التوازن في الانتماء والولاء في القرآن والسنّة

التوازن في الانتماء والولاء في القرآن والسنّة

 

 

التوازن في الانتماء والولاء في القرآن والسنّة

 

ماجد الخالدي

قم ـ إيران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخلاصة:

راعى القرآن الكريم ظاهرة التعددية في الانتماء والولاء الثانوي للقبيلة وللوطن وللقومية، فلم يعطلها أو يلغيها، وإنّما أقرها في حدودها المسموح بها، مراعيا دخائل النفوس والمشاعر الباطنية والوشائج المتجذرة، فكانت تعاليمه منسجمة مع فطرة الإنسان، فتعامل معها كحقيقة قائمة، ولكنه مع هذا التعامل وازن بينها وبين الانتماء والولاء لله وللرسول وللإسلام ؛ فجعله حاكما على غيره من الانتماءات والولاءات، ووضع مقاييس وموازين للتقييم وللعلاقات بين المسلمين.

وراعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانتماءات والولاءات الثانوية وأبقاها ضمن الحدود التي لا تصطدم بالمصلحة الإسلامية الكبرى، فأقر الانتماءات القبلية ووزع النقباء في بيعة العقبة الثانية على أساس الانتماء القبلي، وكتب كتابا بين المهاجرين والأنصار مقرا بتعدد الانتماء، وكان يتعامل مع جميع الموجودات

ـ(194)ـ

والانتماءات تعاملا واحدا في تكليفهم بمهام واحدة، وأسند المناصب تبعا لظروف الانتماءات المحدودة، وكان يوجه الأنظار نحو الانتماء والولاء المشترك ويتجاوز الأزمات التي يخلقها التعامل غير الواعي مع تعدد الانتماء والولاء، ووضع تعاليم قيّمة لتكريس حاكمية الانتماء والولاء للإسلام ومنها:

الحب في الله والبغض في الله، والاهتمام بأمور المسلمين، والنهي عن التعصب، وعن الممارسات السلبية، والدعوة للالتزام بالأخلاق الإسلامية.

 

التوازن في الانتماء والولاء في القرآن والسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الصلاة والسلام على البشير النذير نبينا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

من السنن التاريخية التي لا تختلف ولا تتخلف ان الإنسان يختلف مع أخيه الإنسان في مختلف القضايا وعلى جميع المستويات الفكرية والسلوكية والولاءات العاطفية، وهذه حقيقة موضوعية لا تقبل الجدال، فالإنسان بغرائزه وطاقاته العقلية والنفسية، وإمكاناته الروحية والمادية يختلف عن غيره من بني الإنسان، ومن هنا تعددت الانتماءات الإسلامية في جميع مراحل المسيرة، فرعاة الأمة يختلفون في كثير من الأمور النظرية والعملية، في تصورهم للأوضاع والأحداث وفي تقييمهم للأشخاص والوجودات، وفي أساليب العمل، وفي المواقف الإصلاحية والتغييرية، والرعية تختلف أيضاً في قناعاتها الفكرية والعاطفية والسلوكية وان كانت تنتمي إلى عقيدة واحدة أو مذهب واحد، فإنها

ـ(195)ـ

تنتمي أيضاً إلى محاور ثانوية وتتوزع على ولاءات جانبية يفرضها الواقع، كالانتماء الأسري والقبلي والوطني والقومي، والانتماءات متعددة بتعدد الأفراد، وهي حالة صحية أن كان الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على السلوك والمواقف والممارسات، ومن العقل والحصافة والمسؤولية الشرعية ان تبقى التعددية في الولاء والانتماء في حدودها الإيجابية التي تخلق أجواء المنافسة المشروعة في إنجاح الأعمال والممارسات والتحرك ضمن الأفق الواسع للوصول إلى الأهداف الكبرى.

ومن هنا فالتوازن بين الانتماء للإسلام والانتماءات المتعددة ضرورة ملحة في حركة الأمة وتطلعها لإنجاز الأهداف الكبرى في مرحلة المواجهة مع أعداء الصحوة الإسلامية.

وقد أقر القرآن الكريم تعددية الانتماء والولاء، وتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معها كأمر واقع وأمر فطري لا يمكن تجاوزه، فأقر التعددية وتوزع المسلمون في عهده والعهود اللاحقة على انتماءات ثانوية وجانبية، وما حدث في مسيرة المسلمين من تشاحن وتباغض في الماضي البعيد والقريب لم يكن من صنع التعددية في الانتماء والولاء وإنّما هي من صنع الأفراد الذين ابتعدوا عن موازين ومقاييس الإسلام الكبرى، وانحرفوا عن منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعل الانتماء والولاء للإسلام حاكما على جميع الانتماءات والولاءات، فكان للأنا وحب الذات والهوى والمصالح الشخصية والاستبداد بالرأي دور كبير في إشاعة التشاحن والتباغض خلافا للأسس الثابتة في العقيدة والشريعة الإسلامية.

وفي معترك الصراع القائم بين الإسلام والوجودات غير الإسلامية وفي مرحلة المواجهة مع الاستكبار العالمي، تصبح الحاجة ضرورية لصياغة جديدة

ـ(196)ـ

وتربية شاملة للنفوس والمواقف لتنسجم مع أساسيات الإسلام، في التوازن بين الانتماء المطلق للإسلام والانتماء المقيد بالوطن والقومية والمذهب وسائر الانتماءات القانونية، ونحن بحاجة إلى وحدة الموقف اتجاه التحديات التي تستهدف الإسلام دون النظر إلى الانتماءات المتعددة، وبحاجة إلى الحذر الدائم من العمل الذي يجعل الانتماءات الجانبية حاكمة على الانتماء الأساسي للإسلام، وبحاجة إلى الالتقاء في النقاط المشتركة والنظر إلى الواقع من خلال الآفاق الواسعة المشتركة واستيعاب الفواصل الجزئية، لكي تبقى الانتماءات والولاءات الجانبية والثانوية في حدودها التي لا تخالف الانتماء والولاء المطلق للإسلام.

فلابد من توازن واعتدال في تصوراتنا وعواطفنا ومواقفنا لكي لا يطغى أي ولاء وانتماء على غيره، أو يلغي غيره، فالانتماء والولاء للإسلام أولا، وللولاءات الأخرى ثانيا.

إقرار الانتماءات الولاءات الثانوية في القرآن الكريم

القرآن الكريم هو منهج حياة واقعية، ناظر في تشريعاته وأحكامه إلى الواقع الموضوعي بأوضاعه وتشكيلاته وتنظيم علاقات الأفراد والجماعات، ذلك الواقع الذي يعيش فيه الناس مختلفين اختلافا منبثقا من تعدد اللغات والألوان والأجناس والانتماءات الجغرافية، إضافة إلى الاختلافات الناجمة من أحوالهم وارتباطات حياتهم، وموروثاتهم البيئية والاجتماعية، ورواسب تاريخهم، ولذا عاش القرآن الكريم مع الواقع وفي الواقع، فأقر الاختلاف بين الناس وما يستلزمه من تعدد الانتماءات والولاءات، وجعل الاختلاف آية من آيات الله تعالى:

 

 

ـ(197)ـ

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾(1).

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

فاختلاف الألسن واللغات والألوان حقيقة موضوعية لا يمكن تجاوزها، كذلك انقسام الناس إلى شعوب وقبائل، فجميع هذه الاختلافات حالة وظاهرة طبيعية لا يمكن الغاءها، ولا يمكن إلغاء وتجاوز ما يترتب عليها من روابط الحب والمودة والميل والأنس اتجاه الآخرين المنتمين إلى نفس اللغة ونفس اللون، ونفس القومية والقبيلة ؛ ولهذا تعامل القرآن الكريم معها تعاملاً موضوعيا مراعيا الطبيعة الإنسانية في الميل القلبي والروحي إلى من يشاكلها في المظاهر والظواهر، ويتحد معها في الصنف والجنس والانتماء الواحد.

فالولاء للانتماء الواحد أمر فطري مغروز في الطبيعة الإنسانية، والولاء بنفسه ظاهرة إيجابية تدفع الإنسان للتآلف والتآزر والتعاون للنهوض بأعباء المسؤولية في الحياة، وتعامل القرآن الكريم مع هذا الولاء تعاملا متوازنا، ووضع منهجه لتهذيبة في الواقع وفي المواقف السلوكية، وجعل الانتماء للإسلام ـ عقدية وكيانا وقيادة ووجود بشري مترابط ـ حاكما على جميع الانتماءات وجعل الولاء للإسلام مقدما على سائر الولاءات دون إلغاء أو تجاوز لها.

فوجه المسلمين بجميع انتماءاتهم وولاءاتهم إلى الأفق الأرحب والمدى الأوسع، فوجههم إلى الانتساب إلى الله الواحد في العقيدة وآثارها التكليفية.

________________________________

1 ـ سورة الروم 22.

2 ـ سورة الحجرات 13.

ـ(198)ـ

وإلى الأمة الواحدة: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(1).

ومع اقراره للعواطف والمشاعر الفطرية والأنس بالمقربين للإنسان قربا نسبيا إلا أنه جعل الحب لله ولرسوله حاكما على جميع أواصر الأنس والولاء: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(2).

والقرآن الكريم يدعو إلى تعميق أواصر الحب والولاء للأصناف المذكورة في حدودها الطبيعية التي لا تصطدم بالأواصر الإيمانية والمبدئية، لأنه يسعى إلى إعلاء كلمة الله تعالى وجعلها الحاكمة على أفكار ومواقف الناس ليتحقق السلم والخير والسعادة، فلابد من استبانه في السلوك والممارسات العملية، ولابد من مفاصلة في حال دوران الولاء بين وجودين متناقضين، فيقدم الولاء للوجود الإسلامي على الولاء لغيره، مع مراعاة التوازن في الانجذاب والميل، بلا إفراط ولا تفريط، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(3).

وكذا الحال في الولاء للعقيدة وللمرتبطين بها مقدم على جميع الولاءات، والولاء المقصود هو الولاء الذي تترتب عليه مواقف عملية، كالتلقي العقائدي والتشريعي، وإتباع موازين ومعايير التقييم، اما الولاء أواصر العطف

________________________________

1 ـ سورة الأنبياء 92.

2 ـ سورة التوبة: 24.

3 ـ سورة المجادلة 22.

ـ(199)ـ

والحب الغريزي وحسن المعاملة فهو أمر غير منهي عنه: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾(1).

وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(2).

فالولاية لله ولرسوله وللمؤمنين مقدمة على غيرهم، والولاء داخل الوجود الإسلامي ظاهرة طبيعية غير منهي عنها فولاء المسلم العربي للمسلم العربي أمر فطري أقره القرآن الكريم، وكذا ولاء غير العربي لأبناء جنسه فطري غريزي لا يمكن الغاؤه وتجاوزه، وخصوصا في العلاقات الاجتماعية، أما في موازين التقييم فإن التقوى هي الحاكمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(3).

الانتماءات والولاءات الثانوية داخل الكيان الإسلامي

الكيان الإسلامي خليط من انتماءات وولاءات ثانوية متعددة فرضها الواقع، ولهذا فقد راعى القرآن الكريم هذا الاختلاف الظاهري واقره بمسمياته تعبا لاختلاف الأفراد والوجودات، وإذا تتبعنا الآيات القرآنية لوجدناها تسمي الوجودات المختلفة بمسمياتها الطارئة والمتجذرة، وتميزها عن غيرها كأمر واقع، فقد قسم القرآن الكريم المسلمين إلى ثلاثة أقسام ووجودات وانتماءات وهم: (المهاجرون، والأنصار، والمؤمنون غير المهاجرين)، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ

________________________________

1 ـ سورة آل عمران: 28.

2 ـ سورة التوبة: 23.

3 ـ سورة الحجرات: 13.

ـ(200)ـ

آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1).

فهنالك ثلاثة وجودات وانتماءات مشخصة في الواقع كل وجود وانتماء لـه أفراده المنتسبين إليه.

وقسّمهم ثانية إلى السابقين والى التابعين لهم بإحسان قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2).

وقسّمهم إلى مسلمين أسلموا قبل الفتح ومسلمين أسلموا بعده، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(3).

وهنالك تقسيمات أخرى أفرزها الواقع، وأقرها القرآن الكريم، فهنالك طائفة من المسلمين تسمى بأهل بدر، وطائفة تسمى بأهل بيعة الرضوان، وهنالك تقسيم آخر مشخص في الواقع على أساس الجهاد وعدمه، فهنالك مجاهدون وهنالك قاعدون.

وقسّم القرآن الكريم المسلمين على انتماءات نجمت من الموقع الجغرافي، فسّماهم على هذا الأساس، كأهل مكة وأهل المدينة، والأعراب من حول المدينة.

وهذه الانتماءات وان أدّت إلى ولاءات متعددة إلا ان القرآن وازن بينها وبين الولاء الحقيقي للإسلام، ووجه المسلمين للتعامل على أساس الرابطة الأعمق، وجعل الانتماء إلى عنوان الإسلام مقدما على جميع العناوين الثانوية،

________________________________

1 ـ سورة الأنفال 72.

2 ـ سورة التوبة 100.

3 ـ سورة الحديد 10.

ـ(201)ـ

واعتبر الفواصل المتقدمة فواصل جزئية ظاهرية لا يجوز تقديمها على الروابط والمشتركات الكلية، وجعل التقوى وعمل الخير والجهاد في سبيل الله، وطاعة الله ورسوله، والإخلاص هو الميزان الذي توزن على ضوئه جميع الانتماءات والولاءات.

فقد اقرّ التعددية في حدودها الجزئية لكي تكون وسيلة للتنافس المشروع في تطبيق المفاهيم والقيم الإسلامية في واقع الحياة، ويكون عنوان الإسلام هو الجامع للانتماء والولاء، وهو الدافع للعمل والسير وهو الحاكم على العلاقات والارتباطات المختلفة.

وقد اثبت القرآن الكريم ان التعددية في الانتماء والولاء داخل الكيان الإسلامي لم تكن سببا للتناحر والتنافر، فقد اثنى على جميع الوجودات والانتماءات برؤوسها واتباعها، حيث تعاونوا وتآزروا في طاعة الله ورسوله، وشاركوا في أداء المسؤولية الواحدة ولم تكن التعددية عائقة من العمل والمثابرة لتحقيق الهدف الواحد والغاية الواحدة.

والدرس المستنبط من القرآن الكريم وتعامله الموضوعي مع واقع التعددية، ان الوحدة الإسلامية لا تعني إلغاء الانتماءات والولاءات المنضوية تحت راية الإسلام، ولا تعنى الانصهار في عنوان واحد، وإنّما تعني وحدة الموقف اتجاه مختلف القضايا التي تواجه المسلمين داخليا وخارجيا، والانصهار في عنوان واحد، حالة مثالية لا تتحقق في الواقع، فيبقى المسلمون منقسمين إلى سنة وشيعة ومتوزعين على مذاهب مختلفة، وان كان الإسلام هو العنوان الجامع بينهما.

ـ(202)ـ

السيرة النبوية والتوازن في الانتماء والولاء

راعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانتماءات والولاءات الثانوية والجانبية، فلم يقم بتجاوزها والغائها، بل أقرها واثبتها كحقيقة موضوعية افرزها واقع المسلمين، وواقع الإنسان الذي يميل ويأنس لصنفه وجنسه، ويتجانس مع ما الفه في سيرته وحركته.

ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم هذّب المواقف العملية وجعلها تصب في المصلحة الإسلامية الكبرى، مصلحة العقيدة والشرعية والوجود والكيان الإسلامي، فوازن بين الانتماء الثانوي والانتماء الأساسي، وبين الولاء الثانوي والولاء الأساسي، وجعل الأساسي حاكما على الثانوي ومقدما عليه، مع بقاء الثانوي على حالة وحدوده المنسجمة مع الروابط والولاءات الإسلامية الكبرى.

أو فيما يلي نستعرض سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن:

أولا: بيعة العقبة الثانية

بايع الأنصار من الاوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم (أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم)، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الاوس (1).

فأقرهم صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الاختيار، حيث اختاروا العدد متناسبا مع نسبة الأفراد وانتماءهم للاوس والخزرج وللبيوتات والأسر المنضوية تحت كلا القبيلتين، وأقرّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه التعددية، وأقرّ الانتماء الآخر الخارج عن انتماء الأنصار، فقال:

________________________________

1 ـ السيرة النبوية 2: 85، ابن هشام، دار أحياء التراث العربي، بيروت.

ـ(203)ـ

(انتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي ـ يعني المسلمين ـ ) (1).

ثانياً: كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار

كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، أقرّ فيه التسميات المختلفة والانتماءات والولاءات المتعددة المنضوية تحت اسم الإسلام وكيانه الموحد. وفيما يلي بعض فقرات هذا الكتاب: (... هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، انهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين....

وان لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه...

وان ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس...

وانه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، ان ينصر محدثا ولا يؤويه)(2).

فقد أقرّ صلى الله عليه وآله وسلم الانتماءات والولاءات المتنوعة، وسمى الوجودات القائمة

________________________________

1 ـ م ن 2: 88.

2 ـ السيرة النبوية 2: 147 ـ 148 ـ 149.

ـ(204)ـ

بأسمائها، كمسلمي يثرب ومسلمي قريش، والمهاجرين، والأنصار، وبني عوف، وبني ساعدة، وأقرّ الروابط القائمة بينهما فكل انتماء ووجود يتحمل عن أفراده (المعاقل) أي الديات، حسب المنهج المتفق عليه قبل الإسلام، وكل انتماء مسؤول عن أفراده في الفداء والقسط، ومع هذه المراعاة شدهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الانتماء الحقيقي والارتباط الأساسي، والولاء الأكبر وهو الإسلام، فهو الحاكم على جميع العلاقات الناجمة من تعدد الانتماء والولاء وهو المقياس في اتخاذ المواقف وأجراء الترتيبات اللازمة في الحكم على الأشخاص والوجودات القائمة. ومن خطبة لـه صلى الله عليه وآله وسلم مقارنة لهذا الكتاب انه قال: (... ان احسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى قد افلح من زينه في قلبه، وادخله في الإسلام بعد الكفر... احبوا ما احب الله، واحبوا الله من كل قلوبكم... وتحابوا بروح الله بينكم...) (1).

ثم أعلن صلى الله عليه وآله وسلم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار مع الحفاظ على انتماء وولاء كل منهما، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «تآخوا في الله أخوين أخوين)(2).

فكانت روح الاخوة هي الدعامة الأساسية في العلاقات الاجتماعية، فكان الأنصاري يقدم المهاجر على نفسه حتى وصل الحال بمن يملك زوجتين يخير (أخاه المهاجر في إحداهما) (3).

وكان المهاجرون والأنصار في حينها يتوارثون بهذا الإخاء أرثاً مقدماً على القرابة (4).

________________________________

1 ـ السيرة النبوية 2: 147، ابن هشام.

2 ـ م. ن 2: 150.

3 ـ تاريخ المدينة المنورة 1: 48، ابن شبة النميري، دار الفكر، قم 1410 هـ.

4 ـ الفصول في سيرة الرسول: 120، ابن كثير، المدينة، المدينة المنورة، 1413 هـ، ط 6.

ـ(205)ـ

وهكذا تجلت الموازنة بين الانتماءات والولاءات الأساسية والثانوية، دون تجاوز أو إلغاء.

ثالثا: غزوة بدر

لم يكلّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار بأي مهمة عسكرية قبل غزوة بدر، لأنهم كأفراد وكجماعة لم يصبهم من قريش أي أذى، وان كان الصراع بين قريش والمسلمين صراعا عقائديا، إلا انه راعى طبيعة الأوضاع والأحداث ولم يكلف الأنصار بمهمة تبعا للعقيدة ومتطلباتها وإنّما اقتصرت المهام على المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم ظلماً وعدوانا بعدما تعرضوا للاضطهاد والأذى والتعذيب، فكانت البعوث والغزوات مقتصرة عليهم، ففي السنة الأولى من الهجرة والأشهر الأولى من السنة الثانية كلف عمه حمزة ومعه عدد من المهاجرين للتعرض إلى قافلة قريش التجارية، وبعث بعده سعد بن أبي وقاص إلى الابواء، وبعث عبد الله بن جحش في رهط من المهاجرين لاستطلاع الأوضاع، وجميع هذه الغزوات والبعوث لم يشترك بها أي رجل من الأنصار (1).

وحينما أراد التوجه إلى بدر جمع أصحابه وقال: أشيروا عليّ أيها الناس، وكان يقصد الأنصار لأنه يخشى من الأنصار ان لا يرون نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة حسب اتفاق البيعة، وليس عليهم ان يسير بهم خارج المدينة، فقال لـه سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أجل، قال: قد آمنّا بك وصدّقناك واعيناك عهودنا، فامض يا رسول الله لما أُمرت (2).

________________________________

1 ـ الكامل في التاريخ 2: 111 ـ 112 ـ 113.

2 ـ الكامل في التاريخ 2: 120 ابن الأثير، دار صادر بيروت 1965م.

ـ(206)ـ

فقد راعى صلى الله عليه وآله وسلم خصوصية توجه الأنصار التي تفرضها الظروف المحيطة بهم، فلم يكلّفهم فوق طاقتهم، مراعيا طبيعة الانتماء والولاء الثانوي، ولم يسر بهم لقتال قريش إلا بعد ان وجدهم متهيئين لذلك متجاوزين خصوصية الانتماء والولاء الثانوي.

وفي غزواته جميعا لم يخصص حمل الراية بأحد الانتماءين وإنّما وزّعها عليهما فجعل (راية مع المهاجرين وراية مع الأنصار) (1).

رابعاً: غزوة الخندق

قبل غزوة الخندق بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قائدي غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن لا يشاركا قريش في حربه، ولكن لم تقع شهادة على ذلك ولا عزيمة صلح، فلما أراد صلى الله عليه وآله وسلم ان يمضي ذلك بعث إلى اثنين من قادة الأنصار واستشارهما في ذلك، مراعاة منه لظروف الأنصار الخاصة بهم وبانتماءهم المحدود، فقال لـه سعد بن معاذ: (يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك... وهم لا يطمعون ان يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا لـه واعزنك بك وبه ن نعطيهم أموالنا... والله لا نعطيهم إلا السيف)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فأنت وذاك، فتناول الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب (2).

فقد راعى صلى الله عليه وآله وسلم خصوصية الانتماء واقر ما جاء في قول سعد لأن الثمار بالأصل هي ثمارهم وان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القيم عليهم، إلا انه استجاب لما أراده سعد باعتباره أحد رؤساء الأنصار وان الثمار تابعة لهم.

________________________________

1 ـ السيرة النبوية 2: 464.

2 ـ السيرة النبوية 3: 234.

ـ(207)ـ

وحينما حفر المسلمون الخندق كان صلى الله عليه وآله وسلم يمدح المهاجرين والأنصار على حد سواء، ويقول: (اللهم أرحم المهاجرين والأنصار).

ولما أشار سلمان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندف قال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا ؛ فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: (سلمان منا أهل البيت) (1)، فأضاف انتماءاً ثانوياً آخر وهو أهل البيت.

خامساً: مراعاة الانتماء والولاء الثانوي في إسناد المناصب والمهام

راعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانتماء والولاء الثانوي في إسناد المناصب، فكان ينصّب شخصاً من الأنصار على المدينة حينما يخرج منها، فقد استخلف سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وابالبابة وسباع بن عرفطة الغفاري وآخرين وجميعهم من الأنصار (2)، ولم يستخلف أحدا من المهاجرين إلا في حالات خاصة.

وحينما طلب الاوس منه صلى الله عليه وآله وسلم القيام بمهمة قتل كعب بن الاشرف سمح لهم، وقاموا بالأمر بنجاح، فقالت الخزرج: والله لا يذهبون بها علينا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدفعتهم خصوصيتهم الانتمائية إلى ذلك، فسمح لهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام بمهمة مشابهة لما قام به الاوس (3).

وحينما فتح مكة عيّن واليا من قريش عليها، ولم يعيّن والياً من الأنصار، وحينما خضعت الجزيرة العربية لـه ودخل الناس في دين الله افواجا وجاءته وفود القبائل، جعل كل رئيس قبيلة على منصبه ولم يستبدل أحدهم بالآخر مراعاة

________________________________

1 ـ السيرة النبوية 3: 235.

2 ـ الكامل في التاريخ 2: 111، 112، 138، 216.

3 ـ م. ن 2: 146.

ـ(208)ـ

للانتماءات والولاءات المتعددة، ما دامت لا تصطدم بمبادئ الإسلام الأساسية، وما دامت موافقة لمصلحة الإسلام والمسلمين.

وفي جميع الغزوات التي قادها اسند قيادة الجيش في رتبها المختلفة إلى الوجوه البارزة، كل على قبيلته أو جماعته، زيادة في الانس والتآزر والتكاتف مع توجيه انظارهم إلى الروابط الأساسية والولاء الأساسي لله ولرسوله وللمؤمنين (1).

خطوات عملية في التوازن

مع مراعاة خصوصية الانتماء والولاء وما يترتب عليها من علاقات وارتباطات ومواقف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجه الأنظار والعواطف والمواقف إلى الأفق الاوسع والمدار الارحب في الانتماء والولاء، ويوازن بين الخاص والعام والمحدود والمطلق، فلا يطغى جانب على آخر، لأن الاقتصار على الانتماء والولاء المحدود قد تؤدي إلى حدوث اضطراب في العلاقات أحياناً بسبب سوء الفهم والادراك، وكذلك الاقتصار على الانتماء والولاء المطلق للإسلام وإلغاء سائر الانتماءات والولاءات التي يؤدي إلى الاضطراب لعدم مراعاة الروابط والعلاقات الخاصة، فالتوازن هو أفضل الأساليب في إنجاح المسيرة الإسلامية وقربها من تحقيق الأهداف وتنفيذ الأعمال والمشاريع.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستثمر الفرص للتوازن بين الأساسي والثانوي في الانتماء والولاء، ويكرّس علاقات الإخاء والتآزر والتعاون بين الأفراد والجماعات والكيانات والانتماءات، فحينما سمع ببكاء أهل المدينة على شهدائهم، وجههم

________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 4: 205 وما بعدها.

 

ـ(209)ـ

إلى العواطف الأوسع، والى الأواصر الاكبر لاشعارهم بوحدة الهدف ووحدة الوسيلة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لكن حمزة لا بواكي لـه) (1). فسمعها الأنصار فانتدبوا بعض النسوة للبكاء عليه، فأشعرهم بأن الشهيد هو شهيد المسلمين جميعا، هو شهيد العقيدة الواحدة والهدف الواحد والمصير الواحد لا فرق بين انتمائه إلى المهاجرين أو الأنصار إلى إلى إحدى العشائر والقبائل.

ومن خطواته صلى الله عليه وآله وسلم في إقامة التوازن هي التعامل مع المسلمين تعاملاً موزوناً، لا يفرق بين أحد منهم، وكان تكريمه لهم قائما على أساس التقوى والإخلاص وهما مقاييس في المدح والثناء، دون النظر إلى انتماء الفرد الخاص، فكانت علاقاته ببلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي كعلاقاته مع باقي الصحابة، وكانت علاقاته مع المهاجرين والأنصار على حد سواء دون تمييز أو ميل على أساس الانتماء الثانوي، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله العام والخاص (يعطي كل جلسائه نصيبه... قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم اباً وصاروا في الحق عنده سواء.. مجلسه مجلس حياء وبر وأمانة... يتعاطفون فيه بالتقوى، متواضعين يوقّرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير) (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتجاوز الازمات الطارئة بحكمة، ويسارع في علاجها قبل ان تسري وخصوصا الازمات التي تحدث بسبب سوء فهم وقلة ادراك لحدود الانتماء والولاء الثانوي، فحينما قام أحد اليهود في اشعال نار الفتنة بين الاوس والخزوج، بتذكيرهم قتلاهم في الجاهلية وكاد القتال ان يقع بينهما، خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبهم من خلال انتمائهم وولائهم الأساسي لا الثانوي

________________________________

1 ـ السيرة النبوية 3: 95 ابن كثير، دار احياء التراث، القاهرة 1383 هـ

2 ـ الوفاء بأحوال المصطفى 2: 407، ابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت.

ـ(210)ـ

فقال: (يا معشر المسلمين! الله الله، ابدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد ان هداكم الله للإسلام... وألف بين قلوبكم)، (1) فشعروا بالخطأ الفادح الذي ارتكبوه، فبكوا وعانق بعضهم بعضا، وعادوا إلى الأواصر الواحدة في وحدة الانتماء والولاء للإسلام ولرسوله.

وحينما تشاجر أحد المهاجرين مع أنصاري وتطور الأمر، بصراخ المهاجر (يا معشر المهاجرين) وصراخ الأنصاري (يا معشر الأنصار)، وتحريض من المنافقين، أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل فسار بالمسلمين نهار ذلك اليوم والليل كله ونهار اليوم الثاني ليشغل المسلمين عن الحدث الذي وقع (2).

ورفض صلى الله عليه وآله وسلم الاستجابة لطلب أحد المهاجرين بقتل رأس الفتنة عبد الله بن أبي سلول، مراعياً مشاعر المسلمين من عشيرته، وما يكنون لـه من حب باعتباره كان رأسا عليهم في الجاهلية، وترك الأمر لعشيرته حيث بدأت ـ انطلاقاً من الانتماء والولاء الأساسي للإسلام ولرسوله ـ تؤنبه وتتابع خطواته وتحجم من نشاطه، وقد اثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك المهاجر صحة رأيه ـ أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال لـه: (أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لا رعدت لـه أنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته)(3).

وحينما طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل أبيه بنفسه، رفض صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الطلب، وان كان معبراًِ عن تقديم الولاء الأساسي على الولاء الثانوي، إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم بقي مراعياً لهذا الانتماء ما دام الناس حديثي عهد

________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2: 205.

2 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3: 303، 304.

3 ـ م. ن 3: 305.

ـ(211)ـ

بالجاهلية، وما دام الموقف لا يؤثر سلباً على مجمل الأحداث والمواقف والارتباطات، لمتابعة عشيرته لـه، ورفض صلى الله عليه وآله وسلم كشف أسماء الأشخاص الذين أرادوا إلقاءه من العقبة (1) مراعيا لانتماءاتهم المختلفة ومنعاً من البلبلة.

التعاليم النبوية لتكريس حاكمية الانتماء والولاء للإسلام

جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسسا وموازين ومعايير لتقويم الأعمال والأحداث والمواقف، وللتقييم الأفراد والجماعات، ووضع برنامجا في العاقات والروابط ينسجم مع اتساع أفق النظر الإسلامي، والتعامل مع الوجود الكبير والانتماء الكبير والولاء الموحد، ليجعل الشخصية الإسلامية أكبر ثباتا ورزانة في مواجهة الإحداث العابرة والمتجذرة، مع مراعاته للانتماءات والولاءات الثانوية، والتي هي محكومة للإسلام في منهجية الانتماء والولاء الموحد الحاكم عليها، ومن هذه التعاليم الشريفة:

الأول: الحب في الله والبغض في الله

جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحب في الله والبغض في الله هو الحاكم على جميع ألوان ومظاهر العواطف والأحاسيس، مع إقراره لها في حدودها المسموح بها، ووجه أنظار المسلمين بمختلف انتماءاتهم وولاءاتهم إلى هذه العاطفة الأساسية، ليكون الله تعالى والمفاهيم والقيم التي وضعها هي الأساس في العلاقات والأواصر الاجتماعية.

________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن كثير 4: 35.

ـ(212)ـ

فقد جعل الحب والبغض في الله تعالى من أوثق دعائم الإيمان، فقال: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) (1).

وجعل العامل به من أصفياء الله المؤمنين فقال: (من أحب في الله عز وجل وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو من أصفيائه المؤمنين)(2).

وجعل هذه الرابطة من الفرائض الإسلامية، فقال: (الحب في الله فريضة والبغض في الله فريضة)(3).

الثاني: الاهتمام بأمور المسلمين

ان العلاقات الاجتماعية والسياسية يجب ان لاتتحجم ضمن وجود وكيان وانتماء معيّن بل تمتد بامتداد المسلمين، ولهذا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى التعالي والسمو في الاهتمامات الكبيرة، لإنهاء الانكماش والتقوقع في محيط ضيق لا ينظر إلى الأفق الأوسع، فقرر مفهوم الاهتمام بأمور المسلمين: (من أصبح ولا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) (4).

هذا الاهتمام يجعل الأمة الإسلامية أمة متماسكة متعاونة على التكليف والمسؤولية، فهي ذات أعضاء متجاوبة المشاعر والأحاسيس الكبرى، وبهذا الاهتمام يصبح المسلم منفتحا على الجميع، ويتعامل مع الانتماء والولاء الثانوي في حدوده الجزئية وفي حجمه الطبيعي الذي لابد منه.

________________________________

1 ـ مستدرك الوسائل 2: 68، حسين النوري، المكتبة الإسلامية، طهران، 1383 هـ.

2 ـ مستدرك الوسائل 2: 68، حسين النوري، المكتبة الإسلامية، طهران، 1383 هـ.

3 ـ ن. م.

4 ـ الكافي 2: 163، الكليني، دار صادر، بيروت 1401 هـ، ط 4.

ـ(213)ـ

الثالث: النهي عن التعصب

التعصب من أخطر الظواهر التي تصيب الأمة، وهو منشأ لكثير من الممارسات السلبية التي تنخر في جسد الأمة، وتؤدي إلى التفكك والاضمحلال والتدهور والنكوص الحضاري، وهو (اتجاه نفسي جامد مشحون انفعالياً، أو عقيدة أو حكم مسبق ضد أو مع جماعة أو شيء أو موضوع، ولا يقوم على سنة منطقية أو معرفة كافية أو حقيقة علمية، ويحاول صاحبه تبريره، ومن الصعب تعديله) (1).

والتعصب من وجهة نظر الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو اعانة المتعصّب لقومه على الظلم: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) (2).

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جميع ألوان ومظاهر التعصب للانتماء والولاء الثانوي، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن جميع الممارسات الواقعة في طريقه كالتفاضل الجاهلي الذي لا يقوم على سند مشروع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس إلا ان ربكم واحد، إلا ان أباكم واحد، إلا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لاسود على أحمر ولا لاحمر على اسود إلا بالتقوى، ان أكرمكم عند الله اتقاكم) (3).

وقال أيضاً: (من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلته جاهلية ) (4).

وبنفي التعصب يتوازن الولاء للانتماء الأساسي وهو الإسلام وللانتماء

________________________________

1 ـ مدخل في علم النفس الاجتماعي: 100.

2 ـ كنزل العمال 3: 509، الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1975 م.

3 ـ الدر المنثور 7: 579، السيوطي، دار الفكر، بيروت 1403 هـ، ط 1.

4 ـ صحيح مسلم 3: 1476، در الفكر، بيروت 1389 هـ، ط 2.

ـ(214)ـ

الثانوي إلى عشيرة أو وطن أو قومية أو طائفة أو مذهب إسلامي، ويكون الولاء للإسلام هو الحاكم على الولاء لغيره.

الرابع: النهي عن الممارسات السلبية

الممارسات السلبية تؤدي إلى تكريس الولاء للانتماء الثانوي وتقديمه على الولاء الأساسي، وتجعل الإنسان المسلم يدور في حلقة مفرغة منطلقا من انتمائه الفئوي في التقييم والتعامل والعلاقات، يسير في آفاق ضيقة واهتمامات جزئية تؤدي إلى الانغلاق والتقوقع، لذا نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك الممارسات، فقال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولاتدابروا، وكونوا عباد الله أخوانا، ولا يحل لمسلم ان يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) (1).

وقال أيضاً: ( تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله أخوانا، المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله، بحسب المرء من الشر ان يحقر أخاه المسلم) (2).

الخامس: الالتزام بالأخلاق الإسلامية

حثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلم على الالتزام بالأخلاق الإسلامية وهي كفيلة بالتوازن بين الانتماء والولاء الأساسي والثانوي، فدعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيثار: (ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك...) (3).

________________________________

1 ـ سنن أبي داود 4: 278.

2 ـ المحجة البيضاء 3: 329.

3 ـ بحار الأنوار 77: 67.

ـ(215)ـ

ودعا إلى إدخال السرور على قلوب المؤمنين: (أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمنين)(1).

ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى حسن الخلق وعدم المقابلة بالمثل: (ثلاث من مكارم الأخلاق: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك) (2).

وبهذه السيرة والتربية المتواصلة استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يوازن بين الانتماء والولاء الأساسي وسائر ألوان الانتماءات والولاءات، فلم يهمل جانبا أو يلغي خصوصية، فاستطاع ان يجمع المسلمين على اختلاف انتماءاتهم حول انتماء واحد مع مراعاة غيره، وجعل الولاء لله وللقيادة وللمسلمين هو الحاكم على جميع ألوان الولاءات، فانطلق المسلمون نحو تحقيق الأهداف الإسلامية الكبرى واستطاعوا تشييد حضارة إنسانية كبرى بتحكيم المنهج الإسلامي والتعالي على الأطر الضيقة وجعلها تدور في الأفق المحدود لها.

اننا في المرحلة الراهنة بحاجة إلى الانطلاق نحو الهدف المشترك الذي يجمعنا في انتماء واحد وولاء واحد، وأن نتعالى على النظرة الجزئية وضيق الأفق، وان نتعامل مع انتمائنا المذهبي تعاملا موضوعيّاً ضمن الانتماء الكبير للإسلام ولمفاهيمه وقيمه، وان نزيل الحواجز التي خلفتها أخطاء الماضي، وان ننطلق نحو تحقيق الوحدة الإسلامية ابتداء بضمائرنا وعقولنا ثم مواقفنا العملية، في مرحلة اتحد فيها أعداء الإسلام ـ على الرغم من اختلافهم العقائدي والسياسي ـ لمواجهة الإسلام والصحوة الإسلامية.

________________________________

1 ـ الكافي 2: 189.

2 ـ تحف العقول: 6.