السنّة في ضوء الدراسات التطبيقية

السنّة في ضوء الدراسات التطبيقية

 

 

السنّة في ضوء الدراسات التطبيقية

 

داد كريم رسولي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

1 ـ حقيقة السنّة:

إنّ القرآن الكريم المنزَّل على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحقّ المكتوب في المصاحف المنقول عنه متواتراً بلا شبهة ولا ريب فيه، هدىً للناس وأحكام حياتهم ورحمة لهم وسعادة الدارين:

﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(1).

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا $ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أنّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا $ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾(2).

﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا $ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ

_______________________________________

1 ـ سورة إبراهيم: 1.

2 ـ سورة الكهف: 1 – 3.

ـ(500)ـ

فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾(1).

فهو إذن حجّة قاطعة بيننا وبينه تعالى لاشكّ ولا ريب فيها، وهو المصدر الأول لأحكام شريعة الإسلام ولنظام حياة البشر، بما تضمّنته آياته من بيان ما شرّعه الله للناس جميعاً.

إنّ الله سبحانه وتعالى بعث محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهدى ودين الحقّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وينذرهم من عواقب الأعمال السيئة ويبشّرهم بما يعود إليهم من السعادة والسعة بالأعمال الصالحة، وأنزل عليهم الكتاب فيه الهدى والنور لمن اتّبعه وفيه نظام حياةٍ يقود إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المعبِّر عن كتاب الله الدالّ على معانيه وهو المُبيّن لمعاني آياته وهو معلّم كتاب الله وهو المزكّي والمربّي بأحكامه، حيث قال سبحانه:

﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾(2).

﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(3).

إنّ تبيين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم معاني القرآن وتوضيح مراده وتفسير مجملاته في مجال الفكر للتزكية والتربية، وفي حقل العمل لتطبيق أحكامه بقوله أو فعله أو تقريره يُسمّى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي المصدر الثاني للشريعة الإسلاميّة، وكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعامتان لها، وليست الشريعة الإسلاميّة إلاّ أحكام القرآن والسنّة وهي تعتمد عليهما.

_______________________________________

1 ـ سورة الفرقان: 1 ـ 2.

2 ـ سورة البقرة: 151.

3 ـ سورة النحل: 44.

ـ(501)ـ

2 ـ السنّة واجبة الاتّباع:

ولقد أعطى الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وظيفة البيان لمعاني القرآن وتوضيح مجمله وتفصيل أحكامه، وهو المقصود من إبلاغ القرآن الكريم للنّاس وتبيين أحكامه المجملة من الزكاة والصلاة والإرث وغيرها من المجملات ؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(1).

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(2).

﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

فبيانه صلّى الله عليه وآله وسلّم متمِّم القرآن وضروري لمعرفته ودرك معانيه لاستفادة الحكم الشرعي، فالسنّة إذن هي دليل شرعي كالقرآن الكريم، ودلَّ الكتاب على أنّ ما ينطق به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على وجه التشريع مبناه الوحي، لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى $ إنّ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(3).

فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كالقرآن من جهة أنّه بيان القرآن وشرحه وتوضيحه، ومن جهة أنّ الاثنتين مصدرهما الوحي من الله عزّ وجل، إلاّ أنّ القرآن وحي جلي، والسنّة وحي خفي وموحى بها بالمعنى فقط.

فكما أنّ القرآن واجب الاتّباع لأنّه من الله تبارك وتعالى، كذلك أقوال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم واجبة الاتّباع لأنّها موحى بها بالمعنى، وهي كلام من الله سبحانه وتعالى أيضاً.

_______________________________________

1 ـ سورة المائدة: 67.

2 ـ سورة النور: 54.

3 ـ سورة النجم 2 -4.

ـ(502)ـ

القرآن يأمر بصورة قاطعة بلزوم طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والالتزام بها، واعتبارها مصدراً مستقلاً للتشريع الإسلامي، واستفادة الأحكام منها بأساليب وصيغ مختلفة، فهو يأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجعل طاعته طاعة الله تبارك وتعالى ويأمر بردّ المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول أي إلى كتابه وسنّة رسوله.

ويأمر القرآن الكريم يأخذ ما يأتينا به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والابتعاد عمّا نهانا عنه، ويصرّح بأن لا إيمان لمن لا يُحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يختلف به مع غيره، ويؤكّد لا اختيار لمسلم فيما قضى به رسول الله، ويُحذّرُ المخالفين لأمره من سوء العاقبة والعذاب الأليم:

﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إنّ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1).

﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(2).

﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(3).

﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(4).

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أنّ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾(5).

يقول القرآن قاطعاً: إنّ مُحمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله ؛ ومعنى الرسول هو المبلّغ من الله، ومقتضى الإيمان برسالته لزوم طاعته والامتثال بأمره والانقياد لحكمه وقبول ما يأتي به،

_______________________________________

1ـ سورة النساء: 59.

2 ـ سورة النساء: 80.

3 ـ سورة الحشر: 7.

4 ـ سورة النساء: 65.

5 ـ سورة الأحزاب: 36.

ـ(503)ـ

وهذا ما اتّفق عليه المسلمون من عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يومنا هذا.

لم يكن الصحابة – سواء كانوا من أهل بيته صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لم يكونوا ولا من أتى بعدهم – يفرّقون بين حكم ورد في القرآن الكريم وبين حكم وردت به السنّة، وجميعهم يَعدُّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم واجب الاتباع، فالمصدر واحد وهو وحي الله تبارك وتعالى سواء كان جليّاً أو خفيّاً أي بالمعنى.

لم ينكر أحد من المذاهب الإسلاميّة الحيّة حجّية السنّة والأخذ بالأحكام التي جاءت بها السنّة النبويّة، وضرورة الرجوع إليها لمعرفة الأحكام الشرعية والعمل بمقتضاها، إلاّ من زاغ قلبه عن الحقّ واتّبع هواه.

 

3 ـ مقام السنّة من الكتاب وأقسامها بالنسبة للقرآن الكريم:

فقد ثبت بالقطع بما ذكرنا من آيات كتاب الله العليم الحكيم أنّ السنّة مفسّرة للكتاب ومكمّلة لـه في بيان الأحكام الشرعية ومعاونة لـه، ولذلك لم يفصلها الشافعي عنه في البيان، واعتبرها هي والكتاب نوعاً من الاستدلال يعدّ أصلاً واحداً وهو النص.

قال الشاطبي في هذا المقام: ولا ينبغي في الاستنباط من القرآن والاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنّة لأنّه إذا كان كُلّياً وفيه أمور كلّية كما في شأن الصلاة والزكاة والصوم فلا محيص عن النظر في بيانه، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم، وقول أهل السنّة والجماعة وإليه ذهب أهل البيت عليهم السلام، حتّى ذهب جماعة من الاخباريّين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين عليهم السلام وتمسّكوا بالأخبار المتواترة والآثار الصحيحة.

قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ فَسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» واتّفق عليه

ـ(504)ـ

الإخباريون من السنّة والإماميّة.

عن أبي عبدالله عليه السلام: «من فَسََّر القرآن برأيه إنّ أصاب لم يؤجر وإن أخطأ سقط أبعد من السماء».

عن مولانا الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله عزّ وجل قال في الحديث القدسي: ما آمن بي من فسَّرَ كلامي برأيه، وما عرفني من شبّهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني».

عن مجمع البيان أنّه قد صحَّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح(1).

نقل الدكتور أبو الحسن مُحَمّدي: «للسنّة أثر إيجابي في بيان القرآن الكريم وتوضيح مجملاته، لأنّه يحتوي على كلّيات الأحكام وأُصولها وبيانها، وشرحها وظيفة السنّة، ولذلك قال جعفر عليه السلام: ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقاً للقرآن فخذوه، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح من ذلك»(2).

وقول الصادق عليه السلام: «كُلّ شيءٍ مردود إلى الكتاب والسنّة وكُلّ حديث لا يوافق القرآن فهو زخرف».

أعلم إنّ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المرويّة عن الحجج: موقوف على مقدّمات ثلاث:

الأولى: كون الكلام صادراً عن الحجّة.

_______________________________________

1 ـ فرائد الأُصول: 34، الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، و«في الأُصول المعمولة في تعبير الأوضاع والمراد» في مسند الأخباريين في المنع عن العمل بظواهر الكتاب.

2 ـ مباني استنباط حقوق إسلامي ] بالفارسية [ عن «الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» 1: 75، مصطفى أحمد زرقاً.

ـ(505)ـ

الثانية: كون صدوره لبيان حكم الله لا على وجه آخر من التقية وغيرها.

الثالثة: ثبوت دلالتها على حكم المدّعى.

فمقام السنّة من كتاب الله عزّ وجل أنّها تعاونه في بيان الأحكام الشرعية، هذه المعاونة تتلخّص في أمور ثلاثة:

أولها: أنّها تبيّن مبهمه وتفصِّلُ مجمله وتخصّص عمومه على اختلاف في قوّتها في التخصيص، وأنّها تُبيّن الناسخ من المنسوخ عند جمهور الّذين يرون جواز نسخ بعض أحكام القرآن.

ثانيها: أنّها تزيد على الفرائض التي ثبتت أصولها في القرآن الكريم بالنصّ، بأن تأتي بأحكام زائدة مكملة لهذه الأُصول.

ثالثها: أنّها تأتي بحكم ليس في القرآن نص عليه، ليس هذا زيادة على نصّ القرآن بل إنّها بيان وتفسير لها (1).

 

سؤال:

هل كُلّ ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلح أنّ يكون لازم الاتّباع ومصدراً للتشريع أم لا؟

1 ـ ليس كلّ ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من قول أو فعل أو تقرير مصدراً للتشريع ولازم الاتّباع، إلاّ ما صدر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بياناً للأحكام وتشريعاً لقوله، أو بياناً لنصّ مجمل جاء في القرآن الكريم ؛ كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» «خذوا عَنّي مناسككم»؛ أو تقريراً على جواز الفعل بسكوته صلّى الله عليه وآله وسلّم مستبشراً به ومظهراً رضاه عنه، وقد يكون

_______________________________________

1 ـ اعلام الموقعين 2: 307، الأُصول الفقهية: 1130، الإمام محمّد أبو زهرة، مبحث السنّة.

ـ(506)ـ

سكوته واجباً بدليل آخر لا يفيد مجرّد سكوته صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ إباحة الفعل(1).

وما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمور دنيويّة بحتة، وأفعال جبلية وما صدر عنه بمقتضى خبرته الإنسانية الدنيويّة لا علاقة لها بالتشريع ولا مبنية على الوحي ومختصّاته فلا يكون دليلاً من أدلّة الأحكام، ولا مصدراً تستنبط منه الأحكام الشرعية ولا يلزم اتباعهما ؛ ومن ذلك ما روي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى قوماً في المدينة يؤبرون النخل فأشار عليهم بتركه ففسد التمر، فقال لهم: أبروا أنتم أعلم بأمور دنياكم.

ومن ذلك تنظيم الجيوش والقيام بما يقتضيه تدبير الحرب وشؤون التجارة، ونحو ذلك من خبرته الإنسانية في الأمور الدنيويّة البحتة فهذه الأفعال لا تعتبر تشريعاً للأمّة، لأنّ مبناها التجربة لا الوحي.

ومن ذلك الأكل والشرب والمشي، والقعود ونحو ذلك من أفعاله الجبلية التي تصدر عنه بحسب الطبيعة البشرية وبصفته إنساناً، فهذه لا تدخل في باب التشريع إلاّ على اعتبار إباحتها في حقّ المتكلّمين.

ومن ذلك مختصّاته صلّى الله عليه وآله وسلّم التي لا تتعدّى إلى غيره ولا يشترك معه باقي المسلمين، مثل وجوب التهجّد في الليل وجواز العقد على أكثر من أربع زوجات، وكذلك لـه من الأحكام ما يختصّ بمنصب الولاية العامّة فلا تكون لغير النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الإمام بدليل أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أشار إليه الشيخ محمّد رضا المظفّر في كتابه «أُصول الفقه» في مبحث السنّة.

الوجه في ذلك: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بشرٌ مثلنا، لـه ما لنا وعليه ما علينا، وهو مكلّف من الله تبارك وتعالى بما كُلّف به الناس إلاّ ما قام الدليل الخاص على اختصاصه ببعض الأحكام، أمّا من جهة شخصه بذاته أو من جهة منصب الولاية، فما لم يخرجه الدليل فهو

_______________________________________

1 ـ الوجيز للدكتور عبد الكريم زيدان، والوجيز في أصول التشريع الإسلامي للدكتور محمّد حسن هيتو.

ـ(507)ـ

كسائر الناس في التكليف، هذا مقتضى عموم أدلّة اشتراكه معنا في التكليف.

فإذا صدر منه فعل ولم يعلم اختصاصه به الظاهر في فعله أنّ حكمه فيه حكم سائر الناس، فيكون فعله حجّة علينا وحجّة لنا، ولاسيّما ما دلّ على عموم حسن التأسّي به(1).

إذا عرفنا بما تقدم حقيقة السنّة ووجوب اتّباعها ومقامها وأقسامها بالنسبة للقرآن الحكيم، فلنذكر تعريف السنّة وما يتعلق بها من أنواعها، باعتبار ماهيّتها وطرق نقلها إلينا ووجوه الطعن بالدراية والرواية، والكتب التي نقلتها إلينا بعد انتهاء عصر الوحي.

 

تعريف السنّة:

السنّة في اللغة الطريقة والعادة، قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾(2).

وفي اصطلاح علماء الحديث من أهل السنّة، تطلق على أقوال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله وتقريراته، وقالوا: السنّة والخبر والحديث بمعنى واحد، حيث يطلق كلّ واحد منها على قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفعله وتقريره، وعلى قول الصحابي والتابعي وفعلهما وتقريرهما.

وخصّ بعض المحدّثين من أهل السنّة الحديث بالمرفوع والموقوف والمقطوع.

1ـ المرفوع: ما أُضيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

2ـ الموقوف: ما أُضيف إلى الصحابي قولاً أو فعلاً أو تقريراً.

_______________________________________

1ـ أصول الفقه: 60- 61، المظفّر، الباب الثاني، السنّة.

2 ـ سورة آل عمران: 137.

ـ(508)ـ

3ـ المقطوع: هو الموقوف على التابعي قولاً لـه أو فعلاً (1).

والحقّ أنّ السنّة والخبر والحديث ليست بمعنى واحد بل هناك فرق بينها ؛ فالسنّة تطلق عند المحدّثين والأُصوليّين على قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وفعله وتقريره.

والخبر والحديث هما ناقلان للسنّة وليسا نفس السنّة، كما يظهر من معناهما اللغوي والاصطلاحي ؛ فالخبر ما يخبر عن الأخبار الماضية وعن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحديث ما يحدِّث عن سنّته صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن سنّة أصحابه، والصحابة ناقلو السنّة وعاملون بها: بقولهم وفعلهم، بصفتها بيان كتاب الله تعالى وشرحه، وواجبة الاتباع.

لو أنصفنا القول، فإنّ السنّة المصطلحة لا تُطلق على قول الصحابي والتابعي وفعلهما وتقريرهما، لأنّ السنّة المصطلحة هي ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، والصحابة – رضي الله عنهم – ناقلو السنّة ومبلِّغوها وعاملون بها، وقد جاهدوا بأنفسهم وأموالهم لتطبيق أحكام القرآن والسنّة وإحيائهما في مجال الفكر والعمل.

إنّهم قاموا برواية السنّة في بيان القرآن الكريم، ونقلوا السنّة إلى الناس برواية ما سمعوا وتلقّوا من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد انتهاء عصر الوحي، ففسّروا القرآن على مبنى السنّة، وفسّروا السنّة بما شاهدوا من مواضع التنزيل والأحوال التي نزلت فيها النصوص، وبما شاهدوا من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعماله في الأوضاع المختلفة، وهم أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سائر الناس، تعلّموا وتربّوا وتزكّوا في ظلال الوحي ونبوّته، ولهم من الإخلاص والعقل والاتباع للهدى النبوي ما يجعلهم أقدر على معرفة مرامي الشرع ويوردهم مورد التقدير والاحترام.

مع ذلك فهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ والنسيان، فصحّة روايتهم عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم مقيّدة بقيود وشروط، وهي بمنزلة معايير وموازين شرعيّة

_______________________________________

1 ـ المقدمة للنووي على المسلم النامي شرح الحامي.

ـ(509)ـ

توزن بها صحّة روايتهم وأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم، وسقمها.

1ـ فرواية الصحابي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كانت مستندة إلى الحسّ ولم تكن مخالفة للعقل السليم، ورواية من هو أفقه منه من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم ووصلت إلينا بالثقات العدول واتصل سندها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي حجّة.

2ـ وأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم حجّة إذا كانت موافقة للقرآن الكريم والسنّة الصحيحة، أو اجتمعوا على رأي أو إجماع حجّة بالاتفاق.

3ـ وإن لم تكن موافقة للقرآن والسنّة الصحيحة، أو اختلفوا في أمر فليست أقوالهم وأفعالهم بحجّة، في صورة الاختلاف الحقّ مع من لديه الدليل من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة.

قام أبو بكر الصديق خطيباً بعد بيعة العامّة، بعد بيعة السقيفة فحمد الله وأثنى عليه بالّذي هو أهله ثمّ قال:

أمّا بعد... أيّها الناس فإنّي قد وُلّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ عندي حتّى أرجع عليه حقّه، والقوي منكم ضعيف عندي حتّى آخذ الحقّ منه إنّ شاء الله لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله فإنّه لا يدعه قوم إلاّ ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلاّ عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله (1).

فهذا هو المقياس الذي يقاس عليه قول الصحابي أو فعله أو تقريره لمعرفة صحّتها وسقمها.

وهو المعيار الذي يطابق القرآن والسنّة والعقل والإجماع، وبه تعرف صحّة

_______________________________________

1 ـ الطبري 2: 54.

ـ(510)ـ

أقوالهم وأفعالهم، وهو الأصل الذي تتفرّع عليه فروع في شأن أقوال الصحابة وأفعالهم وسكوتهم.

واتخذ هذا الأصل من بعد الخلفاء الراشدين فقهاء مجتهدون من الصحابة _ رضي الله عنهم – والأُصوليّون وأئمّة المذاهب وأصحاب الدراية من المحدّثين والأخبارييّن، لنقد الحديث وأقوال الصحابة وأفعالهم.

ولذلك نراهم يردّون خلافة معاوية ويسمّونها الملوكية، ويقرّون خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام ويعتبرونها خلافة راشدة على منهاج السنّة، ويقولون بصراحة دون إبهام ومداهنة: الحقّ مع علي عليه السلام وقد بغى معاوية على عليّ عليه السلام، ولا يعتبرون أبا هريرة وأنس ابن مالك وأمثالهما من الصحابة فقهاء بفقه القرآن والسنّة.

ولذلك يأخذون بقول واحد من الصحابة ويتركون قول الآخر، ويقرّون فعل واحد ويردّون فعل الآخر.

ولذلك يردّون قول يزيد بن معاوية وفعله وسكوته في جميع شؤون الحياة أشدّ ردٍّ وجوّزوا عليه اللعن لأنّه عصى الله ورسوله، واستحقّ البعد من رحمة الله تبارك وتعالى، وهناك أمثلة لا تحصى في السنّة والفقه لا يسعها هذا المقال.

 

السنّة عند الإمامية:

السنّة في اصطلاح الفقهاء قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو فعله أو تقريره، أمّا فقهاء الإماميّة بالخصوص – فلما ثبت لديهم إنّ المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من كونه حجّة على العباد واجب الاتباع، توسّعوا في اصطلاح السنّة إلى ما شمل قول واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره – فقد كانت السنّة بهذا الاعتبار عندهم هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره. ومنشأ هذا التعريف للسنّة هو عقيدتهم بآل البيت عليهم السلام

ـ(511)ـ

بأنّهم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لتبليغ الأحكام الإلهية، والمعصومون كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويتلقّون الأحكام من الله تعالى بالإلهام كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالوحي، فأقوالهم عليهم السلام أو أفعالهم أو تقريرهم حجّة على الناس لا من جهة أنّهم رواة ثقات عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم ليسوا من الرواة الثقات فحسب، بل إنّهم يتلقّون الأحكام من الله تعالى بشكل مباشر بالإلهام كما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلقاها بالوحي (1).

وهم مصدر للتشريع، فقولهم سنّة لا حكاية عن السنّة، وما يجيء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي إمّا لأجل نقل النصّ عنه كما يتّفق لجوامع كلمه، أو لأجل إقامة الحجّة على الآخرين.

اعتباراً بهذا المعنى الواسع للسنّة، فإن حصل إنسان على حكم شرعي من المعصوم عليه السلام بالسماع والمشاهدة فقد أخذ الحكم الواقعي من مصدره الأصلي على سبيل الجزم واليقين من ناحية السند، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل الله الأكبر، والأئمّة من آل البيت عليهم السلام ثقله الأصغر.

وإذا لم يحصل ذلك لطالب – كما في العهود المتأخّرة عن عصرهم – فحينئذٍ لا بدّ لـه أنّ يرجع بعد القرآن إلى الأحاديث التي تنقلها السنّة من طريق التواتر أو من طريق أخبار الآحاد.

 

دلالة فعل المعصوم عليه السلام:

إذا صدر منه الفعل محفوفاً بالقرينة كأنّه في مقام بيان حكم من الأحكام، أو عبادة من العبادات كالوضوء والصلاة ونحوهما، فحينئذٍ يكون لفعله ظهورٌ في وجه الفعل، من كونه واجباً أو مستحباً، أو غير ذلك على حسب اقتضاء القرينة.

_______________________________________

1 ـ أصول الفقه للمظفر.

ـ(512)ـ

ولا خلاف ولا كلام لأحد من الإماميّة في حجّيّته، واستدلّ الفقهاء على حكم أفعال الوضوء والصلاة والحج وغيرها وكيفياتها، لحكاية فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الإمام في هذه الأمور ؛ إنّما وقع الخلاف في دلالة فعل المعصوم في موضعين:

1ـ إذا وقع فعل المعصوم مجرّداً من القرائن، فقد قال بعضهم: يدلّ على إباحة، وقال بعض آخر: يدل على الوجوب، والحقّ هو الأول، فإذا جرّد فعله من القرائن فإنّه يدلّ على أكثر من إباحة الفعل في حقّنا.

وإذا صدر منه عليه السلام فعل ولم يظهر حاله في كونه من مختصّاته أو ليس منها ولا توجد قرينة تعيّن أحدهما ؛ فهل هذا يدلّ على الوجوب أو الإباحة بالنسبة إلينا؟

لاشكّ في أنّه من مختصّاته لا يتعدّى إلى غيره، ولا يشترك معه باقي المسلمين.

وإذا صدر منه عليه السلام فعل لم يكن اختصاصه به فالظاهر في فعله أنّ حكمه في حكم سائر الناس، فيكون فعله حينئذٍ حجّة لنا، ولاسيّما مع ما دلّ على عموم حسن تأسٍّ به (1).

كذلك حكم دلالة تقرير المعصوم إذا تحقّق بشروطه المتقدمة بما تقدّم من البيان.

إنّ الإماميّة والسنّة تتفقان في أُمور وهي كما يلي:

1ـ السنّة نفسها عبارة عن قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو فعله أو تقريره.

2ـ وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي وواجبة الاتباع.

3ـ وأفعاله صلّى الله عليه وآله وسلّم الجبلّية وما يختص به وأفعاله الدنيوية البحتة التي لا وحي فيها ليست بسنّة.

4 ـ والسنّة بيان للقرآن وشرحه.

وتختلفان في توسيع السنّة فقد وسّعتها الإمامية إلى أقوال آل البيت عليهم السلام وأفعالهم

_______________________________________

1 ـ خلاصة من أصول الفقه: 57 – 60، المظفر، مباحث الحجج، السنّة.

ـ(513)ـ

وتقريرهم على مبنى اعتقادهم الذي مرَّ ذكره في مبحث تعريف السنّة، ووَسّعها أهل السنّة إلى أقوال الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين، والصحابة تعمّ آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرهم من الصحابة على اعتقادهم: أنّ الله سبحانه وتعالى لم ينصِّب أحداً من آل بيت نبيّه عليهم السلام بلسانه لتبليغ الأحكام، بل أو كلّ وظيفة التبليغ وبلاغ الرسالة المحمّدية بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى علماء الأُمّة الإسلاميّة بالخصوص وعلى الأُمة بالعموم.

 

الجمع بين الاتجاهين:

يؤمن الفريقان أنّ عصر النصّ بالوحي أو بالإلهام قد انتهى بوفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عند أهل السنّة، وبالغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر سنّة (329 هـ) عند الإماميّة، فليس لكلّ واحد بدّ إلاّ أن يرجع إلى كتاب الله والأحاديث التي تنقلها السنّة وسنّة آل البيت عليهم السلام والصحابة – رضي الله عنهم – ومن اتّبعهم بإحسان.

 

السنّة وأقسامها وشروط صحّتها وسقمها:

من المسلّمات البديهية أنّ عصر النصّ وتلقّي الأحكام من المعصوم قد انتهى، فلا طريق إلى تلقّي أحكام الوقائع والحوادث والحلول للمشكلات إلاّ الرجوع – بعد كتاب الله سبحانه وتعالى – إلى السنّة، وهي نقلت إلينا بالرواة، ثمّ دوّنت في الكتب التي تسمّى بالمسانيد والسنن والصحاح والأُصول، على مبنى شروط وأُصول وموازين تقتضيها طبيعة دين الإسلام، كي لا تتطرّق شبه الأكاذيب والمجعولات والموضوعات إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى من قام مقامه، وكي لا يكون ما ليس بشريعة شريعة ومنهاجاً، وكي لا يتغيّر دين الإسلام ولا يشوبه ما ليس منه، ولا يكون لعبة بأيدي أهل الهوى، ولذلك

ـ(514)ـ

أمست الحاجة شديدة إلى وضع شروط ومقاييس وموازين تقتضيها السنّة ليتميّز الصحيح من السقيم.

فالسنّة على هذا الأصل تنقسم باعتبار ماهيّتها ودرايتها وكثرة رواتها وقلّتها وصفات رواتها إلى تقسيمات، ولكلّ تقسيم شروط لصحّتها وسقمها وقبولها وردّها، تذكر ضمن التقسيمات.

السنّة من حيث ماهيّتها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

1ـ السنّة القولية: هي أقوال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم التي قالها في مناسبات مختلفة وأغراض شتّى، ويطلق عليها في اصطلاح المحدّثين اسم الحديث، كما يُقال حديث نبوي، حديث صحيح وحديث قدسي، وهي مصدر للتشريع الإسلامي إذا كانت على شروط الصحّة متناً وسنداً ودراية ورواية.

2ـ السنّة الفعلية: وهي ما فعله النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كأداء الصلاة بهيئاتها وأركانها، ومنها ما يكون مصدراً للتشريع ومنها ما لا يكون كما تقدم.

3 ـ السنّة التقريرية: هي سكوت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على إنكار قول أو فعل صدر في حضرته أو غيبته وعلم به، فهذا السكوت يدلّ على جواز الفعل وإباحته، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يسكت عن باطل أو منكر، كسكوته وعدم إنكاره لعب الغلمان بالحراب في المسجد، وسكوته عن غناء جاريتين كانتا تغنيان بغناء حماسي يوم عيد.

ويلحق بها استبشاره صلّى الله عليه وآله وسلّم بفعل أو إظهار رضاه عنه أو استحسانه لـه.

 

أقسام السنّة من حيث نقلها الين:

السنّة بأنواعها الثلاثة من حيث روايتها ومن حيث طرق وصولها إلينا تنقسم إلى قسمين:

ـ(515)ـ

1ـ المتواتر.

2ـ الآحاد باتّفاق جمهور السنّة والإمامية، إلاّ أبا حنيفة حيث إنّه قسّمها من حيث طرق ورودها إلينا إلى:

المسند والمرسل، وقسّم المسند إلى ثلاثة أنواع:

1 ـ المتواتر:

وهو ما يرويه قوم لا يحصى عددهم، ولا يتوهّم تواطؤهم واجتماعهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم، ويدوم هذا الحد إلى أنّ يتّصل برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المشاهدة أو السماع (1).

يتّضح من هذا التعريف أنّ شروط صحّة التواتر وإفادته العلم أربعة وهي:

أ – أنّ تكون الرواة للسنّة جمعاً كثيراً يمتنع تواطؤهم على الكذب، ولا يشترط عدد معيّن للتواتر، بل يعتبر ما يفيد العلم على حسب العادة وفي اطمئنان النفس إليهم، إمّا لفرط كثرتهم، وإمّا لصلاحهم ودينهم ونحو ذلك.

ب – أنّ تكون الرواة في كلّ طبقة من طبقات الرواية بهذا الوصف الّذي ذكرناه.

ج – أنّ يكون مستند علم الرواة مستفاداً عن طريق المشاهد أو السماع.

د – لا عن طريق الظنّ ولا عن طريق أمر عقلي غير محسوس. (أبو منصور الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفى سنّة 1011).

وعدّها خمسة في كتابه «معالم الدين في ملاذ المجتهدين» حيث قال: «فاعلم إنّ حصول العلم بالتواتر يتوقّف على اجتماع شرائط: بعضها في المخبرين وبعضها في السامعين، فالأول ثلاث:

1ـ أن يبلغوا في الكثرة حدّاً يمتنع معه في العادة تواطؤهم على الكذب.

_______________________________________

1 ـ المستصفى 1: 91، شرح نخبة الفكر.

ـ(516)ـ

2ـ أن يستند علمهم إلى الحسّ، فإنّه في مثل حديث العالم لا يفيد قطعاً.

3 ـ استواء الطرفين والواسطة، أعني بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأول والآخر والوسط بالغاً ما بلغ عدد التواتر.

وشرائط حصول العلم بالتواتر في السامعين اثنتان:

أ – أنّ لا يكونوا عالمين بما أخبروا عنه اضطراراً لاستحالة تحصيل الحاصل.

ب – أنّ لا يكون السامع قد سبق بشبهة أو تقليد يؤدّي إلى اعتقاد نفي موجب الخبر، وهذا الشرط ذكره السيّد رحمه الله وهو جيّد(1).

فإذا تحقّقت شروط التواتر أفاد الخبر اليقين والعلم الضروري، لأنّ الثابت بالتواتر كالثابت بالمعاينة، وعلى ذلك فالسنّة المتواترة مقطوع بصحّة نسبتها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أيّ شكٍ، فتكون دليلاً من أدلّة الأحكام ومصدراً تشريعياً لها لا خلاف فيه بين المسلمين.

2ـ السنّة المشهورة:

هي التي رواها عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم واحد أو اثنان، أي عدد لم يبلغ حَدّ التواتر ثمّ تواترت في عصر التابعين وعصر تابعي التابعين، بأن كان رواتها جموعاً لا يتوهم تواطؤهّم على الكذب، وهي في الأصل من سنن الآحاد ثمّ انتشرت واشتهرت وتواترت في القرن الثاني والثالث، وهما عصر التابعين وتابعي التابعين.

3 ـ سنّة الآحاد:

هي ما رواها عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عدد لا يبلغ حدّ التواتر وذلك في عصر التابعين وتابعي التابعين وتابعي التابعين، فهي ليست سنّة متواترة ولا مشهورة عند الأحناف، وعلى قول غيرهم ليست متواترة، لأنّ السنّة من حيث ورودها إلينا تنقسم عندهم إلى: المتواتر والآحاد

_______________________________________

1 ـ معالم الدين، المطلب السادس في الأخبار.

ـ(517)ـ

والمشهور من الآحاد، وأنّها تفيد الظنّ الراجح على قول المحدّثين الأُصوليين لصحّة نسبتها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتفيد العلم عند بعض أهل الحديث والظاهرية، وذهب أحمد وأكثر المحدّثين إلى أنّها توجب العلم اليقيني، وعند الإمامية تفيد العلم بانضمام القرائن إليه.

لا خلاف بين المذاهب أنّ سنّة الآحاد حجّة على المسلمين في وجوب العمل بها، وهي تعتبر من أدلّة الأحكام بشرائط وموازين توزن عليها صحّتها وسقمها وقبولها وردّها، وهي كما يأتي:

1ـ التكليف: فلا تقبل رواية المجنون والصبي وإن كان مُمَيِّزاً.

2ـ الإسلام.

3ـ الإيمان.

4ـ العدالة: وهي ملكة في النفس تمنعها من فعل الكبائر والإصرار على الصغائر ومنافيات المروءة، فلا يقبل خبر الفاسق والمشهور والمجهول.

5ـ الضبط: ولا خلاف في اشتراطه، فإنّ من لا ضبط لـه قد يسهو عن بعض الحديث ممّا يتمّ به ويختلف الحكم بعدمه، أو يسهو ويزيد في الحديث ما يضطرب به معناه، أو يُبَدّل لفظاً بآخر ويروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسهو عن الواسطة مع وجودها إلى غير ذلك من أسباب الاختلاف (1).

شروط الحنفية:

شروط الحنفية للعمل بخبر الواحد ثمانية، أربعة في الخبر وأربعة في المخبرين.

أمّا الشروط التي في الخبر فهي:

1ـ أنّ لا يكون مخالفاً عموم الكتاب ولا ظاهره، مثاله ما روي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:

_______________________________________

1 ـ معالم الشهيد الثاني، المطلب السادس في الأخبار.

ـ(518)ـ

«من مسّ ذكره فليتوضأ» فإنّه مخالف لظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أنّ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنّ يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾(1) فإنّما نزلت في الاستنجاء بالماء وهو لا يمكن إلاّ بمس الفرج، فلو كان مس الذكر من الحدث لما حصل التطهير أبداً.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» فإنّه يخالف عموم قوله تعالى: ﴿إنّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أنّ لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أنّ سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2) فلا يترك العمل بالكتاب.

2ـ أنّ لا يكون مخالفاً للسُنة الصحيحة المشهورة بأنّ خبر الصحيح أقوى منه، فلا يصح المعارضة به فيترك في مقابلته، كما روي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بشاهد ويمين، فإنّه مخالف للخبر الصحيح المشهور، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(3).

3ـ أنّ يكون في حادثة لا تعمّ بها البلوى، لأنّه إذا كان فيما عمّت به البلوى فلا بدّ أنّ يكون متواتراً أو مشهوراً.

4ـ وأن لا يظهر من الصحابة – رضي الله عنهم – الاختلاف فيها وترك المحاجّة، كما وقع الاختلاف منه في خبر الواحد بين الأصحاب، وتركوا المحاجّة به فهو متروك لا يحتجّ به.

ذهب عامّة المتأخّرين من الأحناف والأُصوليين وأهل الحديث إلى أنّه حجّة، كما روي عن زيد بن ثابت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: الطلاق بالرجال، فالصحابة اختلفوا في المسألة، فذهب زيد بن ثابت وعمر وعثمان وعائشة – رضي الله عنهم- إلى الأخذ بهذا القول وبه أخذ الشافعي، وذهب علي وابن مسعود – رضي الله عنهما – إلى أنّ الطلاق معتبر بحال المرأة، أخذ به أبو حنيفة.

وأما الشروط التي في المخبرين فهي:

_______________________________________

1 ـ سورة التوبة: 108.

2 ـ سورة المزمل: 20.

3 ـ البخاري، مسلم.

ـ(519)ـ

1 ـ الإسلام ؛ فلا يجب العمل بخبر الكافر.

2 ـ العدالة ؛ فلا يجب العمل بخبر الفاسق.

3 ـ العقل الكامل ؛ فلا يجب العمل بخبر الصبي والمجنون والمعتوه.

4ـ الضبط ؛ فلا يجب العمل بخبر الذي كانت غفلته خلقة، بأن كان سهوه ونسيانه أكثر من حفظه، أو مسامحة أو مجازفة، وكذلك مشهور الحال والمجهول وأمثالهما.

واشترط أبو حنيفة مع العدالة بالراوي وثقته أن لا يخالف عمله ما يرويه، وعلى ذلك لم يؤخذ بحديث أبي هريرة: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً بالتراب الطاهر» لأنّه كان لا يعمل به، وكان يكتفي بالغسل ثلاثاً.

شروط المالكية:

اشترط مالك في الأخذ بخبر الآحاد أنّ لا يخالف ما عليه أهل المدينة، لأنّه يرى أنّ عمل أهل المدينة بمنزلة السنّة المتواترة، لأنّهم ورثوا العمل عن أسلافهم عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان عملهم بمنزلة السنّة المتواترة، والمتواتر يتقدّم على الآحاد (1).

وأضاف مقلّدوه شرطاً وهو أن لا يخالف خبر الآحاد الأُصول الثابتة والقواعد المرعية في الشريعة.

شروط الحنابلة والشافعية:

واشترط الحنابلة والشافعية في صحّة أخبار الآحاد والعمل بها ما يلي:

الإسلام والإيمان والعدالة والثقة والضبط واتصال السند.

إذا رواها العدول الثقات الضابطون فيجب العمل بها واستنباط الأحكام منها.

السنّة تنقسم باعتبار أحوال متنها إلى: النصّ والظاهر أو المجمل والمبيّن والمحكم والمتشابه والمضطرب وغيره، ومرجعها أُصول الدراية لأنّها تبحث عن الأحوال

_______________________________________

1 ـ الوجيز، الدكتور عبدالكريم زيدان.

ـ(520)ـ

العارضة على المتن والسند.

تنقسم سنّة الآحاد باعتبار اختلاف صفات رواتها إلى ثلاثة أقسام رئيسة عند أهل السنّة، ولكلّ قسم أنواع باعتبار أحوال الرواة وباعتبار قلّة عددها وكثرتها وكيفية تحملها ممّا لا يسعها هذا المقال.

1ـ الصحيح: فهو ما اتصل سنده بالثقات العدول الضابطين من غير شذوذ ولا علّة، فهذا يتّفق على أنّه صحيح وهو في رتبة عالية.

2ـ الحسن: ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامّة الفقهاء والمجتهدين، قال أبو علي الترمذي: الحسن ما ليس في إسناده من يتّهم وليس بشاذٍ وروي من غير وجه وضبط.

3ـ الضعيف: وهو ما لم توجد فيه شروط الصحّة ولا شروط الحسن، فأنواعه كثيرة منها: الموضوع والمقلوب والشاذ والمنكر والمعلل والمضطرب وغير ذلك.

ولهذه الأنواع حدود وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصفة، وتنقسم إلى أربعة أقسام رئيسية عند الإمامية تُسمى أُصول الحديث:

1ـ الصحيح: ما اتّصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات وان اعتراه شذوذ.

2ـ الحسن: ما اتّصل سنده كذلك بإمامي ممدوح بلا معارضة ذمّ مقبول من غير نصٍّ على عدالته في جميع مراتبه أو بعضها مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح.

3ـ الموثّق: ما دخل في سنده غير إمامي، ونصّ الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته، ولمن يشتمل ما فيه على ضعف.

وعَرّفه كثيرٌ من المحدّثين بأنّه إذا كان رجال سنده ثقات غير إماميين جميعهم أو واحد منهم.

ـ(521)ـ

4ـ الضعيف، ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة.

وجوه انتفاء السنّة باعتبار صفات الرواة:

ولقد عرفنا أنّ السنّة المتواترة لا كلام في رواتها من حيث ورودها إلينا بشروطها لأنّ العادة أحالت تواطؤهم وتوافقهم على الكذب من الابتداء إلى الانتهاء، ومستند انتهائهم إلى الحسن، وأمّا سنّة الآحاد على خلافها فإنّها لا توجب العلم والطمأنينة، إلاّ بالقرائن المحفوفة وهي شروط في الخبر ورواته.

هذه الشروط إمّا صفات إيجابيّة أو سلبية في الخبر أو في رواته، والصفات الايجابية: شروط صحّة الخبر والمخبرين، وتسمى شروط الصحّة، والصفات السلبية سواء كانت في متن السنّة أو في رواتها تسمّى وجوه الطعن، وبناءً عليهما يُنتقد الحديث أو الخبر للقبول والرَدّ.

وعرفنا الصفات الإيجابية في الرواة من التكليف والإسلام والإيمان والعدالة والضبط والثقة.

وإذا وجدت هذه الصفات الإيجابية في راوي خبر فنقله إلينا صحيح وما يرويه صحيح، وإذا خفّ الضبط فما يرويه لنا حسن، وإذا لم توجد الصفات الإيجابية في الراوي فما يرويه وينقله إلينا ضعيف.

وإذا وجدت الصفات السلبية في الرواة وفي الرواية فروايتهم مردودة متناً وسنداً، لأنّ الصفات السلبية ناقضة للصفات الإيجابية وما يترتب عليها.

وما ينقض العدالة خمس صفات:

الكذب والاتهام بالكذب والفسق والجهالة والبدعة.

فإذا وجدت هذه الصفات في الراوي فهو وما يرويه مطعون.

وما ينقض الضبط من الصفات السلبية خمس:

ـ(522)ـ

إفراط الغفلة وكثرة الغلط ومخالفة الثقات والوهم وسوء الحفظ.

الصحاح الستّة والكتب الأربعة:

المصطلحات التي مَرّ ذكرها في الصفحات السابقة لم تكن معروفة بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والتابعين وكذلك بين قدماء الشيعة والسنّة، ويتضح هذا لمن مارس كلامهم، وكان المتعارف بينهم أن يتلقّوا السنّة الصحيحة بما يقتضي اعتمادهم به وبما يوجب الوثوق والطمأنينة بين أهل الورع والتقوى والخشية والفقاهة والضبط، وفقهاء الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان يتورّعون في أمر نقل سنّة قد خفي عليهم مصدرها أشدّ الورع، ولذلك نراهم أقل روايةً.

لمّا انقرضت الخلافة الراشدة وحلّت محلها الملوكية شاعت الأحاديث الكاذبة، وراجت الأحاديث الموضوعة والزيادة على الأحاديث الصحيحة بما تهوى إليه أنفس، ونقل الإسرائيليات أصبح دليل التبحر في العلم والحديث، والدافع إلى ذلك أسباب هي كما يلي:

1ـ انعدام الالتزام الديني عند بعض شرائح المجتمع، كالزنادقة، أو الذين لا يدينون بدين ويضعون الأحاديث استخفافاً بالدين، ليضلّوا بها الناس ؛ قال حمّاد بن زيد فيما أخرجه العقيلي: إنّهم وضعوا أربعة عشر ألف حديث.

2ـ التقرّب إلى الملوك واتّباع هواهم ؛ كما وقع لغياث بن إبراهيم ؛ حيث أتى على المهدي فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال إسناداً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لا سبق إلاّ في نصل أو خفٍّ أو حافر أو جناحٍ، فزاد في الحديث أو جناحٍ فعرف المهدي أنّه كذب لأجله، فأمر بذبح الحمام.

3ـ غلبة الجهل ؛ كبعض المتعبّدين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب ؛ قال النووي: والواضعون أقسام أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة، ونقلت

ـ(523)ـ

في زعمهم بموضوعاتهم ثقة بهم، وجوّزت الكرامية الوضع في الترهيب، ووضعت الزنادقة جملاً، ومن الموضوع الحديثُ المروي عن أُبي بن كعب في فضل القرآن سورة سورة وقد أخطأ من ذكره من المفسرين.

قال جلال الدين السيوطي: قيل لأبي عصمة نوح بن أبي إبراهيم من أين ذلك ؟ عن عكرمة؟ عن ابن عباس ؟ في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا. فقال: إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة(1).

4ـ الاغراب لقصد الاشتهار عند الناس ؛ قال جعفر بن محمّد الطيالسي: صلّى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاض فقال: حدّثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدّثنا عبدالرزاق قال: حدّثنا معمّر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من قال لا إله إلاّ الله يخلق من كلّ كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه من مرجان وأخذ في القصة نحو عشرين ورقة».

فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال: أنت حدّثته بهذا فقال: والله ما سمعت به إلاّ هذه الساعة، قال: هلكنا جميعاً حتّى فرغ، فأشار إليه يحيى بيده أن تعال... فقال لـه يحيى: من حدّثك بهذا ؟ فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال أنا ابن معين وهذا أحمد ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا كان ولا بدّ من الكذب فعلى غيرنا(2).

وذلك يدل على كثرة الدسّ والوضع والكذب والتقوّل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد رحلته إلى الرفيق الأعلى وعلى الأئمّة المعصومين في حياتهم المباركة وبعد رحلتهم إلى

_______________________________________

1 ـ تدريب الراوي شرح التغريب والسير للنوري 1: 238.

2 ـ مقدمة تفسير القرطبي: 1.

ـ(524)ـ

رفيقهم الأعلى، فقد وضعت فرق غلاة الشيعة أحاديث باطلة.

روى الكشي عن أبي يحيى الواسطي قال: قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام: كان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه السلام فأذاقه الله حرّ الحديد.

روى عبدالله بن مسكان مرسلاً عن الصادق عليه السلام أنّه قال: لعن الله المغيرة بن سعيد أنّه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد، ولعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن عبودية الله الّذي إليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.

روى هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبدالله عليه السلام يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المسترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة وبسندها إلى أبي عليه السلام ثمّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أنّ يبثّوها في الشيعة، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذلك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم.

روى هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبدالله عليه السلام يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإن المغيرة بن سعيد دَسّ في كتب أصحاب أبي فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا، إذا حَدّثنا قلنا قال الله عزوجل وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1).

إنّ أبا الخطّاب عزا نفسه إلى أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، ولمّا وقف الصادق على غُلُوّه الباطل في حقّه تَبرّأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدّد القول في ذلك وبالغ في التبّري منه واللعن عليه، فَلَمّا اعتزل عنه ادّعى الإمامة لنفسه(2).

ولأجل سدّ باب الدَسّ والوضع والكذب والتقوّل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصيانة الصورة الحقيقية لدين الإسلام، كما صوّره القرآن الكريم والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن قام مقامه

_______________________________________

1ـ الرجال 1960 رقم 103، الكشي.

2 ـ الملل والنحل 1: 179، الشهرستاني.

ـ(525)ـ

دعت الحاجة الشديدة لاستنباط مصطلحات أصولية على مبنى القرآن والسنّة، لتمييز السنّة الصحيحة عن الكاذبة الموضوعة وإلى أصح الأسانيد في النقل على مبنى تلك المصطلحات المستنبطة، ودوّنت الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمستدركات والرسالة والجزء على شروط اتخذوها لتمحيص الحديث الصحيح عن الكاذب.

تلقّت السنّة الصحاح الستّة والإمامية الكتب الأربعة معتمدة لديهم في الدرجة الأولى مع تقديم بعضها على بعض على مبنى شروط الصحّة، ويعتقد أهل السنّة أنّ أصحّ الكتب بعد كتاب الله صحيح البخاري ومسلم، وعبارة الصحيح تطلق على البخاري ومسلم والسنن الأربعة للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وهي دون الصحيحين مرتبة وأقل منهما دقّة وضبطاً ؛ والحديث الصحيح لدى البخاري ومسلم بمعنى واحد وهو الحديث المتّصل إسناده لنقل الثقات العدول الضابطين عن مثلهم في الثقة والعدالة والضبط حتّى ينتهي إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، واشتراط البخاري لإخراجه الحديث شرطين:

1ـ معاصرة الراوي شيخه.

2ـ ثبوت سماعه بينما اكتفى مسلم بمجرد شرط المعاصرة.

إنّما سُمّيت الكتب الستة بالصحاح على التغليب لأنّ الأحاديث الصحيحة لم تنحصر فيها، وما فيها من الأحاديث صحيحة على مبنى شروط أصحابها وهذا باعتراف أصحاب الصحاح.

قال البخاري: ما أوردت في كتابي هذا إلاّ ما صَحَّ، ولقد تركت كثيراً من الصحاح، وقال مسلم: الّذي أوردتُ في هذا الكتاب من الأحاديث صحيح ولا أقول أنّ ما تركت ضعيف.

وقد صنّف غيرهم من الأئمّة صحاحاً تناولتها الأُمّة الإسلاميّة مثل صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبّان وهو تلميذ ابن خزيمة، وصحيح الحاكم أبي عبدالله

ـ(526)ـ

النيسابوري الحافظ الثقة المسمّى بالمستدرك، والصحاح المختارة للحافظ ضياء الدين المقدسي، وصحيح ابن عوانة والمتقى لابن الجارود، هذه الكتب كلّها مختصة بالصحاح انتقدوا عليها كما انتقد البخاري بعض الأحناف في مسألة الإيمان: أينقص ويزيد، وغيرها.

ومن تتبّع كتب الإماميّة الأربعة التي هي من ضروريات مذهب الإماميّة، وقام الإجماع على اعتبارها كتباً معتمدة في المذهب وتسمّى أُصول الحديث، يتّضح لـه أنّها ليست دون الصحاح الستة مرتبة، وأقلّ منها دقّة وضبطاً وشروطاً بل تساويها في كُلّها.

ونجد بعض الشروط في روايات الإماميّة وهي أدقّ لسدّ باب الموضوعات وما يخالف القرآن والسنّة وما يخالف العقل السليم. وإنّ الاهتمام بهذه الشروط يدل على أنّ القرآن الكريم والسنّة الصحيحة هما مقياسان لتمييز الأخبار في الدرجة الأُولى:

1ـ كما روي عن المعصومين عليهم السلام: فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا.

2ـ عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله عليه السلام: لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة وكُلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.

إنّ عرض الأخبار التي لا يعلم صدورها بالقطع أو بالقرائن عن المعصومين عليهم السلام على الكتاب والسنّة أصل يوافق القرآن والسنّة والإجماع والعقل، لأنّه معيار الحقّ والباطل والصحّة والسقم بالاتفاق، ولذا ورد في غير واحد من الأخبار: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله». فهذا أدقّ معيارٍ لصحّة الأخبار وسقمها ولقبولها ورَدّها ؛ وأظن أنّ ما قاله الأصوليون من أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم إلاّ بالقرائن المحفوفة مرادهم منه: شاهد من القرآن أو السنّة أو شاهد من الإجماع والعقل والأمارات الشرعية التي تفيد العلم.

ـ(527)ـ

وهذا لا يخالف تخصيص الكتاب بالسنّة الصحيحة وتقييده وتعميمه بها لأنّ السنّة بيان لـه.

3ـ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المرويّة عن الحجج عليه السلام موقوف على مقدّمات ثلاث: الأُولى كون الكلام صادراً عن الحجّة، والثانية كون صدوره لبيان حكم الله تعالى لا على وجه التقيّة وغيرها، والثالثة ثبوت دلالتها على الحكم الشرعي(1).

ولا يخفى أنّ من قام بمطالعة الكتب الأربعة والصحاح الستة مطالعة تطبيقية على أصول الحديث والدراية يجد أكثر روايتها وأغلب شروط صحتها مشتركة بين السنّة والإماميّة، والمختلفات أقلّ من المشتركات، ولو تلقّينا هذه المختلفات كمختلفات المذاهب الفقهية فيما بينها، وعرضناها على شروط الصحّة وأُصول انتقاء مشتركة للأخذ والردّ في جوّ علمي أخوي سليم – كما يفعل علماء المذاهب فيما بينهم – لما وقع ما وقع بين السنّة والشيعة هذا البون الشاسع، الذي سبّب الحوادث الدموية التي يعود نفعها إلى أعداء الإسلام وضررها إلى الأُمة الإسلاميّة.

ولو أجازت السنّة والشيعة تدريس كتب إحداهما ومطالعتها في مدارسهما، واستفاد طلاب أحداهما من علماء وأساتذة الأُخرى في حوزاتهما العلمية لاندفع كثير من الشبهات، ولزالت الأحقاد والتعصّبات التي لا وجه لها من القرآن والسنّة، فنرى في التاريخ أنّ مدرسة الإمام الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام مملوءة من طلاب السنّة والشيعة في المدينة المنوّرة.

الإمام أبو جعفر محمّد بن علي عليه السلام كان إماماً في علم الحديث، إنّه سمع أباه زين العابدين عليه السلام وجابر بن عبدالله t وروى عنه ابنه جعفر الصادق عليه السلام وغيره وكان يُكنّى بالباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع.

_______________________________________

1ـ فرائد الأُصول.

ـ(528)ـ

وجعفر الصادق بعد أبيه عليهما السلام قام بتدريس علم الحديث، وروى عن أبيه، وتخرّج عن مدرسته الأئمّة الأعلام، نحو يحيى بن سعيد وابن جريح ومالك بن أنس وسفيان الثوري وابن عُيينة وأبي حنيفة، ولهم إجازة منه عليه السلام لرواية الحديث.

إنّ مثل هذه الإجازة بمعناها العام – أعني إجازة طلب العلم والحضور في مجلس الدرس، وإجازة الرواية وإجازة تبادل النظر في جوّ علمي سليم، وإجازة السماع والقراءة على الأساتذة دون أي تعصّب وامتياز – لها أثر إيجابي للتقريب بين المذاهب وتوحيد صفوف المسلمين. وأدعو الله تبارك وتعالى أنّ يجمعنا على الوحدة والأخوّة.