الاجتهاد وبناء المعاصرة في الفكر الإسلامي

الاجتهاد وبناء المعاصرة في الفكر الإسلامي

 


الاجتهاد وبناء المعاصرة في الفكر الإسلامي

 

زكي الميلاد

رئيس تحرير مجلة الكلمة

المملكة العربية السعودية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هل توجد حداثة إسلامية؟!

يتساءل أستاذ الإسلاميات في الجامعات الألمانية “راينهارد شولسته” في مشاركته بكتاب حول الإسلام والغرب، صدر في نيسان / ابريل 1997م، بفرانكفورت “هل توجد حداثة إسلامية؟”. السؤال الذي أصبح من المبرر الموضوعي والمعرفي ان يعاد التفكير فيه من جديد، وبمنظورات تقطع وتتجاوز بعض التصورات القديمة، وبطرائق وأدوات مختلفة ومتعددة من الفهم والتحليل. وذلك للحقائق التي تكشفت ومن الصعب التنكر لها أو عدم الاكتراث بها، وهي الحقائق التي تولدت من ظاهرة الانبعاثات الإسلامية بعد تعاظم حركتها ومفاعيلها في مجتمعات عربية وإسلامية، متعددة البيئات ومتباينة في مستويات النمو والتطور العام، نماذج مصر والسودان وتركيا وإيران وماليزيا واندونيسيا وغيرها.

وفي المجال الآخر ما تشهده منظومات الأفكار في النطاقات العالمية من تحولات ومراجعات شديدة التحول والتغير، ولعل العقدين الأخيرين من القرن العشرين كانا من اشدّ الأزمنة تحولاً وتصادماً وانبعاثاً أيضاً، فمن تراجع منظومة الأفكار الماركسية، التي تعتبر من اكبر واحدث المنظومات الفكرية في الغرب والعالم، إلى الانتقالات النقدية الصارمة في منظومة الأفكار الليبرالية من الحداثة إلى ما بعد الحداثة؛ حيث فتحت الحديث حول نقد أهم الثوابت الأساسية في العقل الغربي، وهي المركزية الأوروبية، التي حددت للغرب شكل علاقته بالعالم وبثقافاته وحضاراته، وحرضته باتجاه الهيمنة والسيطرة والامبريالية، إلى الانبعاثات والتجديدات في منظومات الأفكار الإسلامية، كما سوف يتضح لاحقاً.

هذه الوضعيات جعلت من التفسيرات والتقويمات حولها تتباين وتتعارض بصورة كبيرة، بين من وجد في مقولة “نهاية التاريخ” تفسيراً لها، كالذي انتهى إليه “فرنسيس فوكوياما”، ومن وجد في مقولة “صدام الحضارات” تفسيراً آخر، كالذي توصل إليه “صمويل هنتنغتون” إلى من وجد في مقولة “شرق يتقدم وغرب يتراجع” تفسيراً ثالثاً. إلى غير ذلك من التصورات والقراءات التي يصعب الجزم بها كلياً، بسبب إشكاليات بعضها يرتبط بالتسرع والتعميم المفرط، وبعضها يرتبط بصعوبة الإحاطة وشمولية النظر، أو برغبات توظيفية ونوازع إيديولوجية. إلى جانب صعوبة وعدم إمكانية أعطاء تفسير نهائي وقطعي وكلي؛ بحيث يشمل ويستوعب ثقافات وحضارات مختلفة في الجغرافيا والتاريخ وفي أمور جزئية وتفصيلية كثيرة.

كما ان هذه التحولات والتغيرات لم تصل إلى نهايتها بعد، ولا يمكن التنبؤ لها في اتجاه واحد أو بصورة نمطية. وفي كل هذه السجالات الفكرية كان الإسلام والفكر الإسلامي حاضراً بأشكال مختلفة كدين أو حضارة أو فكر أو تاريخ. مما يبرهن على ان إشكالية الحداثة والإسلام ليس من الممكن حسمها بسهولة أو بصورة نهائية أو بنمطية جامدة، بحيث تفقد فاعليتها الفكرية، ولا يكون النظر إليها إلا في نطاق التراث الذي ينتسب إلى الماضي، وليس في نطاق الحاضر والمستقبل.

وقد جاء تساؤل “راينهارد” لكي يقلب هذه الإشكالية في تركيبها المفاهيمي ومخزونها الفكري المشبع بالتأويلات والإشارات والدلالات والرموز القديمة والمحنطة والبالية، وبالمنطق الذي كانت عليه في تقابل الثنائيات المتعارضة والمتصادمة، وبحدود فاصلة وصارمة تقطع بين عالمين ومنطقين وزمنين، بشكل لا يمكن معه التواصل أو التجاور.

فقد أصبح من الممكن البحث في إمكانية ان ينهض الإسلام بحداثة من داخل منظومته الفكرية والقيمية والتاريخية، بعد الذي أظهره هذا الدين من قدرة فائقة على الانبعاث والحيوية والتجدد، ويفرض حضوره الواسع والفاعل في النطاقات العالمية، ويفتح حول قضاياه وموضوعاته واجتهاداته أعظم الحوارات الفكرية في عصر وصلت فيه الحداثة إلى ارفع مستويات تقدمها. ولعل من أكثر ما يبرهن على ذلك ما نراه من حوارات متزايدة لا يكاد الحديث ينقطع عنها حول قضايا الإسلام والغرب، وما يلفت الانتباه ان الغرب أكثر اندفاعاً وتحريضاً في هذه الحوارات.

وهناك من هو في حالة اندهاش وتعجب في ان يكون للإسلام هذه القدرة على التجدد والانبعاث حتى بعد ان فقد العالم الإسلامي حضارته وتمدنه، بحيث يمتد هذا الانبعاث إلى المجتمعات الغربية المفرطة في الحداثة نفسها، ولا يكون في مقدور هذه الحداثة ان توفر لمجتمعاتها الحماية من الاختراق. فالدين الذي لديه القدرة على اختراق الجدار الحديدي للحداثة ويقتحم عليها حصونها المنيعة، فلا شك ان هذا الدين له منطق في الحداثة يكسبه من الإقناع والمعقولية ما يجعله ذو قابلية على الانتشار والامتداد والتقبل في المجتمع الغربي بما في ذلك مجتمع النخبة هناك.

وقد أكد هذا الانبعاث على حقيقة طالما حاولنا توثيق الاستدلال عليها، وهي ان عالم الإسلام إذا كان قد فقد حضارته وتمدنه وتراجع من هذه الناحية، إلا أنه لم يتراجع أو ينهزم ثقافياً، حتى مع ما حصل في ظروف تاريخية معينة من ابتعاد المسلمين عن جوهر وروح الثقافة الإسلامية، وهيمنة الفهم القشري والسطحي والجبري على هذه الذهنية الإسلامية بصورة عامة.

وبتعبيرات الأستاذ “مالك بن نبي” فان الذي تحطم هو عالم الأشياء، وبقي عالم الأفكار على توقده، والمثال المعاصر الذي يستشهد به هو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تحطم فيها عالم الأشياء برمته، ولم يتحطم عالم الأفكار، وعن طريقه استعادت ألمانيا تقدمها وتفوقها مرة أخرى في عالم الأشياء.

ولا شك ان القرآن الكريم هو الذي جعل الثقافة حية في عالم المسلمين باعتباره الإطار المرجعي الرئيسي لها الذي يصون أصالتها ويحفظ جوهرها ويوقد روحها. وهذه الثقافة الحية هي مصدر الانبعاث التي حصلت وتحصل في ازمنة مختلفة من تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، والأسباب الموضوعية المباشرة لهذه الانبعاثات هي بمثابة شروط الزمان والمكان التي تكتسب مفاعيلها من عالم الثقافة والأفكار.

أما ما يتصل بالثقافة الأوروبية فان الحداثة التي تعتبر المكوّن الرئيسي والجوهري لهذه الثقافة، حيث لا تعبر عن نفسها إلا من خلال هذا المفهوم، الذي يختزل تاريخ تطور وتقدم الثقافة الأوروبية من عصر النهضة إلى عصر الأنوار إلى الثورة الصناعية وثورة الاعلام والاتصالات. هذا المفهوم ما لبث ان تعرض لنقد بنيوي صارم بقصد إعادة تقويمه وتشريحه في تكويناته وعلائقه ووظائفه، وبوجه خاص في علائقه بالثقافات الأخرى غير الغربية، ومنها الثقافة الإسلامية.

واشدّ هذه الممارسات النقدية جذرية وخطورة جاءت من تيار ما بعد الحداثة، الذي احدث اكبر خلخلة لمفهوم الحداثة بالانقسام والانقلاب عليه، كما انه لم يسلم من النقد حتى من تيار الحداثة ذاته، وحسب “راينهارد” فلقد “أجريت في الإطار النقدي لنظرية ما بعد الحداثة، اعادة تقويم جذرية لمفهوم الحداثة، وفتح بذلك المجال لتفسيرات جديدة للثقافات الإسلامية الحديثة والمعاصرة.

ان الملاحظة المهمة بالنسبة إلى مناقشتنا لنقد ما بعد الحداثة، هو انعتاق الحداثة من بنيتها التناقضية، كما ان ذلك الفصل الذي طالما رأيناه من بين الثقافات الغربية وغير الغربية، قد انهار الآن، من حيث ان هذا الفصل قد استند أساساً إلى التصنيف الذي يزعم أن الحداثة شأن غربي، وان التقليد شأن شرقي… لقد قدم النقد الجذري للحداثة، الفرصة كيما تعيد هذه الأخيرة تقويم نفسها، ذلك النقد الذي انطلق في وقت مبكر من السبعينات، والذي تم استخدامه في واقع الحال، في وقت أبكر من قبل العلوم الثقافية غير الأوروبية” ([1]).

وعن علاقة الحداثة بمنظومتها الفلسفية والفكرية وشرائطها الاجتماعية والتاريخية قدم “آلان تورين” محاولته النقدية، وكشف فيها عن السجالات الواسعة بين النخب والمثقفين الغربيين حول فكرة الحداثة والإشكاليات التي ظلت تلازمها وتحوم حولها، بما في ذلك الإشكاليات القديمة التي كان يعتقد انها خرجت من حلبة السجال وأصبحت من المسلمات والاجماعات، هذه الإشكاليات يعاد فيها النظر في هذا الوقت ويتجدد حولها النقد والتقويم. لذلك فان أول ما يبدأ به “تورين” كتابه “نقد الحداثة”، هو ان يضع هذه الحداثة في أطار المساءلة والمراجعة تمهيداً للدخول في عملية نقدها. فهو يفتتح الكتاب بقوله:

“ما هي الحداثة ذات الحضور الجوهري في افكارنا وممارساتنا منذ ثلاثة قرون، والتي يتم اليوم مراجعتها ورفضها واعادة تحديدها؟”([2]).

ويرى “تورين” بأن هناك معركة فكرية تجاه قضية الحداثة، ويتساءل:

“في أي اتجاه ينبغي خوض المعركة الأساسية؟ أضد صلف الإيديولوجية الحداثية؟، أم ضد تدمير فكرة الحداثة ذاتها؟”

وفي إجابته على هذا السؤال يقول:

“لقد اختار أغلب المثقفين الإجابة الأولى. ذلك لأن القرن العشرين قد بدأ للتكنولوجيين والاقتصاديين قرن انتصار للحداثة، وان ساده على المستوى الثقافي الخطاب المعادي للحداثة. مع ذلك، يبدو لي اليوم ان الخطر الثاني هو الأكثر واقعية، وهو خطر الفصل الكامل بين النظام والفاعلين، وبين العالم التقني والاقتصادي وعالم الذاتية. كلما تقلص مجتمعنا إلى مجرد مؤسسة إنتاجية تكافح من اجل البقاء في السوق العالمي، كلما انتشر في نفس الوقت وفي كل مكان هوى هوية لم تعد تتحددها الملامح الاجتماعية” ([3]).

هذا النقد للحداثة فتح المجال لأن يكون النظر للثقافات غير الأوروبية بعيداً لحد ما عن الدونية والفوقية، أو حسب معيارية الحداثة والتقليد، أو الأنساق الفكرية المغلقة، التي أصبحت عرضة للشك حسب الفرضية الرئيسية لفكر ما بعد الحداثة. وإمكانية ان تتعدد الحداثات ولا تعدو الحداثة بالتالي شأناً أوروبياً كما كان يريد الغرب في احتكاره للحداثة ومحاولته لإقناع الشعوب بمقولة المركزية الأوروبية، المقولة التي تصبح عرضة للاختلال بسيادة مفهوم تعدد الحداثات الذي يعيد الاعتبار لثقافات حاول الغرب ان يقلل من شأنها، ولايعترف لها بحق الشراكة المنصفة، أما عدم المبالاة بقيمة ما تقدمه من عطاءات وإبداعات؛ لذلك كان من المبرر أمام “راينهارد” في ان يطرح السؤال “هل توجد حداثة إسلامية؟”.

لقد برزت كما يقول “من خلال المنظور النقدي، محاولة إعادة تكوين حداثة إسلامية، بعيداً عن مسألة التعاقب التاريخي. انه لصحيح ان يحذر من تفسير مراحلي جديد، ولكن أليس أمراً غير معقول بالمرة ان يرغب في إيجاد حداثة إسلامية، تماماً في اللحظة ذاتها التي تجري ويجري فيها تدمير هذه الحداثة بالنسبة إلى أوروبا؟ نعم، انه لكذلك فعلاً، فكما ان الحداثة قد تشكلت على أساس المركزية الأوروبية، فان تدمير هذه الحداثة يبدو انه سيكون أيضاً على الأساس ذاته.

إن إمكانية أن يقدم الأفق النظري والعملي للمجتمعات غير الأوروبية حوافز قوية لبحث موضوع الحداثة، إمكانية متوفرة الآن تماماً. لأنه إذا أمكن ان يكشف النقاب عن ان نخب المجتمعات الإسلامية والصينية أو اليابانية قد عرفت العالم من حولها من خلال تصورات قائمة على الفصل بين التقليد والحداثة، وأنها أيضاً قد استخدمت معايير خبرتها الذاتية في توصيف موضوعي لمحيطها، وأنها أخيراً أعادت أيضاً تشكيل ثقافتها بشكل جذري، إذا كان ذلك كذلك، فانه يصبح من الواضح ان الحداثة لم تعد امتيازاً غربياً، وإنّما كانت عملية عالمية واسعة النطاق، وبالتالي فقد بات من الممكن وجودها في السياقات الأخرى كما في السياق الغربي. ولعله كان علينا ان نتكلم بصيغة الجمع عن حداثات، أو انه كان علينا ان نستوعب الحداثة بوصفها عملية تاريخية عالمية، تنطوي على اشكال تعبيرية شديدة التباين في الثقافات المختلفة، طالما ان تشكلها كان دائماً يتم في اطار تراث معين” ([4]).

لا شك ان هذا الكلام يعد مهماً وقد يكون جديداً، أو من النادر ان يكون بهذا القدر من الوضوح والتماسك، وهذا النوع من الأفكار بدأ يتراكم في الغرب ويعلن عنه بثقة اكبر بعد تنامي المنظورات النقدية لتجربة الغرب في الحداثة والتقدم.

وفي هذا السياق ظهر نسق من الكتابات بقصد البحث عن توافقات أو مقاربات أو تماثلات ممكنة أو فعلية بين منظورات الإسلامية أو الفكر الإسلامي، ومنظورات تيار ما بعد الحداثة ليس بدرجة التطابق التام أو الكلي أو المطلق، وإنّما في بعض الاتجاهات التي ترتبط بصورة رئيسية بقضايا الحداثة والغرب والمركزية الأوروبية وهيمنة الاتجاه الواحد على العالم والنظام العالمي الجديد. وهي القضايا التي يتجدد حولها الفهم والنظر بمنهج نقدي من تيار ما بعد الحداثة.

فهناك من حاول ان يظهر بعض هذه التوافقات في المنظورات النقدية للحداثة والحضارة الغربية كما في محاولة الكاتب التركي “خلدون جولألب” في دراسة نشرها تحت عنوان “الإسلامية وما بعد الحداثة” اعتبر فيها “إن النقد الإسلامي للحداثة يتماثل على نحو مذهل مع نقد تيار ما بعد الحداثة الذي يحظى بشعبية كبيرة اليوم في العالم الغربي. وعلى الرغم من ان الإسلاميين لا يعدون أنفسهم منخرطين في تيار ما بعد الحداثة فان نقدهم الموازي يوحي بوجود جذور مشابهة. من المؤكد ان الإسلاميين قد انتقدوا بصورة دائمة قيم الحداثة بوصفها صنمية مادية وانحطاطاً خلقياً. ولكن المذهل هو تزايد شعبية هذا النقد في العقدين الأخيرين. لعل التفسير الأفضل لذلك يكمن في الظروف الملائمة الناشئة عن الأزمة الحالية للحداثة، وبالتالي فان الكشف عن التوازي بين تيار ما بعد الحداثة وبين الإسلامية لا يهدف إلى الإيحاء بأنهما أمر واحد، ولا إلى جعل الإسلامية مقبولة أكثر بالقول؛ أنها حركة سياسية تقدمية، بل انه يهدف إلى تفسير جذور الصعود الحالي للإسلامية. فالإسلامية مثلها مثل تيار ما بعد الحداثة، تقدم من جهة بعض النقد المشروع للحداثة، وتلقى من جهة أخرى قبولاً شعبياً واسعاً في المرحلة الحالية، وذلك في ظل ما يعد على نحو واسع أنه أزمة فرضيات الحداثة”([5]).

وقد استند “جولألب” في هذه المقاربات على الأدبيات الإسلامية في تركيا حيث اظهر أهميتها وتزايد اتساعها ونفوذها هناك، الظاهرة التي لم تستطع حسب رأيه ان تعكس الأدبيات المكتوبة بالانجليزية، نتيجة الافتراض الواسع الانتشار لكنه غير دقيق حيث يغالي في تقدير قوة العلمانية التركية، والتقليل من أهمية الكتابات الإسلامية، التي يرى “جولألب” بأنها مليئة بالموضوعات المألوفة كثيراً في العالم الغربي، وتتناول الكثير من القضايا والاهتمامات والحلول المقترحة للمشاكل المتداولة في العالم اليوم.

وهناك من اظهر مثل هذه المقاربات بالتأكيد على قيمة المنظور النقدي لتيار ما بعد الحداثة وفائدته في تكوين فهم ودراسة للإسلام والقضايا الإسلامية، يختلف بصورة كبيرة عن نمطية الفهم المتوارثة والمتحيزة والجامدة.

وهذا ما توصل إليه محررا كتاب “الإسلام والعولمة وما بعد الحداثة” وهما “اكبر أحمد” و”هاستنجز دونان” ([6])، إلى جانب محاولات أخرى.

ولعل من أهم ما كشفت عنه هذه الظاهرة، هو ان خلخلة مفهوم المركزية الأوروبية وتفكيك الذهنية النمطية الجامدة والمغلقة والأسطورية التي ينظر الغرب من خلالها إلى العالم، سوف يكون من نتائجها المفترضة تبدل أنماط العلاقة وذهنيات الفهم وإشكال القياس والمطابقة بالثقافات والحضارات غير الأوروبية، وفتح المجال أمام الشعوب في ان تبرز ما لديها من ابتكارات وإبداعات ونماذج وأخلاقيات مطمورة أو مجهولة أو لا يتسلط عليها الاهتمام، كالذي حاول التأكيد عليه ولفت الانتباه إليه “روجيه غارودي” في كتابه “حوار الحضارات” وضرورة ان يتخلى الغرب عن بعض كبريائه المفرط وتعاليه المبالغ به، ويعيد النظر في شكل علاقته، بالأمم والشعوب والحضارات خارج مركزه ومحيطه.

وقد أصبح من الممكن ان يواجه الغرب ذاته نتيجة انقسام الحداثة على نفسها، وظهور حركة نقدية صارمة في داخله مع تيار ما بعد الحداثة الذي مازال يحتفظ بتأثيره وفاعليته، مع ان هويته لم تتحدد بصورة واضحة، ولم يستجمع رؤيته الاجتماعية، ويكوّن له نسقه الفكري المتماسك، لذلك فالتشتت والغموض والتفتيت هي الملامح الغالبة عليه، بحيث يستعصي على التعريفات أو الحدود المنطقية، والتعريفات التي نطرح هي اقرب ما تكون إلى التوصيفات العامة التي تفتقد الحد والرسم المنطقيين، كالتعريف الذي يطرحه “تيري ايجلتون” في كتابه “أوهام ما بعد الحداثة”، إذ يعتبر هذا التيار “أسلوب تفكير يشك في الأفكار الكلاسيكية عن الحقيقة والعقل والهوية والموضوعية وبفكرة التقدم العام والتحرر، وبالإطارات المفردة، وبالسرود الكبرى أو التفسيرات النهائية. وعلى أرضية مثل هذه الأنماط التنويرية من الفكر يبدو العالم بلا أرضيات، متعدداً غير مستقر، يصعب تعيينه، طقم من الثقافات غير موحد” ([7]).

لذلك فقد تعددت المواقف المتباينة والمتعارضة تجاه هذا التيار بين النخب في الغرب، بين من يرى فيه حركة نكوصية وارتدادية وعبثية، ومن يرى فيه حركة تجديدية وتقدمية واستنهاضية.

من الحداثة إلى الاجتهاد

مفهوم الحداثة ابتكره الغرب ويعبر من خلاله عن تجربته الفكرية والتاريخية، التي هي بلا شك تعتبر من أضخم التجارب الفكرية في التاريخ الحديث والمعاصر، ويعبر كذلك عن رؤيته للتقدم والحضارة. هذا المفهوم حاول الغرب ان يحتكره لنفسه، ويربطه بتاريخه وجغرافيته، ويلحقه بمنظومته الفكرية والفلسفية. وبطريقة تصور الحداثة هي الغرب، والغرب هو الحداثة، وليست هناك حداثة خارجة عنه، لأن الغرب حسب “فوكوياما” هو نهاية التاريخ، وهو الذي يقود حضارة العصر، وما بعد الغرب هو بربرية ووحشية وتخلف، أو حسب الزعم الذي يرفضه “راينهارد” بأن الحداثة شأن غربي، والتقليد شأن شرقي. والغربيون يسجلون تاريخ الحداثة في تحولاتها ونهضاتها وخطاباتها بحيث لا تتجاوز حدود أوروبا، وكأن البشرية لم تشهد حضارة وتقدماً في تاريخها إلا في الغرب. فالحداثة تبدأ من الغرب واليه تنتهي.

وقد بذل المستشرق الايرلندي الأصل “ديلاسي أوليري” جهداً لكي يبرهن على ان لا مكانة تستحق الاعتبار للفكر العربي الإسلامي في تاريخ الفكر الإنساني بكتابه الذي يحمل عنوان “الفكر العربي ومكانه في التاريخ”. والأفدح من ذلك انه حاول ان يجد تأثيرات أجنبية من الثقافات الأوروبية يرجع إليها نشأة وتكوّن أبرز الأفكار والعطاءات والإبداعات التي عرفت بها الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية، والحق عنده كما يقول: “إن هذه الثقافة الإسلامية في أساسها، وفي جوهرها جزء من المادة الهيلينية الرومانية. بل انه حتى علم التوحيد الإسلامي قد تحدد وتطور بواسطة منابع هيلينية، ولكن الإسلام ظل مدة طويلة منعزلاً عن المسيحية، وحدث تطوره في بيئات تختلف عنها تماماً، حتى ليبدو غريباً عليها، وأجنبياً عنها، وتظهر أعظم قوة له في أنه قد عرض المادة القديمة في شكل جديد جدة تامة” ([8]).

لا نريد ان نستغرق في مثل هذه الآراء فهي على كثرتها تفضح عيوبها ومغالاتها وعدم موضوعيتها ومعقوليتها.

ثلاثة قرون من تاريخ الحداثة تحدث عنها “آلان تورين” لم يتجاوز خلالها تاريخ أوروبا، مع انه كان ناقداً في محاولته تلك. وهكذا “يورغن هابرماس” في كتابه “القول الفلسفي للحداثة”، ولم يخرج عن هذا النسق حتى بعض الكتاب العرب، فحين يتحدث “محمد سبيلا” عن جغرافيات الحداثة فانه يعتبر أوروبا هي مسقط رأس الحداثة إذ كانت نبتتها الأولى في ايطاليا زمن عصر النهضة، وأخذت من ثم بالتدريج بعداً كونياً، حسب رأيه، ومع أنه تطرق إلى اليابان، إلا أنه اعتبر أوروبا هي مرجعية الحداثة([9]).

والملاحظ ان المثقفين العرب يقرأون تاريخ العالم بالطريقة التي دوّنها الغرب، وهي الطريقة التي تنسجم مع رغباته وتصوراته الفكرية والفلسفية، وبالشكل الذي ينسجم ومفهوم المركزية الأوروبية.

ولعل من أكثر الدلالات اثارة لمقولة “صدام الحضارات” هو ما تتضمنه من تحريض الغرب لمقاومة انبعاث الحضارات، وبالذات تلك الحضارات التي لها رؤية شاملة حول الإنسان والحياة والكون، وبإمكانها ان تزاحم الغرب في المستقبل، كالحضارة الإسلامية والحضارة الصينية الكونفوشيوسية، وهما الحضارتان اللتان حذر منهما “هنتنغتون” الغرب.

والفكرة التي أود لفت النظر إليها باهتمام، هو ان مفهوم الحداثة الذي ابتكره الغرب قد عبرت عنه كل التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني، من حيث مضمونه وجوهره، فكل تجربة حضارية ينبثق عنها مفهوم يعبر عن تلك التجربة، وان كان يختلف في تركيبه اللغوي والبياني واللساني، عن تركيب لفظ الحداثة عند الغرب، بسبب اختلاف المنظومات الفكرية واللغوية نفسها. لأن كل حضارة في زمن صعودها وتقدمها تبتكر لها، بكفاءة عالية، منظومة من المفاهيم تكون على درجة من الفاعلية والدينامية لارتباطها الشديد بالروح العامة لتلك الحضارة في انبعاثها ونهوضها.

وإذا كان الغرب هو الذي يعنينا في هذا المجال، فسوف نتخذ منه شاهداً على هذه الحقيقة، باعتباره يتربع على حضارة هذا العصر. فالمؤرخون والباحثون الغربيون قسموا التاريخ الأوروبي بعد العصور الوسطى إلى مراحل وأزمنة حسب تطوره الفكري، وأطلقوا على كل مرحلة تسمية تعبر عن مفهوم يختزل تلك المرحلة في تطوراتها وتغيراتها، وفي ملامحها واتجاهاتها العامة والرئيسية، فأطلقوا مفهوم النهضة على القرن السادس عشر الميلادي، ومفهوم الأنوار على القرن الثامن عشر، ومفهوم الحداثة على القرن التاسع عشر، وهناك من أطلق مفهوم ما بعد الحداثة على النصف الثاني من القرن العشرين، ومفهوم العولمة على القرن الحادي والعشرين، فكل مرحلة كانت تنشئ مفهوماً يعبر عن تجربة تلك المرحلة في التطور والتحول الفكري والاجتماعي، المعرفي والتاريخي، أو كان ينظر إليها من خلال مفهوم هو الأكثر تعبيراً وتمثلاً لتلك المرحلة بحيث يكون من الممكن التوافق لحد كبير على ذلك المفهوم الذي يفترض فيه الإنصاف بخاصية السعة والمرونة والشمولية والاختزال.

والحداثة في نظر الغربيين هي المفهوم الجامع لكل تلك المراحل بتقسيماتها الزمنية والتاريخية وبتعدد تسمياتها وعناوينها، فهي مراحل متعاقبة في التقدم والتمدن بصورة تصاعدية وتكاملية، والحداثة كانت تعبر عن روحها ومضمونها في كل تلك المراحل بصورة مختلفة حسب مستويات التقدم والتطور.

وهذه القاعدة بالإمكان ان تصدق على تجارب حضارية أخرى مرت على التاريخ الإنساني، إذا كانت هناك حفريات معرفية واستكشافات تاريخية وتحقيقات وتنقيبات في الآثار والوثائق والمخطوطات وتدوين المعلومات والحقائق وكتابة التاريخ بإحاطة ودقة وموضوعية.

وتقريب تلك القاعدة على تجربة الحضارة الإسلامية، التي ابتكرت لها منظومة من المفاهيم كانت وثيقة الصلة والارتباط بتلك التجربة في مراحلها وتطوراتها وأزمنتها المختلفة فالنبي محمد(صلى الله عليه وآله) استقبل الوحي بآية “إقرأ” التي أسست لمفهوم العلم مقابل مفهوم الجاهلية، وحينما تكوّنت الجماعة الإسلامية الأولى في طور آخر بمكة ظهر مفهوم التوحيد كنقيض لمفهوم تعدد الآلهة، وبعد تشكل مجتمع إسلامي في المدينة على اثر هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) إليها، نشأت مفاهيم الهجرة والشريعة، الهجرة ارتبطت بتكوين مجتمع إسلامي بتعاقد وتآلف بين المهاجرين والأنصار، والشريعة التي حددت التكاليف والواجبات والحقوق، ونظمت علاقات المسلمين بالدين وبالنبي(صلى الله عليه وآله) وفيما بينهم، وبعد فتح مكة ودخول الناس أفواجاً في دين الله تغيرت صورة المسلمين من صورة مجتمع إسلامي صغير نسبياً في المدينة إلى صورة امّة إسلامية كبيرة، فتحددت بعض المفاهيم الأساسية، في مقدمتها مفهوم اكتمال الدين بنص الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)([10]). ومفهوم ختم النبوة، الذي يرتبط باكتمال الدين، وتحديد علاقة المسلمين بالنبوة، والمفهوم الآخر الوثيق الصلة بالمفهومين السابقين هو مفهوم العالمية الإسلامية والدعوة الإسلامية، الذي حمّل الأمة والمسلمين كافة مسؤولية تبليغ الدين ونشره في أرجاء العالم وحمايته والدفاع عنه، إلى جانب مفاهيم أخرى، وهكذا توالت وتطورت المفاهيم بما يستجيب للشروط والحاجات الموضوعية والتاريخية.

ولقد وجدت أن المفهوم الذي يقارب مفهوم الحداثة عند الغرب في تجربة المسلمين الحضارية هو مفهوم الاجتهاد، والذي يقارب مفهوم التقدم في التجربة الإسلامية هو مفهوم العمران. ويعد “ابن خلدون” في طليعة الذين عرّفوا بمفهوم العمران؛ حيث قدمه كعلم له نسقه المعرفي وحقله الدلالي وتجربته التاريخية والحضارية، وأطلق عليه علم العمران البشري في كتابه المعروف بالمقدمة، واكتسب هذا المفهوم شهرة وتداولاً على نطاقات واسعة، الأمر الذي يبرهن على حقيقة قصدت التأكيد عليها، وهي ان مقدمة “ابن خلدون” التي عدّت فتحاً مهماً في تكوينات العلوم الاجتماعية، وقدمت أكثر الأفكار والمفاهيم تطوراً وتقدماً في وقتها، واحتلت موقعاً مرجعياً نادراً، ما وصل إليه كتاب آخر. هذه المحاولة المتقدمة في الكشف والتحليل المعرفي والمنهجي هي التي تبلور فيها مفهوم العمران واكتسب منها نضجاً وعمقاً وتماسكاً.

أما مفهوم الاجتهاد فيمكن اعتباره احد أهم المفاهيم الذي ابتكرته المنظومة الإسلامية وانفردت به الحضارة الإسلامية. فقد نشأ وتطور في الإطار الزمني والتاريخي لهذه الحضارة، وترك تأثيراً مهماً في منظومة الثقافة الإسلامية، وفي تكويناتها وتشكيلاتها، وعلى حركتها ومساراتها. هذا المفهوم بحاجة إلى حفريات معرفية جديدة لاستظهار مدلولاته ومكوناته ومفاعيله، فهو من المفاهيم العميقة والمتجددة والفاعلة.

وكنت أتصور إنني انفرد بهذا الرأي الذي سعيت إلى الإشهار به، وفتح مجال التفكير والنظر حوله، إلى ان وجدت من يتبنى مثل هذا الرأي، وهو الدكتور “حسن حنفي”؛ إذ يرى ان “الإسلام عن طريق الاجتهاد هو اكبر دين حداثي، لأنه يعطي الفرع شرعية الأصل، ويعترف بالزمان والمكان وبالتطور، وان إجماع كل عصر غير ملزم للعصر القادم.. لدينا الاجتهاد وهو اللفظ الذي أفضله، ولا أفضل لفظ الحداثة، فحداثتي من الداخل” ([11]).

الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام

لقد أطلق الدكتور “محمد إقبال” مقولة في كتابه الشهير “تجديد التفكير الديني في الإسلام” الصادر سنة 1929م، اعتبر فيه ان الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام. هذه المقولة توقف عندها العديد من الباحثين والمفكرين، والذين رجعوا إليها وجدوا فيها مضموناً ودلالات مهمة، فالمستشرق البريطاني المعروف في حقل الإسلاميات “هاملتون جيب” يرى في كتابه “دعوة تجديد الإسلام” ان إغلاق باب الاجتهاد وضع حداً فعالاً لمبدأ الحركة في الإسلام([12]).

اما الشيخ “مرتضى مطهري” فقد توجه باهتمام نحو هذه المقولة في حديثه عن الاجتهاد والتفقه في الدين في سياق بحثه حول الإسلام ومتطلبات العصر، وحاول ان يقدم شرحاً يؤكد فيه دور الاجتهاد في تطوير الأفكار الإسلامية بما تواكب حركة العصر ومستجداته، كما انطلق منها في نقد الأفكار والمفاهيم الجامدة والسكونية والقشرية([13]).

والشيخ “مطهري” في ابحاثه لا يذكر “اقبال” إلا ويثني عليه ويميزه من بين المفكرين في العالم الإسلامي، لأنه من الذين لم ينقلبوا على هويتهم الدينية مع شدّة احتكاكه بثقافات الغرب وفلسفاته.

وحسب رواية “فضل الرحمن” فان “إقبال” تخلى عن فكرة كتاب حول الاجتهاد كان يزمع تأليفه بعد نصيحة سمعها من السيد “سليمان الندوي”، فإقبال كما يذكر “فضل الرحمن” كان يستمع في بعض الأحيان إلى مشورة العلماء، بل ويطلبها([14]).

 وعن تقييمه له يقول: “ليس من قبيل الصدفة إلا تعرف الحداثة الإسلامية أي طالب جادّ للفلسفة في طول العالم الإسلامي وعرضه، يمكن الافتخار به سوى محمد إقبال” ([15]).

وقد لقبه الغربيون والألمان تحديداً بالفيلسوف، لأن من النادر ان يطلق الغربيون مثل هذا الوصف على مفكر ديني من الشرق. وكان “إقبال” دقيقاً في مقولته فقد استعمل مفهوم الحركة بحسب المدلول الذي يعطى له في الفلسفة، ويقصد منه انتقال الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج. وهذا يعني ان الاجتهاد هو الذي يقوم بدور نقل الفكرة الإسلامية من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، ويعطيها التحقق الفعلي ليس بطريقة فورية أو في دفعة واحدة، وإنّما على سبيل التدرج وفق قاعدة مقتضيات الزمان والمكان.

أما محاولة “محمد أركون” في كتابه “من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي” فهي تندرج في سياق نقده الحاد والصارم للفكر الديني والتراث الفكري الإسلامي بالطريقة السجالية المعهودة في الغرب. فأركون غالباً ما يصور حاله وكأنه في نزاع وصدام مع الفقهاء والعلماء الدينيين، الذين يشتغل على تراثهم ومقولاتهم واجتهاداتهم، ولعله يريد ان يتمثل دور المثقف الأوروبي في نزاعه مع سلطة رجال الكنيسة الدينيين في كسب الشرعية لصالحه، وهكذا في الدفاع عن العلمانية التي يريد ان يبحث لها عن مخرج تتوافق فيه مع الدين، فحين يريد تفسير لماذا لم يشهد الوعي الجماعي الإسلامي المعاصر تلك القطيعة النفسية والثقافية بالدرجة نفسها التي شهدها الغرب المعَـلْمن منذ القرن التاسع عشر على الأقل، فإنه لا يريد ان يعزو هذا الاختلاف إلى مقدرة الإسلام على مقاومة حركة العلمنة بفعالية أكثر من المسيحية، لذلك فهو يدعو إلى تصفية ما يصفه بالمواقع التبجيلية والافتخارية التي تزعم ان الإسلام قادر على مقاومة العلمنة بفضل تعاليه الإلهي وحده([16]).

ويعلن “أركون” عن هذه السجالية في أول ما يفتتح به كتابه إذ يرى “أن مسألة الاجتهاد معتبرة داخل تراث الفكر الإسلامي بصفتها امتيازاً يحتكره الفقهاء” ([17])، لذلك فهو يدعو إلى تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقلية المحدودة والمرتبطة به، وذلك عن طريق النقد الحديث للعقل. لأنه كما يضيف، لم يعد ممكناً للفكر الإسلامي ان ينغلق على نفسه وينعزل داخل أطار العقل الأصولي والاطلاقي الذي لم يتح له ان يشهد حتى اصولية النقد الكانتي واطلاقية الديالكتيك الهيغلي([18]).

مع ذلك لم يكن العنوان الذي اختاره “اركون” لكتابه بتلك الدقة، حيث يوحي بتجاوز مفهوم الاجتهاد إلى اللامفهوم أو ما قبل المفهوم، لأن عبارة “نقد العقل الإسلامي” لا تعبر عن مفهوم محدد ومنضبط، بقدر ما تعبر عن وصف للعملية الفكرية التي يفترض ان ينبثق عنها مفهوماً. وبعبارة أخرى فإنها تعني ممارسة النقد الذي يفترض ان يولّد مفهوماً، لكن ما هو هذا المفهوم؟ فهذا الذي لم يتضح أو يتحدد.

لذلك فنحن نتمسك بمقولة “اقبال” ونجد أنها تعبر عن جوهر وروح الحداثة، ونتحفظ من جهة أخرى على مقولة “اركون” لغربتها ومغالاتها.

الاجتهاد منهج للتفكير الإسلامي

إذا كان الاجتهاد في المنظومة الإسلامية قد ارتبط بالفقه، فلأنه الحقل الذي ارتبطت به الحضارة الإسلامية وأولته أكبر الاهتمام وهناك من وصفها بحضارة الفقه. ويراد من الفقه هنا المدلول العام الذي عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى (ليتفقهوا في الدين) والتفقه هو المعرفة العميقة والقويمة بالأدوات والمناهج التي تكسب هذا المستوى من المعرفة. ولا يعني التفقه مجرد الأحكام الشرعية التفصيلية، وإنّما معرفة المنظومة الإسلامية في أصولها وقواعدها العامة، وفي منظورتها الشاملة التي ترتبط بالإنسان والمجتمع والحياة. والحضارة التي بدأت بـ (إقرأ) فهي حضارةعلم وفقه ومعرفة ومن أكثر ما طالب به الإسلام، الإنسان هو أن يكون متفقهاً في الدين، ليكون الدين بصيرته في الحياة والنور الذي يهتدي به.

من جهة ثانية فإن ارتباط الاجتهاد بالفقه، باعتبار إن هذا الحقل بوجه خاص يستدعي أقصى درجات الجهد الفكري والنفسي والبحثي للوصول إلى أعلى مستويات الإطمئنان في التعبد والإلتزام بالدين، فالإسلام من بين كل الديانات السماوية الأخرى الذي ربط حياة الأمة بكل أبعادها وجوانبها بالفقه والتشريع، لذلك فإن صفة الشمولية التي اعتبرها الدارسون للإسلام من أبرز خصائصه، الخاصية التي تظهر جلية وشاخصة، ويتفق عليها هؤلاء الدارسون في علاقتها بخاتمية الدين وخلوده.

والتحول الذي حصل في مفهوم الفقه من المدلول العام إلى المدلول الخاص بحيث يتقيد بالأحكام الشرعية في نطاق الأحوال الشخصية وفي دائرة السلوك الفردي، إنما بسبب الوضع العام الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية من تراجعات حضارية، أصابت حركة الاجتهاد بالجمود والإنكماش، فبعد أن كان الهدف الأساسي الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، كما يقول السيد (محمد باقر الصدر) هو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة في المجالين الفردي والاجتماعي، الفرد بالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته، والاجتماعي الذي يتصل بإقامة حياة الجماعة البشرية وما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية. لكن حركة الاجتهاد في خطها التاريخي الذي عاشته على الصعيد الشيعي كانت تتجه في هدفها على الأكثر نحو المجال الفردي، فالمجتهد خلال عملية الاستنباط يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد أن يطبق النظرية الإسلامية للحياة على سلوكه، ولا يتمثل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول أن ينشئ حياته وعلاقاته على أساس الإسلام. وذلك لما تعرضت له حركة الاجتهاد الشيعي من ظروف موضوعية تسببت في العزل السياسي عن المجالات الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى تقليص نطاق الهدف. وتعمق هذا الانكماش مع مرور الزمن، وهكذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم. وبعد أن سقط الحكم الإسلامي بعد غزو المستعمر الأوروبي للبلاد الإسلامية، لم يعد هذا العزل مختصاً بحركة الاجتهاد عند الإمامية، بل قد شمل كافة المذاهب الإسلامية([19]).

والتراجع الحضاري إذا حصل في أي أمة فإنه ينعكس بصورة شديدة وطردية على تراجع منظومة المفاهيم وما تحمله من مكونات الفاعلية والحيوية والإبداع. المكونات التي تفتقد مع مرور الوقت الإقتران الواضح والمباشر بتلك المفاهيم التي أصابها الجمود. وهذا ما حدث مع منظومة المفاهيم الإسلامية، ومنها مفهوم الاجتهاد الذي تقلصت منه الفاعلية وانطفأت منه شعلة الحيوية وتوقف فيه النبض، ولم يعد يستوقف الاهتمام في دلالاته وعناصره ومكوناته.

والاجتهاد في جوهره وفلسفته هو بمثابة النظام المعرفي الذي يربط الدين بالدنيا، ويؤسس علاقة الشريعة بالحياة والفقه بالواقع والزمن والعصر. هذا النظام المعرفي تبلور في علم هو من أبرز ثمرات العقل الإسلامي الخالص في عصور إبداعه وتقدمه.

وعلم أصول الفقه الذي أخذ كما يقول (أبو حامد الغزالي) من صفوة الشرع والعقل سواء السبيل، واعتبره الدكتور (طه جابر العلواني) بأنه يمثل فلسفة الإسلام. وهو يماثل ما كان عند اليونان من علم المنطق، وما لدى الأوروبيين في العصر الحديث من فلسفة القانون. وهو العلم الذي التقت فيه خبرات العلوم الإسلامية، بتنوع حقولها وميادينها إلى جانب علوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة. لذلك يمكن وصفه بالعلم الذي يمثل فلسفة الإسلام. وكان يفترض في اصول الفقه ان يكون منهج البحث الإسلامي في كل ما يرتبط بالاسلام من معارف وعلوم وقضايا ومفاهيم وبكل ما يتصل بعلاقة الدين بالحياة والحضارة، وهكذا في مختلف ميادين المعرفة الانسانية والاجتماعية، أو ان يكون وثيق العلاقة بها، لا أن يقتصر ويتضيق بمجالات ومعارف محدودة.

كما ان الاجتهاد هو أيضاً نظام معرفي ومنهج للتفكير والنظر الإسلامي بالمعنى الأعم والأشمل، يفترض ان يمارسه ويحكمه الإنسان المسلم والمثقف والمفكر والفقيه المسلم في علاقاته بالعلم والفكر والمعرفة، كسباً وعطاء وابداعاً.

فالدين يحرض الإنسان المسلم في التعامل مع ما حوله من قضايا وظواهر ومسائل ومعارف بمنطق الاجتهاد، الذي هو اعلى درجات البحث والتبين والكشف واستعمال طاقة الفكر في اقصى درجاتها، وتحري الموضوعية والنظر إلى الأمور من زواياها المختلفة، وعدم تحكيم الظنون والمسبقات، أو التسرع في الاحكام، أو التحيز بصوره كافة. هذه العناصر وغيرها هي من أكثر العناصر ضبطاً للتفكير العلمي وجميعها من مكونات مفهوم الاجتهاد.

ولعل في تطور علاقة الفكر البشري تاريخياً بعالم الكون والطبيعة يعد شاهداً على تلك الحقيقة، فقد تراوحت هذه العلاقة لزمن طويل بين موقفين مضطربين وجامدين، موقف الرهبة والخشية من عالم الطبيعة، وصل بأصحاب هذا الموقف إلى عبادة بعض الظواهر الكونية مثل الشمس والقمر والنجوم وغيرها، وموقف الذين اعتقدوا ان حياة الإنسان تتأثر بتدبيرات عالم الافلاك التي تسيرها حسب هذا الزعم قوى خفية لها قدرة خارقة، إلى ان جاء القرآن الكريم فحرر الفكر البشري من هذه الخرافات والاعتقادات الباطلة ومن القيود والاغلال التي تعطل دور العقل وتشل الفكر وتكبح المعرفة “ليضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم” ([20]).

فالقرآن الكريم حرض الإنسان على النظر إلى عالم الكون والطبيعة بعيداً عن الرهبة والخشية؛ واكتشاف الآفاق وامتلاك ناصية العلم والمعرفة كوسيلة لتحرير الفكر البشري من تلك الخرافات والاساطير.

(أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت) ([21]).

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ([22])، ولقد جسد نبي الله إبراهيم A هذا الموقف امام قومه ليحرضهم على التفكير واعمال العقل، قال تعالى:

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين * وحاجّه قومه قال أتحاجّونّي في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا ان يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً * فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) ([23]).

فالقرآن الكريم نهض بالفكر البشري ودفع الإنسان نحو التفكير العلمي وامتلاك ناصية العلم، ولولا ذلك لتأخرت مسيرة الفكر البشري في اكتشاف آفاق الكون والسيطرة على عالم الطبيعة.

والاجتهاد كما هو منهج في النظر والتعامل مع العلم والبحث العلمي، هو أيضاً منهج في التطبيق وفي التعامل مع الواقع والزمن، وتحصيل اعلى درجات المعرفة بشروط العصر ومكوناته ومقتضياته.

هذا عن الاجتهاد بالمنظور المعرفي الإسلامي العام، اما الاجتهاد بالمفهوم الخاص فهو يصدق على شريحة من المجتهدين المتخصصين بحقل الفقه والشريعة لتنظيم سلوكيات الإنسان الدينية والعبادية. فالإسلام لا يجيز للإنسان ان يخوض في أمور الدين بتساهل أو بأي طريقة كانت، وإنّما الزم ذلك بقواعد صارمة ومواصفات عالية وبمنهج شديد الانضباط نفسياً وعلمياً ومنهجياً.

بالشكل الذي يحقق مفهوم الاجتهاد في هذا الشأن. وحسب تقسيم “عمر عبيد حسنة” فهو يميز بين نمطين من الاجتهاد، اجتهاد فكري واجتهاد فقهي، وعلى الرغم كما يقول “من أن الاجتهاد بأشكاله هو فقهي بالمصطلح العام للفقه، وفكري أيضاً لأنه جاء ثمرة التفكير وإعمال النظر، فان هذا التقسيم الفني يمكن ان يساهم بتحريك قضية الاجتهاد ويخفف من عقدة الخوف التي تحتل نفوسنا وتشل حركتنا الذهنية.

فالاجتهاد الفقهي هو استنباط الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية في الكتاب والسنة في ضوء مراتب الحكم الشرعي بالكيفية المعروفة عند أهل الاختصاص، مع ضرورة اعادة النظر في الشروط التي وضعت لأهلية الاجتهاد. اما الاجتهاد الفكري فهو الساحة التي تسع المسلمين جميعاً، وذلك بعد ان تتوفر لكل واحد منهم مرجعية شرعية ورؤية إسلامية شاملة للحياة” ([24]).

وفي نطاق الفكر الإسلامي الشيعي يميز الشيخ “محمد مهدي شمس الدين” بين نمطين من المرجعيات الدينية، وبحسب اصطلاحه، فهناك مرجع في الشريعة، ومرجع في الدين. الأول له قدرة استنباط الحكم الشرعي والثاني يجمع إلى جانب تلك القدرة، معرفة المفاهيم، وهذه المرجعية في المفاهيم تحتاج إلى مستوى من الاحاطة والعمق والشمولية تتجاوز كفاءات الفقيه([25]).

وكانت للسيد “عباس المدرسي” محاولة لتحديد منهج للاجتهاد خاص بالثقافة الإسلامية، على خلفية ان الإسلام كما يقول “نسيج متكامل، تنتظم أصوله الفروع وتترتب فروعه على الأُصول في منظومة متفاعلة، ولكي نتعرف على هذه المنظومة لابد ان ندرسها ككل، ومن خلال معرفة الأُصول الثقافية، ثم الفروع المترتبة عليها. ولا يكفي ان نعرف الأجزاء بصورة منفصلة، بل يجب التعرف على المنظومة الثقافية، في ترتيبها الحي والمتفاعل” ([26]).

الاجتهاد، دلالات ومكونات

الاجتهاد اذن هو المفهوم الذي ينتسب إلى الحضارة الإسلامية، ويقارب مفهوم الحداثة الذي ينتسب إلى الحضارة الغربية. وهو بحاجة إلى إعادة اعتبار وإحياء جديد لينهض بوظيفته النقدية والتأصيلية والتجديدية.

ومن مكونات هذا المفهوم ودلالاته وعناصره:

أولاً: إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع وبذل ارفع مستويات الجهد الفكري والعلمي والبحثي في مجال دراسة الأفكار والمفاهيم والنظريات والأحكام، وبالشكل الذي من المفترض ان يحقق قدراً من الاكتشاف والابتكار والتجديد. وهذا ما يدل عليه أو ما نستفيده من المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة الاجتهاد. فالاجتهاد لا يصدق دلالة ومضموناً إلا بعد استكمال شرائط البحث وأعمال النظر بالطرائق والأدوات المنهجية بما يوفر الإحاطة التامة قدر الإمكان، وبما يوفر الاطمئنان النفسي والعلمي والمنهجي.

والحداثة إنما بدأت في الغرب من مقولة الانتصار للعقل وإعلاء شأنه والتمحور حوله، وعلى أساس القطيعة مع الدين أو الوحي أو الغيب أو الميتافيزيقا كما يصطلحون، وحسب رأي “آلان تورين” “كان المفهوم الغربي الأشدّ وقعاً والأكثر تأثيراً للحداثة، قد أكد بصفة خاصة على ان التحديث يفرض تحطيم العلاقات الاجتماعية والمشاعر والعادات والاعتقادات المسماة بالتقليدية، وان فاعل التحديث ليس فئة أو طبقة اجتماعية معينة وإنّما هو العقل نفسه، والضرورة التاريخية التي مهدت لانتصاره.. وترتبط فكرة الحداثة إذن ارتباطاً وثيقاً بالعقلية والتخلي عن احداهما يعني رفض الأخرى([27]).

من هنا يتحدد الفارق الجوهري بين العقلانية الغربية التي نهضت وانتصرت لنفسها باقصاء الدين وكل ما يرتبط بالغيب، وبين العقلانية الإسلامية التي اسست العلاقة التواصلية والتكاملية بين الدين والعقل، ومن أكثر المقولات دلالة على ذلك هي تلك التي تبلورت وتحددت في اصول الفقه الذي هو منظومة الاجتهاد، مثل مقولة ما حكم به العقل حكم به الشرع، واعتبار الشرع سيد العقلاء، إلى غير ذلك من مقولات.

ثانياً: التحريض المستمر والدؤوب على البحث العلمي والمعرفي، فالاجتهاد هو دعوة نحو مضاعفة الجهد العلمي بلا انقطاع أو توقف وإنّما بتواصل وتراكم.

وهو صياغة ذهنية يتولد منها فعل الاجتهاد بصورة مستدامة لا تتهاون في تحصيل العلم والمعرفة والتقدم ما هو إلا حصيلة تراكمات العلم واستخداماته في مجالات الحياة المختلفة.

والحداثة التي ربطت العلم بالتقدم، هذا الربط نتوصل إليه من خلال مفهوم الاجتهاد الذي هو انتصار للعلم بما يحقق التمدن والعمران الإنساني من غير تصادم أو تعارض مع القيم والأخلاق. وقد جسد علماء المسلمين هذا النشاط الدؤوب في تعاملهم مع العلم والبحث العلمي في التعلم والتحصيل وفي الكتابة والتأليف وفي البحث والتحقيق، في ظل ظروف شاقة وصعبة تحملوا فيها التعب والسهر والمرض والفقر والسفر، لقد اخلصوا للعلم ونذروا أنفسهم له وانقطعوا إليه فكانوا قدوة في العلم.

ثالثاً: مقاومة عناصر الجمود والتفكير السطحي والنظر القشري والاعوجاج والشلل الفكري. فهذه الحالات هي من اشدّ ما يناقض ويعارض مفهوم الاجتهاد. وما ظهرت هذه الحالات وتفشّت إلا في زمن التراجع الحضاري الذي أصاب حركة الاجتهاد بالجمود والانغلاق والتوقف لحد ما.

من جهة أخرى إن الاجتهاد يفترض تعاملاً مع النص يتصف بشدّة الفحص وتعمق النظر وبصورة دائمة ومستمرة، مما يجعل النص مفتوحاً للمعنى في كل زمان ومكان وحال، بشكل يتعارض مع احتكار الفهم على طبقة أو جيل من الناس، أو ان يتحدد الفهم في زمان أو مكان ما، فليس في الإسلام كهنوتية أو ارثذوكسية تفرض فهماً أو معرفة جامدة أو نمطية أو أحادية الاتجاه. وحسب التشريعات الفقهية والعلمية في الفكر الإسلامي الشيعي ان المجتهد لا يجوز له ان يكون مقلداً لمجتهد آخر وإلا سلبت منه صفة الاجتهاد، بل يتوجب عليه ان يكون صاحب قدرة على الاكتشاف والابتكار.

رابعاً: مواكبة تجددات الحياة ومتغيرات العصر وتحولات الزمن ومقتضيات التقدم وشرائط المستقبل. فالاجتهاد مجالاته القضايا والموضوعات الجديدة والمعاصرة. وفي نظر بعض الفقهاء المعاصرين لا معنى للاجتهاد بالانشغال بالقضايا والموضوعات التي ترتبط بالماضي وقد أشبعها السلف بحثاً ونظراً أو استقر عليها رأي السلف. ينقل الشيخ “مرتضى مطهري” كلاماً للسيد “محمد باقر حجة الإسلام” يصفه بالجيد، إذ يعتبر ان الاجتهاد الواقعي هو انه لو عرضت مسألة جديدة على شخص لم تكن له سابقة ذهنية عنها، ولم تطرح في أي كتاب لاستطاع ان يطبق عليها الأُصول بشكل صحيح ويستنتج على ضوء ذلك. أما إذا تعلم الطرائق كلها من كتاب “جواهر الكلام” ثم أخذ يردد: أنا اعلم ان صاحب الجواهر يرى كذا في هذه المسألة، وأنا أوافقه على رأيه، فإن هذا ليس اجتهاداً فالاجتهاد ابتكار، بحيث يرجع الإنسان بنفسه الفرع إلى الأصل، وهذا هو المجتهد الواقعي في كل علم. سواء كان في الأدب أم الفلسفة أم المنطق والفقه والأصول وحتى الفيزياء والرياضيات([28]).

ويتفق مع هذه الرؤية للاجتهاد ما تحدد في الفقه الإسلامي الشيعي من أحكام وتشريعات؛ مثل عدم جواز تقليد الميت ابتداءً، على رأي المشهور، وشرطية جواز البقاء على تقليد الميت برخصة من مجتهد حي، وإذا عدل عن المجتهد الميت إلى الحي لا يجوز له الرجوع بعد ذلك إلى الميت. ذلك لان الاجتهاد هو منهج الإسلام العلمي في تطبيق الشريعة على واقع الحياة، وتنزيل الثوابت على المتغيرات، وربط المتغيرات بالثوابت، وتطبيق الأُصول على الفروع، وإرجاع الفروع إلى الأُصول، في علاقة منهجية منضبطة ومتوازنة من جهة المنهج، وفي علاقة دائمة ومتحركة من جهة الواقع. والمقولة التي اشتهرت في الادبيات الإسلامية المعاصرة، بان الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، هذه المقولة الصادقة والبالغة الأهمية هي التي جاء الاجتهاد كمنهج علمي لتحقيقها. كما إنها المقولة التي تدافع عن فكرة المعاصرة في الفكر الإسلامي. المعاصرة التي تعني ان الشريعة لها من القدرة المعرفية والمنهجية ما يؤهلها لأن تطبق في كل عصر بحسب شروطه ومقتضياته، ووفق منهج الاجتهاد الذي يحمي الشريعة من ان تصاب بالجمود والتوقف.

لا شك ان هذه الدلالات تعطي قيمة متعاظمة لمفهوم الاجتهاد، وتؤكد الحاجة إليه في هذا العصر، فالاجتهاد هو ثورة في التفكير ودعوة للتقدم.

وأخيراً لست بصدد خلق ثنائية جديدة إلى جانب الثنائيات القلقة والسجالية في الخطابات العربية والاسلامية المعاصرة، وهي ثنائية الحداثة والاجتهاد. وإنّما قصدت اعادة الاعتبار لمفهوم لا يقل قيمة وفاعلية عن مفهوم الحداثة. ووجه العلاقة المفترضة بينهما في اتجاهها العام، هو النظر إلى الحداثة باعتبارها تمثل تجربة الغرب في التقدم والتمدن، والاجتهاد يمثل منهج النظر للتجربة الإسلامية في التقدم والتمدن.

([1]).هل توجد حداثة إسلامية؟ راينهارد شولتسه، ترجمة: د. محمد احمد الزعبي، دراسات عربية، بيروت، السنة الخامسة والثلاثون، العدد 3ـ4، كانون الثاني – يناير/ شباط ـ فبراير 1999م، ص32.

([2]).نقد الحداثة، آلان تورين، ترجمة: أنور مغيث، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1997م، ص19.

([3]).المصدر نفسه ص23.

([4]).هل توجد حداثة إسلامية؟ مصدر سابق، ص33.

([5]).الإسلامية وما بعد الحداثة، خلدون جولألب، ترجمة غسان رملاوي، إبعاد، بيروت، العدد الرابع، كانون الأول/ ديسمبر 1995م، ص270. نقلاً عن مجلة Contention، المجلد 4، العدد2، شتاء 1995م.

([6]).انظر مراجعة حول هذا الكتاب في مجلة: الجديد في عالم الكتب والمكتبات، الأردن، العدد 9، شتاء 1996، ص50.

([7]).انظر مراجعة حول هذا الكتاب في مجلة: الجديد في عالم الكتب والمكتبات، الأردن، العدد 16، شتاء 1997م، ص76.

([8]).الفكر العربي ومكانه في التاريخ، ديلاسي اوليري، ترجمة: د. تمام حسان، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص16.

([9]).جغرافيات الحداثة. محمد سبيلا، الحياة، لندن، العدد 12650، السبت 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1997م.

([10]).سورة المائدة/ الآية 3.

([11]).الخطاب الإسلامي المعاصر، محاورات فكرية، أعداد وحوار: وحيد تاجا، حلب: فصلت للدراسات والنشر، 2000م، ص62.

([12]).انظر كتاب: دعوة تجديد الإسلام. هاملتون جيب، دمشق: دار الوثبة، ص26. وقد اشتهر هذا الكتاب بعنوان آخر هو: الاتجاهات الحديثة في الإسلام.

([13]).انظر كتاب: الإسلام ومتطلبات العصر. الشيخ مرتضى مطهري، تعريب: علي هاشم، مشهد: مجمع البحوث الإسلامية، 1411هـ، وعن تقويمه لإقبال انظر كتاب: الحركات الإسلامية في القرن الأخير، ترجمة: صادق العبادي، بيروت: دار الهادي، 1982م.

([14]).انظر كتاب: الإسلام وضرورة التحديث. فضل الرحمن، ترجمة: إبراهيم العريس، بيروت: دار الساقي، 1993م، ص177.

([15]).المصدر نفسه، ص110.

([16]).من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي. محمد اركون، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي 1993م، ص 130ـ 104.

([17]).المصدر نفسه، ص11.

([18]).المصدر نفسه، ص95.

([19]).الاجتهاد والحياة، حوار واعداد: محمد الحسيني، بيروت: الغدير للطباعة والنشر، 1996م، ص153ـ154.

([20]).سورة الاعراف/ آية 157.

([21]).سورة الغاشية/ آية 17ـ20.

([22]).سورة فصلت/ آية 53.

([23]).سورة الأنعام/ آية 75ـ81.

([24]).الاجتهاد للتجديد، سبيل الوراثة الحضارية، عمر عبيد حسنة، بيروت: المكتب الإسلامي، 1998م، ص29ـ30.

([25]).الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999م، ص145.

([26]).ملاحظات على منهج الاجتهاد في الفقه والثقافة الإسلامية. السيد عباس المدرسي، البصائر، العدد 3، ربيع 1405هـ/ 1985م، ص55.

([27]).نقد الحداثة، مصدر سابق، ص30ـ31.

([28]).التربية والتعليم في الإسلام، الشيخ مرتضى مطهري، بيروت، دار الهادي، 1993م، ص14.