الإنسانية وحقوق الأمم والأديان في الإسلام

الإنسانية وحقوق الأمم والأديان في الإسلام

 

 

الإنسانية وحقوق الأمم والأديان في الإسلام

 

شهاب الدين الحسيني

قم ـ إيران

 

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار

الأمة الإسلامية أمة واحدة وان تعددت فيها المذاهب؛ تجتمع حول عقيدة واحدة، ومنهج واحد، وسلوك واحد، ومصالح واحدة، ومصير واحد، وتواجه عدواً واحداً وحّد صفوفه وإمكانياته من أجل إيقاف المسيرة الإسلامية وعرقلة حركتها التاريخية للقضاء عليها عقيدة وقيادة وكياناً، وقد أيقن أعداء الأمة الإسلامية أن الإسلامية أن الإسلام لازال قوة تنافسهم وتنازلهم وتطاردهم في جميع مجالات الحياة: الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وخصوصاً بعد ان استطاع الإمام الخميني (رض) ان يعيد الإسلام منهاجاً في الحياة بتأسيسه الجمهورية الإسلامية التي ساهمت مساهمة فعالة في الصحوة الإسلامية ابتداءً وإدامةً وأعادت الأمل إلى جميع أبناء الأمة الإسلامية بقدرته على النهوض وإعادة الإسلام إلى موقعه الريادي بين الأمم، بعد ان كان أمنية في الأذهان

ـ(310)ـ

والتصورات، وأصبح بقيادة الإمام الخميني (رض) والإمام الخامنئي (حفظه الله) قوة عظمى ينازل الاستكبار العالمي ليعيد للأمة الإسلامية مجدها وعزتها ودورها في قيادة العالم الإنساني، وبعد هذا الانتصار الكبير هبّ الاستكبار العالمي مجنداً جميع طاقاته وإمكانياته للحيلولة دون عودة الإسلام إلى موقعه الريادي بين الأمم، مستهدفاً الجمهورية الإسلامية في إيران باعتبارها النموذج الأمثل في تبني الإسلام قاعدة فكرية وتشريعية لدولتها ، والسعي لتقرير مبادئ الإسلام في واقع الحياة، فبالإضافة إلى التآمر العسكري والاقتصادي كثف الاستكبار العالمي والصهيونية العالمية الطاقات والإمكانيات الإعلامية  والسياسية والمخابراتية لتشويه الصورة الناصعة للإسلام بين الأمم والأديان متهماً الإسلام والجمهورية الإسلامية بالإرهاب والعنف واضطهاد الأديان عقيدة وإتباعاً للحيلولة دون تأثر اتباع الأمم والأديان بالمنهج الإسلامي وإشعاعاته الفكرية بعد ان جربوا جميع الأفكار والمناهج والأنظمة الوضعية، فلم تجن لهم إلا مزيدا من الكوارث والمآسي والاضطراب الفكري والعاطفي والسلوكي.

واستمر الاستكبار العالمي في إعلامه المضاد لوضع الحواجز النفسية والعاطفية بين الإسلام وبين اتباع الأديان وتصوير الإسلام بأنه دين السيف والقتل، لتحجيمه في زوايا مفرغة، لأن الاستكبار يدرك آثار اطلاع اتباع الأديان على موقف الإسلام الحقيقي من الأديان وأنه دين السلام والوئام والمحبة والرحمة، وتاريخه يشهد بهذه الحقيقة حيث تمتع الأديان بجميع حقوقهم في ظل الدولة الإسلامية وفي مجتمع المسلمين، ولازال اتباع الأديان يتمتعون بالحرية في جميع مجالاتها في ظل الجمهورية الإسلامية.

ومن خلال تجربة الجمهورية الإسلامية في دستورها وتطبيقاتها العملية،

ـ(311)ـ

مضافا إلى ما أوردته ثقافتنا الإسلامية من أسس وقواعد في الاعتراف بحقوق الأمم والأديان، إضافة إلى التطبيقات العملية منذ الصدر الأول للإسلام إلى يومنا هذا في التعامل مع الأقليات الدينية، نستطيع ان نضع الأسس والقواعد العامة المرتبطة بحقوق الأمم والأديان.

وفي بحثنا هذا نعتمد على الروايات المشتركة بين المذاهب، وعلى بعضها التي انفرد بها هذا المذهب أو ذاك بما يرسي دعائم التقريب، إضافة إلى ما قام به السلف الصالح من أعمال ونشاطات في مجال التعامل مع اتباع الأديان لم تواجه اعتراضاً من قبل كبار الصحابة والتابعين، مستفيدين أيضاً من آراء وفتاوى الفقهاء من الطرفين، لنجد ـ دون مبالغة ـ ان جميع المسلمين سنة وشيعة قد اتفقوا اتفاقا مطبقا على الاعتراف بحقوق الأمم والأديان، ولم يختلفوا في قواعدها الكلية والجزئية، وكانت الاجتهادات المختلفة قد اختلفت في غير ذلك من المسائل والقضايا إلا في الاعتراف بحقوق الأمم والأديان فانها أجمعت على الاتفاق في الاجمال والتفصيل.

نسأل الله تعالى ان يوحد صفوفنا ويجمع كلمتنا في إطار الأهداف الإسلامية الكبرى لنعيد مجد الإسلام وعزة المسلمين.

المبحث التمهيدي عنوان الإسلام ووحدة الأديان

الإسلام في أدبيان القرآن الكريم ومصطلحاته اللغوية ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي تجمعه وحدة المصدر، ووحدة المصير، ووحدة المفاهيم والقيم، ووحدة الأهداف والأساليب، وهو الدين الذي

ـ(312)ـ

حمل رايته جميع الأنبياء والمرسلين، وانتسب إليه جميع اتباع الأنبياء في جميع مراحل الحركة التاريخية، وكانوا في جميع مراحل الصراع والمواجهة الفكرية والتشريعية يواجهون عدواً واحداً لا يروق لـه تقرير مبادئ الحق والعدالة والفضيلة في واقع الحياة.

والإسلام هو الدين الذي حمله نوح ـ عليه السلام ـ ودعا قومه إلى الإيمان به، وهو الدين الذي أمره بالدعوة والنهوض، ففي قمة المواجهة بين نوح ـ عليه السلام ـ وقومه كان يخاطبهم: ﴿فإن توليتم فما سألتكم من أجر أن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين﴾(1).

ومن وصايا إبراهيم ويعقوب ـ عليه السلام ـ لأبنائهم: ﴿... فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»(2).

وقد أكد أبناء يعقوب ـ عليه السلام ـ لـه في مرض موته على حقيقة التدين بالإسلام كما جاء في القرآن الكريم: ﴿أم كنتم شهداء إذا حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن لـه مسلمون﴾(3).

وأكد موسى ـ عليه السلام ـ على ان الإسلام هو عنوان انتماء قومه فقال: ﴿... يا قوم ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين﴾(4).

وحينما أراد عيسى ـ عليه السلام ـ إعلان الفصل بين الكفر والانتماء الإلهي أجابه

______________________________

1 ـ سورة يونس: 72.

2 ـ سورة البقرة: 132.

3 ـ سورة البقرة: 133.

4 ـ سورة يونس: 84.

ـ(313)ـ

الحواريون: ﴿... نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون﴾(1).

واعترف أهل الكتاب بانتمائهم للإسلام قبل نزول القرآن الكريم فقالوا: ﴿... آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين﴾(2).

وأكد القرآن الكريم على ان الدين نزل في أمة واحدة، فاستعرض مسيرة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في الهداية والدعوة والصراع مع الكفار واتباعهم ثم ختم ذلك الاستعراض بخطابه للمسلمين قائلا: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾(3).

وأكد القرآن الكريم على وحدة التشريع في حركة الأنبياء، فالله تعالى لم يشرع ديناً جديداً، وإنما هو نفسه دين الأنبياء قبل نبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فخاطب المسلمين قائلاً: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...﴾(4).

والدين واحد في أصوله وأهدافه ووسائله، متنوع في أدوار المكلفين بحمله، فلكل مرحلة تاريخية نبي خاص وكتاب خاص منسجم مع أحوال الناس وظروفهم المادية والروحية وطاقاتهم الذاتية، ولا تناقض بين الكتب المنزلة على الأنبياء، فلكل مرحلة كتاب مصدق للكتاب الأسبق ومكملا لـه، قال تعالى: ﴿وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لمن بين يديه من التوراة... وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا

___________________________________

1 ـ سورة آل عمران: 52.

2 ـ سورة القصص: 53.

3 ـ سورة الأنبياء: 92.

4 ـ سورة الشورى: 13.

ـ(314)ـ

لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه...﴾(1).

والدين في مرحلة بعثة النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ هو المرحلة الأخيرة من المراحل التي مرت بها البشرية وبها ختمت الرسالة بعد كمالها، وهو الحلقة الأخيرة من حلقات الدعوة والهداية، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (مثلي  ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه واجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون لـه ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (2).

والإسلام هو العنوان الجامع للدين في جميع مراحله، وقد أخرج القرآن الكريم الديانات المحرّفة من هذا العنوان، فأصبحت اليهودية عنواناً لمن حرف التوراة التي أنزلت على موسى ـ عليه السلام ـ ، وأصبحت النصرانية عنواناً لمن حرف الإنجيل الذي نزل على عيسى ـ عليه السلام ـ وكذا الحال في بقية الديانات المحرفة، واختص عنوان الإسلام بمجموعة المفاهيم والشرائع التي جاء بها رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، والتي هي المرحلة الأخيرة من مراحل مسيرة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ .

وقد أكد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ هذه الحقيقة في حواره مع اليهود الذين قالوا لـه: (يا محمد، الست تزعم انك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد انها من الله حق؟) فأجابهم ـ صلى الله عليه وآله ـ : (بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما اخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أمرتم ان تبينوه للناس،

_____________________________________

 1 ـ المائدة: 47 ـ 48.

2 ـ صحيح البخاري: 5 / 226، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1313 هـ .

ـ(315)ـ

فبرئت من احداثكم...) (1).

ومن هنا فإنه لا تناقض بين الإسلام وبين الديانات السابقة التي اندرجت تحت عنوانه، ولا تضاد ولا مقاطعة ولا مفاصلة، ومن هذا المنطلق فإن الإسلام أقر المفاهيم والقيم غير المحرفة، ودعا إلى إبرازها، وتعامل مع اتباع الديانات المحرفة ضمن الأطر المشتركة، وأقرهم على ما يتبنونه من عقائد وتشريعات، فلم يكرههم على التخلي عنها، وجسد قادته واتباعه جميع قيم التعاون والرحمة والعفو في التعامل معهم، ولا زالوا يعيشون مع المسلمين في أغلب بلدانهم محتفظين بجميع حقوقهم الفردية والاجتماعية، ولازال الكثير منهم يشهد للإسلام وللمسلمين بحسن التعامل معهم في جميع مراحل المسيرة المشتركة منذ الصدر الأول للإسلام والى يومنا هذا.

أصالة السلام واستثنائية القتال

الإسلام دين الرحمة والمسامحة والعفو، دين التعاون والتآلف والوئام، دين السلام والأمان، وهي الأسس التي يتعامل بها مع غيره من العقائد والوجودات، فالأصل هو السلام، وأما القتال فهو أمر طارئ فرضته الظروف لذا فإن الإسلام ينتهز أقرب الفرص للعودة إلى الأصل، قال تعالى: ﴿وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله...﴾(2).

وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ينهي عن تمني لقاء العدو فيقول: (لا تتمنوا لقاء

_______________________________

1 ـ السيرة النبوية: 2 / 217، ابن هشام، مطبعة مصطفى البابي، مصر 1355 هـ ، أوفسيت مطبعة مهر، قم 1368 هـ ش.

2 ـ الأنفال: 61.

ـ(316)ـ

العدو، فإذا لقيتموه فاصبروا)(1).

والإسلام لم يشرع القتال للسيطرة على الأراضي والسكان، ولا طلبا للغنيمة، ولم يكن قتال المسلمين من أجل مجد شخصي أو طبقي، وإنما لإعلاء كلمة الله ودفاعاً عن القيم النبيلة وردعا للعدوان.

وجميع معارك الإسلام كانت معارك دفاعية لرد عدوان واقعي أو محتمل وفيما يلي نستعرض دوافع القتال وأهدافه القريبة والبعيدة كما جاء في القرآن الكريم.

1 ـ دفع العدوان:

﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (2).

﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...﴾(3).

2 ـ الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين:

﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ﴾(4).

وقيد القرآن النصرة بقيد عدم الإخلال في المعاهدات:﴿... وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ

_____________________________

1 ـ كنز العمال 4: 391، حسام الدين علي الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ .

2 ـ سورة البقرة: 190.

3 ـ سورة الحج: 39 ـ 40.

4 ـ سورة النساء: 75.

ـ(317)ـ

فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ...﴾(1).

3 ـ قتال ناكثي العهد:

﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...﴾(2).

4 ـ حماية المسلمين ورد العدوان المحتمل الوقوع:

﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾(3).

ودعا القرآن الكريم إلى رد العدوان المحتمل الوقوع، لكي لا يعتدى عليهم بغتة، ويهدد كيانهم بالفناء ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾(4).

وتفسير الآية: انه يجب إبلاغهم بإلغاء العهد ولا يجوز قتالهم قبل الإبلاغ لأن ذلك خيانة، اما إذا لم يحتمل الخيانة فلا يجوز نقض العهد معهم (5).

فالقتال موقف استثنائي لم يشرع إلا لحماية الإسلام والمسلمين، لذا فالإسلام يدعو إلى التعامل بالبر والعدل مع الذين لا يقاتلون المسلمين ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(6).

_______________________________________

1 ـ سورة الأنفال: 72.

2 ـ سورة التوبة: 13.

3 ـ سورة البقرة: 193.

4 ـ سورة الأنفال: 58.

5 ـ الميزان في تفسير القرآن 10: 114.

6 ـ الممتحنة: 8.

ـ(318)ـ

والإسلام يدعو للعودة إلى الأصل في التعامل وهو السلام وإنهاء القتال في أقرب فرصة: ﴿... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾(1).

أخلاقية القتال وإنسانية التعامل

الإسلام دين الرحمة والسماحة والإنسانية؛ يهدف إلى هداية الناس وإنقاذهم من جميع ألوان الاضطهاد والعبودية والانحراف والانحطاط، وإقامة الحق والعدل بينهم، ولا يقاتل حقداً أو عدواناً، لذا أكد على إشاعة قيم الرحمة والعفو حتى في ساحة القتال، وتتجسد أخلاقية القتال في المظاهر التالية:

 

1 ـ حرمة القتال قبل إلقاء الحجة:

حرّم الإسلام القتال قبل إلقاء الحجة على أعداء الإسلام، فقد أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ علياً ـ عليه السلام ـ قائلاً: (يا علي لا تقاتل أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام وأيم الله لأن يهدي الله عز وجل على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت)(2).

وحرمة القتال قبل الدعوة موضع اتفاق بين فقهاء المسلمين سنة وشيعة، نكتفي بذكر فتاوى بعض منهم.

قال الشيخ الطوسي (ت 460 هـ ): (ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام) (3).

_____________________________________

1 ـ سورة النساء: 90.

2 ـ

3 ـ النهاية: 292، محمد بن الحسن الطوسي، انتشارات قدس محمدي، بدون تاريخ.

 

 

ـ(319)ـ

وتابعه ابن إدريس الحلي (ت 598 هـ ) في الفتوى بنفس النص (1).

وأفتى أبو الصلاح الحلبي (ت 477هـ ) بعدم البدء بالقتال حتى بعد إلقاء الحجة متى يكون الأعداء هم الذين يبدؤون (2).

وقال علي المرغيناني الحنفي (ت 593 هـ ): (ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا ان يدعوه) (3).

وقال بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ ): (ولا يقاتل من لم تبلغه الدعوة الإسلامية حتى يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال) (4).

2 ـ النهي عن قتل المستضعفين:

نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن قتل المستضعفين وكانت تعالميه في القتال: (... ولا تقتلوا شيخاً فانيا ولا صبيا ولا امرأة...) (5).

وكانت سيرة الخلفاء من بعده قائمة على أساس هذه التعاليم الإنسانية، وهذا الحكم محل اتفاق بين فقهاء المسلمين.

قال عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت 624 هـ ): (ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا مرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا ان يقاتلوا) (6).

وقال محمد بن مكي الشهيد الأول (ت 786 هـ ): (ولا يجوز قتل المجانين

________________________________

1 ـ السرائر: 2 ـ 6، محمد بن منصور الحلي، جماعة المدرسين، قم، 1410 هـ ، ط2.

2 ـ الكافي في الفقه، 256، أبو الصلاح الحلبي، مكتبة أمير المؤمنين، إصفهان، 1403 هـ .

3 ـ الهداية: 2 ـ 136، المرغيناني، مطبعة البابي، مصر، بدون تاريخ.

4 ـ تحرير الأحكام: 172، ابن جماعة، دار الثقافة، قطر، 1408 هـ ، ط 3.

5 ـ الكافي: 5 : 28، وبنحوه: مجمع الزوائد: 5: 316.

6 ـ العدة شرح العمدة: 655، المقدسي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1417 هـ .

ـ(320)ـ

والصبيان والنساء وان عاون إلا مع الضرورة) (1).

وقال محمد حسن النجفي (ت 1266 هـ ): (ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونتهم إلا مع الاضطرار، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك) (2).

فالإسلام لا يرغب في القتال إلا اضطرارا ولا يستهدف إلا الهداية والإصلاح ولذا حرّم قتل المستضعفين وان كانوا أعداء.

3 ـ حرمة إلقاء السم في بلاد المشركين:

لم يكن هدف الإسلام من تشريع القتال الانتقام وإنما الهداية أولا ورد العدوان ثانياً لذا حرم استخدام اسلحة الدمار الشامل ومنها إلقاء السم فعن علي ـ عليه السلام ـ انه قال: (نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يلقى السم في بلاد المشركين) (3).

ولم يحدثنا التاريخ ان المسلمين استخدموا السم في القضاء على أعدائهم في جميع مراحل الحركة التاريخية.

4 ـ حرمة الغدر والغلول والمثلة والتخريب الاقتصادي:

حرم الإسلام استخدام الوسائل الوضيعة حتى في قتال الأعداء، فمن وصايا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأمراء جيشه: (... لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا) (4).

وفي رواية ثانية: (... ولا تقطعوا شجرا إلا ان تضطروا إليه...) (5).

وقال أبو الصلاح الحلبي: (... ولا يجوز حرق الزرع ولا قطع شجرة الثمر ولا

______________________________

1 ـ غاية المراد 1: 482، الشهيد الأول، مركز الأبحاث والدراسات، قم 1414 هـ .

2 ـ جواهر الكلام 21: 73، النجفي، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1981 م، ط 7.

3 ـ الكافي 5: 28.

4 ـ مجمع الزوائد 5: 316.

5 ـ الكافي 5: 28.

ـ(321)ـ

قتل البهائم ولا خراب المنازل ولا التهتك بالقتل) (1).

وقال الشهيد الأول: (ولا يجوز التمثيل ولا الغدر ولا الغلول) (2).

 5 ـ وجوب الاستجابة للاستجارة وطلب الأمان:

هدف الإسلام هو حقن دماء المعتدين ولهذا أوجب جميع الوسائل المؤدية إلى حقن الدماء ومنها الاستجابة للاستجارة ان استجار المعتدي بالمسلم وطلب الأمان منه، قال تعالى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾(3).

وأوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمراء جيشه (... وأيمّا رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين وان أبى فابلغوه مأمنه واستعينوا بالله عليه) (4).

والأمان هو الغاية في التعامل، وان رفض المسلمون طلب الأمان لضرورة معينة وظن الأعداء انهم استجابوا لهم كان ذلك الظن أماناً لهم، لان هدف الإسلام هو حقن الدماء في جميع الأحوال، قال الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ : (لو ان قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنوا انهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم، كانوا آمنين) (5).

وهذا محل اتفاق الفقهاء ولم نجد أحداً مخالفاً لهذا الرأي (6).

____________________________________

1 ـ الكافي في الفقه: 256.

2 ـ غاية المراد 1: 482.

3 ـ التوبة: 6.

4 ـ الكافي 5: 28.

5 ـ وسائل الشيعة: 15 ـ 68.

6 ـ النهاية: 298، غاية المراد 1: 482، العدة شرح العمدة: 673.

ـ(322)ـ

ومن أجل استشراء الأمان واشاعته فانه لا يتوقف على أوامر قادة الجيش أو كبار الشخصيات فكل من استجاب للأمان تكون استجابته نافذة على جميع المسلمين، سواء كان المؤمن رجلاً أو امرأة أو عبدا مملوكا فلا يجوز للمسلمين قتل من أعطي الأمان (1).

6 ـ الوفاء بالهد:

أوجب الإسلام الوفاء بالعهد فلا يجوز نقضه ابتداءً ما دام العدو ملتزما به، وقد جسد الإسلام بهذا الوجوب السماحة والسلام وحقن الدماء، وأثبت للأعداء أنه لا يقاتل إلا دفاعاً عن النفس وعن المقدسات ردعاً للعدوان، ولذا جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (حسن العهد من الإيمان) (2).

وشدد ـ صلى الله عليه وآله ـ على حرمة قتل المعاهد فقال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) (3). وحرم ـ صلى الله عليه وآله ـ ظلم المعاهد أو تكليفه فوق طاقته فقال: (من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه) (4).

وحرم ـ صلى الله عليه وآله ـ جميع مظاهر الأذى للمعاهدين: (من اذى ذمياً فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) (5).

وتترتب على عدم الوفاء بالعهد آثار عملية يوم القيامة قال الإمام محمد الباقر ـ عليه السلام ـ : (من آمن رجلا على ذمة ثم قتله إلا جاء يوم القيامة

________________________________

1 ـ الهداية 2: 139.

2 ـ كنز العمال 4: 365.

3 ـ صحيح البخاري 5: 120، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1313 هـ .

4 ـ سنن الاوزاعي: 394، عبد الرحمن بن عمر الاوزاعي، دار النفائس، بيروت، 1413 هـ ، ط1

5 ـ الجامع الكبير 1: 85، السيوطي.

ـ(323)ـ

يحمل لواء الغدر) (1).

وقال الإمام الشافعي: (وان عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى ان تنقضي المدة ما أقاموا على العهد...) (2).

وكانت سيرة المسلمين قائمة على الوفاء بالعهد فلم ينكثوا العهد بعد إتمامه ولم يحدثنا التاريخ انهم نقضوا العهد مع المعاهدين، وكان الخلفاء يؤكدون على الوفاء بالعهد، فكان من وصية عمر بن الخطاب في أيامه الأخيرة (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا ان يوفي لهم بعهدهم وان يقاتل من ورائهم وان لا يكلفوا فوق طاقتهم) (3).

وإذا نقض بعض المعاهدين العهد فلا يجوز تعميم النقض على الآخرين، فحينما نقض بعض المعاهدين من جبل لبنان عهدهم وأجلاهم الوالي كتب إليه الاوزاعي: (... فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة؟ فيخرجون من ديارهم وأموالهم) (4).

ويجب الوفاء بالعهد وان تضرر منه آحاد المسلمين، فحينما عاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المشركين بتسليم من جاءه من قريش مسلما، وفّى بذلك وسلّم اثنين من المسلمين إليهم وفاء منه بالعهد (5).

والوفاء بالعهد محل إجماع الفقهاء كما صرح به صاحب الجواهر (6).

_________________________________

الكافي 5: 31.

المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 260 ـ 261، إبراهيم بن علي الفيروز آبادي، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ.

3 ـ السنن الكبرى: 9: 206، احمد بن الحسين البيهقي، دار المعرفة، بيروت، 1356 هـ .

4 ـ سنن الاوزاعي: 394.

5 ـ صحيح البخاري 5: 68، السيرة النبوية لابن هشام 3: 333، تاريخ الطبري: 2: 638.

6 ـ جواهر الكلام 21: 97.

ـ(324)ـ

7 ـ حسن المعاملة مع الأسرى:

أمر الإسلام بحسن المعاملة مع الأسرى وان كانوا معتدين قبل الأسر، لان الإسلام يريد للإنسان الهداية والعودة إلى الرشد، فلا يبيح الأذى وسوء المعاملة معهم، فقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك وقال: (استوصوا بالاسارى خيرا) (1).

وحينما طلب أحد الصحابة من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ان يدلع لسان أحد المشركين الذين هجوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في مواضع عديدة أجابه ـ صلى الله عليه وآله ـ : (لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبيا) (2).

ويجب إطعام الأسرى وان كان حكم بعضهم القتل لضرورة خاصة، قال الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ : (إطعام الأسير حق على من أسره، وان كان يراد من الغد قتله، فإنه ينبغي ان يطعم ويسقى ويرفق به كافرا كان أو غيره) (3).

والرفق بالأسرى واجب في جميع الأحوال، قال الشيخ الطوسي: (ومن أخذ أسيرا، فعجز عن المشي، ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الامام، فليطلقه، فإنه لا يدري: ما حكم الإمام فيه، ومن كان في يده أسير، وجب عليه ان يطعمه ويسقيه) (4).

_____________________________

1 ـ السيرة النبوية 2: 299، ابن هشام.

2 ـ المصدر نفسه 2: 304.

3 ـ الكافي 5: 35.

4 ـ النهاية: 296.

ـ(325)ـ

المبحث الثاني

حقوق الأمم والأديان في ظل الإسلام

حق الاعتقاد والتدين

جاء الإسلام لهداية البشرية وإنقاذها من الضلالة والأوهام، ومن ظلمات الجهل والخرافة، وقد فتح للهداية أبواباً من البينات والدلائل العقلية الواضحة، وحث الإنسان على التدبر في الكون والحياة، وفي آفاق النفس البشرية ليهتدي بعد التدبر والاستدلال، وجعله حرا في إرادته في الإيمان والاعتقاد مخيراً لا مسيراً، ولهذا لم يكره أحد على تبني العقيدة الإسلامية، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(1).

وصرح القرآن الكريم بعدم الإكراه في الدين والاعتقاد فقال: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...﴾(2).

وقد جسدت السيرة النبوية وسيرة المسلمين هذه الحقيقة في جميع مراحل التاريخ، فلم يكره أحد على تبني العقيدة الإسلامية، ولو كان هنالك إكراه لما بقي إنسان على عقيدته وهو يعيش في ظل الدول الإسلامية والبلاد الإسلامية، فوجود اليهود والنصارى والصابئين وغيرهم في بلاد المسلمين خير دليل على ذلك.

وأول عمل قام به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد الهجرة وتأسيسه للدولة الإسلامية هو

________________________________

1 ـ يونس: 99.

2 ـ البقرة: 256.

ـ(326)ـ

موادعة أهل الكتاب وإقرارهم على دينهم (1).

وكانوا يتنعمون بالحرية الكاملة طيلة عهده والعهود اللاحقة به، ومن مظاهر تجسيد حق الاعتقاد ان ريحانة زوجة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بقيت على ديانتها السابقة فترة ليست بالقصيرة إلى ان أسلمت تأثرا بمفاهيم وقيم الإسلام فلم يكرهها ـ صلى الله عليه وآله ـ على الإسلام وهي في بيته (2).

وفي حوار لليهود مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قالوا لـه: (يا محمد... فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك ولا نتبعك) (3).

وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكرههم على الإسلام على الرغم من امتلاكه للقوة العسكرية، فحينما دعا بعض رؤسائهم إلى الإسلام أجابوه: (بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا اعلم وخيرا منا) (4).

وكان المسلمون وكبار الصحابة لا يكرهون حتى عبيدهم على الإسلام فعن يوسف الرومي قال: (كنت مملوكا لعمر بن الخطاب، فكان يقول لي: اسلم فإنك لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإني لا استعين على أمانتهم بمن ليس منهم، فأبيت عليه فقال لي: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾)(5).

والشواهد على حرية الاعتقاد عديدة، ومن ذلك مراجعة اليهود والنصارى وغيرهم الخلفاء الراشدين في كثير من القضايا بين حين وآخر، فهذا ان دلّ على

________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 147.

2 ـ السيرة النبوية لابن كثير 4: 604.

3 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 217.

4 ـ المصدر نفسه 2: 200.

5 ـ الدر المنثور 2: 22.

ـ(327)ـ

شيء إنّما يدل على إقرارهم على عقيدتهم.

آراء الفقهاء والمفسرين.

اقرّ جميع فقهاء الإسلام الناس على دياناتهم ومعتقداتهم وان كانت محرفة ومن آرائهم (عدم التعرض لهم في عقيدتهم) (1).

ولهم الحرية فيما بينهم في التشاجر والاختلاف في معتقداتهم، قال الفراء: (وان تشاجروا في دينهم واختلفوا في معتقدهم لم يعارضوا فيه) (2).

فلا إكراه على الاعتقاد والإنسان مخير فيه، قال الطبرسي: (ليس في الدين إكراه من الله ولكن العبد مخير فيه) (3).

وقال الآلوسي: (لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين الخير كله) (4).

وقال أبو مسلم والقفال: (انه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنّما بناه على التمكن والاختيار)(5).

وقال الطباطبائي: (ان الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة، على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم ان الإسلام دين السيف... ان القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه، بل لإحياء الحق)

وأضاف إلى ذلك قائلا: (ان الآية اعني قولـه: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ غير منسوخة

________________________________

1 ـ الموسوعة الفقهية 7: 127، وزارة الأوقاف، الكويت، 1406 هـ ، ط 2.

2 ـ الأحكام السلطانية: 161، الفراء، مكتب الأعلام الإسلامي، طهران، 1406 هـ ،

3 ـ مجمع البيان 1: 364، الطبرسي، مطبعة العرفان، صيدا، 1333 هـ .

4 ـ روح المعاني 3: 12، أبو الفضل الالوسي (ت 1270 هـ )، دار لأحياء التراث، بيروت بدون تاريخ.

5 ـ تفسير البحر المحيط 2: 281، أبو حيان الاندلسي (ت 754 هـ ) دار الفكر، بيروت 1412 هـ .

ـ(328)ـ

بآية السيف) (1).

ولو اكره غير المسلم على الإسلام لم يترتب حكم الإسلام وهو رأي الإمامين (أبو حنيفة والشافعي) كما حكي عنهما ابن قدامة : (وإذا اكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه... فاسلم لم يثبت لـه حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً ... وان رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي)(2).

ويرى الإمام مالك ـ خلافاً للمشهور ـ ان الإكراه في العقيدة غير مقبول حتى في الموقف مع الكفار الذين لا كتاب لهم كما حكى عنه أبو حيان الأندلسي: (ومذهب مالك ان الجزية تقبل من كافر سوى قريش فتكون الآية (لا إكراه في الدين) ـ خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم، لا يقف ذلك على أهل الكتاب) (3).

والاعتراف بحق الاعتقاد والتدين من قبل الإسلام والمسلمين من الحقائق البارزة، والتي اعترف بها غير المسلمين انصافا منهم لحسن التعامل، ففي عهد الخليفة الثالث كتب البطريرك المسيحي (سيمون) من مرو: (ان العرب الذين أورثهم الله ملك الأرض لا يهاجمون الدين المسيحي أبدا... انهم يساعدوننا في ديننا ويحترمون إلهنا وقديسنا...) (4).

ويرى المستشرق ارنولد سيرتوماس: ان الإسلام لم ينتشر بالسيف وإنّما

________________________________

1 ـ الميزان في تفسير القرآن 2: 343، محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1393.

2 ـ المغني 10: 96، عبدالله بن احمد بن قدامة (ت 620 هـ )، دار الفكر، بيروت، 1404 هـ .

3 ـ تفسير البحر المحيط 2: 281.

4 ـ روح الإسلام 265: سيد أمير علي، دار العلم للملايين، بيروت، 1977 م، ط4.

ـ(329)ـ

انتشر سلما بفضل الفقهاء والقضاة والحُجاج والتجار والمتصوفة، ويرى ان بعض الشعوب رحبت بالمسلمين لإنقاذهم من الحكومات الظالمة التي اضطهدتهم (1).

وافضل التجارب في مرحلتنا الراهنة تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد اقر دستورها في المادة الثالثة عشر حرية الأقليات المعروفة كاليهود والمسيحيين والزرادشت، وجسدت الدولة هذه المادة في الواقع العملي، فلم تكره أي واحد منهم على ترك ديانته والانضمام إلى الإسلام.

الحقوق التشريعية

بعد إقرار الإسلام حق الاعتقاد والتدين، أقر حق التشريع المتفرع عليه، فلكل أمة أو دين تشريع خاص لم يتدخل الإسلام في تغييره أو تبديله، فلم يحرم عليهم ما احلوه، ولم يحلل لهم ما حرموه، فحلالهم حلال، وحرامهم حرام في التعامل فيما بينهم، والإسلام يلزمهم بتشريعهم ان أرادوا للمسلمين التدخل في ذلك، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : (ان كل قوم دانوا بدين يلزمهم حكمه) (2).

ومن أهم تشريعاتهم التي أقرهم عليها الإسلام هي العبادة، فلهم حق التعبد حسبما يرونه واجبا في شريعتهم، ففي الصدر الأول للإسلام، وفد رؤساء نصارى نجران على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ  بالمدينة، فدخلوا مسجده عليهم ثيابهم الخاصة بهم، ولما حانت صلاتهم، قاموا يصلون في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فصلوا إلى المشرق وهو موضع قبلتهم، فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ للمسلمين: (دعوهم)، (3) فكانت لهم

____________________

1 ـ الدعوة إلى الإسلام: 123 إلى 331، ارنولد سيرتوماس، 1957 م، ط2.

2 ـ الاستبصار 4: 189، الشيخ الطوسي (ت 460 هـ )، دار الكتب الإسلامية، طهران 1390 هـ ،ط 3.

3 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 223 ـ 224.

 

 

ـ(330)ـ

الحرية الكاملة ولم يعترض أحد على صلاتهم أو قبلتهم.

وما يمارسونه من أعمال طبق تشريعهم فهم أحرار فيه وان كان محرما في الإسلام، ولم (يعترضوا، إلا ان يتجاهروا به، فيحمل معهم مقتضى شرع الإسلام، ولو فعلوا المحرم عندنا وعندهم، تخير الحاكم بين الحكم بينهم على مقتضى شرع الإسلام، وبين حملهم إلى حاكمهم) (1).

وظاهر ذلك مختص فيما لو تجاهروا بالمحرم، أو ترتب عليه حق للغير، وإلا فالمحرم المتستر به لا يؤاخذون عليه ان لم تكن فيه مفسدة عامة.

فلهم حق شرب الخمر سراً، ولا تترتب عليهم عقوبة كما تترتب على المسلم سواء شربها سرا أو علنا، فلا يحرم عليه الخمر لاعتقاده بحليته، فله حق الشرب دون معارضة في بيته أو بيعته أو كنيسته (2).

ولهم حق التملك للأشياء التي لا حق للمسلم تملكها حسب تشريعهم، ولا يحق لأحد ان يمنعهم من ذلك وان كانت لا تملك في تشريعنا (3).

ويقرون على تشريعهم في مسائل الزواج والنكاح ان اعتقدوا صحته وان كان فاسداً عند المسلمين، فكل ممارساتهم محكوم بصحتها، ولا يعترض عليهم في ذلك، أو يمنعون منها (4).

ويقرون في تشريع الإرث والوصايا حسب ما يرونه ولا يحق لأحد الاعتراض عليهم، وكذلك الحال في أمور الملكية (5).

_____________________________

1 ـ غاية المراد 1: 499.

2 ـ النهاية: 711، المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 256.

3 ـ تحرير الوسيلة 2: 64، الإمام الخميني، دار الصراط المستقيم، بيروت، 1403 هـ .

4 ـ المحرر في الفقه: 27، محيي الدين أبو البركات (ت 652 هـ ) دار الكتاب، بيروت، بدون تاريخ.

5 ـ المبسوط 6: 182، الكافي في الفقه: 375.

ـ(331)ـ

ولا قيود على ذلك إلا في حدود المساس بمصلحة المواطنين، وهي قيود غير مختصة بالأديان وأتباعهم، فهنالك قيود على المسلمين على حد سواء، وهم مقيدون بالقيود التي تحفظ السلامة العامة والسلام العام، فلا يطغى حق الفرد على حقوق المجتمع، ولا حقوق المجتمع على حق الفرد، وما عدا بعض القيود فهم أحرار في اتباع تشريعهم دون معارضة.

حرية التفكير وحق إبداء الرأي

منح الإسلام حرية التفكير، وحق إبداء الرأي لاتباع الأديان التي تعيش في ظل الدولة الإسلامية، وفي داخل المجتمع الإسلامي، وفقا لمتبنياته في تحرير العقل والتفكير، بإقامة الحجة والبرهان، فلا يمنع من ان يكون الإنسان حراً في تكوين رأيه غير مقلد ولا تابع، وان يعبر عن هذا الرأي عن طريق الحوار، وبالأسلوب الذي يريده، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الحق وهذه الحرية بالقول: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).

وأمر القرآن الكريم باستخدام الأسلوب الحسن في الجدال مع أصحاب الديانات، وهذا يقتضي منح الحرية لهم في إبداء وجهات نظرهم في مختلف القضايا والأحداث، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(2).

_______________________

1 ـ البقرة: 111.

2 ـ العنكبوت: 46.

ـ(332)ـ

والقرآن الكريم يدعو صراحة إلى حرية الحوار وإبداء وجهات النظر المختلفة، دون إكراه أو إرهاب فيقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(1).

فالإسلام لم يمنع غيره من إبداء وجهات النظر عن طريق الحوار العلمي الهادئ الذي يقوم على أسس سليمة عن طريق إقامة الدليل والحجة والبرهان، وهنالك قيود قيد بها الإسلام غير المسلمين طبقاً لمعاهدة التعايش السلمي التي اتفق عليها المسلمون مع من يعيش في ظل حكومتهم أو بلادهم، وهذه القيود لا تختص بهم بل هي شاملة لهم وللمسلمين حفاظا على المقدسات واحتراما للحرية العامة ومن هذه القيود:

1 ـ ان لا يذكروا كتاب الله بطعن ولا تحريف لـه.

2 ـ ان لا يذكروا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بتكذيب لـه ولا ازدراء.

3 ـ ان لا يذكروا دين الإسلام بذم لـه ولا قدح فيه (2).

وهذه القيود قيود موضوعية تنسجم مع بديهيات حق إبداء الرأي، وقد عاهد أصحاب الديانات المسلمين بعدم المساس بها، كما قيد الإسلام المسلمين بها في تعاملهم مع غيرهم، بأن لا يذكروا مقدساتهم بطعن ولا قدح، ويقتصر إبداء الرأي على طرح الأدلة والبراهين طلباً للحقيقة بعيدا عن الازدراء والطعن والتشويه البعيد عن أسس الحوار المتبعة في الديانات الإلهية والوضعية.

____________________________

1 ـ آل عمران: 64.

2 ـ الأحكام السلطانية للماوردي: 145، فقه الإمام جعفر الصادق 2: 269.

ـ(333)ـ

حرية الرأي في الصدر الأول للإسلام

كان غير المسلمين في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ سواء كانوا أهل كتاب ام كفارا يتمتعون بكامل حريتهم في التفكير وفي إبداء وجهات نظرهم وآرائهم دون ضغط أو إكراه، وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يستمع إلى تلك الآراء سواء كانت اقتراحات أو اعتراضات ام مجرد رأي، فحينما دعا بعضهم إلى الإسلام أجابه أبو صلوبا الفطيوني: (يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها).

وقال لـه رافع بن حريملة ووهب بن زيد: (يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه، وفجر لنا انهاراً نتبعك ونصدقك) (1).

وقال لـه بعض رؤساء اليهود في موقف آخر: (أتريد منا يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم).

فأجابهم ـ صلى الله عليه وآله ـ برفق وهدوء: (معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره) (2).

وفي جلسة ضمت رؤساء اليهود والنصارى، دعا فيه الرؤساء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ باتباعهم على دينهم، فقال لـه رؤساء اليهود: (ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدي)، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(3) (4).

_________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 196 ـ 197.

2 ـ المصر نفسه 2: 202.

3 ـ سورة البقرة: 135.

4 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 198.

ـ(334)ـ

وفي حوار دار بين أبي بكر وفنحاص اليهود، قال لـه أبو بكر: (اتق الله وأسلم، فوالله انك لتعلم ان محمد لرسول الله).

قال فنحاص: (ما بنا إلى الله من فقر، وأنه إلينا فقير)،فغضب أبو بكر فضرب وجهه ضربا شديدا، فشكاه فنحاص إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فعاتبه ـ صلى الله عليه وآله ـ على هذا الموقف، وعلى أثر ذلك نزلت الآية الكريمة: ﴿...وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾(1)(2).

ولم تقتصر الحرية في الرأي على أهل الكتاب بل شملت حتى المشركين من غيرهم، فحينما قدم وفد بني تميم على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ نادوه من وراء الحجرات: (اخرج إلينا يا محمد )، فخرج إليهم، فقالوا: (يا محمد جئناك نفاخرك، فاذن لشاعرنا وخطيبنا)، فأذن لهما ـ صلى الله عليه وآله ـ فبدأ خطيبهم بتبيان مفاخرهم ومآثرهم، ثم قام شاعرهم، فافتخر بشعره، وأمام هذا الموقف أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خطيبه وشاعره بإجابتهم، وتبيان فضائل الإيمان والإسلام، فاسلموا اثر ذلك حينما وجدوا تفوق خطيب الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وشاعره على خطيبهم وشاعرهم، وللمعاملة التي تلقوها من قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في مسجد وهو رئيس دولة، حين سمح لهم بإبداء وجهات نظرهم، بكل حرية، وبأمثل صور المسامحة والتكريم (3).

واستمر الخلفاء من بعده ـ صلى الله عليه وآله ـ على العمل بسنته مع اتباع الديانات المختلفة، وكان لهم حق إبداء الرأي، بل حق الاعتراض أحياناً، ففي عهد أبي بكر كانت

_____________________________

1 ـ آل عمران: 186.

2 ـ السيرة النبوية 2: 207 ـ 208.

3 ـ المصدر نفسه 2: 207 ـ 209.

ـ(335)ـ

اللقاءات مستمرة بينه وبين رؤساء وإتباع الديانات القائمة، وكانوا يسألونه عن مختلف القضايا والأحداث فيجيبهم، وإذا عجز عن الإجابة بعثهم إلى غيره من الصحابة (1).

وفي عهد عمر كان لهم مطلق الحرية في إبداء وجهات نظرهم، والاستفسار عن كثير من الآراء والمواقف، وكان يجيبهم عن كل شيء بمفرده أو يتعاون مع غيره من الصحابة في ذلك (2).

واعترض أهل الكتاب من أهل الشام أمام عمر على بعض المسلمين لتكليفهم فوق طاقتهم، فسمح لهم بالاعتراض بكل حرية، واستجاب لشكواهم وأمر المسلمين بعدم تكليفهم فوق طاقتهم (3).

وطلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة أن يكون عمر بن الخطاب هو المتولي لعقد الصلح، فاستجاب عمر لذلك وسار بنفسه إلى بيت المقدس (4).

وطالب بعض النصارى عثمان بن عفان بتخفيف الجزية عليهم، فاستجاب لهم واسقط عنهم مائتي حلة (5).

وجاء بعض رؤساء النصارى إلى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ معترضين على بعض المواقف، فمنحهم حرية الاعتراض واستجاب لما طلبوه منه (6).

وكان لهم مطلق الحرية في إبداء وجهات النظر، ومن ذلك قول أحد اليهود

_______________________________________

1 ـ ذخائر العقبى: 80، الطبري، مؤسسة الوفاء بيروت، 1410 هـ .

2 ـ الخصال: 456.

3 ـ المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 251.

4 ـ الكامل في التاريخ 2: 501

5 ـ المصدر نفسه 2: 293.

6 ـ كتاب الخراج:52.

ـ(336)ـ

لـه ـ عليه السلام ـ : (ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه ‍‍‍‍‍‍!)، فأجابه ـ عليه السلام ـ : (إنّما اختلفنا عنه لا فيه) (1).

وكان أهل الكتاب يسألونه ـ عليه السلام ـ عن مختلف المسائل، حتى عن الخلافات بين المسلمين فيجيبهم دون تردد أو إخفاء للحقيقة (2).

وإضافة إلى حرية الرأي كان لهم حق تعليم أبنائهم واتباعهم ما يعتقدونه من عقائد وان كانت باطلة عندنا، ولهم حق مطلق التعليم وفي جميع أصناف العلوم، فكانت لهم بيوت خاصة يتدارسون فيها أمور دينهم، ففي عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كانوا يجتمعون في بيت  يسمى بيت المدارس، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يدخل عليهم ويدعوهم إلى الإسلام (3) بالحكمة والموعظة الحسنة.

ونتيجة لحرية التعليم والتعلم كان بعض العلماء في تاريخ الإسلام من أهل الكتاب، قد ساهموا مساهمة فعالة في إرساء دعائم العلوم المختلفة بكل حرية، يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور: (... ولكن هذه الحقيقة في حد ذاتها شهادة للإسلام، ودليل على دوره الفعال في بناء الحضارة، فالإسلام هو الذي وفر لغير المسلمين جوا من الحرية والتسامح والعدالة جعلهم يقبلون على الإسهام في ذلك النشاط الحضاري بنفوس مطمئنة وقلوب راضية) (4).

ولأهل الكتاب حق كتابة التوراة والإنجيل وسائر الكتب الخاصة بهم، ولهم حق الطبع والنشر (5).

__________________________

1 ـ نهج البلاغة: 531، تحقيق د. صبحي الصالح.

2 ـ الخصال: 365 إلى 382.

3 ـ الروض الآنف 4: 354.

4 ـ تاريخ الحضارة الإسلامية 11: الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، دار السلاسل، الكويت 1406 هـ ، ط2.

5 ـ تحرير الوسيلة 2: 507.

ـ(337)ـ

حق الحماية:

من مصاديق إنسانية الإسلام ورحمته باتباع الأديان ان تبنّى حمايتهم من كل ألوان الاضطهاد والظلم والعدوان، بقسميه الخارجي والداخلي، فهم آمنون على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وتجلى هذا التبني منذ الأيام الأولى لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث كتب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كتاباً حدد فيه دستور العلاقات بين مواطني المدينة على اختلاف أديانهم، وقد جاء في هذا الكتاب: (... وانه من تبعنا من يهود فإن لـه النصرة والأسوة، غير مظلومين ولامتناصرين عليهم... وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم...) (1).

وكتب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمانا إلى يحنة بن رؤية صاحب ايلة جاء فيه: (هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤية وأهل أيلة... لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر...)(2).

وفي عهد عمر بن الخطاب لم يستطع المسلمون حماية أهل الكتاب لعدم قدرتهم العسكرية أمام حشود المعتدين، فكتب أبو عبيدة إلى ولاة المدن ان يردوا الجزية والخراج إلى أهلها، وأن يقولوا لهم: (إنّما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم اشترطتم علينا ان نمنعكم، وانا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط...) (3).

__________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 148 ـ 149.

2 ـ السيرة النبوية لابن هشام 4: 169.

3 ـ الخراج: 139، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت 182 هـ ) القاهرة، 1382 هـ .

ـ(338)ـ

وكان أهل الكتاب يتمتعون بجميع مظاهر الأمن في ظل الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء، حتى وصل الأمر إلى ان علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يتأسف لاعتداء البغاة على نساء المسلمين وأهل الكتاب على حد سواء، ففي حثه على ردع البغاة يقول: (... وقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقليها وقلائدها... فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا اسفاً ما كان به ملموما)(1).

وكتب الإمام محمد الباقر ـ عليه السلام ـ إلى أحد حكام بني أمية حول التعامل مع أهل الكتاب: (... ومن أقر بالجزية لم يتعد عليه، ولم تخفر ذمته، وكلف دون طاقته) (2).

ويبذل الجزية يكون لهم حقان (3).

أحدهما: الكف عنهم.

والثاني: الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين.

ويرى الفراء ان لأهل العهد إذا دخلوا دار الإسلام (الأمان على نفوسهم وأموالهم، ولهم ان يقيموا أقل من سنة بغير جزية، ولا يقيمون سنة إلا بجزية) (4).

ويرى ابن جماعة وجوب حمايتهم من العدوان الداخلي والخارجي فيقول: (فلهم علينا الكف عن أنفسهم وأموالهم ومعابدهم التي يجوز بقاؤها لهم وعن خمورهم مالم يظهروها... وعلينا دفع من قصدهم بسوء من المسلمين وغيرهم إذا كانوا في بلاد المسلمين) (5).

___________________________

1 ـ الكافي 5: 5.

2 ـ الكافي 5: 3.

3 ـ الأحكام السلطانية للماوردي: 143.

4 ـ الأحكام السلطانية للقراء: 161.

5 ـ تحرير الأحكام: 253، ابن جماعة (ت 733 هـ ) دار الثقافة، قطر، 1408 هـ .

ـ(339)ـ

والدفاع عنهم من أجل حمايتهم موضع اتفاق بين الفقهاء، ففي مذهب الشافعي يجب على الإمام (الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء كانوا مع المسلمين، أو كانوا منفردين عنهم في بلدهم... فإن لم يدفع عنهم حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم) (1).

ويقول النووي: (يلزمنا الكف عنهم وضمان ما تلف عليهم نفساً ومالاً ودفع أهل الحرب عنهم ) (2).

ويرى ابن قدامة وجوب حماية غير المسلمين من قبل الإمام، ورد العدوان عليهم فيقول: (وإذا عقد الذمة، فعلية حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة...) (3).

ويستشهد في مقام آخر يقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ : (إنّما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) (4).

حق التقاضي والحماية القانونية:

للمواطنين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين لهم حق التقاضي والحماية القانونية، لذا أوجب الفقهاء على القضاة الاستماع إلى دعواهم، والحكم بينهم سواء كانوا متحدي الدين أو مختلفين،

__________________________

1 ـ المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 256.

2 ـ منهاج الطالبين: 314، النووي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ .

3 ـ المغني 10: 663.

4 ـ المغني 10: 489.

ـ(340)ـ

قال ابن قدامة: (وان تحاكم مسلم وذمّي، وجب الحكم بينهما بغير خلاف، لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه) (1).

وغير المسلمين مخيرون في التحاكم إلى حاكمهم أو إلى حاكم المسلمين، فليس لأحد منعهم من التحاكم إلى حاكمهم، وإذا تحاكموا إلى حاكم المسلمين فمن حقه الحكم بينهم طبقاً لحكم الإسلام، وفي ذلك قال الفرّاء: (وان تشاجروا في دينهم واختلفوا في معتقدهم لم يعارضوا فيه ولم يكشفوا عنه، وان تنازعوا في حق ارتفعوا فيه إلى حاكمهم لم يمنعوا منه، وان ترافعوا فيه إلى حاكمنا حكم بينهم بما يوجبه دين الإسلام، وتقام عليهم الحدود إذا أتوها) (2).

وفي إقامة الحدود للحاكم حق الاختيار بين الحكم بينهم أو إرسالهم إلى حاكمهم ليحكم بينهم (3).

ويجب الحكم بالحق بين المسلم وغيره، أو بين غير المسلمين فيما بينهم، لا تمييز بينهم على أساس الانتماء العقائدي، فالجميع متساوون أمام القضاء، والدليل على ذلك ان جميع الآيات القرآنية الدالة على الحكم بالعدل بين الناس، لم تخصص في مورد معين وإنّما هي عامة بين المسلمين وغير المسلمين، ومن وصية الإمام علي ـ عليه السلام ـ لواليه على مصر يأمره (... بالعدل على أهل الذمة وبإنصاف المظلوم، وبالشدة على الظالم) (4).

وأكد الإمام علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ على العدالة في الحكم في رسالة الحقوق

______________________________

1 ـ المغني 10: 191.

2 ـ الأحكام السلطانية: 161.

3 ـ النهاية 696: الكافي في الفقه: 195، غاية المراد 1: 499.

4 ـ تحف العقول: 118.

ـ(341)ـ

فقال ـ عليه السلام ـ : (وأما حق أهل الذمة فالحكم فيهم ان تقبل منهم ما قبل الله وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إلى الله فيما طلبوا من أنفسهم واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل فإنه بلغنا انه قال: من ظلم معاهدا كنت خصمه) (1).

وكانت سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وسيرة الخلفاء قائمة على أساس العدل في الحكم، ففي عهده ـ صلى الله عليه وآله ـ اتهم الأنصار اليهود بقتل أحدهم فتحاكموا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فقال لهم ـ صلى الله عليه وآله ـ : الكم بينة؟ فقالوا: لا، فقال: افتقسمون؟ فقالوا: كيف نقسم على ما لم نره؟، فقال: فاليهود يقسمون، فقالوا: يقسمون على صاحبنا، وكانت نتيجة الحكم ان برأ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ اليهود من التهمة، وأعطى ديته من عنده (2).

واختصم مسلم ويهودي عند الخليفة الثاني، فرأى ان الحق لليهودي فحكم بالحق لصالحه (3).

وأروع صور ومظاهر العدل، ان الإمام علي ـ عليه السلام ـ في عهد خلافته، تحاكم مع نصراني عند القاضي شريح، فقال شريح للإمام ـ عليه السلام ـ : ما أرى ان نخرج من يده، فهل من بينة؟ فقال علي ـ عليه السلام ـ : صدق شريح، وحينما لمس النصراني العدالة بأفضل صورها قال: (أما أنا فأشهد ان هذه أحكام الأنبياء... أمير المؤمنين يجيء إلى

____________________________

1 ـ تحف العقول: 195 ـ 196.

2 ـ من لا يحضره الفقيه 4: 99، الطوسي، جماعة المدرسين 1404 هـ ، ط 2.

3 ـ الموطأ 2: 719، مالك بن أنس، دار أحياء التراث العربي، بدون تاريخ.

ـ(342)ـ

قاضيه، وقاضيه يقضي عليه)، واعترف ان الحق للإمام ـ عليه السلام ـ (1).

وبما ان القضاء يتطلب الشهادة، فقد أجاز رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض (2).

وفي حال الضرورة يجوز الشهادة وان اختلف الانتماء الديني، سئل الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ عن شهادة أهل الملل، قال: (لا تجوز إلا على أهل ملتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية، لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (3).

ويحلف أهل الكتاب كما يحلف المسلم ويترتب على الحلف الحكم النهائي بلا فرق بين المسلم وغيره، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : (اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلفوهم إلا بالله عز وجل) (4).

وفي قضايا الدّيات يتساوى المسلمون وغيرهم في ذلك، مع فارق في القدر المأخوذ، وإذا عجز الذمي عن دفع الدية لقتله للمسلم خطأ، فديّته على بيت المال (5) كما لو كان الذمي مسلماً.

نماذج من قوانين الحماية:

في القضاء الإسلامي هنالك قوانين خاصة بحماية غير المسلمين من الظلم والاضطهاد والاعتداء، فمن قتل أحدا من غير المسلمين فعليه دفع الدية، في حالة غشهم للمسلمين وإظهار العداوة لهم (6).

_______________________________

1 ـ مختصر تاريخ دمشق 10: 296.

2 ـ سنن ابن ماجة 2: 794، حديث: 2374.

3 ـ وسائل الشيعة 27: 390.

4 ـ الكافي 7: 451.

5 ـ النهاية 749، الكافي في الفقه: 395.

6 ـ من لا يحضره الفقيه 4: 124.

ـ(343)ـ

ويقتل المسلم إذا كان متعودا على قتل أهل الذمة، وان كانوا مظهرين العداوة للمسلمين (1).

وقد سنّ الإسلام قانون القصاص لردع الجريمة، ولذا فإن الإمام علي ـ عليه السلام ـ كان يقول: (يقتص للنصراني واليهودي والمجوسي بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم ببعض إذا قتلوا عمدا) (2).

وعن بريد العجلي قال: سألت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ عن رجل مسلم فقأ عين نصراني، فقال: ان دية عين النصراني أربعمائة درهم (3).

ووضع الإسلام عقوبات لردع الاعتداء على غير المسلمين من ظلم أو أذى أو سرقة، وفي ذلك أفتى الإمام الشافعي: (ومن سرق لهم من بلاد المسلمين أو أهل الذمة ما يجب فيه القطع قطعته.. واعزر من قذفهم، وأؤدب لهم من ظلمهم من المسلمين، وآخذ لهم منه جميع ما يجب لهم مما يحل أخذه... وإذا عرض لهم بما يوجب عليه في ماله أو بدنه شيئاً أخذته منه، وإذا عرض لهم بالأذى.. زجرته عنه، فإن عاد حبسته أو عاقبته عليه، وذلك مثل ان يريق خمرهم أو يقتل خنازيرهم...) (4).

ويقول أيضاً: (وولاة دماء النصارى كولاة دماء المسلمين.. ويجوز إقرارهم بينهم كما يجوز إقرار المسلمين بعضهم لبعض، وكل حق بينهم يؤخذ لبعضهم من بعض، كما يؤخذ للمسلمين بعضهم من بعض) (5).

_______________________

1 ـ من لا يحضره الفقيه : 4 / 124 ، الاستبصار : 4 / 272.

2 ـ الكافي : 7 / 309.

3 ـ الكافي : 7 / 310.

4 ـ الام : 4 / 208 ، الشافعي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1393 هـ ، ط 2 .

5 ـ الام : 4 / 212.

ـ(344)ـ

ويرى الإمام احمد بن حنبل ان: (جراحات اليهود والنصارى والمجوس على قدر دياتهم من ديات المسلمين) (1).

وهنالك قوانين أخرى لحماية غير المسلمين سنذكرها في الحقوق القادمة.

الحقوق الاقتصادية والمالية:

ضمن الإسلام لغير المسلمين حقوقهم الاقتصادية والمالية، وحرّم الاعتداء على أموالهم، بالسرقة والغصب والغش والاحتيال، ولم يأخذ الإسلام منهم غير الجزية وهي تدفع من اجل الدفاع عنهم وحمايتهم (2).

وراعى الإسلام في أخذ الجزية التفاوت الاقتصادي بينهم، فقرر إعفاء العاجزين عن دفعها، وإعفاء الصبيان والنساء والعبيد، والشيوخ المسنين وأصحاب العاهات الجسدية والعقلية، وإعفاء مطلق الفقراء فلا تؤخذ منهم، وهذا محل اتفاق الفقهاء من جميع المذاهب (3).

وأمر الإسلام بحسن التعامل عند أخذ الجزية والاكتفاء بأخذ اليسير من أموالهم وترك ما يحتاجون إليه، ومن ذلك ان عليا ـ عليه السلام ـ أمر جباة الجزية بأن لا يضربوا أحد ولا يبيعوا لهم رزقا ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعملون عليها، فقال لـه أحدهم: (يا أمير المؤمنين اذن ارجع إليك كما ذهبت من عندك)، فقال ـ عليه السلام ـ : (وان رجعت كما ذهبت ويحك إنّما امرنا ان نأخذ منهم العفو ـ يعني

_______________________

1 ـ أحكام أهل الملل: 325، أبو بكر الخلال، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ .

2 ـ تحرير الأحكام: 253.

3 ـ الكافي 3: 567، الكافي في الفقه: 249، الوسيلة: 205، المهذب في فقه الإمام الشافعي2: 252، المحرر في الفقه 2: 184، المغني 10: 572، تحرير الأحكام 252.

ـ(345)ـ

الفضل ـ ) (1).

وفيما يلي نستعرض تلك الحقوق:

أولاً: العدالة في أخذ الجزية:

لا يجوز للمسلمين أخذ ما لم يتفق عليه في عقد الجزية، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (انكم لعلكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم، ويصالحونكم على صلح، فلا تأخذوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يحل لكم) (2).

فيحق للمسلمين أخذ أموالهم حسب المعاهدة، وما سوى ذلك فلا يجوز فعن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم ومواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: لا (3).

وسُئل الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ عن حق المسلمين في أموال أهل الذمة قال: (الخراج فإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم) (4).

وأفتى الفقهاء بذلك، قال المحقق الكركي: (أرض الصلح وهي كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية فيلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع أو غير ذلك، وليس عليهم شيء سواه) (5).

ويجب العمل على طبق الشروط المتفق عليها، قال الإمام الخميني: (لو عين في عقد الجزية على الرؤوس لا يجوز بعده أخذ شيء من أراضيهم وغيرها، ولو

________________________

1 ـ السنن الكبرى 9: 205، البيهقي، دار أحياء التراث العربي، بيروت، 1414 هـ .

2 ـ الأموال: 157، أبو عبيد (ت 224 هـ ) دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ .

3 ـ الكافي 5: 568.

4 ـ الكافي 5: 567.

5 ـ رسائل المحقق الكركي 1: 242.

ـ(346)ـ

وضع على الأراضي لا يجوز بعده الوضع على الرؤوس، ولو جعل عليهما لا يجوز النقل إلى إحداهما، وبالجملة لابد من العمل على طبق الشروط) (1).

ويرتب الإمام الخميني آثار الصحة على العقد وان كان أحد طرفي العقد هو الحاكم الجائر (2) حفاظا على حقوق أهل الذمة.

وهنالك ضرائب إضافية يكون فهيا المسلم وغيره على حد سواء مراعاة للظروف الاقتصادية والمصلحة العامة، فعن زياد بن حدير قال: (امرني عمر أن آخذ من تجار أهل الذمة مثل ما آخذ من تجار المسلمين) (3).

وتسقط الجزية في حال عدم قدرة المسلمين على حمايتهم، أو تبنوا بنفسهم الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم ـ كما مر سابقا ـ .

ثانياً: الفصل بين الموقف السياسي وحق الملكية:

فصل الإسلام بين الموقف السياسي وحق الملكية، فالحق يبقى لصاحبه وان اتخذ موقفا سياسيا معاديا للإسلام والمسلمين، فبعد ان نقض اليهود عهدهم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خطب ـ صلى الله عليه وآله ـ المسلمين قائلاً: (أيها الناس أنكم قد أسرعتم في خطائر اليهود، ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها) (4).

وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو غيرها ثبت لـه الآمان في نفسه وماله، ويكون حكمه في ضمان النفس والمال وما يجب عليه من الضمان والحدود حكم المهادن (5).

_______________________

1 ـ تحرير الوسيلة 2: 449.

2 ـ تحرير الوسيلة 2: 501.

3 ـ الأموال: 530.

4 ـ كنز العمال 4: 363.

5 ـ المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 263.

ـ(347)ـ

وإذا دخل الحربي دار الإسلام بغير عقد أمان فادعى انه تاجر ووجد معه متاع يبيعه، قبل منه ذلك وكان آمناً على ماله ونفسه (1).

وإذا لحق المعاهد بدار الحرب فيجب إعادة أملاكه إليه وليس للمسلمين غنيمتها (2).

وإذا دخل المسلم دار الحرب للتجارة، فلا يجل لـه ان يتعرض لأموال المشركين أو المحاربين المسلمين لأنه ضمن ان لا يتعرض لهم بالاستئمان (3).

فحق الملكية مفصول عن الموقف السياسي والعسكري، وهذا ما يجسد إنسانية الإسلام في تعامله مع غير المسلمين فلا يبيح التعرض لأموالهم وممتلكاتهم وإن أعلنوا العداء ونقضوا العهود.

ثالثاً: إعادة الحقوق المغتصبة:

حرم الإسلام الاعتداء على أموال أهل الذمة بل مطلق الناس، ولذا سن قانون الضمان في حال الاعتداء من غصب أو سرقة أو غش أو احتيال، فمن أتلف من المسلمين أو من غيرهم مالاً لهم فعليه ضمانه (4).

ويشمل الضمان حتى الملكية التي لا اعتبار لها في الإسلام كالخمر والخنزير أو آلات اللهو، فلو (اتلف لذمي خمراً أو آلة لهو، ضمنها المتلف ولو كان مسلماً، ويشترط في الضمان الاستتار) (5).

و (خمر الكافر المستتر محترم يضمن بالغصب بقيمته عند مستحليه، وكذلك

____________________________

1 ـ المحرر في الفقه 2: 128.

2 ـ الام 4: 183 ـ 184.

3 ـ الهداية 2: 152.

4 ـ المغني 10: 573.

5 ـ شرائع الإسلام 4: 286.

ـ(348)ـ

في الخنزير) (1).

وكان المسلمون لا يعتدون على أملاكهم وأموالهم وان حدث ذلك ضمن من قبلهم، ولم يستثمر قادة الدولة الإسلامية الظروف لأخذ بعض أموالهم منهم، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يأخذ بعض ما يحتاج عارية مضمونة وبرضى من صاحبه، فقد طلب ـ صلى الله عليه وآله ـ من صفوان بن أمية مئة درع، فقال: اغضباً يا محمد؟ قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : لا، ولكن عارية مضمونة، قال: لا بأس بهذا (2).

وكانت سيرة الخلفاء قائمة على هذا الأساس، فقد اتى رجل من أهل الذمة إلى عمر بن الخطاب شاكيا من اعتداء بعض المسلمين على عنبه، فخرج عمر حتى لقي رجلا من أصحابه يحمل ترساً عليه عنب، فاعتذر ذلك الرجل بالمجاعة والاضطرار، فأمر عمر للذمي بقيمة عنبه (3).

وقد افتى الفقهاء ببقاء الحق وعدم سقوطه ووجوب الضمان في مختلف الظروف والأحوال، فإن (اقترض حربي من حربي مالاً ثم دخل إلينا أو أسلم، فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل... فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالاً أو اقترض منهم مالاً، وعاد إلى دار الإسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض) (4).

ويبقى الحق وان تغير الموقف السياسي والعسكري فلو (اقترض حربي من

_____________________________

1 ـ اللمعة الدمشقية: 234.

2 ـ اعلام الورى: 119.

3 ـ كنز العمال 4: 490.

4 ـ المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 264.

ـ(349)ـ

حربي أو اشترى منه ثم أسلما أو قبلا جزية دام الحق) (1).

رابعاً: حق العمل

غير المسلمين لهم حق العمل في بلاد المسلمين ولا يكرهون على اختيار عمل معين، فهم أحرار في ذلك، ولا قيود عليهم في العمل، وان وجدت فهي على حد سواء بين المسلمين وبينهم، ومنها الأعمال التي تضر بالمصلحة العامة، أما في الأمور المباحة فهم أحرار، قال أبو يوسف: (ويتركون يسكنون في أمصار المسلمين وأسواقهم يبيعون ويشترون ولا يبيعون خمرا ولا خنزيرا) (2).

وهذا البيع إنّما هو حرام على المسلمين، أما فيما بينهم فلا قائل بحرمته أو منعه، وقد جوز الإسلام لهم هذا الحق وجوز مشاركتهم للمسلم في الأمور التجارية والزراعية وغيرها، فعن إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ عن قرية لأناس من أهل الذمة لا ادري اصلها لهم أم لا، غير أنها في أيديهم وعليهم خراج فاعتدى عليهم السلطان، فطلبوا إلي فأعطوني أرضهم وقريتهم على ان اكفيهم السلطان بما قل أو أكثر، ففضل لي بعد ذلك فضل بعد ما قبض السلطان ما قبض، قال ـ عليه السلام ـ : (لا بأس بذلك لك ما كان من فضل) (3).

فقد أجاز ـ عليه السلام ـ صحة العمل مع أهل الذمة من قبل المسلم.

وعن إسماعيل بن فضل الهاشمي قال: سألت الصادق ـ عليه السلام ـ عن رجل اشترى منهم أرضا من أراضي الخراج فبنى فيها أو لم يبن، غير ان أناسا من أهل الذمة نزلوها، أله ان يأخذ منهم أجور البيوت إذا أدوا جزية رؤوسهم، قال ـ عليه السلام ـ :

________________________

1 ـ منهاج الطالبين: 310.

2 ـ الخراج: 127.

3 ـ الكافي 5: 270.

ـ(350)ـ

 (يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال) (1).

والمشاركة من قبل المسلم مع غيره جائزة ولكنها مكروهة، وترتفع الكراهة إذا كانت المعاملة تجارية وحضور المسلم فيها، فعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ انه قال: (ان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي إلا ان تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها المسلم) (2).

ووجه الكراهة هو عدم التزام كثير من غير المسلمين بأحكام الإسلام في حرمة الربا وسائر المعاملات المحرمة.

ولم يحرم الإسلام حتى مهنة الرضاعة بين غير المسلمة والطفل المسلم، فجوز إرضاع الكتابية للطفل المسلم بشرط ان تمتنع من شرب الخمر (3).

وكان أهل الكتاب وخصوصا اليهود لهم مهن معروفة عند المسلمين، فقد كانوا خياطين وصباغين واساكفة وخزارين (4).

وكان لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خادم يهودي يخدمه مقابل أجرة (5).

وكانت الدولة الإسلامية تستعين بهم في الأعمال والوظائف التي لم يشترط فيها الإسلام، يقول عبد الكريم زيدان: (ان اختلاف الذميين مع المسلمين في العقيدة لم يقم حائلا دون إشراكهم في إدارة شؤون الدولة وتكليفهم بوظائفها) (6).

 وقد شهد بعض المستشرقين بذلك ومنهم آدم متز حيث يقول: (من الأمور

___________________________

1 ـ الكافي 5: 282.

2 ـ الكافي 5: 286.

3 ـ الكافي 6: 42.

4 ـ الخراج: 256.

5 ـ نيل الاوطار 8: 227، الشوكاني، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ.

6 ـ أحكام الذميين: 82، عبد الكريم زيدان، 1963 م، ط 1.

ـ(351)ـ

التي نعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية) (1).

خامساً: حق الضمان الاجتماعي وتكفل الدولة الإسلامية:

تبنى الإسلام التكافل الاجتماعي، وإشباع حاجات الفقراء والمستضعفين، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين ماداموا يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، وقد قامت السيرة على ذلك، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يتفقد أحوال الفقراء والمحتاجين من المسلمين وغيرهم وينفق عليهم، فعن سعيد بن المسيب قال: (ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ تصدق صدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم) (2).

وانه ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يمنع نساءه من التصدق على غير المسلمين، فقد تصدقت صفية على قرابتها من اليهود بما يقدر بثلاثين ألف درهم (3).

وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يحث على إطعام الجيران وان كانوا غير مسلمين، فقد ذبحت لـه شاة في داره، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي ؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) (4).

وقد خصص بعض الخلفاء عطاء من بيت المال للمستضعفين من أهل الذمة، فقد روي ان عمر بن الخطاب مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك ان كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه (5).

________________________

1 ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1: 105، آدم متز، القاهرة، 1967 م.

2 ـ الأموال: 605.

3 ـ الأموال: 605.

4 ـ جمع الفوائد 3: 102، حديث 8277.

5 ـ الأموال 50: 51.

ـ(352)ـ

وروي أيضاً ان عليّاً ـ عليه السلام ـ مر بشيخ مكفوف كبير يسأل الناس، فقال ـ عليه السلام ـ : ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال ـ عليه السلام ـ : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال (1).

وعن عمرو بن أبي نصر قال: قلت لأبي عبدالله ـ عليه السلام ـ : ان أهل السواد يقتحمون علينا، وفيهم اليهود والنصارى والمجوس، فنتصدق عليهم، فقال: نعم (2).

وكان عمرو بن ميمون، وعمرو بن شرحبيل، ومرة الهمداني، يعطون الرهبان من صدقة الفطر (3).

ويرى محمد جواد الحسيني العاملي ان (الأقرب جواز الصدقة على الذمي كما في اللمعة، وظاهر إطلاقهما انه لا فرق فيه بين الرحم والأجنبي، وقد نصّ على جوازها عليه وان كان أجنبيا في: الشرائع والتذكرة والتحرير والإرشاد والتبصرة والدروس والروض والمسالك والروضة والمفاتيح، وجامع المقاصد) (4).

وتبنى القانون الإسلامي دفع الدّية عن الذمي العاجز من بيت المال (5) وقد تقدّم ان المسلمين كانوا لا يأخذون الجزية من الأطفال والفقراء والشيوخ والمرضى والنساء، وكان الخلفاء يوصون بعدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم

________________________________

1 ـ تهذيب الأحكام 6: 293.

2 ـ الكافي 4: 14.

3 ـ الأموال: 606.

4 ـ مفتاح الكرامة 9: 153، محمد جواد الحسيني العاملي (ت 1226 هـ ) مؤسسة آل البيت، قم ـ بدون تاريخ.

5 ـ الكافي في الفقه: 395.

ـ(353)ـ

في دفع الجزية، والتساهل معهم بأخذ ما زيد على مؤونتهم (1).

وقد ذهب عدد من الفقهاء إلى ان ما يؤخذ من زكاة المسلمين يزيد على ما يؤخذ من الذميين في حين يحظى الجميع بحماية الدولة الإسلامية ورعايتها على أساس العدل والرحمة والمساواة (2).

ولو قدر للإسلام ان يطبق في الواقع، لتمتع جميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين بالرفاه والرخاء، ولزال شبح الفقر والعوز، فبالإضافة إلى كفالة الدولة الإسلامية، من المنهج الإسلامي على التكافل الاجتماعي، والمساهمة في إشباع حاجات الفقراء والمساكين، ابتداءً بالأرحام ثم الجيران ثم المجتمع، وقد أثبتت السيرة التاريخية للمسلمين في القرون الماضية تمتع أهل الذمة بكامل حقوقهم في ظل الدولة الإسلامية حيث تبنت حق الضمان لهم أسوة بالمسلمين.

الحقوق المدنية وإقرار العقود والإيقاعات

أقر الإسلام جميع العقود والإيقاعات التي تنعقد بين غير المسلمين ما داموا يعتقدون بصحتها، وإن كانت مخالفة لأحكام الإسلام، باستثناء ما يؤدي إلى إضعاف المسلمين أو تفتيت كيانهم، كالعقود العسكرية وما شابه ذلك، وفيما يلي نستعرض بعض تلك العقود والإيقاعات التي أقرها الإسلام.

أولاً: إقرار الزواج والطلاق:

اقر الإسلام زواج غير المسلمين فيما بينهم سواء كانوا كفارا ام أهل كتاب، وان كان مخالفا للشروط المتبعة في الشريعة الإسلامية.

_____________________________

1 ـ الأموال: 48.

2 ـ دائرة المعارف الإسلامية 1: 59، بيروت، 1973 م، ط 2.

ـ(354)ـ

فقد أقر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ زواج المشركين (1) ولم يحدثنا التاريخ ان المسلمين الأوائل الذين تحولوا من الشرك إلى الإسلام قد امروا بإجراء عقد جديد، وإنّما اقروا على عقدهم في حال الشرك، واستمرت سيرة الخلفاء على ذلك، وكما يقول الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ : (ان لكل أمة نكاحاً) (2).

وسئل عن رجل هاجر وترك امرأته مع المشركين ثم لحقت به بعد أيمسكها بالنكاح الأول أو تنقطع عصمتها؟ فأجاب: (يمسكها وهي امرأته) (3).

والإقرار على الزواج يكون مطلقاً وان كان المهر خمراً أو خنزيراً لاعتقادهم بصحة ذلك، سئل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : عن رجلين من أهل الذمة أو من أهل الحرب يتزوج كل واحد منهما امرأة وأمهرها خمراً وخنازير ثم أسلما، فقال ـ عليه السلام ـ : النكاح جائز حلال لا يحرم من قبل الخمر ولا من قبل الخنازير.

وان اسلما قبل دفع المهر فيدفع عوضه، لأنه لا مالية للخمر والخنزير عند المسلمين، فالإمام ـ عليه السلام ـ يقر زواج غير المسلم ذمياً كان أم حربيا.

وإقرار زواج غير المسلمين محل اتفاق الفقهاء وأئمة المذاهب، فالإمام أبو حنيفة يرى أنه: (إذا تزوج الكافر بغير شهود أو في عدة كافر، وذلك في دينهم جائز ثم اسلما أقرّا عليه) (4).

وقال الإمام الشافعي: (وعقد نكاح أهل الذمة فيما بينهم.. لم نفسخه، سواء كان بولي أو غير ولي وشهود أو غير شهود) (5).

____________________________

1 ـ الام 5: 55.

2 ـ وسائل الشيعة 16: 37.

3 ـ الكافي 5: 435.

4 ـ الهداية 1: 219.

5 ـ الام 5: 56.

ـ(355)ـ

وعنده ان الحربي والذمي والموادع على حد سواء في النكاح وما يتعلق به من مهر وطلاق وظهار وايلاء (1).

والإقرار يكون تبعا لاعتقاد حليته من قبل غير المسلمين، قال أبو البركات: (الكفار في صحة النكاح بينهم وفساده كالمسلمين، لكن نقرهم على فاسده إذا اعتقدوا حله... فإن قهر حربي حربية فوطأها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه) (2).

وأقرا غير المسلمين في ذلك من الثواب في الشريعة الإسلامية وليس محلا للاجتهاد من قبل الفقهاء، قال الشيخ الطوسي: (فإن أنسابهم وأسبابهم، وان لم تكن جائزة في شريعة الإسلام، فهي جائزة عندهم، وهي نكاح على رأيهم ومذهبهم، وقد أمرنا ان نقرهم على ما يرونه من المذاهب، ونهينا عن قذفهم بالزنا) (3).

ولا يشترط في إقرار نكاح غير المسلمين ان يكون الزوجان متحدي العقيدة، قال الإمام الخميني: (العقد الواقع بين الكفار لو وقع صحيحا عندهم وعلى طبق مذهب يترتب عليه آثار الصحة عندنا، سواء كان الزوجان كتابيين أو وثنيين أو مختلفين) (4).

ومن الآثار العملية لهذا الإقرار هو ترتب الأنساب والإرث والنفقة وغير ذلك.

______________________

1 ـ الام 5: 50.

2 ـ المحرر في الفقه: 27.

3 ـ النهاية: 683 ـ 684.

4 ـ تحرير الوسيلة 2: 285.

ـ(356)ـ

ثانياً: الإرث:

اقر الإسلام حق الإرث بين غير المسلمين، فلو مات أحدهم انتقلت أمواله إلى الورثة، ولا سبيل لأحد على أموالهم.

واختلف الفقهاء في الشروط اللازمة لإقرار الإرث على ثلاثة أقوال:

الأول: انهم يورثون بالأنساب والأسباب الصحيحة الجائزة في شرع الإسلام.

الثاني: انهم يورثون بالأنساب على كل حال، ولا يورثون بالأسباب إلا بما هو جائز في شريعة الإسلام.

الثالث: انهم يورثون من الجهتين معا سواء كان مما يجوز في شرع الإسلام أو لا يجوز.

ويرى الشيخ الطوسي ان الرأي الثالث هو المعتمد عليه، وبه تشهد الروايات عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل البيت ـ عليهم السلام ـ (1).

وهذا الرأي هو الموافق للسيرة ولآراء الفقهاء في إقرار نكاح غير المسلمين، لأن الإرث يترتب على النكاح، إضافة إلى إقرار الإسلام لأغلب عقودهم التي تكون أسبابا للإرث.

ولذا فإن المجوسي الذي يستحل نكاح بعض المحارم يورث بجميع (قراباته التي يدلي بها، ما لم يسقط بعضها، ويورثون أيضاً بالنكاح وان لم يكن سائغاً في شرع الإسلام) (2).

_______________________

1 ـ النهاية 683.

2 ـ الرسائل العشر: 279.

ـ(357)ـ

ويرث الكافر بعضهم بعضا وان اختلفت جهات كفرهم (1).

ولو اسلم الذمي ثم عاد إلى دينه السابق ثم مات فميراثه لأبنائه (2).

وتبقى المواريث محفوظة وان تبدل الموقف السياسي من قبل الذمي، فإذا نقض العهد والتحق بدار الحرب فأمان أمواله باقٍ، فإن مات ورثه وارثه الذمي أو الحربي (3).

ثالثا: الوصية:

اقر الإسلام وصايا غير المسلمين، فمن أوصى منهم بالتصدق في ماله أو أنفاقه في مورد معين أقرت وصيته، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ عن رجل أوصى بماله في سبيل الله فقال: (أعطه لمن أوصى به لـه وان كان يهوديا أو نصرانيا...) (4).

ولم يجوز الإسلام تغيير محتوى وصية غير المسلمين ولا إلغائها أو إنفاقها ـ ان كانت مالا ـ في غير ما وضعت لـه، عن الريان بن شبيب قال: أوصت أختي لقوم نصارى فراشين بوصية، فقال أصحابنا: أقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك، فسألت الرضا ـ عليه السلام ـ فقلت: ان أختي أوصت بوصية لقوم نصارى وأردت ان اصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين؟ فقال: (امض الوصية على ما أوصت به) (5).

__________________________

1 ـ الكافي في الفقه: 375.

2 ـ الاستبصار 4: 193.

3 ـ شرائع الإسلام 4: 186.

4 ـ الكافي 7: 14.

5 ـ الكافي 7: 16.

ـ(358)ـ

ومن يبّدل محتوى الوصية يكون ضامنا ولابد ان تنفق في المورد الذي خصصت فيه، فقد روي ان رجلا مجوسيا أوصى للفقراء بشيء من ماله فأخذه قاضي نيسابور فجعله في فقراء المسلمين، فسئل الإمام علي الرضا ـ عليه السلام ـ عن ذلك فقال: (ان المجوسي لم يوص لفقراء المسلمين ولكن ينبغي ان يؤخذ مقدار ذلك المال من مال الصدقة فيرد على فقراء المجوس) (1).

ومن الرواية الثانية يستفاد ان وصية المسلم للذمي جائزة، وقد أقر الفقهاء ذلك (2) باستثناء الوصية للحربي فإنها غير جائزة وان كان من أرحام الموصي (3).

ويتدخل الحاكم المسلم ان حدث إجحاف أو ظلم في وصية غير المسلم من حيث حرمان الورثة من التركة، قال الإمام أحمد بن حنبل ـ حول نصراني أوصى بماله كله ان يتصدق به ـ : (إذا ارتفعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام، فإذا أوصى بأكثر من الثلث ردّ ذلك إلى الثلث إلا ان يجيز ذلك الورثة) (4).

ووصية الذمي تنفذ من قبل أبناء دينه، وليس للمسلمين الحق في التدخل لمنعها، إلا في حالة الوصية بخمر أو خنزير لمسلم، فلو أوصى بعمارة هيكل في أرض يصح فيها ذلك جاز، ولا يتعرض لهم المسلمون إذا أرادوا تنفيذها، ولو أوصى بعمارة قبور أنبيائهم جاز، وهو مندوب للمسلم فلا مانع من جوازه للكافر (5).

وأفتى الإمام الخميني (رض) بصحة وصية الذمي في الإنفاق من أمواله على

_________________________________

1 ـ الكافي 7: 16.

2 ـ أحكام أهل الملل: 227، اللمعة الدمشقية: 179.

3 ـ اللمعة الدمشقية: 179.

4 ـ أحكام أهل الملل: 227.

5 ـ مفتاح الكرامة 9: 153.

ـ(359)ـ

الأمور المتعلقة بشعائرهم وعباداتهم، وليس للمسلمين الاعتراض إذا كان الموصى إليه من أبناء دينه فقال (رض): (لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة أو بيت نار معبداً لهم ومحلا لعباداتهم الباطلة، ورجع الأمر إلينا لم يجز لنا إنفاذها، وكذا لو أوصى بصرف شيء في كتابة التوراة والإنجيل وسائر الكتب الضالة المحرفة وطبعها ونشرها... ولو لم يرجع الأمر إلينا ... ليس لنا الاعتراض إلا إذا أرادوا بذلك تبليغ مذاهبهم الباطلة بين المسلمين وإضلال أبنائهم) (1).

رابعاً: الصدقة والوقف:

اقر الإسلام صدقة ووقف غير المسلم، ولم يسمح بالتدخل في عدم تنفيذها من قبل غير المسلمين، أو تبديل محتواها، أو صرفها عن المورد الذي وضعت فيه، فيجوز لهم ان (يتصدق بعضهم على بعض وعلى مصالحهم وبيوت عباداتهم) (2).

ولو وهب الذمي أو تصدق أو وقف شيئا من أرض الصلح على شخص آخر انتقلت الأرض إليه (3).

وإذا كان الوقف على أحد المواضع التي يتقربون فيها إلى الله تعالى، كان وقفه صحيحا، وإذا وقف وقفا على الفقراء كان ذلك الوقف ماضيا في فقراء أهل ملته دون غيرهم من سائر أصناف الفقراء (4).

_________________________

1 ـ تحرير الوسيلة 2: 507.

2 ـ الكافي في الفقه: 326.

3 ـ الكافي في الفقه: 260، وسائل المحقق الكركي 1: 242.

ـ(360)ـ

خامساً: العتق والمكاتبة والتدبير:

أقرّ الإسلام قضايا العتق والمكاتبة والتدبير من قبل غير المسلمين، ورتب الآثار العملية عليها، ولم يبخس حقوقهم في ذلك، لأن لهم أملاك تامة صحيحة سواء كانوا أهل ذمة أو محاربين، وعلى هذا الأساس (إذا كاتب الحربي عبداً  لـه صحت كتابته، لأنه عقد معاوضة، والحربي والمسلم فيه سواء ) (1).

وتثبت حقوق الولاء المتعارف عليها بين المعتق والمعتق، فإذا (اعتق اليهودي أو النصراني عبدا على دينهما، ثم أسلم المعتق... وأسلم الذي اعتقه رجع إليه الولاء، لأنه قد كان ثبت لـه الولاء يوم أعتقه) (2).

وإذا دبّر الذمي عبداً لـه فاسلم العبد يحال بينه وبين العبد و (يخارج على سيده النصراني.. فإن هلك النصراني وعليه دين، قضى دينه من ثمن المدبر) (3).

ذكر الإمام مالك النصراني مثالا لمطلق غير المسلم.

وقال الإمام الشافعي: (وان جاءنا عبد أحدهم قد أعتقه اعتقنا عليه وان كاتبه كتابة جائزة عندنا أجزناها لـه) (4).

وأروع مظاهر الاعتراف بحقوق الأديان وإقرارهم على حقوقهم ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمضى عقد المكاتبة بين سلمان الفارسي وعثمان بن الاشمل اليهودي بغرس ثلاث مئة نخلة (5).

_______________________

1 ـ المبسوط 6: 129.

2 ـ الموطأ 2: 785.

3 ـ الموطأ 2: 815.

4 ـ الام 4: 211.

5 ـ مختصر تاريخ دمشق 10: 37.

ـ(361)ـ

صيانة الكرامة وحماية الأعراض

الإنسان في نظر الإسلام مخلوق متميز عن سائر المخلوقات، وهو مخلوق مكرم مهما كان انتماؤه العقائدي، لذا نجد إن آيات التكريم الواردة في القرآن الكريم لم تكن مختصة بالإنسان المسلم بل هي عامة في جميع أصناف الناس وعلى مختلف عقائدهم ودياناتهم، ولذا أكد الإسلام على وجوب صيانة الكرامة، وحرمة الإيذاء الأدبي للإنسان، ووضع تشريعاته وقوانينه لحماية الكرامة وحماية الأعراض، وكان الناس يتمتعون في ظل الدولة الإسلامية وفي ظل مجتمع المسلمين بكراماتهم، وحماية أعراضهم.

وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم) (1).

وكانت سيرته قائمة على تكريم غير المسلمين، فقد أكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ بنت حاتم الطائي حينما وقعت في أسر المسلمين، وكساها وأعطاها نفقة وأطلقها من الأسر (2)، وحينما قدم عدي بن حاتم رحب به ـ صلى الله عليه وآله ـ وأضافه في بيته واحسن ضيافته وهو لم يسلم في حينها (3).

وكانت سيرة الخلفاء قائمة على أساس تكريم بني الإنسان، فحينما وقعت بنات الملوك في الأسر قال علي ـ عليه السلام ـ لعمر بن الخطاب: (هؤلاء لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن ما اخترنه) (4) فاختارت كل واحدة منهن شخصية من شخصيات المسلمين من الصحابة وأبناء الصحابة، ولم يكن التكريم مخصوصا

______________________

1 ـ مستدرك الوسائل 11: 132.

2 ـ السيرة النبوية لابن هشام 4: 226.

3 ـ المصدر نفسه 4: 227.

4 ـ مستدرك الوسائل 11: 132.

ـ(362)ـ

بمن لـه جاه في اتباع دينه، وإنّما كان تكريما عاما لجميع من ارتبط بعلاقة مع المسلمين.

وقد حرم الإسلام جميع المظاهر التي يفهم منها الحط من كرامة الآخرين كالسخرية والاستهزاء والتحقير والتنابز بالألقاب والتعيير، والحرمة مطلقة لم تقيد بانتماء الإنسان إلى الإسلام، فجاءت الآيات والروايات مطلقة.

وحرم الإسلام الخداع والمدالسة لأنها استهانة بالكرامة، فقد أوصى الإمام علي ـ عليه السلام ـ إلى أحد ولاته بأهل الذمة خيرا فقال: (... وقد جعل الله عهده وذمته أمنا افضاه بين العباد برحمته وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا خداع ولامدالسة ولا أدغال فيه) (1).

وفيما يلي نستعرض بعض مظاهر صيانة الكرامة وحماية الأعراض في المنهج الإسلامي:

أولاً: حرمة دخول البيوت دون استئذان:

لا يحل للمسلم ان يدخل بيتاً دون استئذان من أهله سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، وقد جاءت الآية الكريمة مطلقة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا...﴾(2).

وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (ان الله عز وجل لم يحل لكم ان تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن منهم، ولا ضرب نسائهم) (3).

فالبيوت في الإسلام لها حرمة لذا نجد ان كثيرا من أحكام القضاء تجوز

_________________________

1 ـ تحف العقول: 97.

2 ـ سورة النور: 27.

3 ـ السنن الكبرى 9: 204.

 

ـ(363)ـ

استخدام القوة في حالة التعرض لحرمة البيت، ولم يختص الجواز بالمسلم، فلغير المسلم حق الدفاع عن حرمة بيته.

ويلحق بحرمة دخول بيوتهم دون استئذان حرمة دخول أماكنهم الخاصة بهم كدور العبادة وغيرها إلا بإذنهم إلا في الضرورات لأنها تبيح المحظورات، وليس لأحد من المسلمين أن يتبع شيئاً من أمورهم الخاصة بهم (1).

ثانياً: حرمة قذف غير المسلمين:

حرّم الإسلام التعرض للأعراض بقذف وشبهه، ولا فرق في ذلك بين المسلم وغيره، عن أبي الحسن الحذاء قال: كنت عند أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ فسألني رجل ما فعل غريمك ؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة، فنظر إلي أبو عبدالله نظراً شديداً، فقلت: جعلت فداك انه مجوسي أمه أخته، فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا (2).

وقد جعل ـ عليه السلام ـ قذف غير المسلم مصداقاً لنفي الورع عن القاذف، عن عمر بن عجلان قال: كان لأبي عبدالله ـ عليه السلام ـ صديق لا يكاد يفارقه، فقال يوما لغلامه: يا ابن الفاعلة أين كنت ؟ فرفع أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ يده فصك بها جبهة نفسه ثم قال: (سبحان الله تقذف أمه، قد كنت أرى ان لك ورعا، فإذا ليس لك ورع)، قال: (جعلت فداك ان أمه سندية مشركة، فقال: (اما علمت ان لكل أمة نكاحا، تنح عني...) (3).

ونهى الإمام احمد بن حنبل عن قذف اليهودي والنصراني (4).

ووضع الإسلام عقوبات على قذف الغير تأديبا للناس وتحجيم هذه الظاهرة

_________________________

1 ـ أحكام أهل الملل: 122.

2 ـ الكافي 7: 240.

3 ـ وسائل الشيعة 16: 37.

4 ـ أحكام أهل الملل: 261.

 

ـ(364)ـ

السلبية، فمن قذف كافرا بالزنا عُزّر سواء كان القاذف مسلماً أم كافراً (1).

ومنع الإسلام القذف مطلقاً، ووضع العقوبات في شأنه للحيلولة دون انتشاره بين غير المسلمين فإذا (تقاذف أهل الذمة أو العبيد أو الصبيان بعضهم في بعض، لم يكن عليهم حد، وكان عليهم التعزير) (2).

وإذا قذف الكافر امرأته فعليه الحد (3) سواء كان من أهل الذمة أو من أهل الكتاب أو من غيرهم من سائر أصناف الكفار.

فالإسلام حفظ لغير المسلمين كرامتهم وعرضهم، لإيمانه بصيانة كرامة مطلق الإنسان، وحصانة عرضه.

ثالثا: الحماية القانونية للأعراض:

تكفل الإسلام حماية أعراض المسلمين وصيانتها من كل دنس، ومن انحرافات الفساق والمنحرفين والمعتدين، ووضع العقوبات القاسية بحق المتمردين على الثوابت السلوكية في صيانة الأعراض، سواء كانوا من أهل ملتهم أو من المسلمين بلا فرق، فإذا زنى المسلم بذمية مطاوعة لـه، فيعاقب المسلم بالجلد أو الرجم تبعا لاحصانه وعدمه، ويتخير الحاكم الإسلامي بين تسليم الذمية إلى أهل دينها ليحكموا فيها بحكمهم، أو يحكم فيها بحكم الإسلام، وإذا كان الزاني غاصباً مغالباً للمرأة على نفسها فيقتل صبرا سواء كان مسلما أم كافراً (4) للحيلولة دون الاعتداء على الأعراض ولم يتهاون المسلمون في إقامة الحدود على

_____________________________

1 ـ الهداية 2: 116، اللباب 3: 198.

2 ـ النهاية: 725.

3 ـ اللباب 3: 75.

4 ـ الكافي في الفقه: 406.

ـ(365)ـ

المعتدين، ففي عهد الإمام علي ـ عليه السلام ـ سأله واليه على مصر عن عقوبة مسلم فجر بنصرانية فأجابه: (ان أقم الحد على المسلم... وأدفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا) (1).

وإذا زنى غير المسلم بأهل ملته كان الحاكم الإسلامي مخيراً بين إقامة الحد عليه بما يقتضيه شرع الإسلام، وبين تسليمه إلى أهل دينه أو دين المرأة ليقيموا عليهم الحدود على ما يعتقدونه (2).

وكان أهل الذمة يتحاكمون لدى حاكم المسلمين في مثل هذه القضايا، إضافة إلى التحاكم لدى حاكمهم، ففي عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ رجعوا إليه فحكم فيهم بحكم الإسلام المطابق لحكم التوراة غير المحرفة (3).

وبالحماية القانونية كان غير المسلم يتمتع بالأمان في حفظ عرضه وصيانته، ولم تحدث حالات انتهاك لنواميس وأعراض غير المسلمين في بلاد المسلمين إلا قليلا بالقياس إلى امتداد القرون التي تعايشوا فيها مع المسلمين.

رابعاً حسن المعاملة:

جاء الإسلام من أجل إتمام مكارم الأخلاق وتقريرها في الواقع المعاشي، لذا فهو يأمر المسلمين باستبقاء أسباب الود في القلوب والنفوس بطهارة السلوك وحسن المعاملة مع جميع بني الإنسان، ولا يجعل للفواصل العقائدية دوراً في الفصل بين المسلمين وغيرهم أو في تبادل النظرة السلبية، فجاءت توجيهاته وتعاليمه لإشاعة القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة في التعامل مع بني الإنسان، وقد

_______________________

1 ـ وسائل الشيعة 28: 152.

2 ـ النهاية: 696.

3 ـ الروض الانف 4: 369.

ـ(366)ـ

جسد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ تلك القيم في تعامله مع غير المسلمين، فقد عاد غلاماً يهودياً في جواره وجلس عند رأسه (1).

وفي أحد المواقف مرت به جنازة فقام لها، فقيل لـه: إنها جنازة يهودي فقال:

أليست نفساً (2).

وفي موقف آخر غضبت إحدى زوجاته على اليهود الذين قالوا لـه: السام عليك، بدلا من السلام عليك فأجابها: (... ان الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء، ان الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عنه قط إلا شانه) (3).

وكان الخلفاء الراشدون من بعده قد جسدوا أخلاقه في التعامل مع غير المسلمين وكانوا يستمعون إلى شكاواهم واقتراحاتهم، ويوصون بحسن السيرة معهم، ففي عهد الإمام علي ـ عليه السلام ـ لواليه على مصر أوصى بالرحمة مع الناس مسلمين وغير مسلمين (واشعر قلبك الرحمة الرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان: اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)(4).

وحينما وجد أهل الكتاب وغيرهم ان كرامتهم مصونة؛ اندمجوا مع أبناء المجتمع الإسلامي وامتزجوا معهم، وهنالك شواهد عديدة على هذا الاندماج وعلى سلامة العلاقات القائمة على الود والوئام والتآلف، ففي مجلس ضم المسلمين والنصارى عطس رجل نصراني، فقال لـه المسلمون: هداك الله، فقال

_______________________

1 ـ المهذب في فقه الإمام الشافعي 2: 292.

2 ـ اللؤلؤ والمرجان: 195، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة العصرية، الكويت، 1977م.

3  ـ الكافي 2: 648.

4 ـ نهج البلاغة: 427.

ـ(367)ـ

الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ : قولوا: يرحمك الله، فقالوا لـه: انه نصراني ! فقال: لا يهديه الله حتى يرحمه (1).

وعن عبدالرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ : ارأيت ان احتجت إلى الطبيب وهو نصراني ان اسلم عليه وأدعوا لـه ؟ قال: نعم (2).

وقد أباح الفقهاء مشاركة أهل الذمة في الأعمال والممارسات الاجتماعية وغيرها، فلم ير الإمام أحمد بن حنبل بأساً في خروجهم مع المسلمين للاستسقاء طلباً للرحمة الشاملة (3). ولم ير بأسا في ان يكون المسلم اجيراً لهم (4). واوجب على المسلمين دفن النصراني الذي يموت بينهم (5).

وقد أوصى أئمة أهل البيت ـ عليه السلام ـ بحسن السيرة مع أهل الكتاب، فعن الإمام محمد الباقر ـ عليه السلام ـ انه قال: (... وان جالسك يهودي فأحسن مجالسته) (6).

وكان الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ يروي سيرة من سبقه من الأئمة في علاقاتهم مع أهل الكتاب، فقد ذكر ان الإمام علي ـ عليه السلام ـ صاحب رجلا ذمياً في طريق، وحينما ارادا الافتراق شيعه الإمام ـ عليهم السلام ـ قبل المفارقة، فقال لـه الذمي، لم عدلت مع ؟ فقال عليه السلام: (هذا من تمام حسن الصحبة ان يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا)، فقال الذمي: (لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة...) (7).

وقد انعكست السيرة الحسنة للمسلمين على مواقف أهل الذمة، فكانوا عونا

___________________________

1 ـ الكافي 2: 656.

2 ـ الكافي 2: 650.

3 ـ أحكام أهل الملل: 49.

4 ـ المصدر نفسه: 118.

5 ـ المصدر نفسه: 217.

6 ـ أمالي المفيد: 185.

7 ـ الكافي 2: 670.

ـ(368)ـ

لهم على أعدائهم، ففي الصدر الأول للإسلام، وفي عهد الخلفاء الراشدين خصوصاً، بعث أهل الذمة مع جميع مدن الشام رجالاً من قبلهم يتجسسون أخبار أعداء المسلمين، وما يخططون لـه للكيد من الإسلام وأهله وفاء منهم لحسن السيرة التي تلقوها من المسلمين (1).

ورحب قبط مصر بالمسلمين لإنقاذهم من ظلم حكوماتهم (2).

ولازال أهل الأديان يعيشون بأمن وسلام في ربوع الإسلام وفي ظل تعاليمه السمحة، لا يعانون ظلما ولا اضطهادا، فكراماتهم مصونة وحرياتهم قائمة حتى في ظل الحكومات الجائرة التي تتبنى الإسلام دستوراً لدولتها.

وتنعم أهل الأديان في ظل تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران بالأمن والاطمئنان على أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم وحرياتهم، وكان قادة الجمهورية الإسلامية قد جسدوا قيم الإسلام في التعامل معهم، فكان لهم ممثلون في مجلس الشورى، ولهم حق الاشتراك في الانتخابات، ولهم حق العمل في جميع مرافق الدولة، وكان لكثير من المسؤولين زيارات ميدانية لهم في كنائسهم وبيعهم وأماكن عباداتهم، ولهم حضور فعال في مهرجاناتهم ومجالسهم التي تنعقد على مدار السنة.

_________________________

1 ـ الخراج: 139.

2 ـ الدعوة إلى الإسلام: 123.