التقريبيّون وتحدّيات التقريب: خبرة فصليّة الفرنكوفونيّة نموذجاً

التقريبيّون وتحدّيات التقريب: خبرة فصليّة   الفرنكوفونيّة نموذجاً

 

التقريبيّون وتحدّيات التقريب: خبرة فصليّة الفرنكوفونيّة نموذجاً

 

الدكتور سمير سليمان

كان فتحاً رياديّاً وبادرة وعي استراتيجي تأسيس جماعة التقريب في القاهرة أواخر أربعينيات القرن العشرين. ولعلّ الأدلّ في علم الاستراتيجيا هو حسن تقدير الموقف في الزمان والمكان المناسبين، والرؤية السديدة لما ينبغي أن يكون، استناداً إلى ما هو قائم. فإذا أضفنا إلى هذين التقدير والرؤية، حسن التبصّر في الغايات الصحيحة، تكون جماعة التقريب فيما وعته وقدّرته ورسمته، قد وُفّقت في تقديم بعض أفضل المصاديق على صحّة خيارها الاستراتيجي ودقّة تقديرها لإحدى أهمّ ضرورات الاستنهاض والقوّة في الأمّة، وهي الدّفع في اتجاه التقريب بين مذاهبها والتّطلّع إلى وحدتها على قاعدة التنوّع واستدراك الآتي من الاستحقاقات الدّاهمة وأخطار التفكيك والتفتيت والفتنة.

بثاقب نظرتها الاستراتيجية تمكّنت جماعة التقريب من توقّع الآتي فسعت بأخلص الجهود الممكنة لملء فراغ تقاربي وتقريبي بين جناحيّ الأمّة استمرّ قروناً.

عجباً... كيف لمشروع ناجح ولجماعة طليعية من نخبة علماء الأمّة وخيرتهم، وبإمكانات مادية متواضعة أن يتقدّما خطوات إلى الأمام نحو تحقيق أهداف ذلك المشروع، ما حرّك سكوناً وركوداً تاريخيّين.. كيف لهذا كلّه أن يُكتب له التوقّف بعد حين، وقد كان حمّالاً تقابليّة إنجازات واعدة؟ّ!

منذ جيلين وعى أولئك المؤسسون أنّ مسؤولية التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعقل ولا يمكن أن يضطلع بها علماء أو دُعاة بشكل فردي، مهما أوتوا من إخلاص، خاصة وأن ظروف تلك الأيام لجهة الاتصال و التواصل وفاعلية الإبلاغ والتبليغ لم تكن تسمح بتسهيل مهمّة التقريبيين، على ندرتهم آنذاك، فاكتفى كلٌّ منهم في الحفر التقاربي في نطاق الحدود التي هو فيها.. حتى جاءت جماعة التقريب لتفتح كوّة في جدار التباعد وتهيء بعض السبل الآيلة إلى تحقيق اختراق في الوسائل و الآليات، فمكّنت من ترشيد تلك الجهود لتنطلق من بعد مسيرة مشروع التقريب إلى الأزمنة الحديثة. فقد انتبه هؤلاء المؤسسون التنويريون إلى ضرورة مأسسة مشروعهم وتنسيق الجهود المبذولة والمطلوب بذلها في سبيل تحقيق أهدافه الكبرى، فكانت إحدى الديناميات الرئيسية للمأسسة هي في إطلاق مجلة "رسالة الإسلام" عام 1949 م.

في أحوال تلك الأيام، والعالم الإسلامي مستغرق في شواغل مرحلة التحرّر الوطني والاستقلال القطري ومفاعيل التجزئة والكولونيالية –فكريّاً وثقافياً وسياسيّاً واجتماعيّاً – تستكن بنى البلاد والعباد فلا تترك صيغ حياتهم ومعيشهم وعلاقاتهم إلّا اخترقتها وعبثت بها.. في هذه الأحوال الصعبة والمعقّدة لم يكن ممكناً لمشروع جماعة التقريب تحقيق أكثر ممّا تحقّق في إضاءة شعلة التقريب بين المسلمين وإطلاق مسيرته، وإحداث تحوّل في وعي الكثير من نُخبهم العلميّة والثقافيّة والسّياسيّة.

واليوم، بتنا باليقين الّذي أثبتته وتثبته مصاديق الواقع، بأنّ مسيرة التقريب لن تصلح إلّا بما صلح به أوّلها على مستوى الرؤية والمبادىء والقيم ونماذج الرجال الذين انخرطوا فيها وبعض الوسائل التي توفرت لها، بعدما أمكن اليوم تطوير تلك الوسائل، تحديثاً أو إضافةً وجدّة.

بعد تجربة جماعة التقريب، عاد الفراغ العلائقي بين المذاهب للتمدّد. نقطع ولأنه لا فراغ في علائقيّة البشر، كان من الطبيعي- والحال هذه- أن تحتاج مساحاته مثيرات الفتن فتستحكم في نسيجه من داخل ومن خارج، إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران، ومعها تغيّر وجه الأمّة ونظرتها إلى ذاتها وإلى العالم، وكذلك نظرة العالم إليها.

المشروع الحضاري الإلهي الاستنهاضي استُبعِثَ من أطلال تجربة تغييب أو تهميش امتدت قرابة أربعة عشر قرناً، ومعه استُلَّ مشروع التقريب و التقارب من جديد واستُؤنِفَتْ مسيرته ممثّلة بتأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية... وأنه لجدير بالإلتفات أن لا يكون لهذا المجمع صنوٌ أو عديل أو نظير، ما خلا انتباهات أو إشراقات تقريبية جزئية هنا وهناك محدودة التأثير وأسيرة ظرفيّتها أو/وهمة القائمين بها، وغالباً ما يتحرّكون ويُحرَكون كأفراد لا كمؤسسات.

كان من البديهي ان تبدأ تجربة مجمع التقريب من حيث انتهت تجربة جماعة التقريب... وكلّنا يعلم صعوبات البدايات وأحوال الأمّة على ما تعرفون ونعرف، وهي ما انفكّت تتفاقم وتتردّى، ما جعل قصيري النَّفَس وحسيري الرؤية والتشاؤميّين لا يتوانون عن اتهام مشروع المجمع وجهود المنضوين في مسيرته بالطوباوية.

فعندهم: كيف لأمّة ممزّقة شرّ ممزق، والحروب المذهبية الباردة أو الساخنة تمعن في اغتيال كلّ محاولة جمع أو لمّ شمل.. كيف لأمّة منخورة ببواعث التفكك وإحن التنازع، أن تستقيم فيها دعوة تقارب أو تقريب؟! وهذه اتهامات بات من المسلّمات توجيهها إلى كلّ محاولة تغيير وإصلاح، وإلى كلّ مصلح، وفي كلّ ظرف ينهض فيه ناهض لمواجهة الفساد والإفساد والتخريب النفسي والاجتماعي والسياسي.

مجمع التقريب، وحيداً أو شبه وحيد وفي أحلك ظلمات الفرقة والتنازع والخواء، والمؤمنون بقضيته الكبرى إنبروا لحمل مشعلها.. فإذا مشروعهم يرقى من محلّيّة التأسيس إلى العالمية، وهذا رغم المعوقات السياسية والمادية، وما أصاب عمران الأمّة النفسي والبشري من تهتّك وتجزئة. ولو لم تكن مؤسسة مجمع التقريب، وقد أضحت اليوم مؤسسات، موجودة ومرتقية جبلاً من التضحيات والأعباء، لربما ما كانت علائقية المسلمين اليوم إلّا في الدّرْك الأسفل من التبدّد، و لَرانَ الفراغ التقسيمي وغطّى وعي الأمّة الجمعي أينما كان في هذا العالم الإسلامي المُثقَل بالابتلاءات والمِحَنْ من كل نوع وعيار، ولربما ما كان لدعوة التقريب صوت مسموع يتصدّى ويواجه، ويعاند في إعادة ترميم ما هدمته من عمارتها تكراراً أيدي التكفيريين والغلاة وأعداء الجمع والجماعة، وقبلهم وفيهم وبعدهم: الظّلَمة والمعتدون التاريخيّون على هذه الأمّة، سواء من داخل دَلَفوا أو من خارج.

لم يكن ممكناً لنهوض مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية ولا لخطابه أن يذيعا وينتشرا، إلّا بوسائل زمانه وآلياته.

في مرحلة حراك جماعة التقريب كان التواصل الشخصي والمراسلة ونشر الفكر التقريبي من خلال مجلة "رسالة الإسلام"، هي وحدها عدة العمل التقريبي والدعوة إليه. أمّا اليوم فقد أضحى لثورتي المعلوماتية وتكنولوجيات التواصل الفردي والجماعي، إضافة إلى التطور الكبير في حقليّ الطباعة والنشر...، أبلغ الأثر في نقل الحراك التقريبي إلى فضاءات جديدة، أسهمت إلى حدّ كبير في اتساع شبكة تواصله وإبلاغه، ما أسهم أيّما إسهام في نشر أفكاره وتوصيل رسالته والترويج لها والدعوة إليها، وفي تبوّئه مستوى العالمية التي يتسنّمها الآن، وخطابه يسجّل، ولو ببطء مشهود اختراقات بيّنة في جبهة المعاندين للمشيئة الإلهية المقرّرة حتميّة وحدة الأمّة، والسّائرين في رِكاب المشروع الحضاري المادي بشتّى تجلّياته.. وها هي مسيرة التقريب قائمة وقد راكمت خبرات عقدين ونيّف من الزّمن.

 حسناّ فعل مجمع التقريب أن جعل مؤتمره هذا العام في أحد محوريه، وثانيهما "الصّحوة الإسلامية" مدار تقويم و"نقد" لمسيرته خلال عشرين سنة. وإنّها لملفتة في دعوة المؤتمر لفظة "نقد" التي يبدو لنا أنّ أمينه العام قد تعمّد تظهيرها بهذا الوضوح والجرأة لتكون دورة المؤتمر هذه بالفعل وقفة مع الذّات ومراجعة لتجربة أمست الآن متطاولة وعريقة، بعدما احتملت من التجاريب والدروس ما بات يستدعي وقفة تأمّل وتفكّر واستقراء عِبَر وكشف واكتشاف مواطن القوّة ومواطن الضعف، وبيان مواقع التقدم أو الجمود في تلك المسيرة.

 انسجاماً مع دعوة صاحب الدعوة، ولأنّ مجمع التقريب بين المذاهب قد راكم خبرات كبرى في حقل اختصاصه ولوازمه، وهي في اتجاهات ومجالات شتّى، فإنّنا نجد لِزاماً علينا تقديم بعض عِبَر تجربة متنامية أسّس لها ورعاها المجمع بأحرص عين وأسهرها، هي تجربة مجلة ، العلميّة التقريبيّة الفرنكوفونيّة والتي نتولى رئاسة تحريرها في بيروت منذ تأسيسها لثلاث سنوات خلت.

أصدقكم القول، أيّها الأخوات و الإخوة، إنّ هذه السنوات الثلاث كانت من أصعب سنوات العمر وأشقّها تجربة. فتأسيس مجلة علمية رسالية في اختصاص التقريب، وباللّغة الفرنسية، كان مغامرة من قبلي، لكننا اكتشفنا بعد هنيهة من التأسيس، أنها كانت مغامرة محسوبة من قِبَل المجمع وراعيه آية الله التسخيري.. فقد كنّا بدأنا شيئاً، ثم أصبحنا بعد أعوام ثلاثة شيئاً آخر... مجهولين ومستضعفين بدأنا، فإذا اليوم في مستوى المجلّات العالمية التي توزّع في أرجاء شتّى من العالم الفرنكوفوني، وليس في جميع أقطار هذا العالم بطبيعة الحال.. فثمّة عقبات لا بدّ من تجاوزها قبل الارتقاء إلى مستوى التوزيع الدولي الشامل، سأشير إليها لاحقاً. مع التأكيد هنا على أنّ في سياسة المجمع الخاصة بالمجلة، كما بكل منشوراته، أنّها إصدار غير ربحيّ قطّ.

بدأنا بقلّة من الكُّتّاب بالفرنسية، ما أنهك ميزانيتنا إنفاقاً للترجمة إلى الفرنسية، فإذا بنا الآن وأكثرية كُتّابنا يكتبون بالفرنسية. وفي أرشيفنا اليوم عشرات المقالات التي تنتظر دورها للنشر بمجرد موافقة الهيئة العلمية للمجلة على نشرها. وعشرات أخرى غيرها، بعضها لكُتّاب بارزين وذوي شهرة، اعتذرنا عن نشرها لعدم الصلاحية.

بدأنا بعدد محدود من القرّاء، فإذا بنا نُقرَأُ اليوم حيث نصل على نطاق واسع، فنحضر في كُبرى المكتبات وفي العديد من الجامعات ومراكز الدراسات والمنابر الثقافية والعلميّة الفرنكوفونية.

في السنة المنصرمة حقّقت  باعتبارها ناطقة بمشروع التقريب، إنجازات هامّة على مستوى الاستقطاب التقريبي، فمقرها في بيروت موئل لزيارة فعاليات وفود تقريبية عديدة من شتى أرجاء العالم الفرنكوفوني، وبريدها الإلكتروني مثقل كل يوم برسائل الاستفسار وتقديم الأفكار والاقتراحات وإرسال المقالات وإقامة علاقات الاستقطاب.. إلخ.

لقد حضرت المجلة منذ تأسيسها، ومشروعها بيمينها، العديد من المؤتمرات والملتقيات العلمية الدولية حيث قوبلت بكل ترحيب ومؤازرة وإرادة جادّة بالتعاون المشترك، إلى درجة أنّها كانت حاضرة في العام الماضي (2011 م.) وحده، أحد عشر مؤتمراً ومنتدىً عالمياً كان فيها للتقريب ومجمع التقريب ومشروعهما الصوت المُعلّى والمؤثّر، وذلك من بيروت، إلى باريس، إلى الإمارات العربية، إلى دمشق، إلى ستوكهولم في السويد، إلى هلسنكي في فنلندا، إلى اسطمبول، إلى طهران، إلى تونس والجزائر... فإلى أذربيجان...

وهذا عدا المؤتمرات والمنتديات العالمية التي انهالت دعواتها على إدارة المجلة، واعتذرنا عن المشاركة فيها، وهي بما يعادل ضعف العدد الذي شاركنا فيه، وذلك بدواعي الاستحالة الموضوعية وتضارب المواعيد والعجز عن تلبية طلبات كتابة المقالات العلميّة المطلوبة.

لقد تمكنت المجلة، وفي مدّة زمنيّة قياسيّة، من إقامة شبكة علاقات إسلامية ودولية واسعة حولها تؤهلها لتكون أكثر فأكثر وسيطاً حضارياً، إضافة إلى كونها ناطقة ومُبشّرة بمشروع التقريب ومُنطِقاً له وداعية إليه، حتى في أماكن كانت بالأمس محظورة على الإسلاميين وعليها، ومنها حصون العلمانيّة في أكثر الجامعات الغربية أو العربية كالسوربون، وكلّيّات ومعاهد العلوم الاجتماعية في المشرق والمغرب.. إلخ.

وقد سهّلت المجلة أيضاً أو شاركت علميّاً، في قدوم العديد من الباحثين والوفود العلميّة من شتّى البلدان الإسلامية والغربيّة إلى لبنان للبحث وتبادل الخبرات في مجال الدراسات الأنطروبولوجية والعلاقات بين الجماعات في المجتمعات التعدّديّة، خاصة و أنّ لبنان بتعقيداته الديموغرافيّة والثقافيّة يشكّل مختبراً هامّاً لهذا النوع من العلاقات والدراسات.

 إنّه لإنجاز نادر ونوعيّ ما تحقّق، و مجلّة ناشئة، لكنّ رساليّتها ومستواها كانا عاملين أساسيّين فيما اهتدت به وهدت إليه.. وما كان للّه ينمو.  

هذا حلمٌ، لا مغامرة محسوبة فقط، لم يكن له أن يتحقّق إلّا بتوفيق إلهي وبوعي استراتيجي، ودعمٍ من قِبَل المجمع ورُعاته، يناظر في أهميته الوعي الاستراتيجي الذي تميّز به منشئوا جماعة التقريب، وذلك برغم العقبات الكأداء التي أعاقت حِراكنا بعدما مورِسَت ضدّ المجلّة، في بعض البلدان والأماكن، سياسة الأبواب المغلقة والآذان الصمّاء وخصوصاً في مرحلة التأسيس ثم في ظلّ "الإيرانوفوبيا" و"الشيعتوفوبيا" المؤجّجتين.

لقد أسعَفَنا، ونحن نرقى وننمو ونتقدّم، إنفجار الصّحَوات الإسلامية المتدحرجة في العالم العربي، فانفتحت أمامنا ولنا آفاق لا تخطر في بال. وإنّنا لنرى في الحِراك الشعبي العربي، إحدى أندر الفرص التاريخية أمام التقريبيّين للدعوة إلى فكرهم ومشروعهم. فالأرض عَطشى لأيّة جرعة وحدوية، والنفوس مفعمة بقابليّات التآلف برغم محاولات الالتفاف والاحتواء والمصادَرة.هي أيضاً سانحة تحوّل معرفي وتجديد لديناميّات التقريب من جهة، ولمواجهة التفتيتيّين والتكفيريّين والتشاؤميّين الّذين يسعون بكلّ السبل، إلى قطع الطريق على تلك الانتفاضات الشّعبيّة الوحدويّة وبخاصّة لجهة شنّ الحملات التحريضيّة ضدّ التقريبيّين، وكَيْل التُّهَم الملفّقة بحقّهم من جهة أخرى. ما يستدعي أقصى درجات التخطيط والوعي والحكمة في النظر إلى الحِراك الشّعبي القائم على قدم وساق وحُسن التّدبّر في المواقف منه.

أيّها الأخوات والإخوة،

إنّ وجه العالم يتغيّر كلّ يوم، وكذا وجه العالم الإسلامي.

التقريب بين المذاهب هو تحدّي العصر الإسلامي، وعلينا أن نكون في مستوى هذا التحدّي.       

العاقل من يعمَل.. فيتعلَّم.. فيعلَمْ.. فيعتَبِرْ. وفي صعوبات تجربة  التقريبيّة والمتاعب التي واجهتها وتواجهها، ما ينبغي الإلفات لإليه لتضمّته عِبَراً كثيرة. فظاهرة المتاعب التي تعاني منها وسائل التبليغ التقريبي الفكريّة هي في بعض وجوهها انعكاس لمتاعب الأمّة الثقافيّة والفكريّة:

1-   برغم الجهود التقريبيّة الطائلة المبذولة، وبخاصة من قبل مجمع التقريب، فإنّ الموقف الراصد لتلك الجهود يلاحظ أنّها تسير بسرعتين غير متوازيتين:

السّرعة الأولى هي سرعة مجمع التّقريب المتقدّمة الواضحة الرؤية والمنهج والأنساق، وهو ينوء بالمسؤوليّات الملقاة على عاتقه، حتى ليبدو أحياناً وكأنّ هموم التقريب بين المسلمين منوطة به وحده.

أمّا السرعة الثانية فهي سرعة التّقريبيّين أنفسهم، وهي كما المشهود متخلّفة نسبيّاً وبما لا يُقاس عن سرعة حِراك مجمعهم. والأسباب يعرفها أهل المجمع كما التقريبيّون أيضاً، وليت المجال والوقت يتّسعان للتذكير ببعضها.

2-   ثمّة تباينات في النّظرة إلى التقريب والمشروع التقريبي وأولويّات برامجه بين التقريبيّين، إضافةً إلى تضارب الرؤى بين ظهرانيهم لجهة مفهوم التقريب وأساليب العمل التقريبي، وإلى القراءات المبعثرة لواقع بلدانهم وخصوصيّاتهم الاجتماعيّة وحاجات العمل التقريبي بين ظهرانيهم، ما يعيق بالمحصّلة جهودهم أو يطيحها أو يُثير الخلافات فيما بينهم، فإذا التقريبيّون يحتاجون إلى من يُقرّب بينهم أحياناً.

3-   إنّ الفاعليّة الثقافيّة التقريبيّة، لتكون حركيّة وديناميّة، في حاجة دائمة إلى إدارة ثقافية متنوّعة مذهبيّاً ومفتوحة ومنفتحة يقودها مثقفون استراتيجيون تنويريون عابرون لحدود الطوائف والمذاهب ويتميزون بصدقية ونزاهة تقريبيتين ويتحرّكون بعقل مؤسسي وفريقي ورؤية منسّقة (حتى لا نقول موحّدة) في ضوء واقع بلدانهم السوسيو– ثقافي والسياسي على أن تسعى تلك الإدارات الثقافية إلى التزوّد بالإمكانيّات المادّيّة والوسائل اللّازمة التي تؤهّلها للاضطلاع بمسؤولياتها، وبخاصة في هذه المرحلة الإسلامية والدولية الانتقالية البالغة التعقيد، حيث المشروع الحضاري المناوىء مزوّد بقدرات هائلة، وما فتىء يحقق اختراقات مشهودة في ساحتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية مزوّداً بخبرات خبرات عريقة ما يجعل قدرة مشروعنا على المواجهة ضعيفةً للغاية، وهي في مسيس الحاجة إلى إعادة تأهيل وهيكلة وترشيد وتطوير في البِنى والإمكانات والوسائل. وهذه الحروب الناعمة لا تنفك تخترقنا وتستنزفنا وتبعثر جهودنا وتهجّر عقولنا على امتداد العالم الإسلامي.

في هذا السياق، وبهدف تفعيل وتعزيز الجهود التقريبية وضخّ دم جديد فيها، وللتخفيف من مركزية عمل المجمع ومن أثقال الأعباء عنه، نرى إلى ضرورة تشجيع الدفع في اتجاه تعضيد العمل التقريبي القائم في البلدان ذات التنوّع المذهبي من خلال تشكيل هيئات أهلية تقريبية تضمّ أكاديميّين ومثقفين وفنّانين وإعلاميّين،تكون بمثابة خلايا حيّة تتولّى المهمّات التقريبيّة في مجتمعاتها وبلدانها في ضوء تقديرٍ مقرّبٍ لحاجاتها وظروفها وما ينبغي لها، وتقرّر في شأنها نمط الخطاب التقريبي الذي يلائمها.

يحسن في هذه الحال، ولرفع مستوى التنسيق وتبادل الخبرات بين الأنشطة التقريبية في مجتمعاتٍ وبلدانٍ مختلفة، بالإضافة إلى أعلاه، إقامة أطرٍ أو هيئات إقليمية تنسيقيّة للتقريب بين المذاهب الإسلامية تضمّ كلّ منها مجموعة من البلدان ذات الفضاء الجيو-ثقافي والاجتماعي والسياسي الواحد أوالمتجانس، تتولى التنسيق فيما بينها وإقامة التكامل الممكن بين جهودها، كأن يكون لبلدان المشرق العربي مثلاً إطار إقليمي أو هيئة، ولبلدان المغرب إطار أو هيئة، ولإفريقيا ...، ولمجموعة البلدان التركية ...، ولأوروبا ... إلخ. على أن يرعى مجمع التقريب مركزيّاً هذه الأطر الإقليمية ويرشدها في اتجاه إقامة تنسيق تقريبي دولي ومتطوّر قادر على الاستجابة بشكل أفضل لضرورات المشروع التقريبي الاستراتيجي الأم لمجمع التقريب.

إنّ إجراء هذه التعديلات الهيكلية في بنانا التنظيمية التقريبية، عدا ما أشرنا إليه أعلاه، كفيل بتطوير العقل الجمعي التقريبي وتفعيله من خلال التخفيف من مركزيّته ودمقرطته وتزويده بطاقات بشرية جديدة، وبتعزيز حضوره من خلال جعله مزروعاً في كلّ أرضٍ، متألّقاً تحت الشّمس الخاصّة لكلّ بلد، وليتحوّل مجمع التقريب إلى عقل للتقريب و"حكومة" له.

4-   ضعف التخطيط والتنسيق وغياب مراكمة وتبادل التجارب والخبرات غالباً بين التقريبيّين، ما يجعل الكثير من الجهود التقريبيّة ضحيّة الفردانيّة والتجريبيّة والتكرار النمطي غير الملائم وردّة الفعل والظرفية، وذلك بصرف النّظر عن النّوايا الطّيّبة للقيّمين على هذه الجهود أو القائمين بها.

وما لم يتحوّل مشروع التقريب إلى قضيّة وفعل إيمان يومي ودعوة ثابتة ومستمرّة، ومتنزّلٍ من عالم النخب الفوقي إلى عالم الناس، كما بتنا نكرّر جميعاً، فالمقيّض له أن يبقى قشرة خارجيّة تسفيها رياح العصبيّات الصّغيرة واستعادات خبرات اللحظات والعهود المظلمة في علائقية المسلمين وتاريخهم الاجتماعي.

5-   يشكو الخطاب التقريبي في كثير من الأحيان تضمينه مكوّنات وحجاجات نقديّة غير تقريبيّة، وجنوحه إلى الخطابية والرّومنسيّة، ونأيه أحياناّ عن آداب الكتابة السِّجاليّة وأصول الحوار العقلاني، واستسهاله التعميم والاتهام وتحميل المسؤوليات للآخرين وتقديم الإجابات سلفاً والبناء على المسلّمات القبْليّة قبل إثارة الأسئلة، والنّرجسيّة المفرطة.

إنّ التطوّرات والتحوّلات السّائرة على قدم وساق في العالم، تُلزمنا بتحديث خطابنا التقريبي وإجراء ترشيدات بنيويّة فيه. ولعلّ إحدى وسائل هذا التحديث هي في إدخال دمٍ جديد وفكرٍ جديد وهيكليّاتٍ جديدة.

6-   نعرف أنّ استحضار الشباب إلى ساحة الجهاد التقريبي، هو هاجس المجمع التاريخي وسعيه إلى إقامة المؤسسات الشبابية التقريبية وبيوت الشباب التقريبيين وعقد المؤتمرات الشبابية في هذا الخصوص كما الأفكار الأخرى الموازية ، ما ينبغي له أن يوضع على نار حامية من جديد بحيث يُستَرجع إلى أولويّات برامج المجمع.. وليكن الشبّان أنفسهم هم الحاضن لهذا التّوجّه والمضطلعين بحمل لوائه.

إنّ التوجّه بالفكر التقريبي إلى الشباب وتربيتهم عليه وعلى قيمه، هما في الصّميم من مشروعنا، أو هكذا ينبغي أن يكونا. فأحد أهمّ معايير نجاح هذا المشروع هو في العمل على ملء الفراغ الشّبابي في خططنا المستقبليّة بالسرعة الممكنة.

7-   في الإعلام التلفزيوني والإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي أوسع المجالات للاستقطاب والدّعوة التقريبيَّين. وللشباب تبعاً لأعلاه دور أساسي.. ولتبيّن أهمية هذا الإعلام، يكفي الإطلاع في أحدث المصاديق، على تجربة الشباب وشبكات التواصل الاجتماعي في الحِراك الثوري الشعبي في بعض البلدان العربية مؤخّراً ودور هذا النمط من التواصل في تفجير ذاك الحِراك.

8-   كلّنا يعرف أنّ الإنتاج العلمي والثّقافي والمعرفي في العالم الإسلامي برمّته يشكو من عدم وجود مؤسسة متخصّصة لتوزيعه عالميّاً، وبما يتجاوز الحدود المحلية أو البينية أو الإقليمية أو العلاقات الشخصيّة..كما أنّ الكلّ يعلم أنّ مستودعات دور النشر في هذا العالم تغصّ بالكتب المكدّسة، وبشتّى اللّغات، وهي لا تصل إلى من وُضعت لهم في الأصل إلّا نادراً، أو من خلال أقنية اتصال حافلةٍ بالعوائق. ولطالما ذكَّرْنا الكثير من المرجعيّات الإسلامية التي نلتقيها باقتراحنا القاضي بتأسيس شركة دولية متخصّصة في توزيع الكتب والمطبوعات الإسلامية. مع الإشارة إلى أنّ مؤسّسة من هذا النوع، إن تعهَّدَها متخصّصون وأحسنوا القيام بالمهمّات الموكلة إليهم، ستكون مؤسسة تجاريّة ربحيّة بامتياز. فنكون، بإنشائها و إطلاقها، قد أصبنا هدفين استراتيجيَّيْن هامَّيْن في آن: إيصال مطبوعاتنا حيث ينبغي لها أن تصل وكسر العديد من العوائق التي تعترض سيرورتها من جهة، وتحقيق ريعٍ يمكن إنفاقه في مجالات أخرى تعوّدنا على كونها تستهلك أكثر بكثير مما تنتج معنويّاً و مادّيّاً، من جهة ثانية.

9-   تضمّ علائقيّة الدينيّ /التقريبي/ السياسي إشكاليّات كثيرة ما يقتضي العمل بكلّ الوسائل الصّالحة لتحرير المؤسسات الدينية أو المذهبية التابعة لهيمنة السياسي أو الملحقة به، وتحريرها من ربقة التدجين والإرتهان السياسيين، إدارةً وخيارات وتنظيماً وموارد. وسيكون بالغ الأهمية الاستقلال المالي لهذي المؤسسات عن طريق إطلاق يدها في مجال الفُتيا أو الأوقاف أو القضاء الشرعي مثلاً.

برفع اليد هذه تُستدرك إيجابيات في جميع الاتجاهات، وفي مقدمها تزوُّد القوى التقريبية الحرة بدم وزخم جديدين من خلال انضمام مكافحين مستنيرين ورياديين جدد إلى مسيرتها بعد أن كانوا لزمن غير قصير في خدمة السلاطين، وتوسيع انتشار ثقافة التقريب وتطوير دينامياته وآلياته وتفعيل حراك دعاته وتأثيرهم وتعميق معرفتهم بالآخر من شتى الجوانب على قاعدة اعتبار التقريب والتقارب فعلين مستدامين يحتاجان إلى ترشيد ومراجعة وإعادة تأهيل باستمرار. وبذلك تنتزع من قبضة الاستبداد ومن تفاعلات المنازعات البينية ورقة أساسية، هي ورقة القدرة على تحريك الغرائز المذهبية واستخدام الابتزاز والترهيب الماديين والمعنويين بحق قادة الرأي الديني والعلماء الأحرار. ويمكن، توصلاً إلى هذا الهدف، رفع الغطاء الشرعي، أو إشهار التهديد به بالأقل، في وجه النخبة السياسية المستبدة التي لطالما حولت المؤسسة الدينية والمذهبية الخاضعة لمشيئتها إلى مُلْتَحَفَ تلتحفُ به لتغطية ظلمها واستبدادها وإنفاذ مشروعها السياسي وحماية سلطانها ومصالحها.

 

10-   برغم التقدم الإيجابي المشهود في المساعي التقريبية، فإن التباين السياسي بين بعض الدول الإسلامية، وبمعنى    أدق: بين النخب أو المؤسسات السياسية في العالم الإسلامي والعربي، قادر على قلب طاولة التقارب بين المذاهب والفرق في الوقت الذي يختاره، فيُزيل – بضربة واحدة – بعض أو جُلَّ الإنجازات التقاربية. وما يحدث في لبنان والعراق وباكستان مثلاً، ناطق بهذه الحقيقة المرة. وليت الأمر يتوقف عند حدود البلدان التي حدث التباين فيها على مستوى المؤسسات الرسمية أو النخب السياسية، لكننا نراه يطال بعد ذلك، وبتخطيط محكم ومتعمد، فئات الشعب وشرائحه كافة، إذ سرعان ما نشهد نيران فتنتهِ قد امتدت بقدرة قادر إلى بلدان العالم الإسلامي والعربي بأسره، وكأنما اشتعلت في هشيم.

هكذا، وفي دوامة غير متناهية، تضطر مؤسسات التقريب إلى معاودة بذل جهودها من نقطة الصفر أحياناً كثيرة، ولكن بقيمة مضافة هذه المرة قوامها الاستغراق في معالجة ذيول الأزمات التفتيتية والتناحرية الدوارة التي تنفجر في وجهها هنا وهناك، والانشغال في مداواة الخسائر التي تسببت بها، وهي من كل نوع. وتظل إصبع الاتهام في الأغلب تدل على التلاعب السياسي بالنعرات الطائفية أو المذهبية واستبعاثها مواطيء الفرقة واستبطانها إيديولوجية الشقاق والنفاق. وما يحدث لجهود التقريب المذهبي بين المسلمين، له ما يناظره أو يشبهه في تجارب التواصل والحوار بين الأديان.

إن الدوران في هذه الحلقة المفرغة، يقتضي في رأينا لزوم تنبه مؤسسات التقريب إلى ضرورة إجراء مراجعة نقدية لمنهجية عملها في اتجاه إعادة ضبط إيقاعها وترشيد خططها وخطاها في ضوء التفاعلات السياسية على السّاحة الإسلامية. فما دام «السياسي» التقليدي  قادراً على إبطال عمل الرسالي الديني والتدخل في مواقفه والتخريب عليه وعلى «سياساته» وحرفه عن مسيره والعمل على إحكام ربطه بمشروعه السياسي ومصالح استبداده، فإن أي جهد تفاهمي أو تقاربي يبذل، سيلبث تحت تهديد شفرة السيَّاف السياسي. وبالتالي، لا مناص من رفد المساعي والمحاولات التقريبية بين المذاهب، كما بين الأديان، بأخرى تقريبية سياسية تواكبها، أو تسبقها، أو تتبعها.

 

أيّها الأخوات والإخوة،

إذ نُحَيّي بمناسبة هذا اللّقاء المبارك، باسم مجلّة ، كلّ تقريبيّ في هذا العالم، وأنتم طليعتهم، ندعوكم وأنفسنا إلى عدم ترك أيّ فسحة فراغٍ تقريبيّ أينما كنتم غالباً، من غير أن نجهد جميعاّ في سبيل ملئها بكلّ سعي ممكن أو بذلٍ مُستَطاع، ولو بأضعف الإيمان.

فالتحدّيات كبيرةٌ والجهود دونها بكثير.

خبرة  ، تشهد وتُنبِىء بأنّ القول كثيرٌ والفعل أقلّ منه أحياناً. ونسأل الله أن لا يكون بين التقريبيّين من تَذْكرهم وتُذكّرهم الآيتان من سورة "الصّفّ":

} يا أيّها الّذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون;  كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون {