الأقليات الاسلامية في البلدان غير الاسلامية بين الهجرة الفقهية والإقامة الشرعية

الأقليات الاسلامية في البلدان غير الاسلامية بين الهجرة الفقهية والإقامة الشرعية

 

 

الأقليات الاسلامية في البلدان غير الاسلامية بين الهجرة الفقهية والإقامة الشرعية

 

 

علي ابو الخير

كاتب وباحث مصري

مدير مركز الفارابي للإعلام

 ودراسات المستقبل ـ القاهرة ـ مصر

 

مقدمة تاريخية :

خلت كتب الفقه الإسلامي طوال الخمسة قرون الهجرية الأولى تقريباً من التشريعات التي تنظم سلوك وحياة الأقليات الإسلامية في أوطان غير إسلامية الأغلبية والأوطان.

وقد كان هذا الأمر طبيعيّاً ـ إن لم نقل صحيحاً ـ لعاملين [1]:

الأول: أنه لم يكن يُتصور خضوع بلد إسلاميّ لسلطة غير مسلمة في عهد الانتصارات والفتوح والتشريع .

الثاني: أن العالم غير الإسلامي لم يكن يتيح فرصة المساومة أو الاختيار أمام تلك الأقليات، بل كان يبادر بإبادتها أو دفعها للهجرة،  فكانت دار الإسلام تتسع دائماً لاستقبال المهاجرين،  ولا ننسى تأثير الهجرة الأولى في التاريخ الإسلامي، مما جعلها محببةً للمهاجرين الجدد، رغم الحديث الصحيح ( لا هجرة بعد الفتح )، ورغم أن هذا اللجوء يُعتبر في معظم الحالات " تولية الأدبار " ..

غير أن العالم كان ينقسم حينذاك إلى أديان وليس قوميات، ومن ثم كان من السهل الهجرة إلى جزء آخر من الوطن الإسلامي والعيش فيه دون إحساس بغربة، وحتى دون إحساس بالتخلي عن الوطن [2].

فالهجرة شُرعَت في الإسلام حفاظاً على الدين والنسل والنفس والعِرض والمال وهروباً من الظلم،[3]  قال الله تعالى:  ) إن الذين توفّاهم الملائكة ظالِمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعَفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعَفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفورا ( [4] فالهجرة إذن لها مدلولها القرآني .

وما كان المسلمون الأوائل يفكرون في وجود أقلية إسلامية تخضع لسلطة وتشريع وفكر غير إسلاميّ، ومن ثم خلت التشريعات عند فقهاء المذاهب من أي تشريع ينظم السلوك الفردي والجماعي لأقلية إسلامية تخضع لغير مسلمين .

وبهذا تكون الهجرة دعوةًَ وحركةً وجهاداً بالانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام أو الأمان، وبهذا فالهجرة ليست حركةً سلبيّةً هروبيّةً انسحابيّةً من الموقع. [5]

ومع أن التاريخ الإسلامي لم يحدّثنا عن أقليات إسلامية خضعت لسلطة غير إسلامية، لكننا نستطيع رصد بعض الوجود قليل العدد لجماعة المسلمين في أوطان غير إسلامية..

فالوجود الإسلامي الأول وفي بداية الدعوة ومع وجود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – كان يُعتبر من الناحية السياسية والعقائدية أقليّةً إسلاميّةً حتى لو كانت في بداية التكوين، كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والمسلمون أقليّةً داخل مجتمع الشرك، وكان من أولويات الدعوة الحفاظ على الجماعة المسلمة ضد التهديد القرشي المهدد أصلاً في عقيدته وثروته بسبب الدعوة ذاتها، فكانت الدعوة تدخل في حوارات مباشرة مع زعماء القبيلة القرشية ..

فند القرآن الكريم ادعاءات ملأ قريش في زعمهم أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، متابعاً مسار الانحراف الذي طرأ على دين إبراهيم عليه السلام [6]عن طريق الحجة وليس الصدام، فكانت الأقلية المسلمة داخل المجتمع الوثني نموذجاً لأي أقلية تخضع مستقبلاً لسلطة غير إسلامية.

وقد تميز سلوك المسلمين في المرحلة المكية بالإيمان والصبر على الإيذاء والرحمة لذوي قرباهم من المشركين والمسلمين على السواء ؛ فهذا نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حريصاً على الاختلاط بالقرشيين يدعوهم إلى الإسلام ويجاب بالرفض التام والإيذاء، ويتعرض المسلمون للإيذاء البدني خاصّةً المستضعفون منهم، وتستشهد سمية وزوجها ياسر تحت وطأة التعذيب الشديد، كذلك عُذِّب عمار وصهيب وخباب بن الأرت وبلال بن رباح وغيرهم، ومع ذلك لم تُطرح فكرة الرد على هذا الإيذاء المستمر .

وكانت الهجرة إلى الحبشة أول اللجوء السياسي للجماعة الإسلامية، ووُجدت أقلية إسلامية لاجئة في دولة غير إسلامية، صحيح أنه لجوء سياسيّ مؤقت ينتظر العودة للوطن ولأصل الدعوة، لكن من المؤكد أن هذه الجماعة اللاجئة لم تخضع للتشريع الحبشي، ولكنهم كانوا يخضعون فيما بينهم للتشريع الإسلامي ؛ فقد رفضوا منذ البداية القول بأن المسيح ابن الله، وأعلنوا النص القرآني في اجتماع البلاط المشهور مع النجاشي عندما ردد جعفر بن أبي طالب الآيات الأولى من سورة مريم والتي أكدت بشرية المسيح ..

قد يكون لتسامح النجاشي أو إسلامه سبب لعدم خضوع المسلمين لتشريعات الحبشة المسيحية، ولكن أيضاً يوجد سبب آخر هو أن المسلمين بسلوكهم غير العدائي للنصرانية كان يؤكد المصدر الإلهي لكلا الدينين، رغم أن المسلمين فرّقوا بين الزوجة المسلمة حبيبة بنت أبي سفيان وزوجها عبيد الله بن جحش الذي ارتد واعتنق النصرانية .

كما أنهم كانوا يصلّون الجمعة ويؤدون الفرائض، أي أنهم تميزوا بالأداءين السلوكي والدعوي، حتى عادوا من لجوئهم إلى المسلمين في المدينة المنورة ومعهم أبناؤهم الذين وُلدوا في المهجر، وهؤلاء الأبناء لم يتأثروا أبداً إلا بما تم تنشئتهم عليه من قِبَل آبائهم وأمهاتهم، مثل عبد الله بن جعفر .

ولقد كانت هذه التجربة الأولى في التاريخ الإسلامي الذي عاش فيه مسلمون أقليّةً وسط أغلبية كاسحة من غير المسلمين، ولكنهم لم يتأثروا بالمناخ الفكري والعقائدي والثقافي لتلك الأغلبية، بل إنهم بسلوكهم استطاعوا ضم بعض أبناء الحبشة أنفسهم للإسلام، وقيل إن النجاشي نفسه أسلم وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى عليه صلاة الغائب في المدينة المنورة [7].

إن التجربتين الأوليين – تجربة مكة في أول الدعوة، وتجربة المهاجرين للحبشة - لم تخضعا لتأصيل فقهيّ فيما بعد ؛ نظراً للقوة الإسلامية الاقتصادية والسياسية التي ظلت طوال ثمانية قرون، وحتى عندما سقطت غرناطة – آخر البلاد الإسلامية في الأندلس – ظلت الهجرة هي المتاح الفقهي لعلماء الأمة ..

ففي فتوى في صورة سؤال وجهها أحد الفقهاء إلى فقيه المغرب محمد بن يحيى التلمساني [8]حول البقاء في الأندلس للمسلمين أو المهاجَرة منها، لمّا سقطت حواضر الأندلس بيد الأسبان هاجر قسم كبير من أهلها إلى المغرب، ولكنهم لم يجدوا فيها ما كانوا يأملون من حياة سهلة ورغدة واحترام، وحنوا للعودة إلى أوطانهم، وقد سمعوا أن ملوك قشتالة يتسامحون مع من بقي من المسلمين من رعاياهم، فتمنوا العودة إلى ديارهم القديمة، وقد وجه أحد الفقهاء سؤالاً في صورة فتوى يطلب جوابا لها إلى أحد رجال الدين البارزين - هو الشيخ التلمساني - يطلب رأيه في هذا الموضوع ..

السؤال :

ما حكم من تمادى من المسلمين في ذلك ( أي العودة لدار الكفر( ؟

وما حكم من عاد منهم إلى دار الكفر بعد وصوله دار الإسلام ؟

وهل يجب وعظ هؤلاء أو يُعرض عنهم ويُترك كل واحد منهم لما اختاره؟

وهل من شرط الهجرة ألاّ يهاجر أحد إلا إلى دنيا مضمونة يصيبها عاجلاً عند وصوله ؛ جاريةً على وفق غرضه حيث حل من نواحي الإسلام ؛ إلى حلو أو مر أو وسع أو ضيق أو عسر أو يسر بالنسبة لأحوال الدنيا، وإنما القصد بها سلامة الدين والأهل والولد، والخروج من حكم الملة سعة ونحو ذلك من أحوال الدنيا ؟

الجواب : وهي في صورة فتوى من الشيخ التلمساني :

1- إن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل .

2- ولا يُسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية على معاقلهم وبلادهم، ولا يُتصور العجز عنها بكل وجه وحال لا الوطن ولا المال ؛ فإن ذلك كله ملغى في نظر الشرع، وأمّا المستطيع بأي وجه وحال وبأي حيلة تمكنت فهو غير معذور وظالم نفسه إن أقام، والظالمون أنفسهم إنما هم التاركون الهجرة مع القدرة عليها حسبما تضمّنه قوله تعالى:) ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها (، والمعاقَب عليه إنما هو من مات مصرّاً على هذه الإقامة .

3- وتحريم هذه الإقامة تحريم مقطوع به من الدين، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وقتل النفس بغير حق، ومن جوَّز هذه الإقامة واستخفّ أمرها واستسهل حكمها فهو مارق من الدين ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومنبوذ بالإجماع الذي لا سبيل على مخالفته وخرق سبيله ..

قال زعيم الفقهاء القاضي أبو الوليد بن رشد – رحمه الله – في أول كتاب التجارة إلى أرض الحرب من مقدماته : فرض الهجرة غير ساقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، وأجاب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب أن لا يقيم بها ؛ حيث تجري عليه أحكام المسلمين، وأن يهجره ويلحق بدار المسلمين حيث تجري عليه أحكامهم .. ا.هـ .

من الفتوى السابقة والتي جاءت في عصر متأخر، عصر الهزائم المتتالية للمسلمين في الأندلس، كانت متوائمةً مع ما هو متواتر من الفقه الإسلامي الذي رفض فكرة خضوع المسلم لغير المسلم، وهم في ذلك معذورون فقهيّاً وسياسيّاً ؛ ذلك أن القشتاليين في الأندلس لم يكونوا ليتركوا المسلم على إسلامه في أي بلد استولوا عليه منذ سقوط طليطلة عام 1085 م، ولذلك فإن الأندلس بدأت تتفرغ من الوجود الإسلامي منذ سقوط طليطلة ؛ فقد كان عندما تسقط أي إمارة يهاجر المسلمون إلى الإمارات الأخرى التي يسيطر عليها المسلمون، حتى سقطت كل الإمارات الإسلامية، فهاجر المسلمون إلى آخر الإمارات غرناطة، وعندما سقطت الإمارة الأخيرة عام 1492 م ظلت الهجرة متاحةً نحو المغرب العربي، ولكن في ذات الوقت بدأت أولى الفتاوى التي تعالج الوجود الإسلامي الخاضع لسلطة غير إسلامية .

وبعد سقوط الأندلس توالت الهجمات الاستعمارية على الدول الإسلامية فاحتلتها، ثم استقلت هذه الدول، ولكن بعضها دخل ضمن إمبراطوريات ودول مثل الهند وصربيا والاتحاد السوفيتي ..

ليس ذلك فقط ؛ فإن كثيراً من المسلمين هاجروا إلى الدول الأوروبية واستقروا فيها، وخضع الجميع لسلطات غير إسلامية .

ويتمنى المرء لو أن الفكر الإسلامي استطاع أن يجد وسيلةً لإبقاء المسلمين في تلك البلاد التي أبيد فيها المسلمون أو هاجروا منها حتى وإن عجز عن حمايتهم أو إثارة روح الجهاد فيهم،  ولكن الإسلام لا يعرف من المؤسسات التي تقوم بهذا الدور إلا الدولة، فلمّا سقطت هذه تفرّق المسلمون وتبددوا كأفراد .

لكن الظروف المعاصرة الآن تغيرت، وأصبح من الممكن أن تنجو الأقليات المسلمة من الإبادة ؛ بل بامكانهم نشر الاسلام في تلك البلاد، ومن ثم لا بد لعلماء الأمة أن يجتهدوا لهم حتى يمكنهم المحافظة على دينهم وكيانهم وذاتيتهم وتمسك الأجيال اللاحقة منهم بدينهم ويحافظوا عليه ضمن الإطار والسلطة الحاكمة .

وبحثنا ينقسم إلى ثلاثة محاور : اثنان منها فقهية تتناول التجارب الإسلامية الأولى في التعامل والاجتهاد للأقلية المسلمة التي تعيش تحت سلطة غير إسلامية، والثالث هو بحث عن مستقبل الجاليات الإسلامية الكبيرة في دول المهجر الذي عاشت فيه وتكيفت ظروفها معه .

 

المحور الأول

فتاوى الأقليات ( فقه النوازل )..  رؤية تاريخية

سقطت غرناطة يوم الثاني من يناير عام 1492 ( يوم 2 ربيع الأول عام 897 هـ ) وصار المسلمون تحت حكم نصارى الأندلس بقيادة ألفونسو و ايزابيلا، وحتى تاريخ السقوط لم تكن مشكلة الموريسكيين قد ظهرت فيما بعد بشكلها الحاد الذي أسفرت عنه الأحداث فيما بعد [9].

كان المسلمون يطلق عليهم وصف آخر وهم بأيدي الكاثوليك هو " المدجنون،  "[10]وصار معروفاً في كتب التاريخ أن هؤلاء المدجنين هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم الكاثوليكي وظلوا على دينهم ولم يهاجروا طبقاً لفتوى الهجرة المعروفة .

وقد أثارت قضية المدجنين جدلاً بين فقهاء المغرب وقتئذٍ : هل يبقون أو يهاجرون؟ وما حكم الذين هاجروا إلى المغرب ثم أرادوا العودة؟

وغلبت فتوى الشيخ التلمساني السابق ذكرها، والتي تحتم الهجرة وتتهم من يعود إلى ديار الكفار في دينه .

ولكن سقوط غرناطة ووجود تجمع إسلاميّ ضخم فيها كان يحتاج إلى فتاوى أخرى، وجاءت أولى هذه الفتاوى الفقهية عن فقيه مغربي هو أحمد بو جمعة موجهة للموريسيك، وتاريخ الرسالة الوثيقة أول رجب سنة 910 هـ ( 28 نوفمبر / شباط 1504 م ) - أي بعد السقوط الأخير باثني عشر عاماً – جاء فيها[11]: الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً .. إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم فيما لقوا من ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته ... بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده : عبيد الله أحمد بو جمعة المغراوي ثم الوهراني ... ثم قال في فتواه : أؤكد عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإنّ ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى، فاعلموا أن الأصنام خشب منجور وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأنّ المُلْك مُلْك الله، ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء ؛ لأن الله لا ينظر الى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغُسْل من الجنابة ولو عوماً في البحر، وإن مُنعتم فالصلاة قضاء بالليل لحقّ النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان، فإن لم يكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد، إلا أن يمكنكم الإشارة بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يُتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام   ) فأتوا منه ما استطعتم(، وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وأتوا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله، وإن كان لغير القِبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب خمر فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمَه، وكذا إن أكرهوكم على محرَّم، وإن زوّجوكم بناتهم فجائز ؛ لكونهم من أهل الكتاب، وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم فاعتقدوا تحريمه لولا للإكراه، وإنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوّةً لغيرتموه، وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رءوس أموالكم وتتصدقون بالباقي تبتم إلى الله، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا " اشتموا محمداً " فإنهم يقولون فاشتموا ممدّاً ؛ تأويل أنه الشيطان أو ممد اليهود، فكثير بهم اسمه، وإن قالوا " عيسى بن الله " فقولوها إن أكرهوكم وانووا إسقاط مضاف أي عبد الله معبود بحق وإن قالوا " المسيح ابن الله " فقولوها إكراهاً وانووا بالإضافة للمِلْك كبيت الله لا يلزمه أن يسكنه أو يحل له، وإن قالوا " قولوا : مريم زوجة له " فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء .... " إلى آخر الفتوى .

و هذه الفتوى في التعامل والتأصيل للأقلية الإسلامية في غرناطة لم تؤد إلى الأمل المرجو منها ؛ نظراً لأن الذين آثروا البقاء وأعلنوا النصرانية وحاولوا التمسك بالإسلام بينهم وبين أنفسهم لم يستطيعوا أن ينقلوا الإسلام كما هو للجيل الثاني من أبنائهم ؛ نظراً لأن الدولة كانت تأخذ هؤلاء الأبناء لتعليمهم ولا تترك لذويهم فرصة الانفراد بهم حتى داخل منازلهم وبالتالي تحول المسلمون الذين بقوا فيها بالتدريج الى المسيحية .

والحقيقة أن مسلمي الأندلس جاهدوا في الحفاظ على عقيدتهم ..

ففي عام 1564 عُثر على مكتبة إسلامية كاملة في " أراجون "[12].

وفي أحد بيوت مسلمي قشتالة عُثر على 14 حزمة من الأوراق المكتوبة مخفاة في جدار، وبعد ترجمتها تبين أنها تحتوي على سُوَر من القرآن وأحاديث نبوية وأدعية .

ويروي واحد من أبناء الموريسكيين كيف لقنه أبوه تعاليم الإسلام في كتاب نادر عنوانه " الأنوار النبوية في أنباء خير البرية "، وكاتبه هو محمد بن عبد الرفيع الجعفري الأندلسي الذي يقول [13] : لقد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي - رحمة الله عليه – وأنا ابن ستة أعوام، مع أني كنت آنذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دينَ الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسني حين حُملت إلى مكتبهم أربعة أعوام، فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز – كأني أنظر إليه الآن مملساً – فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني حرفاً حرفاً من حروف النصارى تدريباً سرِّيّاً، فإذا سميت له حرفاً أعجميّاً كتب لي حرفاً عربيّاً، فيقول حينئذٍ : هكذا حروفنا، حتى استوفى لي جميع حروف الهجاء في كرّتين، فلمّا فرغ من الكرّة الأولى أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي وجميع قرابتنا، وأمرني أن لا أخبر أحداً من الخلق، وشدّد علَيّ الوصية، وصار يرسل والدتي التي تسألني :" ما الذي يعلمك والدك؟ " فأقول : لا شيء، وكذا كان يفعل عمي، وأنا أنكر أشد الإنكار، ثم أروح إلى مكتب النصارى وآتي إلى الدار فيعلمني والدي، إلى أن مضت مدة ...

وقد كان والدي – رحمه الله – يلقنني حينئذٍ ما كنت أقوله حين رؤيتي للأصنام، ولمّا تحقق والدي أني اكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب أمرني أن أتكلم بإفشائه إلى والدتي وعمي .. ا.هـ .

كل ذلك كان يحدث في الخفاء، والمحارق تنتظر من يُضبط بأنه يمارس أيّاً من الطقوس الإسلامية حتى لو كان في أداء تحية الإسلام " السلام عليكم " .

لكن ذلك لم يمنع من تفريغ الأندلس برمته من الوجود الإسلامي ؛ فقد تمكنت محاكم التفتيش من وأد محاولات عودة المهاجرين من المغرب : إما بإذابتهم في المجتمع الأسباني أو بإعدامهم.

وقد حدث مثل ذلك في صقلية قبل الأندلس ؛ فبعد وجود إسلاميّ حاكم في صقلية دام مائتين وثلاثةً وثلاثين عاماً ( بين سنتي 217 إلى 450 هـ ) استطاع الإمبراطور فردريك الثاني عام 647 هـ ( 1249 م ) أن يفرِّغ صقلية من أي وجود إسلاميّ ؛ فقد نكّل بهم وطاردهم وأحرقهم وصلبهم، فبدأت جموع المسلمين تهاجر إلى الشمال الإفريقي.[14]

ونلاحظ أن المسلمين ظلوا يعيشون كأقلية مدة 197 عاماً ( بين عامَي 450 – 647 هـ ) شهدت خلالها ثورات ضد جور الولاة، فمع كل تضييق يشهد المجتمع الصقلبي ثورةً إسلاميّةً، حتى خضعت صقلية لحكم النورمانديين بقيادة ملكهم راجار الأول الذي لم يترك للمسلمين حمّاماً ولا دكاناً ولا طاحوناً ولا فرناً، وأخيراً تمكن فردريك الثاني من طردهم .

كانت الفتاوى من داخل المجتمع الإسلامي الصقلبي حيث كانت تشهد بعض فترات التسامح في أداء الشعائر، ولكنه – على كل حال – نموذج استطاع الأسبان فيما بعد تنفيذه في فترة مظلمة من التاريخ الإنساني لم يشهد له العالم مثيلاً .

* المسلمون في الصين .. فقه النوازل العفوي :

ظل المسلمون في الصين طوال تاريخهم أقليّةً ضئيلةً خاضعةً للحكم الصيني متأثرةً بمدى علاقة هذا الحاكم أو ذاك بالدولة الإسلامية، فشهد المسلمون فترات تسامح، ولكنها في النهاية كانت تشهد المذابح والإبادات لمسلمي الصين، ورغم ذلك لم يخفت الوجود الإسلامي في الصين؛ فثمة إجماع على أن الإسلام حقق قفزةً واسعةً في الصين في ظل عصر يوان المغولية (1215 – 1368م ) التي تربعت على الصين بعدما أطاح قوبلاي خان – حفيد جنكيز خان – بحكومة أسرة سونج،[15] وقد عبرت هذه القفزة عن اتساع المصالح التجارية بين بلاد العرب والصين ..

ويصف ابن بطوطة المسلمين في الصين في عصره بأنهم معظَّمون ومحترمون، ولهم مساجد لإقامة الجمعيات ( صلاة الجمعة) ،[16] كما يصف حال مسلمي الصين بأنهم " هؤلاء التجار سكناهم في بلاد الكفار، إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أيما فرح، وقالوا : جاء من أرض الإسلام، وله يعطون الزكوات فيعود غنيّاً كواحد منهم... "    [17]

ويصف توماس أرنولد في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) حال مسلمي الصين في نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر بأنهم منتشرون في الصين، فكان في مدينة كنجنغو عدد كبير يبلغ ثلاثين ألف أسرة مسلمة، ونعموا بالحرية في إقامة شعائر دينهم [18] .

ولكن اختلف الحال مع مجيء أسرة مانشو عام 1644 ؛ فتم التضييق على المسلمين وظلمهم وقتلهم، فأعلن المسلمون الثورة عام 1648 بقيادة هانج تشونو، ولكن الثورة أُخمدت، وظل المسلمون يخشون من إظهار دينهم حتى العام 1731 عندما حاول الإمبراطور يوانج تشين من تهدئة روع المسلمين، ولكن هذا لم يهدئ من روعهم، فحاولوا الحفاظ على دينهم بما يلي : ظلوا حريصين على ألاّ يظهروا بأي مظهر متميز عن الصينيين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم، ولكي لا يتركوا انطباعاً لدى الصينيين أنهم أجانب، وبنوا مساجدهم بدون مآذن حتى لا يستفزوا الصينيين، وفي ثيابهم ومظهرهم كان المسلمون لا يتميزون في شيء عن الصينيين ؛ بل كانوا يذوبون بينهم، واحتاطوا كل الحيطة كي لا يظهر دينهم بمظهر المُعارِض لدين الدولة، وقد نجحوا في ذلك [19].

وعندما وصل العالم إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت الأقليات لا يمكن إبادتها كما كان يحدث في الماضي، مر المسلمون بعد الثورة الشيوعية عام 1949 في الصين بفترة غائبة عن الوعي، شهدوا قمعاً إلحاديّاً، ولكنهم طوال ألف عام صمدوا ضد الذوبان أو الإبادة بفضل اتخاذهم من فتوى أحمد بو جمعة نبراساً يهديهم طريق النجاة من الإبادة رغم أن الفتوى لم تصلهم، ولم يعرفوها ولم يعرفوا فقيه المغرب بو جمعة من الأصل .

ربما يعود ذلك إلى أن الصينيين ليست لهم عقيدة سماوية كالمسيحية بكهنة ومفكرين متعصبين يفرضون دينهم على غيرهم، كما أن المسلمين عموماً لم يحكموا الصين، فلم تأخذ المذابح شعارات الثأر، ولهذا وذاك نجا المسلمون في الصين من مصير إخوانهم في الأندلس بفضل فقه النوازل الذي طبقوه دون أي فتوى ؛ طبقوه بعفوية، وهو ما لم يحدث في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا .

* المسلمون تحت حكم الروس والسوفييت .. المأساة والنجاة :

لم يصل السوفييت للحكم بعد ثورة أكتوبر عام 1917 إلا وكان المسلمون في مناطق إسلامية تاريخية شهدت استقلالاً دائماً أقليّةً داخل المجتمع السوفييتي الذي يحكمه الشيوعيون الروس ؛ فقد دخلت أوزبكستان وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان وقرغيزستان ضمن الاتحاد السوفييتي ..

ولندرك حجم المأساة أن مدناً أثرت في الفكر الإسلامي مثل بخارى وطشقند وسمرقند صارت مدناً يحرم فيها تدريس الإسلام ويُنشر فيها تدريس الإلحاد، ليس ذلك فقط ؛ فهناك أقليات إسلامية كثيرة داخل روسيا ذاتها في مناطق تتارستان وبشكيرستان والجوفاش والشيشان والداغستان وأوسيتيا ..

لم تخضع كل هذه المناطق بعد ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 ؛ بل بدأت أثناء حكم القياصرة ؛ فقد سقطت أولى بلاد المسلمين – وهي إمارة قازان – في يد القيصر إيفان الرابع عام 1552[20]، ويُعتبر سقوط قازان بداية تأسيس الإمبراطورية الروسية القيصرية ؛ فلم يمض وقت طويل حتى استولت روسيا على إمارة سيبيريا عام 1598، واستولوا على الإمارة القرغيزية عام 1628، وعلى طشقند عام 1865، وبخارى عام 1868، وعلى تركمانستان عام 1884، والشيشان والداغستان عام 1857، ثم سقطت باقي المناطق الإسلامية .

حدثت ثورات كبرى ضد القياصرة، مثل ثورة الشيخ شامل الكبرى في الشيشان التي دامت ربع قرن ( 1834 – 1859)  [21]

والذي يعنينا هو : كيف تعامل المسلمون الذين وجدوا أنفسهم أقلياتٍ كبيرةً خاضعةً لسلاطين وقياصرة غير مسلمين بعد أن ظلت أوطانهم تتمتع بالسيادة الكاملة إما داخل إطار الدولة الإسلامية أو مستقلّة ذاتيّاً ؟، وكيف تعامل الفقه الإسلامي مع هذه الأوضاع الجديدة ثم كونوا لأنفسهم قاعدةً إسلاميّةً استطاعت أن تعود إليها سريعاً بمجرد حصولها على الاستقلال الكامل مثل الجمهوريات الخمس، أو الاستقلال الذاتي داخل روسيا الاتحادية مثل الشيشان والداغستان والأنجوش؟، وكيف دافعوا عن استقلالهم الذاتي من منطلق ديني بحت بعد طمس للهوية والثقافة الإسلامية دام لقرون، فخرجوا بدينهم من ركود القياصرة وإلحاد البلاشفة؟

من اللازم هنا التأكيد على أن الشيوعية تمكنت من فرض نفوذها اللا ديني كأيديولوجية منحازة ضد الدين باعتباره أفيوناً للشعوب كما روجوا، واتخذها كثير من المثقفين المسلمين عقيدةً، وانتشرت في العالم، واستطاعت أن تحكم بعض الدول الإسلامية، وأن يقوم الاتحاد السوفييتي بتأييد الحركات العسكرية الانقلابية في الدول الإسلامية، فتغض هذه الدول طرفها عمّا يحدث للمسلمين داخل الاتحاد السوفييتي، لندرك حجم المأساة التي عاناها المسلمون هناك طوال قرون، تجلت فظاعتها خلال سبعين عاماً من المعاناة مع الشيوعية .

لم يجد المسلمون من يدافع عنهم من الخارج، ولم يجدوا من يحميهم من الثقافة الإلحادية..

وقد عبر الإمام الخميني عن هذا الواقع عندما قال عام 1964 :" إن أمريكا أسوأ من انجلترا، وإنجلترا أسوأ من أمريكا، لكن الاتحاد السوفييتي أسوأ من الاثنين ؛ لأن الاستعمار الشرقي كافر " [22].

قام المسلمون ببناء مساجد أسفل بيوتهم في كهوف لممارسة شعائر الدين الإسلامي، كانوا يصلّون فيها، ويعلمون صبيانهم القرآن الكريم بدون كتابة حتى لا يُكتشف أمرهم،[23] وطبقوا فتوى النوازل دون أن يقرأوا عنها ؛ فقد ظلت الطرق الصوفية تعمل في عصر الشيوعية كمنظمات سرية في سبيل الاستقلال والحرية، ومن عجائب المفارقات أن هذه الطريقة وحتى وقت قريب تضم بين ظهرانيها أعضاء الحزب الشيوعي والإدارة الروسية، ولكن يبدو – وكما ذكر المحللون السياسيون – أن الولاء للطريقة القادرية قد فاق الولاء للحزب [24].

المسلمون في الاتحاد السوفيتي إذن تمكنوا من المحافظة على أصول العقيدة متحدّين الاتحاد السوفييتي بضمائرهم، وقد نجحوا في ذلك بفضل الميراث الإسلامي الضخم الذي تضمه الأراضي الإسلامية داخل الاتحاد السوفييتي، وانطلقوا من هذه القاعدة الإيمانية من الجهاد ضد روسيا الاتحادية فور سقوط الاتحاد السوفييتي، كما خاضوا الصراع الفكري والاجتماعي للحفاظ على الإسلام في ظل الحكم الروسي بعد فشل المقاومة المسلحة وفرض الحكم الروسي هيمنته على جميع أراضي المسلمين التي تُعدّ جزءاً من العالم الإسلامي، وواجه المسلمون واقعاً جديداً يهدد باجتثاث جذورهم الدينية والثقافية والاجتماعية، وتعرّض المسلمون لعمليات " الروسنة " و" السفيتة "، إلا أن الإسلام أصبح هويّةً وشخصيّةً حضاريّةً متميزةً عن الحضارة الروسية وعاداتها وتقاليدها وعقيدتها المسيحية الأرثوذكسية [25].

* المسلمون في فلسطين .. فقه الجهاد و الصراع :

شهدت الأرض المقدسة في فلسطين وجوداً إسلاميّاً كأقلية أثناء الحروب الصليبية، ثم في الوقت الحاضر منذ بداية الاحتلال الصهيوني للأرض عام 1948.

في أثناء الحروب الصليبية الأولى والتي دامت مائتي عام كان المسلمون يعيشون على أمل تحرير الأرض، وكان المسلمون يستطيعون الاتصال بالمسلمين في مصر والعراق، فلم يعرفوا فقه النوازل ؛ حيث استمرت الحروب متصلةً بعد الاحتلال، ولم تمض خمسون عاماً حتى تم تحرير الرها، ثم استمرت حرب التحرير حتى تم تحرير كل الأرض، فالمسلمون كانوا في صراع دائم وحروب مستمرة تُوجت بتحرير كل الأرض ..

لقد كان اصطداماً بالغرب عندما كانت الحضارة الإسلامية قد بدأت تتهاوى من قمتها الشاهقة إلى حضيضها السفلي، وكان العالم الغربي يعاني من الانحطاط المزمن، ومن الواضح أن هذا الصدام كان أكثر تأثيراً في إيقاظ الغربيين، ونتج عنه حركتان مهمتان هما: النهضة والحركة الإصلاحية، ومن خلالهما انتشرت الحضارة المفعمة بهيمنة الغرب [26].

كان الفقه الذي يسود الشام أثناء تلك الفترة هو فقه الصراع أي الجهاد ضد المحتل .

وما يحدث على الساحة الفلسطينية منذ عام 1948 يشبه إلى حد كبير ما حدث في الاحتلال الأول ؛ فهو صراع على الوجود، تخفَّى الأوروبيون وراء شعارات الحملات المقدسة الصليبية لإزالة الوجود الإسلامي بأسره، وما يحدث الآن هو نفس ما حدث ؛ فمسلمو فلسطين يعيشون على أمل تحرير الأرض، أظهر المسلمون دينهم وما زالوا يدافعون عنه، ووجودهم كأقلية يرتبط بالصراع على الوجود وليس الصراع على الحدود، فإذا كان الفلسطينيون يعيش الكثير منهم في المهجر على أمل العودة فإن الباقين داخل حدود الدولة الصهيونية كيّفوا أنفسهم على الصراع، واتخذوا من فقه الجهاد ضرورةً لمنازلة العدو، مع التأكيد على أن بقاء الشعب متمسكاً بدينه ارتبط في الأصل بظهور المقاومة الإسلامية ؛ فقد ظلت القضية تتسم بالعروبة وتبحث عن كنعان صاحب الأرض الذي حرصت الدعوة القومية على الانتساب إليه، ولكن ذلك أدى باليهود إلى استدعاء لتاريخ مضى ولكنهم حرصوا على العودة إليه .

ولكن عودة الفكر الإسلامي الجهادي للمقاومة في فلسطين أدى إلى تخلي الدولة اليهودية عن الكثير من أفكارها التوسعية الجغرافية، فرغم عنصرية الجدار الذي بناه اليهود إلا أنه أكد على أن مسلمي فلسطين تمكنوا من إيقاف المشروع التوسعي، وأن الفقه الجهادي أو فقه إدارة الصراع هو الذي يلخص الفقه الذي يعتمد عليه المسلمون في الأرض المقدسة .

* الوجود الإسلامي في دول العالم .. فقه الواقع :

يمكن القول إن الأقليات الإسلامية منتشرة في معظم دول العالم، ولا يستوعب هذا البحث الحديث عنهم أجمعين، لكن من المؤكد أن مسلمي الفلبين والكونغو وتنزانيا والنيجر وأثيوبيا والبرازيل وباقي البلدان التي يعيش فيها المسلمون أقليات استطاعوا النجاة بأنفسهم ودينهم عبر فقه يمكن تسميته " فقه الواقع " ؛ حيث جاهد المسلمون عندما تعرضوا للاضطهاد، مثلما حاربوا ماجلان عندما غزا جزرهم في الفلبين وقتلوه، ثم كيف مد مسلمو مدغشقر جسورهم مع عمان، أو كيف استطاع مسلمو جنوب ووسط أفريقيا التمسك بإسلامهم ضد حملات التبشير الذي قاده الاستعمار الغربي، كما نرى أنهم استطاعوا الاختفاء في بعض الحالات عندما تعرضوا لما يشبه الإبادة كما حدث لهم في جنوب أفريقيا العنصرية.

ويُستحسن هنا قراءة كتاب " الأقليات المسلمة في العالم " تأليف داود حسن حمدان – طبع الرياض 1986 – وهو عدة مجلدات، ولذلك اكتفينا بالأندلس والصين وروسيا كنماذج حية للأقليات المسلمة .

 

المحور الثاني

الصعود الديني والتطرف القومي

إن العصر الذي نعيش فيه تتراجع الأيديولوجيات الوضعية، وتنمو فيه العقائد، وحتى الديانات غير السماوية والهندوس ينهضون دينيّاً، والكنفوشيوسية تحيا، واليهودية تموت، والمسيحية تنمو ..

نحن في صحوة دينية عالمية في كل الديانات، وإذا كان ذلك جائزاً من مثل هذه الديانات فهو واجب بالنسبة للإسلام ؛ لأن الإسلام دين ودنيا، وله نظام ومنهاج شامل .

والصحوات الإسلامية الدينية هي أعظم ظواهر العصر الذي نعيشه ليس فقط في الإطار الإسلامي ؛ وإنما هي في كل الأطر الدينية [27] .

ويرى الدكتور محمد عمارة أن وجود المسلمين في وسط كيانات أخرى أنفع للمسلمين، ولو كانت الهند لم تقسم لدخل المنبوذون جميعاً في الإسلام [28] .

لقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلى انهيار باقي الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وصعد التطرف الديني والقومي، فقام الصرب بإقامة المذابح لمسلمي البوسنة والهرسك ثم كوسوفا[29]، وهاج الهندوس فقاموا بهدم مساجد المسلمين في الهند وكشمير، وقام اليهود بإقامة المذابح شبه اليومية للفلسطينيين في الأرض المحتلة، كما حدثت مذابح لمسلمي بورما والفلبين .

ولا بد من الإشارة إلى أن تنامي الحركات السياسية الإسلامية لم تشذ عن قاعدة هذا المد الأصولي العالمي بصفة عامة [30].

إن التطرف الفكري الإسلامي نبت أصلاً من الدول التي عاش فيها المسلمون كأقلية خاضعة لسلطة غير إسلامية ( الهند )، وبقدر العنف الذي مورس ضد المسلمين في الهند كانت الأفكار والرؤى تنطلق من حتمية عدم الخضوع ليس فقط للسلطة غير الإسلامية، بل التصدي لكل النظم الجائرة في العالم، وكان من أوائل من نادوا بهذه الدعوة أبو الأعلى المودودي ؛ فقد أكد على أن " غاية الجهاد في الإسلام هو هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها، وهذه المهمة – مهمة إحداث انقلاب إسلاميّ عامّ – غير منحصر في قطر ؛ بل ما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة ".[31]

فليس للمسلم فقط أن يخضع لسلطة غير إسلامية، لكنه مطالب بالجهاد لهدم كل الأنظمة الوضعية في الهند وخارجها، فيقول :" لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي؛ فذلك لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البتة، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط ؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قطر مخصوص أو أمة بعينها، وأمّا إذا ما قام حزب عالميّ مستند إلى فكرة انقلابية شاملة لا تفرق بين أمة ولا تخص قطراً دون قطر..." [32]

 ان لدعوة المودودي أثر لاحق في تقسيم الهند وتأسيس دولة الباكستان بشقيها الشرقي والغربي عام 1947، فدعوة المودودي لم تسفر عن إقامة حكومة إسلامية عامة، ولكنها أثمرت عن تأسيس دولة إسلامية خاصة بالمسلمين غير خاضعة لسلطة غير إسلامية، ذلك أن التبرير الوحيد لتأسيس باكستان هو أن سكانها مسلمون أي على دين يختلف عن دين أغلبية سكان شبه القارة الهندية، ومن ثم كان الإسلام دائماً قبل تأسيس باكستان أو بعد تأسيسها هو الأساس في المناقشات الفكرية والأيديولوجية بين المسلمين أو بين المسلمين والهنود [33].

لكن باكستان استقلت بالمسلمين، ولكن ظلت أقلية كبيرة في الهند خاضعةً لسلطة غير إسلامية، ودعوة المودودي التي أثمرت في حركات الإسلام في الدول الإسلامية الأخرى ( خاصّةً مصر في فكر سيد  قطب والخارجين من عباءة فكره ) لم تصل إلى العالمية أو إخضاع الجنس البشري كافة لسلطة إسلامية عالمية، ولكنها أخفقت في الحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية المنشقة عن الهند، فأصبحت الدولة دولتين : بنجلاديش وباكستان اعتباراً من عام 1971 م .

لكن ما نحن بصدده ليس التأريخ لحركات الإسلام السياسي أو تاريخ باكستان، ولكنا نود فقط إلقاء الضوء على أن الفكر الإسلامي بصورة عامة ظل ينفي عن نفسه فكرة إخضاع المسلمين لسلطة غير إسلامية، ولكنهم أخضعوا هذا التصور للخلط بين الحكومات الجائرة ( إسلامية وغير إسلامية ) وبين عالمية الدعوة [34].

لقد كان في تنامي التيار الأصولي السلفي أثر في تصدع وحدة المسلمين الفكرية، وفي زيادة بؤر التوتر عند مسلمي الغرب ؛ فهؤلاء المسلمون رحلوا من بلدانهم إلى الدول الأوروبية للاستيطان وليس العمل والعودة، ذهبوا إلى هناك من شبه القارة الهندية والشمال والوسط الأفريقي ومن تركيا ومصر وباقي البلدان الإسلامية، شكلوا الآن قوّةً سياسيّةً اجتماعيّةً إسلاميّةً مؤثرةً، حتى صار المسلمون يشكّلون الدين الثاني في أمريكا وفرنسا وانجلترا وألمانيا، والدول الأخرى بها جاليات إسلامية كبيرة، لم يعد من الممكن الحديث عن إمكانية إبادتهم وطردهم بعد ولادة الجيل الثالث في بلاد المهجر، وقد تنامت تلك الجاليات الإسلامية خلال المد الأصولي الذي طال الإدارة الأمريكية ذاتها ؛ حيث تُعتبر الإدارة برئاسة بوش الابن إحدى التوجهات نحو الأصولية، مثلما حدث في بعض الدول الأوروبية التي حاولت إبعاد المسلمين استناداً إلى خلفية الصراع الديني الإسلامي / المسيحي أثناء الحروب الصليبية، في هولندا وألمانيا وفرنسا وانجلترا .

لقد أصبح للمسلمين وجود شرعي في تلك البلاد ؛ ولم يعد من المنطقي تطبيق فتوى الهجرة الفقهية ؛ وهو محورنا التالي

 

المحور الثالث

فقه الأقليات الإسلامية .. الحاضر والمستقبل

كما رأينا فالفقه الخاص بالأقليات المسلمة ليس طرحاً جديداً وإن اختلفت المسميات ؛ فلقد ظهر – كما رأينا – فقه النوازل، وكيف تعامل فقهاء الأمة مع الواقع الجديد للمسلمين في القرن الخامس عشر، كما ظهرت اجتهادات العلماء المختلفة حول الاستعمار الذي آلت إليه جموع العالم الإسلامي والقضايا المتعلقة بذلك ..

فظهرت جمعية العلماء سنة 1930 بالجزائر تحت لواء الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتطرقت الجمعية إلى موضوعات تتعلق بوجود المستعمر الفرنسي : كالزواج بالفرنسية، وقضية التجنس بالجنسية الفرنسية، والمشاركة مع المستعمر في أعياده واحتفالاته [35].

وتأتي الحرب العالمية الثانية فتجبر أوروبا على فتح أبوابها أمام اليد العاملة خاصة المسلمة، وكانت هجرة المسلمين إلى أوروبا ؛ ليسوا فاتحين ؛ وإنما طالبين خبزاً وقوتاً، وتارةً طالبين لجوءاً سياسيّاً، وتارةً طالبين علماً وخبرةً، وظهرت المصاعب والتحديات أمام اندماج المسلمين في الحياة اليومية بأوروبا، خاصّةً مع ظهور الجيل الثاني والثالث، فظهرت الحاجة إلى " فقه المغتربين"  [36] أو فقه المهاجر أو فقه الأقليات الذي هو فقه نوعيّ يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة  وهو فقه لا يستوجب تطبيقه إلا على هؤلاء المغتربين، فقه يعمل على عدم ذوبان المغتربين في المجتمعات التي يعيشون فيها، كذلك يعمل على عدم الاصطدام بالسلطات الأوروبية أو النزوع تجاه الاصطدام بالقيم التي يؤمن بها الأوروبيون على وجه العموم .

عاش المسلمون في المجتمعات الغربية وتحولوا من حالة الاستقرار إلى حالة المواطنة والإقامة الدائمة، وهذا التبدل والانتقال طرح أمام سلطات الدول التي يقطن فيها المسلمون إشكالاتٍ جديدةً وتحدياتٍ غير متوقعة، تقتضي معالجةً فوريّةً وحلولاً معقولةً لهؤلاء الذين صاروا مواطنين ..

ثم والأهم من ذلك وبعد أن بدأت تتحسن أوضاعهم شيئاً فشيئاً بدأت تنشأ مشاكل جديدة من معاير أخر ذات أبعاد أخلاقية وحضارية تمس بشكل أو بآخر ما يُعتبر مصيريّاً في تفكير واعتقاد مسلمي المهجر كالدين والهوية والأخلاق والذرية [37] .

كذلك صارت سياسة الاندماج التي حاولت أغلب البلدان الأوروبية المستقطبة للمهاجرين بواسطتها أن تدمج المسلمين والأجانب داخل مجتمعاتها وتجعلهم ينخرطون في الحياة العامة بشكل منفتح وتلقائي وإيجابي، لكن هذه السياسية قوبلت بالرفض أو التحفظ من قبل المسلمين ؛ لأنهم رأوا فيها تذويباً للوجود الإسلامي في أتون الثقافة الغربية [38] .

وقد استمرت هذه المحاولات من قبل الحكومات الأوروبية تجابه برفض عفوي [39] من المسلمين خشية الذوبان، حتى وقعت أحداث أيلول / سبتمبر 2001 ضد برجَي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطون، وبعدها حدثت حملة تشويه ضد الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى أن دعت أصوات حكومية وسياسية غربية إلى ضرورة العودة للحوار مع الأقليات الإسلامية لتجاوز حالة التوتر الاجتماعي بين المسلمين والمجتمعات التي يقيمون فيها في الغرب، فزار توني بلير – رئيس الوزراء البريطاني – الاحتفال السنوي الذي يقوم بتنظيمه مجلس العموم البريطاني لمشاركة المسلمين بمناسبة شهر رمضان وعيد الفطر المبارك في 1 شوال 1422 – كانون الثاني / يناير 2002 قائلاً في الاحتفال أنه يعترف بأهمية العمل الذي يقدمه المجتمع الإسلامي لبريطانيا [40] .

لقد اقترب المسلمون في الغرب بصفة عامة من التجذر في الأرض التي يعيشون فيها، ولذلك فإن على علماء الأمة أن يحققوا لهم ما يريدون : كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية، وكيفية التعامل البنّاء في مجتمعاتهم المغايرة لدينهم وهويتهم .

إن أصل الإشكاليات التي تواجه الأقليات الإسلامية في الغرب هو سوء فهم الإسلام في الغرب بصفة عامة يرجع أساساً إلى تشويه متعمد للإسلام منذ قرون، وهناك في هذا الصدد الكثير من الأساطير في وصف الإسلام، وهي أساطير مثل أنشودة رولاند الشهيرة وغيرها من آثار أدبية تصف المسلمين بأنهم عباد أصنام [41] .

فالنشاط الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 له خلفياته الثقافية الفكرية المتعصبة، وهذه الهجمات الإعلامية تزداد كلما سمع الغربيون عما يسمى بـ" الصحوة الإسلامية " في بعض البلاد الإسلامية [42]، وتزداد مخاوفهم من الوجود الإسلامي لديها، ولكن الوجود الإسلامي استقر، وصار المسلمون في الغرب لهم حق المواطنة، ولا يمكن إبعادهم أو إبادتهم، ومن ثم كان لا بد للساسة الغربيين أن يكيفوا واقعهم السياسي والفكري على وجودهم، مثلما حدث وذكرناه آنفاً من زيارة توني بلير لحفل عيد الفطر لمسلمي بريطانيا أو دفاع ولي العهد البريطاني عن الاسلام وغيره .

* مستقبل الأقليات الإسلامية .. بعد الإقامة الشرعية :

كثيراً ما يختلط الأمر عند الحديث عن مستقبل الأقليات الإسلامية في دول العالم حيث يتركز البحث عن الوجود الإسلامي في الغرب عن غيره في دول العالم الأخرى، ومرجع ذلك بسبب أن الثقل الإسلامي في الغرب ومدى حصول المسلمين على حقوقهم والحفاظ على هويتهم يؤثر في باقي الأقليات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ؛ لأن الإعلام الغربي يؤثر في اتخاذ القرارات في دول العالم، كما أن معظم مسلمي الغرب من أصول غير أوروبية، بخلاف باقي الأقليات الإسلامية ؛ فأصولهم مشتركة مع باقي الشعوب التي يعيشون بينهم مثل الهند وتنزانيا ونيجيريا وباقي دول القارة الأفريقية ..

من هنا سنركز بحثنا عن مستقبل الأقليات الإسلامية في الدول الأوروبية ؛ اختصاراً للبحث، ومنعاً للتكرار .

إن مستقبل الإسلام في الغرب يتوقف بصفة أساسية على ثلاثة عوامل [43] : الأول يتعلق بالعالم الإسلامي، والثاني يتعلق بالمسلمين الذين يعيشون في الغرب، والثالث يتعلق بالموقف الغربي نفسه، علماً بأن هذه العوامل متشابكة ومتداخلة ..

1-ما يتعلق بالعالم الإسلامي :

إن مستقبل المسلمين في الغرب يتوقف على مستقبل الإسلام في العالم الإسلامي ؛ فقوة العالم الإسلامي تعزز وتدعم الأقليات المسلمة في الغرب ويزيدها التصاقاً بدينها وتراثها، ومن هنا تأتي ضرورة ربط الجسور بين العالم الإسلامي ومع الأقليات المسلمة في الغرب، ومعاونتهم في تصحيح صورة الإسلام في أذهان الغربيين بكل الوسائل العلمية والعملية التي تعرض صورة الإسلام عرضاً سليماً لتصحيح المفاهيم المغلوطة الموروثة عن الإسلام، وإصدار دائرة معارف إسلامية باللغة العربية واللغات الأجنبية تعرض الإسلام عرضاً علميّاً وبطريقة موضوعية تنأى عن الخلافات بين المذاهب الإسلامية، كذلك إصدار موسوعة فقهية مختصرة باللغات الأجنبية تعين المسلمين هناك على ما يهمهم من أمور دينهم، وترجمة معاني القرآن الكريم باللغات الأجنبية لخدمة المسلمين وخدمة الراغبين في التعرف على الإسلام من غير المسلمين، ومد المسلمين في الغرب بالعلماء المستنيرين الفاهمين لحقائق الدين والدنيا ..

وينبغي إنشاء قناة تليفزيونية إسلامية تخدم أبناء المسلمين في الغرب، شريطة ألاّ تكون هذه القناة لها توجه مذهبيّ معيّن، بل هي إسلامية عامة لكل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ومن ثم مساعدة المسلمين في الغرب – كلما سنحت لهم الفرص – لإنشاء نظام تعليميّ إسلاميّ لكل المراحل الدراسية .

2- ما يتعلق بالمسلمين في الغرب :

إن على مسلمي الغرب مسئولية الدفاع عن أنفسهم وثقافتهم بالمنطق والدعوة الحسنة، فلا بد لهم من الاتحاد في الدول الغربية وتوثيق الروابط فيما بينهم، وأن يبتعدوا عن الصراعات المذهبية الضيقة، كما أن عليهم ضرورة فهم العقلية الغربية والتعامل معها من هذا المنطلق ؛ فالتعارف هو الخطوة الأولى للفهم والاحترام المتبادل والتعاون المشترك، كما على مسلمي الغرب أن يجسدوا الإسلام في سلوكهم الملموس ليكونوا قدوةً ويقدموا صورةً مشرفةً للإسلام، ثم إقامة ندوات علمية مشتركة مع العناصر الغربية المستعدة للتفاهم والمحبة والتعايش في سلام واستقرار مع المسلمين، ومن خلال ذلك يمكنهم إيجاد صيغة مناسبة للحفاظ على الذاتية الإسلامية، وفي الوقت ذاته المشاركة الفعالة في مختلف أنشطة المجتمع العربي دون الذوبان فيه .

3-  ما يتعلق بالغرب :

لا بد أن تأتي المبادرة من الجانب الإسلامي قبل الغرب لتحديد مدى تقبل المجتمع الغربي للوجود الإسلامي، وما مدى التعامل مع الإسلام بموضوعية وتصحيح مفاهيمه عن الإسلام، وهذا يتوقف على الموقف الإسلامي قبل كل شيء ؛ حيث إن المسئولية تقع عليه قبل كل شيء ؛ لأن المشكلة تعنيهم قبل غيرهم وقبل كل شيء .

ويمكن تحديد بعض النقاط الجدية التي يجب أن يقوم بها علماء الأمة شريطة أن يكونوا على دراية كاملة بظروف المجتمعات الغربية وبتحولاتها الفكرية والثقافية، على أن يكون لعلماء المهجر دور أكبر في التشريع لمسلمي الغرب، ويمكن وضع بعض الأسس القابلة للنقاش حول وضع الأقليات الإسلامية في :

1- إعادة النظر في تفسير نصوص الوحي التي تتعلق بمساكنة الكفار ومناكحتهم، وحتى ما يتعلق ببعض المعاملات كالبيوع والإجارة، فيعاد فيها النظر من قبل العلماء المجتهدين لا سيما المقيمين في الغرب في ضوء العلل والمصالح والواقع، فالمصالح التي هي مناط الأحكام يجب أن تُعتبر بالحالة الحاضرة وبالواقع المعاش اليوم [44] .

2- العمل على نشر الوعي الديني بين مسلمي الغرب ليكونوا قدوةً سلوكيّةً حضاريّةً ؛ فقد قال الإمام الصادق :" كونوا دعاةً للناس بدون ألسنتكم[45] .

3-  إعادة النظر في تقسيم الديار مثل دار الإسلام ودار الكفر ودار الظلم، علماً بأن مسلمي الغرب ليسوا فاتحين ولا قاهرين، بل مهاجرون استوطنوا عن رغبة ودون جبر أو قهر ..

وقد أفتى الشيخ عبد العزيز بن الصديق الغماري – الذي ألّف رسالةً في جواز الإقامة ببلاد الغرب واحتج فيها للجواز، بل قال بالوجوب في بعض الأحيان مراعياً ما يترتب على ذلك من مصالح الدعوة وتحصيل العلوم النافعة التي هي أساس التقدم والقوة ويجب تحصيلها على المسلمين – قائلاً [46] :" إن علة وجوب الهجرة عدم الأمان على الدين، وإن المسلم في بلاد الغرب يأمن على دينه أكثر مما يأمن عليه في بلاد الإسلام " ا.هـ .

4- التأكيد على أن الأقليات الإسلامية في البلاد الأوروبية صارت تمثل عنصراً ذا أهمية بالغة في نسيج المجتمع الإسلامي ورافداً من روافد الدعوة الإسلامية التي تعلق عليها الآمال [47] .

5- استنباط الأحكام التي تتعلق بالمعاملات مع غير الإسلامي من منظور قرآنيّ ومن منطلق تراث إسلاميّ أصيل ؛ فالناس صنفان " إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق " [48] كما قال الإمام علي بن أبي طالب .

6- تقوية الجانب الروحي المفقود في الغرب، وذلك لدى المسلمين ؛ فالإنسان باحث عن الحقيقة بالفطرة، وبالوحي الإلهي يمكن الوصول، شريطة ألاّ يحسب أحد من مسلمي الغرب أن ما يستنتجه ويستخلصه من النص الديني هو الدين نفسه،[49]  فالعالم مقبل على تجاوز الحدود الضيقة التي يعيشها الإنسان كدنيا - مادة إلى فضاء أوسع وأرحب .

* الخلاصة :

إن الإسلام مقبل على مرحلة جديدة، تتأرجح بين العولمة والهيمنة، التكيف والاستقرار، الصدام والحوار، وإن مسلمي الغرب الذين يعيشون كأقليات كبيرة نسبيّاً في دول الغرب لا بد وأنها تتأثر بما يحدث في دول العالم الإسلامي، وتؤثر في الوقت نفسه في سياسات الدول التي يعيشون فيها بمقادير مختلفة، فلا بد للمسلمين أن يقوموا بوضع استراتيجية عملية وواضحة وشاملة، يتعاون فيها الجميع على وضعها أوّلاً وتنفيذها ثانياً [50] .

كما أن هناك الكثير من نقاط الاشتراك بين الإسلام والغرب يجب التأكيد عليها ضمن إشاعة مناخ الحوار بين مواطني الغرب والمسلمين الذين يحيون في دولهم ؛ فهناك تراث قيميّ مشترك لا يُقدر بثمن ؛ فإن الملاحِظ للنصوص الإسلامية يجد كمّاً كبيراً من النقل عن عيسى عليه السلام وأمه الطاهرة نقلاً يوجه الحياة وينقيها[51].

ثم والأهم أنه قد مضى الزمان الذي كانت تباد فيه الأقليات أو يُطردون من ديارهم،[52] والمسلمون على أعتاب عصر جديد بعد أن نجوا بأنفسهم ودينهم عبر تاريخ ممتد شهد فيه فقه الأقليات الوصول من فقه الهجرة على أساس الضرورة الفقهية إلى حتمية إيجاد فقه لمسلمين صاروا مواطنين بإقامات شرعية، مروراً بفقه النوازل وفقه الواقع وفقه الضرورة، وتلك مسئولية تقع على المسلمين أوّلاً وآخراً ..

 

([1]) خواطر مسلم حول : الجهاد، الأقليات،  الأناجيل، محمد جلال كشك ،منشورات العصر الحديث ،  القاهرة ، 1985 ، ص33.

([2]) - نفس المصدر .

([3]) فقه الأقليات المسلمة – ضمن مجلد " التجديد في الفكر الإسلامي " محمد بشاري  – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة – 2001 – ص681

([4]) سورة النساء : 97 - 99

([5]) فقه الأقليات المسلمة – مرجع سابق .

([6]) أصول الفكر السياسي في القرآن المكي – مراجعة سمير أحمد شريف ، د. التيجاني عبد القادر حامد،  مجلة التوحيد – طهران – العدد 111 – 2003 – ص185

([7]) السيرة النبوية لابن هشام – تحقيق عمر عبد السلام تدمري – دار الريان – القاهرة – 1987 – جـ1 – ص 367

([8]) الفتوى منقولة من فقه الأقليات الإسلامية – مرجع سابق – ص684

([9]) لفظ " الموريسكي " كان يطلق على مسلمي الأندلس بعد السقوط ، وعندما غزا الأسبان الفلبين وجدوا المسلمين هناك فسموهم " المورو " أيضاً .

([10]) المدجنون : هم الذين صاروا مستأنسين تجاه الأوضاع السياسية في الأندلس وغيرها من الممالك الأخرى .

([11]) موسوعة المسلمون في الأندلس، محمد عبد الله عنان – مكتبة الأسرة – مصر – 2002 – جـ4 – ص151

([12]) في بلاد الموريسيك غرباء الأندلس، فهمي هويدي – مجلة العربي الكويتية – العدد 228 – نوفمبر / تشرين الثاني 1977

([13]) نفسه .

([14]) المسلمون مروا من هنا،  فهمي هويدي  – صقلية – مجلة العربي – العدد 222 – مايو / آيار 1977

([15]) الله في الصين، فهمي هويدي – مجلة العربي – العدد 264 – نوفمبر / تشرين ثاني 1980

([16]) نفسه – ورحلات ابن بطوطة – المطبعة المصرية – 1935 – جـ2 – ص135

([17]) نفسه .

([18]) نفسه .

([19]) نفسه .

([20]) تاريخ الكفاح القومي لأتراك روسيا، نادر دولت ( كاتب تركي )، منشورات معهد أبحاث الثقافة التركية – أنقرة - 1985

([21]) الشيشان بين المحنة وواجب المسلمين، مصطفى دسوقي كسبة  الأزهر الشريف – القاهرة – 1415 هـ - ص76

ومن الملاحظ هنا أن المسلمين ظلوا في ثورات متتالية حتى جاء الشيوعيون للحكم فأخمدوا كل هذه الثورات ، ولم يأت عام 1926 حتى كان الشيوعيون يقومون بحملات تطهير عرقية ؛ فقد قاموا بنقل وتهجير الشيشانيين من موطنهم ونقلهم بالآلاف على سيبيريا حيث لقوا حتفهم ، كما تم إعدام الشيوخ والأئمة ، وظل الشعب الشيشاني والداغستاني بالمنفى حتى عام 1957 ، ولا توجد تقديرات لعدد الذين ماتوا في المنفى بسبب التعرض للأمراض والأوبئة وتغير المناخ .. يُستحسن هنا قراءة كتاب الرئيس الشهيد للشيشان جوهر دوداييف : صعوبة الطريق إلى الحرية .

أمّا بالنسبة للمسلمين في الجمهوريات الخمس التي استقلت بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي : فإن الشيوعيين عملوا على طمس الهوية الإسلامية،  وحُولت مساجد بخارى وطشقند وغيرها إلى متاحف ، ومُنعت الصلاة ، وأُعدم الآلاف ، وأُلغي التاريخ الهجري .

([22]) نقلاً عن كتاب " التاج الإيراني " لأميمة جانو – مكتبة مدبولي – مصر – 1987 – ص149

([23]) نقلاً عن برنامج قُدم عن المسلمين في الاتحاد السوفييتي بقناة الجزيرة القطرية ، حيث قدّم البرنامج شهاداتٍ حيّةً عن رجال مسنين تحدثوا عن كيف تعاملوا مع الواقع الإلحادي ، وكيف قاوموا التصفية للشخصية الإسلامية بصمت واعٍ كبير ، وعبّرت الكاميرا عن هذا الواقع عندما عرضت للسراديب التي اتخذوها مساجد ، وكيف تحايلوا على السلطات السوفيتية للخروج للحج والعودة .

([24]) الشيشان .. وهل يعيد التاريخ نفسه ؟ د. عبد الحميد صالح - مقال منشور بجريدة الأهرام في 9/1/1995

([25]) الشيشان – مرجع سابق – ص168

ولا بد من ذكر أن الإسلام غادر فقط الأراضي الأسبانية والصقلية ( أوروبا ) دون بقية دول العالم ، وهذا شذوذ في القاعدة التي تقول إن الإسلام إذا استقر في أرض لا يغادرها ، ومن ثم نرى أن مغادرة الإسلام نهائيّاً لأوروبا في العصور التالية لفتح القسطنطينية عام 1453 يكمن في العصبية المقيتة والهوس الديني الذي تبنّاه باباوات الفاتيكان والذين نادوا بقتل المسلمين في الأندلس وفي كافة أنحاء العالم ، فلم يكن للمسلمين خيار إلا التنصر أو الإبادة ، وهذا ما حدث ، لم يشفع للمسلمين فتوى النوازل للحفاظ على المكنون الثقافي الإسلامي ..

وهناك فتوى للبابا أوربان الثاني الذي حرض بها المسيحيين على خوض الحروب الصليبية عندما دعا عام  إلى احتلال الأرض المقدسة في فلسطين قائلاً :" الرب يريد هذه الحرب " .

([26]) الدين والفكر في فخ الاستبداد ، محمد خاتمي،  ترجمة ثريا محمد علي وعلاء عبد العزيز السباعي – مكتبة الشروق – القاهرة – 2001 – ص11 المرجع السابق .

([27]) الشيشان – مرجع سابق .

([28]) نقلاً عن المرجع السابق .

([29]) لم نضع مسلمي البوسنة والهرسك ضمن الأقليات التي عاشت في كنف سلطة غير إسلامية ؛ لأنهم ظلوا تابعين لدولة الخلافة العثمانية، ورغم مآخذنا على الدولة العثمانية حيث إنها تحولت إلى دولة احتلال بكل معاني الكلمة ، ولكنها ولو نظريّاً ظلت دولةًَ تحمي المسلمين من غير المسلمين ، كما فعلت مع مسلمي روسيا قبل سقوطها تحت الحكم الشيوعي .

([30]) أساطير الهياكل اليهودية، علي أبو الخير ،  بحث منشور في جريدة الأحرار المصرية في 12/3/2001

([31]) نقلاً عن كتاب خواطر مسلم – مرجع سابق – ص41

([32]) نفسه .

([33]) الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حميد عنايت ،  ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا – مكتبة مدبولي – القاهرة – 1989 – ص200

([34]) ربما كان هذا التصور هو القاعدة الأساسية التي قامت عليها أيديولوجية الأصولية الإسلامية المعاصرة .. انظر : الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج .

([35])مصدر سابق، محمد بشاري، ص686

([36]) نفسه .

([37]) اندماج المسلمين في الغرب بين الإمكان واللا إمكان، التيجاني بولعوالي،  بحث منشور في جريدة النور اللندنية – العدد 167 – نيسان/ أبريل 2005

([38]) نفسه .

([39]) من دلائل هذا الرفض العفوي : حرص الفتيات المسلمات على ارتداء الحجاب والذهاب به إلى مدارسهن وتحدي القرار الفرنسي في حظر ارتداء الرموز الدينية في المدارس الحكومية الفرنسية ..

كما يجب التأكيد على أن مسلمي المهجر استطاعوا الحصول على الاعتراف بهويتهم الإسلامية رغم محاولات التذويب ، فبنيت المساجد في لندن وباريس وأمستردام وبرلين ونيوجيرسي وغيرها من الدول الأوروبية والأمريكية .

([40]) نقلاً عن تحقيق بمجلة النور – في احتفال مجلس العموم بعيد الفطر – العدد 128 ..

ومن خلال هذا الحفل السنوي الذي يقيمه مجلس العموم البريطاني ، كذلك ما حاول بوش الابن الاعتذار عن فلتات لسانه عندما تحدّث عن حرب صليبية جديدة ، ولقاؤه مع ممثلي المسلمين في الغرب ، كذلك تراجع بيرلسكوني عن نفس المفهوم الصليبي يثبت أن الوجود الإسلامي في الغرب بصفة عامة صار حقيقيّاً رغم التفرقة ومحاولات الإذابة المستمرة والتي ثبت فشلها ، والتي تتطلب فقهاً نوعيّاً يواجه هذه الحقائق المستحدثة .

([41]) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، د. محمود حمدي زقزوق، دار المنار – القاهرة – 1989 – ص29

([42]) الإسلام والغرب، د. محمود حمدي زقزوق،  منشورات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة – 2003 – ص120

([43]) المرجع السابق – ص121 وما بعدها ببعض تصرف .

([44]) التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، محمد المختار بن إمبالة، بحث منشور ضمن مجلد " التجديد في الفقه الإسلامي " – مرجع سابق – ص646

([45]) الإمام جعفر الصادق – نقلاً عن كتاب الوحدة الإسلامية – محمد باقر الحكيم – مركز يافا للدراسات – القاهرة – 2001 – ص132

([46]) محمد المختار – مرجع سابق .

([47]) نفسه .

([48]) نهج البلاغة – دار الفكر العربي – بيروت – بدون تاريخ ج4/ ص 15 .

([49])مطالعات في الدين والإسلام والعصر ، محمد خاتمي ، دار الجديد – بيروت – بدون تاريخ – ص126

([50]) العالمية والعولمة وموقف الأمة – دراسة منشورة في مجلة التوحيد، الشيخ محمد علي التسخيري، طهران – العدد 111 – ربيع 1424 هـ - 2003 م – ص26

([51])القيم والمصالح أساس العلاقات بين المسلمين والمسيحيين – بحث منشور في مجلة " ثقافتنا " الشيخ محمد علي التسخيري،  طهران – العدد الأول – ص40

([52]) لا بد من الاشارة هنا إلى خصوصية الوضع الفلسطيني ، علماً بأن عملية التهجير القسري خلال حرب 1948 لم تعد تجدي من قبل الدولة الصهيونية بعد أن ترسخت العقيدة الإيمانية المجاهدة في المقاومة عبر فقه الصراع أو الجهاد الحتمي