الأصالة والمعاصرة ..قدرة الشريعة على مواكبة تطور الحياة الإنسانية

الأصالة والمعاصرة ..قدرة الشريعة على مواكبة تطور الحياة الإنسانية

 

 

الأصالة والمعاصرة ..قدرة الشريعة على مواكبة تطور الحياة الإنسانية

 

السيد محمد باقر الحكيم

رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي

للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع البحث

يعتبر موضوع الأصالة والمعاصرة وقدرة الشريعة على مواكبة تطور الحياة الإنسانية وتقديم الحلول الدائمة والمستمرة لمشكلاتها من أهم التحديات التي تواجهها الرسالات الإلهية، ولعلّ من أهم أسباب تعدد الرسالات الإلهية والتطور والنسخ فيها هو مواجهة هذا التحدّي في الحياة الإنسانية. ولذا فان التحدّي في هذا المجال أمام الرسالة الإسلامية يكون اكبر حجما و أكثر وضوحا باعتبارها الرسالة الخاتمة.

 

وقد دلّت التجارب التي مرّت بها الرسالة الإسلامية ولاسيما تجربة الحكم الإسلامي التي تعتبر من امتيازات الشريعة الإسلامية انها قادرة على ذلك، ولعل أفضل شاهد على هذه الحقيقة هو ان الحكم الإسلامية مرّ بمدة طويلة هي ثلاثة عشر قرنا يحكم بالشريعة الإسلامية، وقد مرّت البشرية طيلة هذه المدة بتطورات هامة، وانّ تدهور اوضاع الأمة الإسلامية وسقوط الحكم الإسلامي في القرن الماضي كان بسبب ابتعاد أو انحراف أو تخلّي المسلمين عن الرسالة الإسلامية.

 

كما ان عامة المسلمين لا زالوا يؤمنون بهذه الحقيقة ويعملون علي عودة الشريعة الإسلامية إلى الحياة، بل قد عاد الحكم الإسلامي – ولله الحمد – إلى الحياة في بعض مناطق العالم الإسلامي بصورة بيّنة ومنها ايران وقيام الجمهورية الإسلامية فيها، ثم إنّ الحكم الإسلامي بالشريعة لم ينحسر بصورة مطلقة عن جميع أنحاء العالم الإسلامي، بل بقي صامدا في بعض بلادهم بصورة أو أخرى أيضاً.

 

والمسلمون تواجههم في عودة الشريعة والرسالة إلى حياتهم عدة قضايا مهمة ومصيرية، لعل من أهمها كيفية التوفيق بين الثوابت والأصالة الرسالية، والتطورات الإنسانية الاجتماعية الحديثة بأبعادها المختلفة والتي شهد القرن العشرين قفزة كبيرة فيها على مختلف المستويات.

 

وهذا الموضوع يفتح أمامنا آفاقاً عديدة من الحديث تناول الفهرست العام لمؤتمرنا مجموعة منها، وأحاول بهذه العجالة أن أتناول هذا الموضوع في اطاره العام من خلال فهمي للرؤية الرسالية والشرعية.

تحديد مفهومي الأصالة والحداثة

وفي البداية لابد من تحديد مفهوم الأصالة والحداثة، لفهم كيفية مواكبة الأصالة للحداثة والتوفيق بينهما ولئلا نقع في متاهات الاختلاف في مداليل الألفاظ.

التمسك بالموروث الاجتماعي

1ـ فقد يراد من الأصالة في مقابل الحداثة: (التمسك بالموروث الاجتماعي للمسلمين من التقاليد والآداب والسنن)، و لاشك ان الدين كان جزءاً من هذا الموروث أيضاً.

 

ولكن الحديث في مثل هذا الاتجاه ليس هو موضوع البحث كما أفهمه، وإن كان هناك مجال واسع للبحث في هذا الموضوع أيضاً، فان التمسك بالموروث لمجرد انه إرث لا يعبّر عن قيمة عقائدية أو حضارية أو أخلاقية في نظر الإسلام، بل تعرّض الأقوام السابقون الذين كانوا يتمسكون بالموروث من هذا المنطلق إلى مؤاخذة شديدة في الرسالات الإلهية ومنها الرسالة الخاتمة كما يؤكد ذلك القرآن الكريم.

 

ولكن هذا الموروث إذا كان عقيدة إلهية تستند إلى البراهين والبشائر والأدلة فهي شيء مقدس لخلفيته العقائدية والقيمية، لا لمجرد أنه موروث اجتماعي ولابد أن يتناوله النقد على أساس خلفيته العقائدية.

التمسك بسلوك السلف الصالح

2 -  وقد يراد من الأصالة السلوك الاجتماعي والديني الذي كان عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتابعين لهم باحسان أو غيرهم من الصالحين ممن نطلق عليهم عنوان (السلف الصالح) لإفتراض ان هذا السلوك كان قد صاغته الرسالة الإسلامية أو الرسول، أو للاعتقاد بالتزامهم في سلوكهم بالصياغات الرسالية، وفي مقابل ذلك تأتي فكرة الحداثة والمعاصرة وهي التخلي عن قيود هذا السلوك الذي لم يثبت بصورة واضحة لزومه في الشريعة الإلهية ولعدم ملائمته للظروف المعاصرة.

 

ولكن هذه الأصالة لا يوجد أي دليل علي أصالتها بحد ذاتها لأنه لا يوجد بين المسلمين من يوسع دائرة السنة الشريفة والشريعة الإسلامية لسلوك الصحابة أو غيرهم من التابعين والصالحين باستثناء ما تذهب إليه الامامية الاثنا عشرية من تعميم السنة إلى هذه السيرة في حدود دائرة الأئمة الاثني عشر.

 

نعم، قد يكون هذا السلوك السلفي كاشفا بطريقة ما عن الحكم الشرعي كما يكشف الاجماع عنه، وقد يعبر عن ذلك بمصطلحات علم الأُصول في الفقه الامامي بـ(سيرة المتشرعة) التي يستدل بها أحياناً على الحكم الشرعي، ولكن هذا الكشف ليس قضية مرتبطة بالأصالة، بل بطرق الاثبات التي تخضع للنقد في علم الأُصول، بل الأصالة والثابت هو الشريعة والرسالة، وان الصالحين بصورة عامة هم في معرض الخطأ وإن كان سلوكهم قد يكشف بصورة احتمالية عن الشريعة، وقد يرتقي هذا الاحتمال ويتراكم حتى يصل إلى درجة الوثوق أو القطع واليقين، كما هو الحال – ولكن بدرجة أفضل – في خير الواحد غير المعتبر الذي قد يتراكم الاحتمال فيه عند التعدد فيصل إلى درجة القطع والوثوق في حالات التواتر والتظافر، كما ان الفعل لا يدل على أكثر من الجواز حتى في سلوك المعصوم فكيف بسلوك غيره، ومن الممكن بسهولة التكيف مع المعاصرة في منطقة الجواز ومساحته.

الصياغة الرسالية للسلوك الإنساني

3- وقد يراد من الأصالة هو ما تفرضه الرسالة الإسلامية وشريعة الإسلام من ضرورة صياغة الحياة الإنسانية ومسيرة السلوك الإنساني الفردي والاجتماعي على ضوابط وأحكام هذه الرسالة والشريعة، وذلك لوجود عدة بدهيات ومسلمات إسلامية لايمكن تجاوز خطوطها الحمراء.

المسلمات الإسلامية

أ- تكامل الرسالة

الأولى: ان الرسالة هي الرسالة الخاتمة التي تمثل حالة التكامل في الدين (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة / 3)، فلا يمكن أن تتعرض إلى النسخ أو التغيير بعد وصولها إلى هذه  الدرجة من التكامل ومن هذا المنطلق كانت القاعدة المسلمة التي دلت عليها النصوص الصحيحة (حلال محمّد (صلى الله وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) والتي أكدها القرآن الكريم بما جرى تأكيده من حدود الله و الأنكار على تجاوزها.

ب - معرفة الحكم الشرعي عن طريق الدين

 

الثانية: ان معرفة السلوك الإنساني الذي يوصل الإنسان إلى التكامل المطلوب له في الدنيا والآخرة لا يمكن أن يصل إليه الإنسان إلا من خلال الدين والهداية الإلهية التي تصل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي (قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة/ 36.

 

والطريق إلى الوحي الإلهي هو الكتاب الكريم والسنة النبوية، والباقي كالاجماع والعقل والتواتر أو الخبر والسيرة وغيرها إنما هي أدوات كشف عن مضمون الكتاب والسنة تختلف في مستويات الاحتمال فيها حسب طبيعتها.

 

وهذه المسلّمة وتفرعاتها يتم بحثها عادة في بحث ضرورة الدين والشريعة، وبحث الأدلة في أصول الفقه.

ج- شمول الشريعة لكل مناحي الحياة

الثالثة: هي النصوص الواضحة لعموم الشريعة وشمولها لكل تفاصيل الحياة الإنسانية دون استثناء والتي أكدها القرآن الكريم (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة) (النحل/ 89)، مضافا إلى الروايات الشريفة التي تؤكد وجود تفاصيل حتى (أرش الخدش). ومن ذلك كانت المسلمة المعروفة فقهياً من ان كل حادثة لا تخلو من حكم لله تعالى فيها.

الحداثة

وفي مقابل ذلك، الحداثة التي تعني أن تصاغ الحياة الإنسانية حسب ما تفرضه الوسائل والأساليب والامكانات والقدرات والمصالح والمفاسد والميول والرغبات الإنسانية المتغيرة والمتطورة، فان الشريعة الإسلامية جاءت لإدارة حياة الإنسان والوصول به إلى التكامل، وهذا لا يتحقق إلا إذا أخذت بنظر الاعتبار واقع الإنسان  وقدراته (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة/ 286)، واهتمت بمصالح الإنسان المادية والمعنوية لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وهي غير منفصلة عن فطرته وغرائزه و ميوله، لأن ذلك ما أودعه الله تعالى في نفس الإنسان (زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحيـــاة الدنيا والله عـنده حســـن المآب)(آل عمران/14) (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (الأعراف/ 32)، وكل ذلك يخضع لوسائل وأساليب يبتدعها الإنسان ويبتكرها من

 

 

خلال سعيه في مناكب الأرض ومشيه فيها، فلابد أن يؤخذ في صياغة هذا السلوك وقوانينه المعاصرة والحداثة في هذا التطور والتغيير.

مسلمات أخرى

وتنطلق فكرة الحداثة هذه من عدة مسلمات أخرى لابد أن نأخذها بنظر الاعتبار أيضاً.

أ- التطور في الحياة الإنسانية

الأولى: ان الحياة الإنسانية تتصف بالحركة والتغيير وليست جامدة وراكدة، وهذا أمر وجداني في التاريخ الإنساني ونراه واضحا في الوسائل والأساليب وفي الامكانات والقدرات والموارد التي يملكها  الإنسان في حياته وفي الرغبات والميول والارادات وفي المصالح والمفاسد، حيث يكون الشيء في وقت ما مصلحة أو رغبة او مقدورا للإنسان ولكنه قد يكون مضرا ومفسدا لحياته او منفوراً أو غير مقدور في وقت آخر.

 

ب- ظاهرة النسخ والتقييد والتخصص

الثانية: ان الرسالة والشريعة الإسلامية باعتبارها الرسالة الخاتمة نراها من المرونة ووجود جوانب الحركة والتغيير فيها بصورة واسعة حتى في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب تغير الظروف، كما انه في عدة مجالات مثل تغيير الموضوعات والظروف السياسية والاجتماعية، والقدرة على الفعل والامكانات والموارد والحالات الاستثنائية كالضرر والعسر والحرج أو مساحات الاباحة التي ترك الأمر والاختيار فيها إلى الإنسان، أو إلى ولي الأمر وغير ذلك من الموارد التي يعني ان موضوع التطور الإنساني وتغيير الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية قد أخذ

 

 بنظر الاعتبار في الشريعة، فالتجديد والمعاصرة هو حالة ثابتة في الرسالة الإسلامية منذ بداية وجودها.

أبعاد التحدي للرسالة

وبذلك يبرز للعيان هذا التحدي الكبير في الرسالة والشريعة الإسلامية، وهو كيفية التوفيق بين هذه البدهيات والمسلمات التي قد يبدو لأول وهلة ان نتائجها متضادة أو محيرة:

ويأخذ هذا التحدي عدة أبعاد:

أولها: التحدي على مستوى فهم الشريعة وتكوين النظرية في التوفيق بين الأصالة والحداثة ورسم الحدود المساحة لما هو الأصل فيها والمتغير الذي يكون متأثرا بالمعاصرة والحداثة، وهو تحدي تكون (الشريعة) نفسها مستهدفة فيه.

ثانيها: التحدي على مستوى الاستنباط واستنطاق الشريعة بما يواكب هذه التطورات وتقديم الصيغ الشرعية لها بما يحتفظ بالأصالة من ناحية وينسجم  مع الحداثة والمعاصرة من ناحية أخرى، وهو تحدي للفقهاء وللعلماء بالشريعة وقدرتهم على ممارسة دورهم الصحيح في الاجتهاد لإنجاز هذا العمل.

 

ثالثها: التحدي على مستوى العرض والاقناع وهداية الناس إلى الإسلام وشريعته وإرشادهم للتمسك بالإسلام والسلوك الإسلامي، بحيث يكون الإسلام معروضا بطريقة واسلوب ووسيلة بينه ومستوعبة في النفوس وحركة الناس وظروفهم، وهو تحدي للدعاة والكتاب والخطباء والمتحدثين والمبلغين لرسالات الله.

وأحاول في هذا المقال والعجالة أن أتناول البعد الأول من هذا التحدّي الواسع.

محاولات معالجة التحدي تاريخياً

وتوجد في التاريخ الإسلامي القديم والحديث عدة محاولات لمعالجة هذا التحدي في بعده الرسالي الأول:

 

المحاولة الأولى: هي محاولة إعتماد الرأي الإنساني في إكتشاف الشريعة (الاجتهاد بالرأي) وهذه المحاولة وإن كانت قد بدأت في التاريخ الإسلامي كمنهج في الاجتهاد لمعالجة التحدي على مستوى البعد الثاني وهو استنباط الحكم الشرعي من النصوص المتوفرة، حيث واجه أصحاب هذا النهج مشكلة في تلبية حاجات المجتمع الإسلامي المتطور فقهيا على ضوء المتوفر من النصوص لديهم، فانهم وجدوا ان نصوص القرآن لا يوجد فيها – بحسب فهمهم – إلا عدد محدود من الأحكام الشرعية، وان السنة النبوية قد حجبت عنهم بسبب منع التدوين في فترة من الزمن ودخول الدس والوضع والتحريف فيها في فترة أخرى، الأمر الذي جعلهم يعتمدون قواعد ظنية كالقياس بمعناه الواسع والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها من الوسائل.

 

ولكن تطورت هذه المحاولة بعد ذلك كمحاولة لفهم الدين والشريعة على أنّ مساحة الثابت منهما والمحدد مساحة محدودة وضيقة وان الدين مجرد اتجاهات عامة أو شرائع محدودة والباقي متروك للمجتهدين أن يقولوا فيه بظنهم ورأيهم في حدود ما يدركونه منها، وان هذه الآراء هي الشريعة نفسها وهو ما يسمى بمبدأ (التصويب) في الاجتهاد.

 

وقد واجهت هذه المحاولة مقاومة قوية في المجتمع الإسلامي ومن علماء الأمة ورجالها، وكان لأئمة أهل البيت عليهم السلام الدور الريادي في التوجيه والتحذير من هذه المحاولة وقيادة المقاومة ضدها حتى انتهت إلى السقوط المطلق في الأوساط الإسلامية، وبقيت فكرة ان المجتهد يخطئ ويصيب هي الفكرة السائدة.

غلق باب الاجتهاد والتدوين

ويمكن أن نعتبر ان قرار غلق باب الاجتهاد يمثل اجراء حكوميا لمواجهة هذه المحاولة وسد طريق استغلال الاجتهاد بالرأي في وجهها، وإن كان لهذا القرار آثار سلبية أخرى لامجال لبحثها في حدود هذا البحث، وذلك لأن الاجتهاد الصحيح من ضرورات معرفة الرسالة الإسلامية بصورة دائمة.

 

كما ان الحركة الواسعة للتدوين ونقد الحديث والرجال التي نمت وتطورت في ذلك الوقت كانت احدى الخطوات المهمة لإسقاطها وحتى محاصرة مدرسة الاجتهاد بالرأي.

 

وبطلان هذه المحاولة لا يحتاج إلى مزيد من الحديث بعد الاجماع الإسلامي النظري والعملي على بطلانها، وكذلك مخالفتها للمسلمات الإسلامية الثلاث السابقة.

كما ان النصوص الصحيحة المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد بطلان هذه المحاولة، حيث كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر وحذر من خطورة هذا الاتجاه في التفكير وفهم الإسلام (من فسر القرآن برأيه فقد كفر) (من أفتى برأيه فقد كفر).

 

ولا بد لنا – هنا – أن نميز بصورة واضحة بين مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي التي بدأت بها هذه المحاولة والتي لازالت قائمة وموجودة – مع قطع النظر عن ملاحظاتنا ورأينا فيها – وبين ما تحولت إليه هذه المحاولة من فهم وتفسير للدين والشريعة بادخال الرأي الاجتهادي فيهما والذي يمثل إنحرافا في فهم الدين وطريقة الاستنباط منه.

تعدد القراءات

المحاولة الثانية: التي تستند إلى نظرية تعدد القراءات بمعناها الغربي وهي محاولة متأخرة وحديثة، لأن تعدد القراءات تارة يراد منها تعدد فهم النصوص وطريقة الاستنباط منها، فهذا المعنى هو الاجتهاد المعروف في الإسلام والمجتمع الإسلامي على اختلاف مناهجه وطرقه الصحيحة والباطلة.

 

وأخرى يراد من تعدد القراءات افتراض النسبية في المضمون الديني وانه ليس مطلقا وإنّما يتم إدخال عنصر الذات والظروف في حقيقته وفهمه، وبهذا المعنى تكون الشريعة مجموعة من الأفكار العامة المعنوية وان الحدود والصيغ الموضوعة للشريعة في النصوص القرآنية والنبوية إنما هي حدود ذات طابع ذاتي تم صياغتها من قبل الله تعالى والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أصحابه أو الرواة بصورة

 

 ملائمة للعصر الذي كانوا يعيشون فيه، فالحقيقة فيها نسبية وليست ثابتة، ويمكن تغييرها حسب طبيعة الظروف ومتقضيات المصالح والتطورات الاجتماعية الإنسانية المتغيرة التي اشرنا إليها في المسلمة الأولى التي تنطلق منها فكرة الحداثة، وقد يحاول أصحاب هذه النظرية – أحيانا – في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة بادعاء ان هناك ثوابت في الشريعة تمثل الأصل ولكنها أمور محدودة الحجم وهي تلك الضروريات الإسلامية والباقي يخضع لهذه النسبية.

 

وهذه النظرية بهذا المعنى واضحة البطلان إسلاميا، ولا يمكن ان تمثل حلا للتوفيق بين الأصالة والحداثة، بل هي في الحقيقة إلغاء للأصالة وحصرها في دائرة ضيقة جدا، مع ان القرآن الكريم الذي يعتبر أصدق حديث لدى المسلمين يؤكد ان الحقيقة أمر ثابت موضوعيا، وفي مساحة واسعة وذلك عندما يؤكد في مواضع عديدة (تلك حدود الله فلا تعتدوها) (البقرة/ 229)، وان الإنسان يهتدي إليها أو يضل عنها وإن الاختلاف في تفسير الدين وفهمه بهذه الطريقة أدت إلى الضلال والخسران والاختلاف في أوساط أهل الكتاب (وما تفرق الذين اوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءتهم البينة) (البينة/ 4). وان ظاهرة الاختلاف في الدين سوف تتكرر بصورة أخرى في المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية.

الثابت والمتغير

المحاولة الثالثة: وهي النظرية التي تبناها علماء الإسلام عموما وأهل البيت عليهم السلام خصوصا مع مزيد من التوضيح والشرح، وخلاصة الفكرة في هذه النظرية هو أن مقتضى خاتمية الرسالة الإسلامية الجمع بين الأصالة  والحداثة لأن الرسالة عندما تكون خاتمة فلابد فيها من الاستمرار والبقاء والقدرة على ملائمة الظروف والمستجدات واستيعاب المسلمات الإسلامية السابقة بجميع خصائصها، وهذا يفرض أن تكون معالجة المشكلات الإنسانية في السلوك الإنساني والوصول به إلى الكمالات الإلهية من خلال الرسالة الإسلامية، وان هذه المعالجة لابد أن تكون

 

مستمرة ودائمة مهما اختلفت الظروف والامكانات والقدرات والميول والرغبات أو تطورت الأوضاع الإنسانية.

وهذا الثبات في الرسالة يفرض الأصالة والثبات في مفاهيمها وأحكامها، وهذا الاستمرار والبقاء مع فرض تطور الحياة يفرض المرونة في هذه الرسالة أيضاً، ومن هنا لابد أن يكون في الرسالة جانب ثابت وآخر متغير.

 

والجانب (الثابت) في الرسالة هو الجانب الذي يعبر عن بعدين رئيسين:

 

أحدهما، بعد الحاجات الفطرية الثابتة في الإنسان مهما اختلفت ظروفه وأوضاعه، مثل الحاجة إلى العبادة، والأكل والشرب، والجنس، والاختصاص، والأمن.

 

وثانيهما، بعد المسيرة التكاملية التي تعبر عن الصراط المستقيم في حركة الإنسان نحو الله تعالى والدار الآخرة، مثل المعرفة بالله تعالى والتوبه إليه والحرية والعلاقات الاجتماعية المتوازنة، وحل الاختلاف بالعدل والقسط والحق، والردع عن إرتكاب الآثام والجرائم والطغيان وغير ذلك.

المرونة لها مساحة واسعة

والجانب (المرن) والمتغير هو الذي يمكن أن نراه في مساحة الحرية الممنوحة للإنسان في المباحات التي تخضع عادة للرغبات والميول الشخصية أو الاجتماعية، وكذلك نراه في القضايا الاستثنائية الطارئة، كالضرر والحرج والعسر والاضطرار والاكراه، وفي عنصر المصالح والمفاسد المحدودة في الأشخاص والفئات التي تتحرك أحيانا، وفي عنصر القدرة والواجبات الكفائية وغيرها.

المرونة محددة بثوابت الشريعة ومقاصدها وبولي الأمر

 

ولذلك نجد الثبات في صيغ العبادة بصورة عامة مع بعض الاستثناءات، كالدعاء والانفاق، وفي بعض صيغ العقوبات التي تهدد الأمن العام الشخصي أو الاقتصادي أو العائلي أو الاجتماعي كما في القصاص والحدود.

 

وفي تشخيص الخبائث والولاء والبراءة السياسيين، وفي التوبة وفي طريقة فصل الخصومات وتشخيص الحق والملك، وفي العلاقات الزوجية والعائلية.

 

ونجد المرونة في مجالات واسعة أخرى مثل الدعوة إلى الله تعالى واللباس وأساليب العيش والحركة والكسب والمعاملة… إلخ.

 

والمهمة الرئيسية التي يتحملها الفقيه والمجتهد هو  تحديد مساحة الثابت من المتغير من ناحية وفي تشخيص مصاديقهما وفي التمييز بين الأحكام الشرعية الإلهية والأحكام السلطانية والولائية التي تصدر من الولي باعتبار سلطته الشرعية.

أبحاث ذات علاقة بالموضوع

وفي هذا المجال، تنفتح أمامنا عدة أبواب من البحث الذي له علاقة وطيدة بهذا الموضوع ويمكن أن تساهم فيه، نشير إلى بعضها:

 

الأول: بحث تأثير الزمان والمكان في الحكم الشرعي، أو تأثير الظروف الاجتماعية وتحولاتها فيه، حيث ان بعض الموضوعات قد تتغير بصورة مابحيث يكون لها تأثير في تغيير الحكم وذلك بسبب الظروف الاجتماعية، فالنفقة الواجبة على الزوج قد يتغير شكلها وموضوعها بسبب تغير المستويات المعيشية أو أساليب الحياة والسكن…

 

الثاني: بحث دور العرف في تشخيص موضوع الحكم الشرعي ولا سيما في الموضوعات العرفية أو في فهم النص الشرعي، وهو من الأپحاث ذات العلاقة بالحداثة والمرونة، لأن العرف قد تتغير نظرته وفهمه للأشياء.

 

الثالث: بحث فقه النظرية في مقابل فقه التجزئة وكذلك التفسير الموضوعي في مقابل التفسير الترتيبي أو التجزيئي وأهميتهما في الوفاء بمتطلبات العصر وحاجاته أو فهم الرسالة والشريعة، وهو ما يرتبط بالبعد الآخر من التحدي.

 

الرابع: بحث تفسير الأحكام الشرعية التي هي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية والتعرف على عللها وأسبابها لعرضها على المجتمع الإنساني لتلقي القبول والاستيعاب من ناحية ولفهم الجانب المعاصر منها الذي قد يرتبط بتغير المصالح

 

 والمفاسد منها، لأن بعض المصالح والمفاسد ذات طبيعة متحركة، وقد اهتم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في عرضهم للشريعة بهذا الجانب في تفسيرها وتعليلها، وهو موضوع يرتبط ببعد آخر من هذا التحدي.

 

الخامس: بحث العقل ودوره في استنباط الحكم الشرعي: حيث أن العقل – كما ذكرنا – لا يكون قادرا على إدراك أصل الشريعة، وإنّما تكون لديه القدرة على معرفة تفاصيلها وموارد انطباقها من خلال ضوابط وقواعد الفكر المنطقي التجريدي أو التجريبي، وانطلاقا من نتائج الرسالة الإلهية والشريعة الإسلامية أو عللها المنصوصة أو المستنبطة، وهو بحث يرتبط ببعد المرونة، وبعد الاستنباط.

 

السادس: بحث التأويل بمعنييه، وهما:

 

1 - حرف الكلام عن ظاهره باعتبار وجود قرائن حالية، وتكون المعاصرة وظروفها أحد هذه القرائن، وهذا يرتبط ببعد الاستنباط.

 

2 - تطبيق المفاهيم والكلمات الشرعية على مصاديقها الخارجية، وتكون المصاديق المعاصرة أحد الموارد التي تحتاج إلى هذا التطبيق للأحكام الكلية، وهو يرتبط ببعد المرونة.

 

السابع: بحث تشخيص اتجاهات الشريعة الإسلامية الذي يكون له دور كبير في تحديد الموقف من الظواهر الحديثة والمعاصرة، وهو بحث يرتبط ببعد المرونة أيضاً.

 

وفي جميع هذه الأبحاث  لابد أن نعرف بأن الظاهرة المعاصرة والحداثة إذا كان العامل المؤثر في تكوينها هو عامل ثقافي غير إسلامي، فلا يمكن أن تكون الشريعة مرنة تجاهها، بل ان التكيف والمرونة في الشريعة إنما هو تجاه الظواهر التي لا يكون وراء وجودها عوامل ذات طبيعة مضادة للشريعة نفسها، بل عوامل ذات علاقة بالأوضاع الكونية أو الحالات الطارئة أو مساحات الإباحة أو المصالح المتحركة أو الإمكانات والفرص المتاحة.

تحديد مساحة المتغير في الشريعة

كما ان مساحة الثابت في الشريعة هي الأصل ما لم يتبين ان المورد هو من مصاديق المتغير الذي تشمله عادة ظاهرة الحداثة والمعاصرة والمرونة، ولذا فان تحديد مساحة هذا المتغير من الأمور المهمة في عملية التوفيق بين الأصالة والحداثة واستجابة الشريعة لمتطلبات المعاصرة.

وقد أشرنا إلى بعض هذه الموارد سابقا،  ومن أهمها الموارد التي يكون لولي الأمر الشرعي ولأجهزته التشريعية والتنفيذية والقضائية الحق في التدخل فيها وملئ الفراغ التشريعي تجاهها، وقد دلت النصوص الشرعية على ان الرسالة فوضت ذلك إلى ولي الأمر وأمرت بطاعته.

ونشير هنا إلى بعض العناوين العامة ذات الطبيعة المرنة المتغيرة:

1 - الموضوعات ذات العلاقة بالأمور العرفية التي تتغير بتغير الأعراف والأوضاع الاجتماعية.

 

2 - مساحة الأباحة التي ترك للإنسان فيها الاختيار بما يناسب مصالحه ورغباته وميوله، وهي مساحة واسعة في التشريع الإسلامي، ويمكن للأمة أن تتدخل في تنظيمها بما يلائم كل عصر وزمان ويحقق المعاصرة.

 

3 - موارد التزاحم والتضاد بين الواجبات التي لا يمكن الجمع بينها أو التضاد بين الواجبات والمحرمات، فانّ الأحكام الشرعية تابعة لمصالح أو مفاسد موجودة في الواقع الموضوعي، وقد تتزاحم هذه المصالح والواجبات فتكون من مسؤوليات ولي الأمر – أو المكلّف نفسه حسب طبيعة الواجب والحرام والمصلحة – أن يشخص الأهم من المهم منها وتقديم الأهم على المهم، ولما كانت المصالح والمفاسد من الأمور المتحركة، فان هذا المورد له علاقة ببحث المعاصرة.

 

4 - العناوين ذات الطبيعة الاستثنائية، فان الواجبات الشرعية مشروطة ومحددة بعدم الضرر والحرج والاضطرار والاكراه، فاذا كانت الظروف والتطورات سببا لوجود شيء من هذه العناوين فان الشريعة بمرونتها تستجيب لهذه الحداثة والمعاصرة.

 

5 -  القضايا ذات العلاقة بالشؤون الخاصة للناس والأمة والتي تركت مباحة ومفتوحة أمام إرادة الإنسان وخياراته وحريته والتي قد تتضاد فيها الارادات الفردية، فان القرار الشرعي الولائي سوف يتأثر بطبيعة الحال بالمعاصرة والحداثة عندما ينسق بين إراداتهم بما يحقق للناس ميولهم ورغباتهم المشروعة.

 

6 - تنظيم وتطبيق الواجبات الكفائية والعينية بما يحقق أهدافها المطلوبة، فان عملية التطبيق تتأثر بطبيعة الحال بالظروف والأوضاع الاجتماعية للأمة وإمكاناتها وقدراتها ورغباتها وميولها مما يفتح المجال إلى المعاصرة والحداثة، وهذا الأمر هو من شؤون ولي الأمر بصورة عامة.

 

وبهذا التصور النظري، يمكن أن نخرج بنتيجة واضحة، وهي ان الشريعة الإسلامية فيها جانب ثابت يستجيب للثبات في حاجات الإنسان الدنيوية والاخروية: وفي أسباب الكمالات الإلهية الموصلة إلى الله تعالى.

 

وفيها جانب مرن يستجيب لتطورات الظروف الاجتماعية والمادية في حياة الإنسان ما لم يكن هذا التطور بسبب عوامل مضادة للشريعة وأهدافها.

 

وبذلك يمكنها أن تواجه التحدي على المستوى الأول في الشريعة نفسها، وذلك من خلال الخطوات الثلاثة التالية:

 

الأولى: تشخيص مساحات الثبات والمرونة، وهذا مما يتحمل مسؤوليته الفقيه الإسلامي (المجتهد) وهنا يأتي دور الاجتهاد المقبول الصحيح وأهمية استمراره وبقاء بابه مفتوحا بصورة مضبوطة في مواجهة هذا التحدي وذلك للتفريع وللتطبيق على المصاديق الجديدة والظروف المعاصرة.

 

الثانية: الصلاحيات الواسعة لولي الأمر في التطبيق والترجيح للأهم على المهم والتحديد للمباحات ومساحة الجواز والتشخيص للمصالح والمفاسد وللموضوعات، وهنا يأتي دور المواصفات الخاصة التي لابد أن يتصف بها ولي الأمر، حيث ان صلاحياته محددة بثوابت الشريعة، فلابد أن يكون عارفا بها ومتصفا بالعلم والاجتهاد فيها، وبالمصالح الإسلامية العليا، فلابد أن يكون خبيرا بمعرفتها، وأن يكون عادلا يتقيد بالشريعة والمصالح الإسلامية العليا.

 

الثالثة: رأي الأمة ودورها سواء في المشورة للوصول إلى معرفة المصلحة أو في الاختيار، ليتطابق مع مصالحها الخاصة ورغباتها وميولها المشروعة فيما أوكل لها من شؤون الحياة، وبذلك تتحقق المعاصرة حيث تختار الأمة ما يلائم ظروفها.

 

أسأله تعالى أن يمكن المسلمين وعلماءهم من معرفة الحدود والمساحات الثابتة والمتحركة في الشريعة. ويحقق لهم بذلك النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، والتمهيد لإقامة دولة الحق المطلق في الأرض.

 

)هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة/ 33.

 

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.