عند الله، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «إلاّ

(374)

لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، إلاّ أن افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»([95]). وعن حفيده الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال: «كان أبي يقول: قم بالحق ولا تعرض لما نابك»([96]).

وهكذا فلو ترقت الأمة وتسامت في رتب التواصي بالحق والتواصي بالصبر هذه تكامل بناؤها، ورصت صفوفها، واشتد عودها، ولأصبحت أمة الحق والعدل، يتوحد فيها هدفها ومسارها ومصيرها ولتسنمت بذلك رتبة الشهادة على الناس امماً وشعوباً بعد الله ورسوله، ليصدق بحقها قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً...﴾([97]). ولا يتم ذلك جزافاً بل لابد من الجهاد في الله حق الجهاد، والاعتصام به سبحانه في هذا السبيل لنيل هذه الرتبة السامية والشرف العظيم: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير﴾([98]).

وقد بين الله سبحانه أن كلّ ما يصيب الأمة الراشدة من قرح وفتن فهو سنة قائمة في الناس لا تختص بالمؤمنين منهم، فيجب أن لا تثنيهم عن تنكب طريق الحق والعدل والوصول إلى رتبة الشهادة الكبرى: ﴿إنّ يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الّذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين﴾([99]).

(375)

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إنّ هذه الوظيفة الإلهية والمبدأ الإسلامي ذات مفادٍ شامل لكل أبعاد الحياة الفكرية والعملية، وتكاد تنحصر ثمارها بممارستها على صعيد الأمة بالذات، حيث لا نجد آية كريمة في القرآن الكريم لا يكون فيها خطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطاً بالمؤمنين بوصفهم أمة واحدة وجماعة متحدة يوالي بعضهم بعضاً، كما نجد أن طبيعة الارتباط بين وحدة الأمة الإسلاميّة بما تتحلى به من ايمان وخير ورشاد وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ارتباط الموصوف بصفته والمعلول بعلته، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلاميّة خير الأمم التي أخرجت للناس بوصفها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...﴾([100])، كما أن إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت أن تكون سنة التمكين في الأرض للأمة المؤمنة معللة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر: ﴿الّذين إنّ مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾([101])، وهكذا الأمر في غيرها من الآيات الكريمة وما جاء في السنة الشريفة.

وللإحاطة بهذا المبدأ الإسلامي المهم ودوره الخطير في بناء وتوحيد الأمة الإسلاميّة نعرض له باختصار في ثلاثة جوانب أساسية:

أولاً: أهلية الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فلو لم تكن الأمة مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة الإلهية الخطيرة فإنها يتفقد أهم عامل من عوامل قوة شوكتها ودوام وحدتها، ذلك أن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من

(376)

 خلق الله عزّ وجلّ فمن نصرهما أعزه الله ومن خذلهما خذله الله»([102]).

وأهلية الأمة هنا تعني توفرها على مواصفات معينة بما هي أمة، وهذه المواصفات هي:

أ ـ الإيمان بالله ورسوله والتسليم والطاعة لهما: وهذه الصفة هي المنبع الأول والأساس لمعرفة كلّ معروف يراد الأمر به ومعرفة كلّ منكر يراد النهى عنه والاستقامة في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق ثماره في الأمة ﴿ويوم نبعث في كلّ أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لك شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين﴾([103])، ولذا نجد أن الله سبحانه قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الإيمان بالله واليوم الآخر ليحق في القائمين به أنهم من الصالحين: ﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين﴾([104]). وفي آية أخرى جعل الله سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الإيمان بالرسول واتباعه وابتاع النور الذي أنزل معه، وبذلك يصدق وصف الله لهم بالمفلحين: ﴿الّذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون﴾([105]).

وفي ضرورة إحاطة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بأحكام الإسلام وعلمه

(377)

بتفصيلاتها واستقامته عليها وحكمته في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: «إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر عالم بما ينهى، عادل فيما يأمر عادل فيما ينهى، رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى»([106]).

ب ـ الولاية فيما بين أبناء الأمة المؤمنة: فلو لم يكن بين أبناء الأمة الواحدة موالاة الإيمان لكان ثلماً في طاعتهم لله ورسوله، ومن ثم تخلفاً في إقامتهم للدين، وقوامه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ظاهر تفريع الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله على الولاية فيما بين المؤمنين والمؤمنات في قوله عز من قائل: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم﴾([107]).

وقد جاء عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ما يؤكد أن أهم عوالم الولاية بين المؤمنين والمؤمنات هو الأمر بالمعروف حيث قال: «من أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين»([108])، وقال ـ عليه السلام ـ أيضاً: «الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق»([109])، أما ضعف الإيمان الذي يبغضه الله سبحانه وهو أخطر الوهن في الفرد المؤمن والأمة المؤمنة فهو لازم لعدم النهي عن المنكر، وهو قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «إنّ الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له ؟ قال: «الذي لا ينهى عن المنكر»([110]).

ج ـ الخلافة لله ولرسوله في الأرض: والتي يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر /ن أهم مستلزماتها وواجباتها لقوله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿الّذين إنّ

(378)

مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾([111]).والخلافة عهد وبيعة بايعها المؤمنون ربهم الله ورسوله على حمل الأمانة الإلهية وأدائها في الأرض، وإقامة الدين وإعلاء كلمته، والتي من أهم مقوماتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قوله تعالى: ﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين﴾([112]).

والخلافة هنا خلافة الأمة المؤمنة الواحدة التي يسعى لتحقيقها الرسل وأتباعهم من المؤمنين الصالحين: ﴿وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبد ونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾([113]).

ثانياً: دوائر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث دوائر هي:

ألف ـ الدائرة الأولى: وهي دائرة الأمة داخلياً سواء كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيد فردي فيها أو على صعيد جماعي، كما لو استشرت حالة المنكرات والإعراض عن المعروف بشكل اجتماعي عام، أو كانت هناك منظمات خاصة تقبع وراء انتشار المنكرات والإعراض عن المعروف بشكل مباشر أو غير مباشر، لذا جعل الإسلام

(379)

غايته وقوامه في هذه الدائرة(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: «غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود»([114])، وقال أيضاً: «قوام الشريعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود»([115]). كما أن في الأمر بالمعروف تحقيقاً لمصلحة العامة في المجتمع الإسلامي الموحد، وذلك قول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: « فرض الله تعالى... الأمر بالمعروف مصلحة للعوام»([116]).ب ـ الدائرة الثانية: وهي دائرة حكام الجور، التي طالما جاهدها المؤمنون المجاهدون في أغلب أدوار المسيرة الإسلاميّة عبر تاريخها الطويل. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الدائرة من أفضل الجهاد لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إنّ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»([117])، بل أن البر كله والجهاد في سبيل الله لا يعدل قيمة ودور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: «ما ا‘مال البر كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في حبر لجي»([118])، وما نهضة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ وأهل بيته الكرام وثورته على يزيد المنحرف الجائر إلاّ تصديق لهذا الأمر الإلهي وصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر الذي رام حرف الدين والإجهاز على أصوله وتعطيل فروعه ومحو صورته الإلهية التي جاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته الطاهرون ـ عليهم السلام ـ وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم لتثبيتها وتوحيد الأمة عليها، وهو ـ عليه السلام ـ القائل في ذلك: «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير

(380)

بسيرة جدّي وأبي»([119]).

ولولا ثورة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ والمواقف الجهادية المتواصلة لأئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم المخلصين لوجدنا أن الأمة الإسلاميّة الواحدة أمم متعددة بعدد سلاطين الجور والضلال، ولما حصل هذا الانفصال والتقابل بين الأمة المؤمنة وهؤلاء السلاطين، ولما جعل منها أمة واحدة في مواجهة ألوان الجاهلية والتجبر والطغيان رغم الحدود والموانع المختلفة بين شعوبها وأوطانها.

ج ـ الدائرة الثالثة: وهي الدائرة الخارجية التي تدفع فيها الأمة الإسلاميّة عن نفسها من جهة كلّ منكر يغزوها من الأمم الضالة، وكل معروف مزور يفدها من المجتمعات الجاهلية، وذلك قول الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم»([120]).

ومن جهة أخرى تتحمل الأمة الإسلاميّة مسؤوليتها الكبرى في دعوة الأمم والشعوب الأخرى إلى الإسلام وبيانه لهم عقيدة حق، ونظام سعادة، وحضارة كمال للإنسان على الأرض لقوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً...﴾([121]).وقوله تعالى أيضاً: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾([122])، ولكون الأمة الإسلاميّة تنفرد دون غيرها بأنها خير الأمم لشرف انتمائها للإسلام الذي وحدها وميزها عن الأمم الأخرى، وعظمة الرسالة التي تحملها للناس: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون

(381)

بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون﴾([123]).

ثالثاً: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بناء الأمة الإسلاميّة والحفاظ على كيانها الواحد:

أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثاراً عظيمة على صعيد بناء الأمة الإسلاميّة والحفاظ على وحدتها قوية شامخة ن ومن أبرزها:

أ ـ تحقيق الوحدة والتماسك الداخلي على أساس التقوى والعدل، وامتلاك القدرة على الحدّ من حالات الطغيان والظلم التي قد تظهر في أوساط الأمة، سواءً على صعيد أفراد أو قوى أو قيام دول وبروز حكام ينزون على السلطة فيها ويجنحون إلى الجور والفساد، وبعكسه سوف ينتشر الفساد في أوساطها، وتذهب ريها وتتمزق أوصالها، وتتفرق شيعاً وأحزاباً يلعب بمقدراتها أهل الفجور والفساد، ويملك المستكبرون أمرها، ويسومها الطغاة الظلم والجور، ويجرعها المتجبرون الذل والهوان، وينهش أطرافها ويستحوذ على ثرواتها العتاة والشذاذ من الأمم الأخرى، فقد جاء في كتاب الله الحكيم: ﴿فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الّذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين﴾([124]).

وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: ,اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذا يقول: ﴿لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم...﴾([125])، وقال: ﴿لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل ـ إلى قوله ـ لبئس ما كانوا يفعلون﴾([126]) وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الّذين بين أظهرهم

(382)

المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون والله يقول: ﴿فلا تخشوا الناس واخشوني﴾([127])، وقال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...﴾([128]) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها’([129]).

بل وتفقد الأمة لطف الله سبحانه باستجابة دعائها للخلاص مما هي فيه من بلاء إنّ هي تركت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تعد إليها، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلط الله عليهم شرارهم، فيدعو عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم»([130])، وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»([131]).

ب ـ تقوية شوكة الأمة الإسلاميّة أمام الأمم الأخرى، وظهورها بمظهر القوة الواحدة التي ترهب أعداء الله والإسلام، ذلك أن قوة شوكتها امام الأعداء ناشئة من قوة بنائها الداخلي، وتماسكها الذاتي الذي حصنها من نفوذ قوى الكفر والجاهلية، وجعلها قوة ترهب أعداء الله ورسوله، مضافاً إلى كونها تترصد العدو، وتحذره بما تملك من الحس بالمنكر فتنكره قبل أن ينفذ إلى أوساطها والحس بالمعروف فتعلنه وتأمر به لينشأ

(383)

منه رأي عام يملك الآفاق والنفوس، ولكونها قد تحملت مسؤولية دعوة الناس للدخول في دين الله الحق ورفع الحجب التي وضعها المستكبرون والطغاة ليحولوا بين البصائر ورؤية الحق حقاً فيتبع والباطل باطلاً فيجتنب، والصبر على ما يصيبها من كيد الأعداء وفتنتهم، فقد جاء على لسان لقمان ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم: ﴿يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور﴾([132])، كما وأن النصر الإلهي في تحقيق هذه الأهداف أثر من آثار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الصعيد، لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «يا أيها الناس إنّ الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا اعطيكم وتستنصروني فلا انصركم»([133])، كما ربط الله تعالى حرمان بركات الوحي ونزع هيبة الإسلام من الأمة بتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعظيم الدنيا، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «إذا عظمت امتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بكرة الوحي»([134]). وعنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً: «لا يزال الناس بخيرما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا نزعت عنهم البركات وسلط بعضهم على بعض، وليس لهم ناصر في الأرض ولا معين»([135])، كما ربط ذهاب قوة الأمة وفقدها لعزتها بتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أوليلحينكم([136]) الله كما لحيت عصاي هذه»([137])، وعنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً: «لتأمرن بالمعروف وتنهن عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم العجم فليضر بن رقابكم

(384)

وليكونن أشداء لا يفرون»([138]).

6 ـ التعاون على البر والتقوى:

البر هو أوسع صور الإحسان وأصدقها، وما اقترانه بالتقوى في كثير من الآيات الكريمة والروايات الشريفة إلاّ دليل على أن البر يفتقر في ديمومته ونموه في الكيف والكم إلى تقوى البار لله تعالى. كما أنهما لا ينهضان ولا يظهران ـ كحالةٍ اجتماعية وسلوك عام لأبناء الأمة ـ إلاّ إذا تناجى المسلمون بهما وتعاونوا عليهما، والتعاون عليهما عمل جماعي يجب أن يمارس على صعيد الأمة لتتحقق بذلك الاخوه بأفضل صورها وأعلى رتبها، وتكون عاملاً حاسماً في رفع ودفع كلّ صور الإثم والعدوان والعصيان من واقع الأمة، وتوحيدها في المبدأ والمسار والمصير، ورص صفوفها على صراط الله المستقيم وسبيله القويم، وفي ذلك قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿يا أيها الّذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون﴾([139])، وفي آية أخرى قال الله تعالى: ﴿... تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله أن الله شديد العقاب﴾([140]).

ويؤكد المضمون المبدئي للبر وارتباطه المعنوي بالتقوى أن علامات وصفات البار هي نفس علامات ومواصفات التقي، كما في قوله تعالى: ﴿... وليس البر أن تأتوا البيوت من طهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾([141])، كما جاء في الحديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في علامات البار قوله: «يحب في الله، ويبغض في الله، ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه ويخشع خائفاً مخوفاً، طاهراً مخلصاً، مستحيياً مراقباً،

(385)

ويحسن في الله»([142]).

وهكذا فإن أمة هذه صفات أبنائها، والله الواحد الأحد محورها في كلّ شيء، هي لا شك امة التوحيد والوحدة في عقيدتها وحياتها وحركتها.

ويؤكد الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ دور التعاون على البر وأثره في بناء الأمة الصالحة وتوحدها في الله، وأنه يثمر الحب في الله، والتواصل والتراحم فيما بين أبناء الأمة، وهذا هو أعلى صور الاخة والتوحد في الله ومن أجل الله، وذلك لتفريعه ـ عليه السلام ـ كلّ ذلك على البر في قوله: «اتقوا الله، وكونوا إخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين، متراحمين»([143])،

وجاء عنه ـ عليه السلام ـ أيضاً: «تواصلوا، وتباروا، وتراحموا، وتعاطفوا»([144])، وجاء عنه ـ عليه السلام ـ أيضاً: «تواصلوا وتباروا وتراحموا، وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عزّوجلّ»([145]).

بل إنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يرى أن بذل النفس في سبيل الله من أعلى درجات البر، وبذلك يكون التعاون على البر جهاداً يدفع عن الأمة كيد الأعداء، ويحفظ بيضه الإسلام من الخطر، وهو عمل امة متحدة على أسس الإيمان والتقوى والبذل والتضحية والصبر في البأساء والضراء وحين البأس لقوله عز من قائل في كتابه الكريم: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾([146]).

(386)

7 ـ الاستباق إلى فعل الخير وإشاعته:

لقد طفح القرآن الكريم والسنة الشريفة بالدعوة إلى فعل الخير والاستباق إليه وإشاعته، لكونه أعم الاسس الأخلاقية في تكوين الإنسان الصالح والأمة الصالحة، وبناء وحدتها وتطبيق مبدأ الأخوة بين أبنائها، وذلك لاجتماع حقيقة الدين فيه، لقول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فيه: «جماع الخير في الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والبغض في الله، والمحبة في الله»([147]).

وقد صرح القرآن الكريم بالسبب الكامن وراء الاختلاف والتفرق وهو اتباع الأهواء، كما صرح بالعلاج لهذا الداء الوبيل وهو الحكم بما أنزل الله واستباق الخيرات، فإنه الأساس الأخلاقي الأمثل لتوحيد الأمة ورفع الاختلاف فيما بينها، ومن آيات ذلك قوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواء هم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾([148]).

كما جعل الله سبحانه من أبرز أعمال أوليائه ـ رسلاً وأئمة ـ فعل الخيرات، وأنها أحد أركان العبادة له سبحانه وتعالى، حيث قال في محكم كتابه الكريم:﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين﴾([149]).

ومن أبرز سنن الخير التي تضفي على الأمة الإسلاميّة روح الاخوة والسلام،

(387)

وتخلق فيها أجواء الحب والوئام، وتميزها عن غيرها من الأمم هي سنة افشاء السلام، فقد ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال: «ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: إفشاء السلام في العالم»([150])، وورد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ انه قال: «سنة الأخيار لين الكلام وإفشاء السلام»([151]).

أما كيف تعرف الخير وألهه ؟ وكيف تنتمي إلى أهل الخير وأمته ؟ وذلك قول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: «ألا وإن الله سبحانه قد جعل للخير أهلاً، وللحق دعائم، وللطاعة عصماً. وإن لكم عند كلّ طاعة عوناً من الله سبحانه يقول على الألسنة، ويثبت الأفئدة فيه كفاء لمكتف، وشفاء لمشف»([152])، فقد ورد في معرفة خير الناس أنّه:«قال رجل للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ... ابح أن أكون خير الناس، فقال: خير الناس من ينفع الناس فكن نافعاً لهم»([153]). وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً: «خير الناس من انتفع به الناس»([154])، وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «خير الناس من نفع الناس»([155])، وعنه ـ عليه السلام ـ أيضاً: «خير الناس من تحمل مؤنة الناس»([156]) وعن معرفة الخير والشر وأهلهما يقول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: «إنّ الخير والشر لا يعرفان إلاّ بالناس، فإذا أردت أن تعرف الخير فاعمل الخير تعرف أهله، وإذا أردت أن تعرف الشر فأعمل الشر تعرف أهله»([157]).

أما خير الأخيار وأفضلهم فقد عرفه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بقوله: «خيركم من دعاكم إلى فعل الخير»([158]). وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً: «خير من الخير معطيه»([159])، وعن أمير

(388)

المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «افعلوا الخير ما استطعتم فخير من الخير فاعله»([160])، وعنه أيضاً قال: «فاعل الخير خيرٌ منه وفاعل الشر شر منه»([161]).

 

([1]) ـ السيرة النبوية لابن كثير 1: 462 طبعة دار الفكر.

([2]) ـ النساء: 65.

([3]) ـ آل عمران: 103.

([4]) ـ البقرة: 256.

([5]) ـ الأنفال: 62 ـ 63.

([6]) ـ الأنعام: 153.

([7]) ـ الشورى: 13.

([8]) ـ الأنبياء: 92.

([9]) ـ المؤمنون: 52.

([10]) ـ المجادلة: 22.

([11]) ـ الاحزاب: 56.

([12]) ـ الاحقاف: 12.

([13]) ـهود: 17.

([14]) ـ نهج البلاغة، خطبة 156.

([15]) ـ بحار الأنوار 92: 14.

([16]) ـ الحجر: 9.

([17]) ـ بحار الأنوار 92: 14.

([18]) ـ البقرة: 121.

([19]) ـ نهج البلاغة، خطبة 182.

([20]) ـ تفسير العياشى 1: 3.

([21]) ـ شرح نهج البلاغة 19: 220.

([22]) ـ شرح نهج البلاغة 9: 217.

([23]) ـ الكافي 1: 60.

([24]) ـ النجم: 3 ـ 5.

([25]) ـ الأحزاب: 21.

([26]) ـ الأعراف: 199.

([27]) ـ القلم: 4.

([28]) ـ الحشر: 7.

([29]) ـ بحار الأنوار 17: 8.

([30]) ـ التوبة: 128.

([31]) ـ آل عمران: 159.

([32]) ـ النساء: 80.

([33]) ـ النساء: 64.

([34]) ـ النساء: 59 ـ 65.

([35]) ـ النور: 47 ـ 54.

([36]) ـ النساء: 84.

([37]) ـ الأنبياء: 92.

([38]) ـ المؤمنون: 52.

([39]) ـ البقرة: 127.

([40]) ـ البقرة: 114.

([41]) ـ البقرة: 142.

([42]) ـ مجمع البيان 1: 223.

([43]) ـ بحار الأنوار 82: 206.

([44]) ـ إبراهيم: 40.

([45]) ـ بحار الأنوار: 77: 127.

([46]) ـ بحار الأنوار 82: 310.

([47]) ـ كنز العمال: 18889.

([48]) ـ بحار الأنوار 82: 209.

([49]) ـ شرح نهج البلاغة 17: 5.

([50]) ـ بحار الأنوار 77: 290.

([51]) ـ وسائل الشيعة 5: 372 نقلاً عن العلل وعيون الأخبار.

([52]) ـ آل عمران: 97.

([53]) ـ الحج: 27.

([54]) ـ وسائل الشيعة 8: 9.

([55]) ـ التوبة: 122.

([56]) ـ الحج: 28.

([57]) ـ عيوان أخبار الرضا 2: 126.

([58]) ـ التوبة: 71.

([59]) ـ الكافي 2: 163.

([60]) ـ المنافقون: 8.

([61]) ـ بحار الأنوار 77:162و181.

([62]) ـ الكافي 2: 164.

([63]) ـ بحار الأنوار 61: 150.

([64]) ـ الكافي 2: 166.

([65]) ـ بحار الأنوار 74: 264.

([66]) ـ التوبة: 7.

([67]) ـ الأنفال: 72 ـ 75.

([68]) ـ الكافي 2: 164.

([69]) ـ وسائل الشيعة 29: 75.

([70]) ـ آل عمران: 110.

([71]) ـ العصر.

([72]) ـ البقرة: 119.

([73]) ـ البقرة: 26.

([74]) ـ أمالي المفيد: 5.

([75]) ـ ميزان الحكمة 2: 473 نقلاً عن كتاب «علي وبنوه».

([76]) ـ بحار الأنوار 2: 105.

([77]) ـ بحار الأنوار 77: 200.

([78]) ـ عن غرر الحكم.

([79]) ـ نهج السعادة 3: 294.

([80]) ـ بحار الأنوار 78: 229.

([81]) ـ كرثه من الباطل: غمه: راجع المنجد: مادة «كرث».

([82]) ـ بحار الأنوار 70: 107.

([83]) ـ بحار الانوار 78: 224.

([84]) ـ الزخرف: 78.

([85]) ـ بحار الأنوار 77: 258.

([86]) ـ غرر الحكم.

([87]) ـ بحار الأنوار 70: 184.

([88]) ـ بحار الأنوار 70: 107.

([89]) ـ الاحزاب: 4.

([90]) ـ الأعراف: 159.

([91]) ـ الأعراف: 181.

([92]) ـ النساء: 135.

([93]) ـ بحار الأنوار 71: 358.

([94]) ـ بحار الأنوار 77: 236.

([95]) ـ كنز الفوائد، خ 43588.

([96]) ـ بحار الأنوار 74: 196.

([97]) ـ البقرة: 143.

([98]) ـ الحج: 78.

([99]) ـ آل عمران: 140.

([100]) ـ آل عمران: 110.

([101]) ـ الحج: 41.

([102]) ـ بحار الأنوار 100: 75.

([103]) ـ النحل: 89.

([104]) ـ آل عمران: 113، 114.

([105]) ـ الأعراف: 157.

([106]) ـ تحف العقول: 358.

([107]) ـ التوبة: 71.

([108]) ـ نهج البلاغة، حكمة: 31.

([109]) ـ غرر الحكم.

([110]) ـ وسائل الشيعة 11: 399.

([111]) ـ الحج: 41.

([112]) ـ التوبة: 111 ـ 112.

([113]) ـ النور: 55.

([114]) ـ مستدرك الوسائل 2: 359.

([115]) ـ غرر الحكم.

([116]) ـ بحار الأنوار 6: 111.

([117]) ـ كنز العمال: ح 43588.

([118]) ـ شرح نهج البلاغة 19: 306.

([119]) ـ بحار الأنوار 44: 329.

([120]) ـ الكافي 5: 55 ـ 56.

([121]) ـ سبأ: 28.

([122]) ـ الأنبياء: 107.

([123]) ـ آل عمران: 110.

([124]) ـ هود: 116.

([125]) ـ المائدة: 63.

([126]) ـ المائدة: 78 ـ 79.

([127]) ـ المائدة: 44.

([128]) ـ التوبة: 71.

([129]) ـ تحف العقول: 237.

([130]) ـ بحار الانوار 100: 72.

([131]) ـ التهذيب 6: 176.

([132]) ـ لقمان: 17.

([133]) ـ الترغيب 3: 233، رواه ابن ماجه وابن حيان.

([134]) ـ كنز العمال: خ 607.

([135]) ـ بحار الأنوار 100: 94.

([136]) ـ والمراد لينقصنكم الله في النفوس والأموال وليصيبنكم بالمصائب العظام فتكونون كالأغصان التي جردت من أوراقها وعريت من الحيتها وأليافها فصارت قضباناً مجردة، وعيداناً مفردة.

([137]) ـ بحار الأنوار 100: 71.

([138]) ـ كنز العمال: ح 5563.

([139]) ـ المجادلة: 9.

([140]) ـ المائدة: 2.

([141]) ـ البقرة: 189.

([142]) ـ تحف العقول: 23.

([143]) ـ الكافي 2: 175.

([144]) ـ الكافي 2: 175.

([145]) ـ الكافي 2: 175.

([146]) ـ البقرة: 177.

([147]) ـ غرر الحكم.

([148]) ـ المائدة: 48.

([149]) ـ الأنبياء: 73.

([150]) ـ بحار الأنوار 76: 12.

([151]) ـ غرر الحكم.

([152]) ـ نهج البلاغة، خطبة 214.

([153]) ـ كنز العمال: خ 44155.

([154]) ـ بحار الأنوار 75: 23.

([155]) ـ غرر الحكم.

([156]) ـ غرر الحكم.

([157]) ـ بحار الأنوار 78: 41.

([158]) ـ تنبيه الخواطر: 362.

([159]) ـ بحار الأنوار 77:161.

([160]) ـ غرر الحكم.

([161]) ـ نهج البلاغة: حكمة 32.