الحريات الأساسية ودور الشعب في الحكومة الإسلامية

الحريات الأساسية ودور الشعب في الحكومة الإسلامية

 

 

الحريات الأساسية ودور الشعب في الحكومة الإسلامية

(الشورى، البيعة، الطاعة)

 

محمد الأمين خليفة ـ السودان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن قضية الحرية وحقوق الإنسان هي أم القضايا ورأس الحقوق ومنبت العمل في الفكر الإسلامي وفي عالمنا المعاصر لأن الحرية هي صد الاستبداد وهي الأصل في العلاقة بين الناس العلاقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي تحمل في طياتها عناصر القوة وان ضمان الحريات العامة والحريات الفردية وحقوق الإنسان استتباب للأمن وإشاعة لحسن العلاقات والنوايا المنطوية على الخير والبر فقد عنى الإسلام أول ما عنى بصيانة الحريات وان الحرية أصل وحق فردي وجماعي ولا إكراه ولا سيطرة للإنسان على أخيه الإنسان وجاءت الآيات تترى وتعزز ذلك «ان لا إكراه في الدين» فحنى الإيمان بالله يجب ان يكون دون إكراه بل بكامل الحرية والاختيار «فذكر إنّما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» انلزمكموها وانتم لها كارهون» «لو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».

ـ(30)ـ

ان الحرية في الفكر الإسلامي أمانة ومسؤولية كبرى روعى فيها كامل الحق والالتزام به والفناء فيه وان الحرية فطرة سليمة تتماشى مع العقيدة السليمة وهي بالمعنى الأخلاقي ممارسة إيجابية الفعل الواجب طوعاً والحض عن المعروف والنهي عن المنكر فليست الحرية عند المسلمين كما يقول الفيلسوف البريطاني رسل «بأنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات «لكن كامل الحرية عند المسلمين هي قمة العبودية لله رب العالمين وليست هي إباحة أو انتهاك للعرض أو إلغاء للعقل مناط التكليف.

الإسلام والحريات الأساسية

إن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان ليست شيئاً جديداً ليعرف على المسلمين والذين يتشدقون باللفظ الآن هم الذين يريدون ان يستروا سوءاتهم بعبارات للاستهلاك دون فعل وكلمات حق يريدون بها باطل.

ان حقوق الإنسان أو الحقوق الطبيعية أو الحقوق الأساسية عبارات استعملها السياسيون وفقهاء القانون للتدليل في مختلف الأزمان على مجموعة متكاملة من المبادئ والقيم التي ربما تباينت سعة وضيقاً وتأثيراً في واقع الحياة... هذه القيم تنطلق من مرتكز أساسي واحد هو الإنسان بوصفه إنساناً ـ بصرف النظر عن شكله أو لونه أو جنسه أو ديانته أو مهنته الاجتماعية ـ حقوقاً أو حرمات معينة يجب على جميع الناس والمجتمعات والحكومات بل المجتمع الدولي بأسره أن ترعاها وتحافظ عليها ومن نوافل الكلم أن رعاية حقوق الإنسان والحفاظ عليها والحيلولة بينها وبين أن تهدر أو تنتهك إضافة إلى قيمتها الخلقية.

وان الله قد خلق الإنسان وكرمه واسجد له ملائكته وفضله على كثير من خلقه الآية من ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ

ـ(31)ـ

عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(سورة الإسراء)

فالله هدى الإنسان وعرفه بحقوقه عن طريق الأنبياء والرسل والكتب السماوية لأنه العليم بتحديد حقوق خلقه وقبل ان نطلع على المواثيق الدولية علينا أولا أن ننظر في كتاب الله الحكيم لما أقر فيه من الحقوق الأساسية.

حق الحياة وحرمة الإنسان

قد حرم الله تعالى انتهاك حرمة الإنسان وإلغاء حياته إذ تقول الآية ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(سورة المائدة 32).

ويقول الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله عن الموبقات السبع: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق...

حق المعاملة المتساوية

بغض النظر عن الجنس أو العرق أو اللون أو الأصل.. لقد أكد القرآن على مبدأ تساوي كافة النوع الإنساني أيما تأكيد لأفضل لإنسان على الآخر إلا بالأخلاق والإيمان بالله الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات 13).. ان أصل الإنسانية واحد واختلاف الألوان والألسنة والأجناس إلا آيات وتنوع لأصل واحد وان الله أوجد هذا الاختلاف بين الشعوب للتعارف ولو كان بنو الإنسان على لون واحد وشكل واحد ولسان واحد لمات التنفاس بينهم وماتت الهمة وما أمكن التمييز بينهم ولذلك خلقهم وكلهم من تراب إذ لا تفاخر ولا تعالي كما يقول الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله «لا فضل لعربي علي أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ولا فضل للأنساب».

ـ(32)ـ

حق التمتع بالأسرة وخصوصيتها

ان من أعظم الحقوق الأساسية للإنسان حق تكوين الأسرة والتمتع بها ولقد أشار القرآن الكريم إشارات دالة وهامة الآية «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون«الروم.. ويحض الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله الشباب على الزواج وعلى التمتع بالأسرة ويقول صلّى الله عليه وآله » يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..» ويقول صلّى الله عليه وآله «تزوجوا الودود الولود..» وان الزواج سنة «ومن رغب عن سنتي فليس مني..» كما يقول الرسول صلّى الله عليه وآله.

حق حماية الضعفاء

يحض القرآن الكريم على أن نحمي الضعفاء منا وأن عدم التعدي على النساء والأطفال والمسنين والجرحى والمرضى أمر مشروع بل علينا ان ندافع عنهم الآية ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾(النساء 75)

ويوصي الرسول صلّى الله عليه وآله جنده في الميدان ان يصونوا هذا العرض وهذه الحرمة ويراعوها حق رعايتها وان لا تنال أيديهم طفلا أو امرأة أو شيخا أو مريضا أو جريحا.

وأن المرأة يجب صون كرامتها وأن عصمة النساء وكرامتها يجب احترامها في كافة الأحوال وان لا يستباح عرضها ولو وقعت في الأسر.

حق تقرير المصير

تقرير المصير حق قديم قدم الإنسانية ومنذ ان احتدم الجدل هل الإنسان مسير أم مخير وحسم الأمر بأن الإنسان مسير فيما يقدره من قضاء وقدر ومسير فيما يقدر عليه

ـ(33)ـ

ويسوقه عقله إلى خياره واختياره مناط التكليف وما هبوط أبينا آدم من الجنة إلا تقرير لمصيره مع سبق علم الله بذلك ولكن الكلمة «حق تقرير المصير» شاعت بعد انهيار الإمبراطوريات وانتشار الاستعمار ومن خلال غضبة الشعوب وامتلاكها لارادتها السياسية ومطالبتها بحقها الأساسي في التعبير الحر وفقاً لما يمليه له ضميره في بقاء المستعمر أو خروجه من التراب الوطني لكن الكلمة وفعلها أكثر شيوعاً ورسوخاً عند نهضة الإسلام وبسط حضارته فالمعنى ملازم للتوحيد ومرادف للحرية ويتماشى مع الفطرة السليمة والناموس العام فقد أتاح الإسلام حرية الرأي والفكر ومنح التفكر درجة عليا في العبادة وأعطى المجتهد أجرا وإن أخطأ وكفل حرية العقيدة حيث لا إكراه في الدين وكانت إحدى زوجات الرسول صلّى الله عليه وآله كتابية خصها بالبر ولم يكرهها في أمر.

إن اتفاقية صلح الحديبية نصت على حق تقرير المصير خلال الفترة الانتقالية التي كانت مدتها عشر سنوات يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض تقول الاتفاقية «ان بيننا عيبة مكفوفة ـ أي صدوراً منطوية لما فيها من خير وأنه لا أسلال ولا أغلال ـ أي لا غدر ولا خيانة «انه من أحب ان يدخل عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه».

ويروي ان قتيبة بن مسلم الباهلي فتح إقليم سمرقند عنوة من غير ان يخير القوم بين الإسلام أو العهد أو القتال فشكا أهل الإقليم إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز وعندما تحقق من الأمر أمر الجند بالخروج من الإقليم الذي فتحوه وان يعودوا إلى ثكناهم ثم خير بعد ذلك أهل الإقليم في الثلاثة ليختاروا ويقرروا مصيرهم فاختار منهم العهد ومنهم من اختار الإسلام وكفى الله المؤمنين القتال.

تلك بعض الحقوق التي ظهرت في المواثيق الدولية ويتشدق بها المستشدقون ويجهلون ان الإسلام سبق لذلك وعنى بالحقوق وكفل الكرامة الإنسانية منذ ان خلق الله الإنسان كما ان كل هذه الحقوق منصوص عليها في القرآن الكريم وهو دستور

ـ(34)ـ

الأمة فالحقوق الدستورية اذن مكفولة ومضمونة ويتحاكم الناس إلى الدستور الإلهي والقرآن هو المرجعية.. أما الحريات فقد عنى الإسلام بالحرية بل ان الحرية مرادفة للإنسانية ولا كرامة لإنسان دون كفالة حريته وان الشخصية الإنسانية سواء أكانت شخصية فردية أحادية أم شخصية معنوية لجماعة أو دولة لا تتوافر إلا في ظل الحرية وان الله تعالى الذي خلق الإنسان مستعدا للعلم بالأشياء وأن ذلك الاستعداد لا ينمو إلا في حرية مكفولة فلابد أن يكون الفكر حرا ولابد ان يكون العمل حرا.. ان أهم هدف للشريعة أن يكون الإنسان حرا وتتوفر لـه أسباب العزة والكرامة الإنسانية والشرف امتدادا لتكريم الله له في كتابة العزيز ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾ وكان من مظاهر تكريم الله لبنى آدم خلقه في أحسن تقويم في صورته المادية والمعنوية ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(سورة التين: 4) وشرفه واختاره خليفة في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(سورة البقرة: 30).

وأسجد الله ملائكته للإنسان تكريما لـه ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾(سورة البقرة: 34). وسخر الله سبحانه وتعالى للإنسان أسباب الحياة الكريمة والعزة والخلافة سخر لـه ما في السموات وما في الأرض ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾(سورة لقمان: 20)..﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(سورة إبراهيم: 34).

ان هذه الرحمة السابغة والفيض العميم لا يكون إلا بتحقيق العدل والمساواة والكرامة والحرية للناس جميعا في ظل الشعور بالاخوة الإنسانية والنسب الواحد والندية ذلك الشعور الذي يجعل هذه الحقوق الإنسانية أمراً فطرياً طبيعياً وقدراً مشتركاً بين جميع أفراد السلالة الإنسانية يستند إلى وحدة الأصل والمنشأ والتساوي في الحقوق والواجبات.

ـ(35)ـ

الـحـريـة

ان الحرية الحقيقية تنشأ بداية بتحرير النفوس من سيطرة الأهواء والشهوات حتى لا يكون تعريف الحرية كالذي عرفه الفيلسوف البريطاني برتراند رسل «غياب الحواجز أمام تحقيق الغابات» فلابد للحرية ان تكون خاضعة لسلطان العقل والإيمان لذلك دعى الإسلام إلى تحرير النفوس من هذه السيطرة وندد بالذين يتبعون أهواءهم من غير ان تسيطر عقولهم وإرادتهم ويمكن ان نقول ان شجرة الحرية تتفرع إلى:

* حرية فكرية.

* حرية دينية.

* حرية سياسية.

* حرية مدنية.

الحرية الفكرية

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم هذا العقل الذي منحه الله للإنسان هو مكان الشرف ومناط التكليف فبالعقل يصير الإنسان إنساناً وتفضيله على غيره بهذا العقل.. ان التفكير فطرة إنسانية وفريضة إسلامية وعبادة راقية والآيات القرآنية تحض كثيرا على استعمال العقل والتفكر وكثيرا ما نرى في دبر الآية ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.

كما ان المراحل التي مر بها سيدنا إبراهيم للإيمان الكامل ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(سورة الأنعام: 75)

يقول الغزالي «ان الشرع عقل من الخارج وان العقل شرع من الداخل وهما متعاضدان بل متحدان».

ـ(36)ـ

بل ان الله جعل خلقه كتاب مفتوح وعلم الإنسان ان يتفكر فيه ليقوده عقله إلى الحق المبين والى الإيمان كما جاء في آخر سورة آل عمران ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(سورة آل عمران 190 ـ 191).

الحرية الدينية

ان كانت الحرية الفكرية مكانها العقل مناط التكليف فأن الحرية الدينية مكانها القلب مستودع الإيمان ولا يمكن ان يكره الإنسان على ما يؤمن به ويصدقه إلا طوعا من عنده لأن العقيدة اقتناع داخلي وعمل باطني ولو ضربنا مثلا بالصوم في العبادات فأنه عمل لا رقابة ظاهرية عليه.

لقد وردت آيات كثيرة في القرآن تبرهن ذلك. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(سورة البقرة) ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾﴿... أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

الحرية السياسية

ان الحرية السياسية مكفولة بنص الشرع مهما زينت عند المنظمات الدولية وان لكل إنسان الحق في توجيه الرئيس وفي المشاركة في رسم سياسة الدولة من باب المسئولية الفردية والمسئولية الجماعية فلآيات القرآنية دالة وتحض على ذلك سورة باسم الشورى في القرآن والشورى وضعت بين عبادتين الصلاة والزكاة» والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون «لمكانتها السامية واهيمتها القصوى في الحرية السياسة وان حديث الرسول صلّى الله عليه وآله «كلكم راع

ـ(37)ـ

وكلكم مسئول عن رعيته إنّما هي المسئولية الفردية وضرورة مشاركة الكل في رسم السياسة وتشمل المسئولية التضامنية لقد مورست الحرية السياسية في صدر الإسلام بطريقة مثلى والقرآن يتنزل ويختلف أبو بكر وعمر حتى ينزل الوحي مصدقاً لأحدهما ان في الشورى حرية الاختيار الحاكم عن طريق الشورى والانتخاب حرية في إدارة الاقتصاد الخاص أو العام.

الحرية المدنية

يقصد بها ان يكون الإنسان حر التصرف في أموره الشخصية والمالية دون قيد إلا القيد الذي يؤدي الجماعة أو الأسرة على حساب الفرد وقد أرسى الإسلام هذه الدعائم وجعل لكل فرد حق التملك لإشباع الغريزة والفطرة ويرث ويبيع ويشتري ويرهن ويكفل ويمنح ويوصي ويتصدق ويتزوج ويتصرف بحرية دون حرج وان تهمة الرق التي يصفون بها الإسلام ان الإسلام جاء ووجد مجتمعاً ظالماً طبقياً وان الإسلام لم يأت ليشرع ذلك بل جاء فكاً للرقبة وثورة تحرير ولا توجد آية واحدة في كتاب الله تبيح الرق والاستعباد بل الآيات كلها آيات تحرير ولكن التدرج في إلغاء المنكر كان مطلوباً كالتدرج في تحريم الخمر.

فمن أقسم وحنث من قسمه عليه تحرير رقبة ومن افطر في رمضان دون عذر عليه عتق رقبة والذي ظاهر زوجته عليه تحرير رقبة والذي قتل مؤمنا خطأ عليه تحرير رقبة ومن لطم مملوكاً أو ضربه عليه عتقه كفارة لما اقترف من خطيئة وان من مصارف الزكاة تحرير الرق والتقرب إلى الله والطاعة لـه فك رقبة.

تلك هي الحريات الأساسية والحقوق وكيف كان مؤصلاً في كتاب الله وكيف كان سبق الإسلام ولا غرو فأن الإسلام خاتم الديانات وهو شرع الله وشريعته ولنرى دور الشعب في الحكومة الإسلامية من خلال الشورى ـ البيعة ـ الطاعة.

ـ(38)ـ

الشورى

عانت البشرية طويلاً من الاستبداد بالرأي ودكتاتورية السلطة وقد مرت بمراحل وأطوار من النظام الاستبدادي ذاقت فيه البشرية أشد العذاب بسبب ادعاء الماسكين على زمام السلطة بالحق الإلهي تارة وبالتفويض الإلهي تارة أخرى..

وقد مرت فكرة الحق الإلهي بمراحل ثلاثة المرحلة الأولى ادعاء الحاكم صفة الألوهية وانه اله على الأرض وشريك الله الذي في السماء كما ادعى ملوك وفراعنة مصر القديمة وأباطرة اليابان وان القرآن قد سطر تلك السطوة الغاشمة الآية ﴿... أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ قال أنا ربكم الأعلى «فليس للشعب دور في المسئولية التضامنية وفي المشاركة بالرأي أو المشاركة الوجدانية.. أما المرحلة الثانية هي مرحلة الحق الإلهي المباشر في القرنين السابع والثامن عشر خاصة في فرنسا إذ تدعي الأباطرة انهم يستمدون سلطتهم من الله ولذلك لا يحفلون بالرأي العام أو مشيئة مجلس الشورى...

أما المرحلة الثالثة هي طور نظام الحق الإلهي الغير مباشر والحكام يدعون بأن الله قد هيأ لهم الظروف الملائمة ليكونوا حكاما والآخرين محكومين ولا تداول على السلطة بل تورث كابر عن كابر والتأمل في المراحل الثلاثة ان السلطة مطلقة وتدعم العسف والاستبداد وجزء كبير من هذه الممارسات قد دخلت الكنيسة كما صاغها(بولس) الرسول وقدمها إلى أوربا فصلت بين الدين والدولة بعد استئثار السلطة الدينية بالحكم وأصبحت ثيوقراطية تنطلق من ان الحاكم هو ظل الله في الأرض وخليفته على خلقه يحل محله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وشاع الأمر أبان سيطرة الكنيسة الكاثولوكية واستئثارها بالسلطة الروحية والدنيوية بما يجعل تسلسل السلطة فيها كالآتي:

ـ(39)ـ

الله – الحاكم - الشعب

وهذا نظام لا شورى فيه ونظام لا ديني بل نظام يستأثر بالسلطة الدينية والسياسية ان هذه السلوة والسلطان أديا إلى بروز العلمانية التي تنطلق من مبدأ أبعاد الله من شأن الحياة العامة وان يحل الشعب محله بعد ان ذاق الشعب علقم الدكتاتورية وغياب الشورى والحرية وأصبح تسلسل السلطة في النظام العلماني كالآتي:

الشعب - الحاكم

وصار العلمانيون يعلنون جهراً بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر كما قال بولس الرسول ولا فرق في الاستئثار بالسلطة ان كانوا علمانيين أو رجال دين ثيوقراطيين وأصبح العلمانيون ينادون بفصل الدين عن الدولة يحسون ان الدين الذي ألفوه في سلطة الكنيسة أفيون للشعوب ففسقوا وخرجوا من الدين ومن دائرة الفضيلة إلى دكتاتورية الشهوة وسلطان الرغبة أمام النظام الإسلامي النظام الشورى الذي لاغنى عنه ان الله هو مصدر السلطات والشعب هو الذي يختار عن طريق الشورى ويكون تسلسل السلطة السياسية كالآتي:

الله - الشعب  - الحاكم

فالشورى تمنع الاستبداد وهي وقاية للحاكم من الزلل ووقاية للمحكوم من استبداد الحاكم ووقاية للحكم من التآكل والضمور... والشورى أسلوب فريد في فن الحكم يجنب الحاكم مزالق الاستبداد بالرأي والانفراد بالسلطة وان رجل الدولة الذي

ـ(40)ـ

يتمتع بأفق فكري رحيب لابد من ان يضع معه مستشارين يشيرون إليه جاء في الأثر انه ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وفي حديث لأبي هريرة يقول وما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلّى الله عليه وآله «كما ان الإسلام لم يطلب من الحاكم وحده ان يستشير بل طلب من المحكومين أيضاً ان يقدموا لـه النصيحة وان يصدقوه فيها فأن الدين النصيحة لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم وقديما قيل «ان الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين والثلاثة مرار لا يكاد ينقض».. «وكما ان الصلاة عماد الدين كذلك الشورى عماد الحكم.

الـبـيـعـة

يعرف ابن خلدون البيعة بأنها العهد على الطاعة ويشرح مضمونها بأن المبايع يفوض الأمير بالنظر في أمره وأمور المسلمين ويعاهده على الطاعة فيما يكلفه به في المنشط والمكره وتشبه البيعة بعملية البيع والشراء حيث تتلاقى رغبة الطرفين.

فالبيعة عقد واتفاق بين طرفين إذا التزم كل من الطرفين صارت البيعة ملزمة ومثمرة وإذا نكث أحدهما ستفسد البيعة كما تفسد الصفقة التجارية أو عقد الزواج وقد تلقى رسول الله صلّى الله عليه وآله البيعة الأولى عند العقبة وكانت بيعة على الإيمان وفضائل الأعمال والاستمساك بعمل الخير وترك المنكر والبعد عنها وكانت الصيغة كما جاءت في صحيح البخاري «ان لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان تفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف «قال فأن وفيتم فلكم الجنة» تلك كانت بيعة عقدية لكن البيعة الثانية كانت أكثر شمولا وأوسع بنودا شملت شروطاً سياسية واقتصادية وعسكرية وكانت تنص على الآتي «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم وعلى ان تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم

ـ(41)ـ

مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة».

ان هنالك بيعتان بيعة خاصة وبيعة عامة وهي أشبه بالشورى الخاصة التي تختصر على قلة من أهل الحل والعقد وشورى عامة كالانتخابات التي تشترك فيها عامة الناس الخلفاء كانوا يحرصون على البيعة العامة حتى صارت قناعة سياسية بأن، لا تتم الإمامة إلا بها.

الـطاعـة

إن الإيمان بحاكمية الله وان النظام الإسلامي يستمد شرعيته من الشريعة وان الإيمان بأن الحكم لله أمر إلا تعبدوا إياه هذا الإيمان هو الذي يؤدي إلى الطاعة التامة لخليفة المسلمين ولولي الأمر ما أطاع الله فأن الطاعة للخليفة هي طاعة لله وللرسول وقد نصت الآيات على هذا المبدأ الأساسي في النظام الإسلامي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.

هذه الطاعة أمر أساسي وموضوع جوهري في نظام الإسلام السياسي حيث لا تقام دولة إسلامية غير الطاعة المشروطة بطاعة الله كما يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وان أول مخاطبة سياسية قالها أبو بكر الصديق حين ولي الخلافة بيّن للناس نظام الحكم الإسلامي المرتكز على الشورى ـ والبيعة ـ والطاعة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى النصيحة حين قال «لقد وليت عليكم ولست بخيركم فأن رأيتموني أصبت فأعينوني وان رأيتموني أخطأت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله فيكم فأن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم..»

كما فصل في ذلك الخطاب العدل والحق الذي يقوم عليهما أساس الحكم وانه

ـ(42)ـ

بعد ان اخذ الشرعية بأن ينصر المظلوم ويقهر الظالم ولا يخاف في الله لومة لائم يقول «الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق لـه والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه».

ولأهمية الطاعة وضروريتها في السياسية للدولة الإسلامية نجدها تتصدر البيعة «نبايعك على السمع والطاعة في المنشط والمكره نبايعك على ان تقيم الدين وتنشر العدل وتبسط الشورى وتسعى في مصالح الأمة».

الـخلاصـة

ان الحريات الأساسية والحقوق والواجبات كفلها دستور الأمة «القرآن الكريم» وضمن تلك الحقوق والحريات للإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى ليقوم بالخلافة والأعمار للأرض هذه الحقوق والحريات هي الأسس الموجبة لأداء العمل الصالح وعناصر التأهيل للإنسان السوي الذي كلفه الله وجعله خليفة.

ان الشورى هي المانع الأول من الاستبداد حتى لا يشرك الحاكم بخالقه ولا يستعبد المحكوم من جور الحاكم ولا يتآكل الحكم بسبب الانفراد بالرأي كما ان البيعة صفقة متكافئة وشرط إذا التزم به كلا الطرفين تكون مرضية للعباد وان الطاعة أمر جوهري في النظام السياسي الإسلامي.