الصحوة الإسلامية في مطلع القرن العشرين وأثرها في التصدي للإستعمار

الصحوة الإسلامية في مطلع القرن العشرين وأثرها في التصدي للإستعمار

 

الصحوة الإسلامية في مطلع القرن العشرين وأثرها في التصدي للإستعمار

  

 

 حسن الهاشمي                          

باحث إسلامي عراقي، ساكن في مدينة قم المقدّسة     

 

بسم الله الر حمن الر حيم

 

            المقدمة:

            إنّ للفكر والثقافة الإسلامية أثر فاعل في تحريك الجماهير، وتأجيج النفوس للثورة ضد الظلم والاستبداد والاعتساف، أياً كان مصدره، سواء أكان استعماراً أجنبياً كافراً، أو حكماً مستبداً ظالماً، او ملكاً عظوظاً فاسداً، لا فرق في ذلك، فان كل من ينزُّ للسيطرة والاخضاع والافساد، لمصالح شخصية أو لاهواء ذاتية أو لدوافع شيطانية، فان الفكر الإسلامي له بالمرصاد، يكشف عوراته ويدحض أباطيله، ويرأب الصدع الذي قد يحدثه في أوساط المجتمع الإسلامي.

            فالإسلام وبما يحمل من أفكار متعالية وقيم سامية، كالتنظيم الدقيق للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الافراد، وإطلاق الحريات التي تضمن سعادة البشر في الدارين، ونبذ العنصرية بشتى اشكالها، والمساواة والعدالة وتهذيب النفس والمروءة والاحسان والرأفة والإخاء والتعاون وغيرها الكثير من الاحكام التي لها بالغ الاثر في صيانة الامة من الانحراف والتيه والضياع، فانه قادر على تلبية مطالب الامة في الحرية والانعتاق والرفعة والكرامة والسيادة.

            وطالما أن الامة الإسلامية تحمل بين جنباتها تراثاً عظيماً ومتكاملاً، فانها قادرة على التصدي للأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بها، وهي قادرة أيضاً على التفاعل وبشكل مستمر مع القيادة العلمائية المخلصة التي تمثل السماء وأخلاق الانبياء وصفح النبلاء.

            ان التفاعل الحيوي والمثمر بين العلماء والأمة له أبعاد حقيقية لا تقتصر على حياة الانسان الدنيوية فحسب، بل تتعداها الى الحياة الأبدية في الآخرة، وان هذا التفاعل تربطه أواصر أوثق من الصلات التي تربط بين القيادة والأمة في المجتمع المادي، البعيد عن قداسة الوجود وكمالات النفس ومراتب الاخلاق والمناقب الانسانية.

            فيمكن أن تكون الاواصر المادية مقتصرة على المنافع الشخصية الآنية دونما ملاحظة قيم وأخلاق وتعهدات، بيد أن هذه المعاني يمكن مشاهدتها بوضوح في العلاقة التي تربط بين الأمة الإسلامية وعلمائها الابرار من جهة، وبين المسلمين في تعاملهم مع بعضهم البعض، وفي تعاملهم مع الشعوب وبقية الأطر الفكرية والثقافية السائدة في العالم من جهة ثانية، وكيفية التعاطي مع الاحداث والازمات والوقائع حسبما تتطلبه الظروف القاهرة وحسبما تقتضيه الإمكانات المتاحة من جهة ثالثة.

            فلو أخذنا شعب العراق أبان ثورة العشرين بنظر الاعتبار فانه قد عاش في كنف قائد قادر على أن يحقق له آماله ويخفف عنه آلامه، انه إلتف حول قيادة الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي، الذي جمع بين ذرابة السيف وذلاقة القلم، ذلك القائد الذكي والسياسي الشريف، الذي انتهل من ينبوع الإسلام الخالد، استطاع من أن يجنّد كل الطاقات ويشحذ كل الهمم في مدة قصيرة،  ويخلّص العراق وشعبه من سيطرة  الاستعمار المباشرة بعد سنتين من توليّه الزعامة الدينية والسياسية في المجتمع الإسلامي العراقي. في حين أن دولاً أخرى أبان حملة الاستعمار قد استسلمت لرقاد طويل دام في بعضها زهاء قرن كامل من الزمن.

            الجهود كلها تظافرت آنذاك للقيام بالثورة العتيدة، شعب ساخط، قائد ملهم، طبقة قيادية ميدانية من علماء الدين وبعض الوطنيين الاحرار، طلائع الامة المضحية، جماهير مؤمنة بالقيادة الرشيدة، قرارات حكيمة صادرة عن تلك القيادة، منهج عمل واضح، كل هذه المقومات تظافرت وتوالدت على ضفافها قناديل الامل نحو الاصلاح والتغيير والانعتاق من كل ظلم وتعسف وعلى مر العصور.

            تلك القناديل التي تفجّرت مؤخراً في الانتفاضة الشعبانية المباركة، التي قام به الشعب العراقي ضد الاستبداد والعمالة والرجعية بُعيد حرب الخليج الثانية عام 1991م.

            ولكي لا نطيل في قراءة صفحات المجد الغابر والتباكي على الايام الخوالي، ولكي نستلهم من الصحوة الإسلامية دروس البطولة والفداء والتضحية، ولكي نقف على أهم الروافد الفكرية والثقافية التي كانت تقف وراء تلك الصحوة، إليك - عزيزي القارئ - هذه الدراسة التحليلية عن الظروف التي كانت تكتنف المجتمع الإسلامي آنذاك. وأهم المرتكزات الفكرية التي انطلق ذلك المجتمع وقادته من خلالها، لمكافحة ظاهرة الاستعمار السياسي والعسكري والثقافي.

           

الهجوم الغاشم

            يمكن اعتبار الفترة الممتدة بين النصف الأول من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هي بداية الغزو العسكري الغربي لبلاد الشرق الإسلامي - العربي.

            ولم يأت هذا الغزو اعتباطاً، وانما كانت ثمة مؤهلات تحضيرية قد مهدت الطريق أمام جحافل الغزو الأوربي للبلاد الإسلامية، ومن أبرز تلك المؤهلات الضعف والخور الذي انتاب الامبراطوريتين العثمانية والإيرانية اللتان كانتا تمثلان قطب الرحى التي تدور حولهما دول العالم الإسلامي آنذاك.

            ففي أواخر عهدها أصبحت الدولة العثمانية جسداً ينخر فيه السوس، نتيجة لضعف الحكام فيها وعجزهم عن اصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الولايات الممتدة تحت ظل الامبراطورية المشيخة.

            وهذا أدى بدوره الى تدهور حاد في الوضع الاقتصادي والعمراني بشكل خاص حيث «كانت المجاعات تدور في أطراف البلاد، والجفاف يضرب الاراضي المزروعة فيدعها قاعاً صفصفا، وجيش الفقراء يزداد كل يوم، والبحث عن الخبز لايواجه إلا بمزيد من المطالبة بالضرائب من أجل تموين الجيش التركي»([1]).

            ليت الأمر يقف عند هذا الحد، فالاستبداد بلغ ذروته في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، اما الارهاب والظلم الذي مارسته جمعية «الاتحاد» التركية بحق الشعوب الإسلامية، فحدِّث ولا حرج.

            فالحكومة التركية أرادت من خلال هذه الجمعية تتريك الولايات الخاضعة تحت النفوذ العثماني، لذلك كانت العنصرية والدعوة الى القومية التركية أحد أهم سمات تلك الجمعية. التي ومنذ تأسيسها ما انفتأت تعزف على هذا الوتر الحساس والخطير في نفس الوقت، مما أدّى الى ظهور تيار مضاد في الدول الخاضعة تحت النفوذ العثماني، يدعو الى القومية العربية، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.

            بالاضافة الى ماذكر فإنَّ الدولة العثمانية، ومنذ أن سيطرت على العراق في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، منحت الشركات الاوربية «امتيازات»([2]). سخية.

            وهذه الامتيازات «شكلت بدورها مدخلاً مهماً لتغلغل النفوذ والمصالح الاوربية في الدولة العثمانية وولاياتها ومنها العراق»([3]).

            ولم يقف التغلغل الاوربي الى هذا الحد بل تعداه الى محاولة مسخ هوية الشعوب الإسلامية العربية، فقد اتخذ هذا التغلغل في «الولايات العراقية العثمانية مظاهر عدة كان أبرزها التثبيت للنفوذ الاقتصادي والسياسي، الذي ترافق معه نشاط تبشيري وثقافي بارز»([4]).

            بيد أن هذا النشاط، وعلى الرغم من امكانياته الضخمة، واستعداداته الهائلة «بقي محصوراً بين جدران الكنائس وأروقة المعابد اليهودية، بالاضافة الى التأثير المحدود الذي خلَّفه على بعض أصحاب النفوس المتهرئة من جيل الشباب الذي انبهر بالتقدم الصناعي والعسكري للغرب، دونما يحدث شرخاً عميقاً في عقيدة الشعب العراقي ككل، وبالعكس من ذلك فقد التفَّ الشعب بأسره حول قيادة علماء الدين، واستوحى منهم دروس العقيدة والجهاد في مقارعة الغزاة الطامعين، وابلى العدو الغازي بلاءً حسناً في كثير من المواقع»([5]).

            بالرغم من امكاناته المحدودة اذا ماقورنت بامكانات العدو الهائلة عدداً وعدةً وتنظيماً.

            «ولم تكن حال الامبراطورية الايرانية بأفضل من العثمانيين، بل في بعض الاحيان كانت إيران تتبع سياسة أكثر ضعفاً واستسلاماً للغرب، كما كان الامر في العهد القاجاري، ففي أواخر هذا العهد وبعد أن اعتلى الحكم (فتح علي شاه) أصبحت ايران ككرة القدم في ملعب السياسة الدولية بين روسيا وبريطانيا، فمرة تسقط في احضان النفوذ الروسي، وأخرى في احضان النفوذ البريطاني»([6]).

            ففي ظل حكم الدولتين العثمانية والايرانية، كانت الشعوب الإسلامية تعاني الفقر والفاقة والاستبداد والظلم، بينما كان الحكام، لاسيما في اواخر عهدي تلكما الدولتين منغمسين في اللهو واللعب، بعيدين كل البعد عن مشاعر الشعب واحتياجاته الاساسية في الحياة.

            وعندما شعر الاستعمار بقوته وسطوته، وبضعف وخور حكام الدول الإسلامية، انطلقت جحافله في مطلع القرن التاسع عشر تجوب البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً، متخذةً اياها دولاً وشعوبها خولاً.

            بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، ألمانيا النازية، واسبانيا، اسماء الدول الاوربية الأكثر تألقاً في سماء النفوذ الدولي آنذاك تلك الدول وغيرها كانت تتبارى في حلبة الدول الضعيفة لاقتسام الغنيمة.

            وبطبيعة الحال، فإن الاقوى والانكى تكون له حصة الأسد من الغنائم، وهكذا كانت بريطانيا العظمى هي السبَّاقة في بسط نفوذها على أكبر قدر ممكن من الدول والممالك الإسلامية.

            فبدأت في السادس من تشرين الثاني عام 1914م باحتلال العراق ومن قبل «احتلت الهند عام 1818م، وهو العمق الاستراتيجي لإيران، وحكمتها حكماً مباشراً بعد أن كانت قد بسطت نفوذها عليها فترة غير قصيرة»([7]).

            وانطلقت بعد ذلك لاحتلال جميع الطرق الاستراتيجية التي تؤدي الى الهند والشرق الأقصى، فقامت باحتلال الدول المطلة على البحر الاحمر ليتسنّى لها احتلال مصر، وبعد أن حققت مآربها من ذلك، اتجهت صوب البحر الاحمر، فاستولت على معظم دول الخليج وجزرها ذات الموقع الاستراتيجي من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، تمهيداً لاحتلال ايران من الجنوب، حيث كان الشمال مسيلاً للعاب روسيا، والتي بالفعل تقدمت واحتلت أجزاء واسعة منه، وهي بلاد القفقاز وبادكوبه وبخارى وسمرقند في عهد فتح علي شاه ومازلت تلك المدن واقعة تحت سيطرة دول آسيا الوسطى في وقتنا الحاضر.

            وفي عام 1881م احتلت بريطانيا مصر، واعقبها احتلال السودان في عام 1884م، وبذلك سدّت القوات البريطانية جميع الطرق المؤدية الى الهند بوجه المستعمرين الآخرين.

            أما فرنسا فإنها احتلت الجزائر في العشرينات من القرن التاسع عشر ثم قامت باحتلال تونس عام 1881م، وفي عام 1911م احتلت مراكش.

            كما أن ليبيا وبعض أجزاء المغرب كانتا من نصيب القوات الايطالية والإسبانية على التوالي.

 

المقاومة العنيدة

            وفي ظل هذه الظروف العصيبة التي مرت بها الدول الإسلامية وغيرها من الدول التي وقعت فريسة الاحتلال الغربي، انطلقت طلائع المقاومة من رحم الشعوب المضطهدة، لطرد العدو الغازي من التراب الوطني الإسلامي.

            ففي العراق، انطلقت حركة الجهاد في التاسع من تشرين الثاني أي بعد ثلاثة أيام من احتلال الفاو من قبل القوات البريطانية وشارك في هذه الحركة علماء الدين المخلصين، ورؤساء العشائر الغيارى، وبعض الوطنيين الأحرار.

            أمّا الهند فقد استطاع الزعيم الوطني غاندي بمؤازرة شعبه طرد الاستعمار البريطاني بعد أن بقي جاثماً على صدرها عقوداً طويلة من الزمن.

            وهكذا توالت الثورات والانتفاضات الشعبية ضد الغزاة الطامعين، فقد شهدت مصر أنتفاضة عارمة قادها علماء الأزهر في وجه غزوة نابليون ثم في وجه الاستعمار البريطاني، وتكللت في ثورة عرابي الكبرى بعد عام واحد من الاجتياح البريطاني لمصر.

            أمّا السودان فإنها شهدت بشكل خاص «الدعوة المهدية التي أعلنت الجهاد ضد النفوذ الأجنبي، وحققت انتصارات ساحقة ضد القوات البريطانية، وطبّقت الإسلام في عهد محمد أحمد المهدي عام 1885م، ولم تهزم الثورة في السودان إلا في عام 1898م من خلال القوات البريطانية التي تمكنت بعد محاولات مخفقة كثيرة من السيطرة عليها»([8]).

            وكذلك واجهت فرنسا وايطاليا واسبانيا حركات تحررية عنيفة قادها الأمير عبد القادر الجزائري عام 1830م وفي الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ومحمد بن علي السنوسي عام 1842م وعمر المختار عام 1911م في ليبيا ضد الاستعمار الايطالي، وعبد الكريم الخطابي عام 1914م في المغرب ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي.

            واستطاعت هذه الثورات «ان تحرر مناطق واسعة، وتقيم فيها حكماً إسلامياً لفترات متفاوتة، ولم يصفّ أمرها إلا بالقوة المسلحة الخارجية»([9]).

            المهم أن الثورات الموضعية بقيادة علماء الدين المجاهدين قد قاومت الاحتلال الاجنبي مقاومة شديدة، ولم تفترش الأرض رياحيناً للعدو أياً كانت الأسباب، حتى لو كانت، العداء المستميت للظلم والاستبداد العثماني والايراني، مثلما فعل ذلك بعض رؤساء العشائر([10]) وأولئك المستترون بلباس الوطنية المزيف.

            إنّ الذين دافعوا عن الدولتين العثمانية والايرانية في مواجهة الغزو الغربي، ماكانوا يؤيدون الحكم الفردي المتمثل بالدولة الايرانية، ولا حتى نظرية الخلافة العثمانية.

            فعلماء الدين الذين قاوموا الاستبداد العثماني والقاجاري، دافعوا عن هذين النظامين يوم أن داهم الخطر الأكبر مرابض الامة الإسلامية.

            دافعوا عن القاجاريين يوم أن حاولت بريطانيا أن تزيل نظام حكمهم وتنصّب مكانهم العميل بهلوي، لتفتح ايران امام النفوذ الغربي.

            دافعوا عن العثمانيين عندما اجتاحت القوات البريطانية الولايات الخاضعة لها، بزعم أنهم محررون لا فاتحون...

            والسؤال المطروح هنا كيف دافع علماء الشيعة - بالخصوص - عن نظام الخلافة العثمانية، والحال أن هذا النظام مناقض تماماً مع الاطروحة الشيعية في الولاية والحكم؟

            «ليس غريباً أن يكون علماء الشيعة الذين يؤمنون بنظرية الإمامة المضادة لنظرية الخلافة بالقوة، في مقدمة الذين أفتوا بضرورة محاربة الغزاة البريطانيين تحت لواء الخلافة العثمانية؟ ذلك أنهم كانوا يواجهون شرّين أحدهما أكبر من الآخر، الشر المطلق الذي هو سيطرة الغرب الكافر على المسلمين، والشر النسبي الذي هو الحكم التركي المستبد الظالم، وعندما يخير المرء بين شرّين، فعليه أن يختار أهونهما دفعاً للخطر الاعظم»([11]).

            كما هو معروف ان القوات الاجنبية الغازية قد واجهت في مناطق نفوذها ثورات متعددة المشارب والافكار، وأنها وفي نهاية المطاف تجرعت كأس الهزيمة في معظم تلك المناطق في العالم، وإن طال البقاء في بعضها.

            وكلما كانت المقاومة أشد وأقسى، كلما كان بقاء الاستعمار أقل وخسارته أكثر.

            وبطبيعة الحال أن الثورات هي تعبير صادق عن إرادة الجماهير في الحرية والانعتاق، واّن لكل ثورة روافد فكرية ترتضع منها، ليقوى بها عودها، وتتصلب بها ارادتها ومقاومتها.

            والذي يقلّب صفحات التاريخ، يجدها مشرقة، وكلمات من نور تتوهج منها آيات الكفاح المسلح، والانتفاضة  الرافضة لكل ألوان الظلم والقهر والاستبداد، أياً كان مصدره، وأنّى كانت قوته.

 

التيارات الفكرية للثورة

            وأن أهم الروافد الفكرية التي غذّت الثورة التحررية للشعوب الإسلامية آنذاك أربعة:

            1- التيار الإسلامي الثوري.

            2- التيار الإسلامي المهادن.

            3- التيار الوطني القومي.

            4- التيار العثماني المتخلف.

            ان هذه التيارات، المتباينة في أفكارها ومناهجها ومشاربها، قد شاركت بشكل أو بآخر في تعبئة الجماهير ضد الهجمة الاستعمارية الشرسة على البلاد الإسلامية - العربية.

            وكل واحد من هذه التيارات كان يستقطب فئة اجتماعية معينة، وتقف وراءه قوى سياسية معينة. وكل واحد منها كان يتحرك في اطار الدائرة الشعبية الخاضعة له.

            وأن الفكر الإسلامي لما يحمله من نتاج فكري غزير وخصب، كان رواجه الشعبي أوسع من غيره من الافكار الوضعية، ولهذا فإن روافد الفكر والثقافة الإسلامية هي التي أججت روح الثورة والمقاومة لدى كثير من الدول العربية - الإسلامية، بالاضافة الى التأثير الملحوظ الذي خلّفه الفكر القومي في هذا المجال.

            فلو أخذنا تجربة الثورة الشعبية في العراق ضد الاستعمار البريطاني عام 1920م نلاحظ وجود فرق شاسع بين التأثير الإسلامي الثوري والتأثير القومي في أوساط الجماهير العراقية.

            فبينما كانت النوادي والمقاهي منتجع رواد الفكر القومي، كان المسجد والحسينية مراكز مهمة لبث الفكر الإسلامي الثوري.

            كان الفكر القومي متأثراً فعلاً بالافكار الاوربية التي  طُرحت بعد الثورة الصناعية الفرنسية، كالعلمنة والتفسير المادي للحياة، في حين ان الفكر الإسلامي كان منشغلاً في نقد الحضارة المادية الاوربية من جهة، ومقارعة الغزاة الطامعين بالبلاد الإسلامية من جهة أخرى.

            رواد الفكر القومي كانوا يتلقون مساعداتهم المادية والمعنوية من الخارج غالباً، بينم كانت الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة هي المعين الذي لا ينضب لرفد الحركة الإسلامية في العراق.

            العلاقة التي تربط بين قادة الفكر القومي وقاعدته الشعبية - قائمة اصلاً على المادة والمصالح المشتركة، بينما العلاقة القائمة بين الجماهير المسلمة والقيادة الإسلامية كانت ولاتزال مبنية على أساس التقوى والايمان والعمل الصالح.

            وما الاستجابة الواسعة التي أبدتها العشائر لدعوات الجهاد التي انطلقت من حناجر علماء الدين الشيعة من على منبر المساجد والحسينيات إلا دليل صارخ على الدور الفعال للعامل الديني في مواجهة المحتل من جهة، ودور العلماء وقدرتهم في استنهاض الهمم لمقاومة الاحتلال البريطاني ومن ثم الانتداب، من أجل المطالبة بالاستقلال التام من جهة ثانية.

الأدب الهادف

            وغير ماذكر، فإن ثمة روافد فكرية اخرى ساعدت على خلق جو ثوري ضد الاحتلال البريطاني للعراق، منها: الشعر بشقيه القريض والعامي، ولكن الشعر العامي والهوسات كان أثره أعظم في النفوس لاسيما في أوساط العشائر في الفرات الاوسط والجنوبي، وكذلك كان للادب والنثر، الذي كان يُلقى في المهرجانات والاحتفالات، أو ينشر في المجلات والجرائد أثره الفعال في تجنيد الطاقات وشحذ الهمم لمواجهة الغزو العسكري والثقافي القادم من الغرب الكافر.

            هذه المواجهة التي اطلق شرارتها الاولى علماء الدين الشيعة من خلال قيادتهم لطلائع المجاهدين، وكذلك قصائدهم ومواعظهم الرنانة التي الهبت النفوس حقداً وغيظاً على الغزاة الطامعين.

            ولا يخفى «ان المضمون الإسلامي الذي حملته الثورة لم يتمثل فقط في الدور القيادي البارز للعلماء فحسب، وإنما في الاهداف والافكار السياسية التي انطلقت على أساسها مقاومة الإنجليز، حيث ارتبطت المقاومة من أجل التحرر والاستقلال، بالدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد احدى الدول الاوربية المعادية، ولعل مضمون القصيدة التي نضمها الشيخ جواد الجواهري في سجن بغداد، بعد ان حكم عليه بالإعدام، هي احدى التعبيرات عن ذلك»([12])، والذي يقول في بعض أبياتها:

مــددنا بصــائرنا لا العيونا *** وفــزنا غداة عشقنا المنونا

رعينا بهــا سنة الهاشمــي *** نبي الهــدى والكتاب المبينا

وصنّــا كرامة شعــب العراق *** وكنــا لعلياه حصنا مصونا

وخضنا المعامع وهــي الحمام *** ندافع عن حوزة المسلمينا

وجحفــل اعدائنــا الانجليز *** يملأ سهــل الفلا والحزونا

ومــا ضامناً الاسر في موقف *** اطعنا عليــه الرسول الامينا

            وهكذا نجد نفس المفاهيم التي جسدها الادباء والعلماء في الشعر القريض، هي ذاتها موجودة في الاهازيج التي كانت تتفجر من حناجر عشائر الفرات الاوسط والجنوبي، تلك المفاهيم الدينية التي رسمت الخطوط العامة للثورة، وألهبت النفوس وأججتها في المطالبة بالحق المغصوب، والتراب المضيّع، والقيم المهددة.

            فكان للشعر الشعبي الهادف، أثره الفعّال في محاربة الغزاة، وتعكير صفو احلامهم الوهمية في السيطرة والاحتلال.

            فقد عكس هذا الشعر «ولاسيما الاهازيج والهوسات المفهوم الشعبي والإسلامي للثورة، الذي شكل الدافع الاساسي لانخراط العشائر فيها، واستجابتهم لفتاوى العلماء وأوامرهم، فالقصائد والهوسات التي نظّمت أبان الثورة وبعدها كانت تعبر عن مدى التأثير القوي لهذا العامل ودوره في الثورة»([13]). فعلى سبيل المثال تعكس الاهزوجة التي رددتها احدى النساء أمام افراد عشيرتها الظوالم مع بدء معركة الرميثة، عن مدى التزام عشائر العراق بالواجبات الدينية في محاربة الكافرين فقالت وهي تستحثهم على القتال: «ها..ها.. حل فرض الخامس گوموله»، أي ان الجهاد وهو الفرض الخامس من فروع الدين يستصرخكم، فلبُّوا نداءه وجاهدوا الغزاة الكافرين الطامعين بأرض المقدسات في العراق.

            ولم يكن الشعر الشعبي والقريض وحده في ميدان المواجهة للتحريض والتأليب ضد الواقع الفاسد الذي كان يكتنف العراق في ظل الاحتلال، بل كانت الجمعيات والاحزاب والتنظيمات الشعبية بقيادة علماء الدين المجاهدين تلعب دوراً بارزاً في هذا الميدان.

 

الجمعيات الإسلامية.. تأثير فاعل

            «لقد شهدت حركة المعارضة الإسلامية، ارهاصاتها الاولى مع بداية انحسار حركة الجهاد، في اعقاب معركة الشعيبة، حيث عقدت لقاءات ومؤتمرات متتالية بين عدد من العلماء في النجف وكربلاء، وزعماء العشائر في الشامية والناصرية والشطرة، وغيرها من مناطق الفرات الأوسط، كان الرأي السائد فيها هو الإعداد للثورة على الانجليز ومحاربتهم»([14]).

            وتوالت هذه اللقاءات، فشملت معظم مناطق العراق المهمة، ففي النجف، وقبيل قيام الثورة فيها في التاسع من آذار عام 1918م «تشكل فيها عدد من المجالس (الندوات) لمناقشة القضايا السياسية والعامة ومتابعتها، وكان يشرف على تنظيمها عدد من رجال الدين والمثقفين الإسلاميين من الأُسر العلمية المشهورة.

            لقد ساهم نشاط هذه الندوات، فضلاً عن نشاط عدد آخر من رجال الدين في احداث نتائج بعيدة الأثر في تطور حركة المقاومة الإسلامية ضد الانجليز، وتبلورت في تأسيس جمعية إسلامية سرية باسم جمعية النهضة الإسلامية، وذلك في تشرين الثاني 1917م، وقد كان المبادر لتأسيس هذه الجمعية السيد محمد علي بحر العلوم، والشيخ محمد جواد الجزائري، وهم من العلماء البارزين في الوسط السياسي والشعبي، اضافة الى عدد آخر من رجال الدين والشخصيات السياسية الإسلامية، وكانوا بمثابة اللجنة القيادية للجمعية»([15]).

            فالخطورة التي كانت شكلتها الجمعيات الإسلامية بقيادة علماء الدين كانت أشد جسامة وأعظم خطباً للمحتل الاجنبي من أية جمعية سياسية بعيدة عن المنهج الإسلامي، فإن جمعية النهضة الإسلامية، بالاضافة الى نشاطها التي كانت تقوم به في «توجيه وقيادة المواجهات التي يقوم بها الاهالي ضد الادارة الانجليزية، فإنها أولت اهتماماً للعمل الدعاوي والتحريضي، فأصدرت نشرة تكتب باليد، وتوزع على أهالي النجف، وتلصق أعداد منها على الجدران وأبواب الصحن، إن أهداف الجمعية الداعية لمقاومة الانجليز، واحترام الاهالي لقياداتها الدينية، مكَّنتها من جذب أعداد كبيرة من الاعضاء للانضمام اليها»([16]).

            المواجهة الشاملة، والثورة العارمة، التي رفعت لوائها الجمعية بوجه اعتى الامبراطوريات آنذاك، لم يكن بالامر الهين، وان أي تحرك يقوم بعمل ما من دون أن ينظر الى الظروف والمقومات الاساسية في انطلاقته، محكوم عليه بالفشل سلفاً، وهذا الذي حمل شيخ الشريعة الاصفهاني - أحد كبار المجتهدين في النجف - الى القول بعد الضربة التي تلقتها ثورة النجف، بأن فشلها يرجع الى عدم نضج الظروف تماماً آنذاك لثورة عامة ضد الانجليز.

            وعلى أثر الاخفاق الذي منيت به ثورة النجف، باشر شيخ الشريعة بنفسه «في الاعداد لتوفير بعض مستلزمات تلك الظروف، فبادر مع الشيخ عبد الكريم الجزائري - أحد علماء النجف البارزين - وبتأييد من الامام الشيرازي ونجله الشيخ محمد رضا الى الاتصال بزعماء العشائر، لهذه الغاية، وفي تلك الفترة أيضاً تأسس في 3 تموز 1918 حزباً سرّياً سمي حزب النجف السري، وذلك بمبادرة من الشيخ الجزائري والشيخ محمد رضا الشبيبي، وضم في صفوفه عدداً آخر من رجال الدين والمثقفين الإسلاميين وزعماء العشائر، أما الهدف الاساسي للحزب، فقد تحدد بتحقيق الاستقلال للعراق، كما وأسس شيخ الشريعة في اواخر عام 1918م جمعية إسلامية سياسية في النجف سميت الهيئة العلمية»([17]).

            ورغم أنه في بداية الاحتلال، كان الجميع قد أنخرط في ساحات الجهاد، دفاعاً على القيم والمقدسات، ويوعز ذلك أن الجماهير والعلماء - على حد سواء - قد وجدوا أنفسهم مقابل أعتى الامبراطوريات على وجه البسيطة آنذاك. فانبرى العلماء الى اصدار فتوى الجهاد وحثوا الجماهير للدخول في ميادين القتال. نعم انه الواجب الديني، والتكليف الالهي هو الذي يحتم على الجميع الدفاع على بيضة الإسلام وكرامة المسلمين، بيد أنه مع مرور الزمن، وانهزام الأتراك، وتزايد مصاعب الجهاد... انفرز الخط الثوري عن الخط المحايد وكان المرجع الديني السيد كاظم اليزدي الى جانب المحايدين، ومن هنا فإن ثلة من علماء الدين المجاهدين في النجف الاشرف، لم يتحمل الوضع الخطير لفترة أطول، حيث قامت هذه الثلة بتشكيل الجمعيات والاحزاب السرية لمقاومة الاحتلال الانجليزي (رغم عدم موافقة السيد اليزدي على خطواتهم).

 

الإمام الشيرازي.. قيادة رائدة

            ولهذا السبب، ولأسباب أخرى متعددة أهمها، الحصار الانجليزي، والقمع الذي تعرّض له الثوار، فان معظم هذه الاحزاب والجمعيات، قد تمّ تصفيتها بشكل دموي مروّع، وهذا ماعزى بالخط الثوري الى ان يبحث عن زعيم يقود المسيرة.. تُرى من هو ذلك الزعيم الذي تتوفر فيه شروط القيادة الدينية والسياسية والثورية جميعاً؟

            الشيخ محمد تقي الشيرازي.. رجلٌ في الثمانين من عمره، غزير العلم، قوي الارادة، مضرب المثل في الزهد والتقوى والصلاح. في عام 1918م وبعد أن هدأت العاصفة التي مرّت على النجف الاشرف، تقدّم ثلة من علماء الدين المجاهدين اليه وهو في سامراء، وطلبوا منه الهجرة الى المدن المقدسة، لقيادة الأمة في ذلك الظرف العصيب، وهكذا انتقل الامام الشيرازي الى مدينة النجف الاشرف ومن ثم الى كربلاء المقدسة، ليستقر فيها، ويقود من هناك طلائع الثورة والجهاد، نعم استقرَّ الامام الشيرازي  في كربلاء بتاريخ 23 شباط 1918م، وبعد سنة وأربعة أشهر بالضبط في آيار 1919م توفي المجتهد الاكبر السيد اليزدي، وانتقلت الزعامة الدينية الى الإمام الشيرازي، بينما كانت الزعامة السياسية قد انتقلت اليه منذ أن تخلّى عنها السيد اليزدي(رحمه الله).

            وبرز دور الشيخ الشيرازي قبل أن تنعقد له ولاية المرجعية، وذلك بعد أن أصدر فتواه الشهيرة رداً على استفتاءه من قبل عدد من العلماء وزعماء العشائر في جواز انتخاب غير المسلم لتولية الحكم في العراق. فأجاب بالفتوى التالية: (ليس لأحد من المسلمين ان ينتخب ويختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين)، فغلقت هذه الفتوى الابواب موصدة أمام أي وصاية للاستعمار البريطاني على العراق، ولهذا عاود الاستعمار، بعد أن طرد من الباب من جرّاء هذه الفتوى، ان يدخل من الشباك، وذلك عبر الانتداب البريطاني للعراق، وهو شكل آخر من أشكال السيطرة غير المباشرة.

            الإمام الشيرازي وبعد أن تقلد الزعامة الدينية والسياسية، قام بتشكيل هيئة استشارية من العلماء الكبار منهم الشيخ مهدي الخالصي من الكاظمية والسيد هبة الدين الشهرستاني والسيد ابو القاسم الكاشاني والسيد أحمد الخراساني من علماء النجف الاشرف، والسيد محمد علي الشهرستاني من علماء كربلاء، وولده الشيخ محمد رضا الشيرازي.

            وكان لكل واحد من العلماء المذكورين دور خاص في تعبئة الجماهير للثورة، فالسيد ابو القاسم الكاشاني، كان حلقة الوصل بين القيادة وايران، كما أن السيد أحمد الخراساني كان حلقة الوصل بين القيادة وعلماء وجماهير وعشائر النجف الاشرف، والسيد محمد علي الشهرستاني والشيخ محمد رضا الشيرازي كان حلقة الوصل مع عشائر الفرات الاوسط، والشيخ مهدي الخالصي والسيد هبة الدين الشهرستاني كانا حلقة الوصل بين القيادة وبين علماء الدين في الكاظمية وجماهيرها.

            وانّ الكاظمية كانت بحاجة الى هذا التحرك لتنشيط فعالياتها الجهادية، حيث أنها كانت احدى المراكز المنشطة لحركة الجهاد عام 1914م، في حين أنه بعد احتلال بغداد أصابها نوع من الصمت والفتور، وان تنشيط حركة الجهاد أعطى المجال لحبيس الضغط ان يتفجر، لاسيما أن أرضية الجهاد كانت خصبة، والاهالي كانوا يمتلئون حقداً وغضباً على المحتل الانجليزي، علاوة على ذلك فإن الكاظمية برزت كمدينة متمسكة بالجامعة الإسلامية، وعلمائها المجاهدين، لكنها لم تشهد قيام منظمات سرية إسلامية - سياسية على غرار ماحدث في النجف وكربلاء.

            «وشهدت كربلاء ايضاً نشاطاً سياسياً - إسلامياً مهماً، خصوصاً بعد قدوم الامام الشيرازي إليها، كانت أبرز مظاهره قيام التنسيق في العمل بين علماء كربلاء والنجف، والاتصال بالعشائر والاهتمام بالعمل التنظيمي  السري، والاعداد لمقاومة الاحتلال، وقد كان الانجاز الأول في هذا الاتجاه هو تأسيس جمعية سرية في أوائل تشرين الثاني 1918م باسم الجمعية الوطنية الإسلامية، حددت هدفها الاساسي بالعمل ضد الانجليز، وكان يشرف على الجمعية ويوجهها الامام الشيرازي، لكن رئاستها المباشرة أوكلت لنجله الشيخ محمد رضا، وقد ترأس الامام الشيرازي نفسه جمعية سرية أخرى، اتخذت الاسم ذاته، وضمت عدداً آخراً من العلماء والمثقفين الإسلاميين، وكان أحد الاعمال المهمة للجمعية فضلاً عن قيامها بالدعاية والتحريض ضد الانجليز، هو اهتمامها بالتوفيق بين رؤساء عشائر الفرات الاوسط، وأزالة الخلافات بينهم، حيث ساهم ذلك في توسيع نطاق الحركة المعادية للانجليز»([18]).

            وبعد أن تفاعل العلماء والجماهير مع القيادة الثورية الجديدة «قرر الزعماء والرؤساء وشيوخ العشائر الاجتماع في كربلاء في زيارة نصف شعبان عام 1338هـ، تحت اشراف الامام الشيرازي، لتبادل الرأي، وتقرير خطة واحدة في سبيل مقاومة الانجليز، وفي ليلة النصف من شعبان عقدوا اجتماعاً عاماً في دار الامام الشيرازي لتلقي نصائحه، والاستئناس برأيه وتعاليمه، وبعد أن تلقوا التعليمات والنصائح الثمينة وهي: المحافظة على النظام، وعدم افساح المجال للعابثين الذين يغتنمون مثل هذه الفرص لتعكير صفو الأمن، وأن تكون مطالبهم سلمية نقية لاتشوبها أي شائبة، وأن يتمسكوا بقواعد الدين، وبعد مداولات طويلة قرَّ رأيهم أن يطالبوا الانجليز بتنفيذ مواعيدهم بمنح الاستقلال للبلاد، فإنهم سيلتجئون الى القوة، واشعال نار الثورة، دفاعاً عن حقوق بلادهم وأمنهم، ثمَّ قرَّ رأيهم ان يقسموا بكتاب الله المجيد لأجل البر في هذه المقررات»([19]).

            «عاد الزعيم البغدادي محمد جعفر ابو التمن، بعد أن حضر اجتماع النصف من شعبان في كربلاء وأطلع الرؤساء وقادة الحركة الوطنية في بغداد كل ماشاهده ووقف عليه، وعلى أثر عودة ابو التمن ازدادت الحركة نشاطاً واتساعاً، وبدأت بعقد الاجتماعات العامة في البيوت والجوامع بأوسع نطاق، وأعنف صورة، وقد قامت أول مظاهرة في بغداد أواخر شعبان من نفس السنة، ثم أعقبتها مظاهرة ثانية، بدأت من جامع الميدان وكانت ضخمة جداً، اشترك فيها عشرات الالوف من أهالي بغداد والكاظمية، الذين كانوا يحضرون هذه الاجتماعات في بغداد بقيادة السيد محمد الصدر وغيره من قادة الحركة في الكاظمية باسم المآتم الحسينية وفي ليلة السادس من شهر رمضان 1338هـ ألقى أحد الشباب قصيدة وطنية حماسية، ألهبت شعور الجميع، وكان من المواطنين، فألقت السلطة القبض عليه، وأرسلته الى البصرة، فكان ذلك من العوامل التي استفزت الجماهير البغدادية، التي أخذت تتحدى القوة في اظهار شعورها بالاحتجاجات والمظاهرات، التي كانت تلقى فيها الخطب النارية المثيرة والقصائد الحماسية المهيجة»([20]).

 

العلماء وفتوى الجهاد

            وفي الحقيقة أن فتوى الجهاد والمقاومة التي أطلقها العلماء والمراجع، قد بدأت بعد الاحتلال البريطاني لثغر العراق الجنوبي عام 1914م مباشرة «وفي حينها أرسل عدد من علماء وأعيان البصرة برقيات الى كبار المجتهدين في النجف وكربلاء والكاظمية، يطلبون مساندتهم في محاربة القوات البريطانية وإثارة العشائر، وقد جاء في نص بعض البرقيات مايلي:

            «ثغر البصرة، الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الإسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع»([21])، وتأدية للواجب الديني المقدس في الدفاع عن بيضة الإسلام اذا ما تهددها الخطر، «وتلبية لنداء علماء وأعيان البصرة، أصدر كبار العلماء المسلمين الشيعة فتاوي الجهاد وضرورة محاربة الغزاة الطامعين، وتأييد العثمانيين بالحرب. وقبلهم أصدر مفتي الدولة العثمانية حكماً شرعياً أوجب فيه الجهاد كفرض عيني على جميع المسلمين في العالم، بما فيهم الذين تحت حكم بريطانياً وفرنسا وروسيا»([22]).

            ويخطىء من يظن أن  فتوى علماء الشيعة كانت استجابة لفتوى شيخ الدولة العثمانية وذلك لما يكنه الشعب العراقي من حقد وكراهية للحكام العثمانيين، والوعاظ من علماء البلاط والسلطان وحقيقة الأمر أن حكام تركيا قد انحرفوا عن الإسلام، واتبعوا سياسة التتريك المضادة لروح الاخوة الإسلامية، وبدأوا باتباع اقسى وأشرس انواع الديكتاتوريات، فإن كان مفتي الدولة حريصاً حقاً على الإسلام! فأين كان حرصه عندما مارس السلطان الجرائم بحق الشعوب الرازحة تحت السيطرة العثمانية آنذاك؟!

            فكان الأحرى بعلماء البلاط أن يصدروا فتوى الجهاد ضد ظلم الدولة العثمانية أولاً، ومن ثم الجهاد ضد الاحتلال الانجليزي للممالك الإسلامية التي كانت خاضعة لهم في ذلك الوقت.

            وعلى كل حال يقول الكاتب جورج انطونيوي في كتابه «يقظة العرب» (صدر بأذن السلطان في 23 تشرين الثاني عام 1914م بياناً وقعه مفتي الدولة، وثمانية وعشرون عالماً آخر، موجه الى العالم الإسلامي، أهابوا فيه بجميع المسلمين في العالم، إطاعة الفتوى والدفاع عن الإسلام والأماكن المقدسة»([23]).

            أما علماء الدين الشيعة، فإنهم وعندما أفتوا بوجوب محاربة الغزاة تحت لواء الخلافة العثمانية، إنّما كانت تمثل الأخيرة الدولة الإسلامية، وان خطرها آنذاك كان أقل حتماً من الخطر الكبير الذي كان يحدق بالامة الإسلامية من قبل الاستعمار البريطاني، إلا أن سجل التاريخ قبل الاحتلال حافل بمواقف مشرفة لبعض العلماء الشيعة ضد التطرف والفساد التركي، فإن الامام السيد محمد كاظم اليزدي، مرجع الطائفة الشيعية آنذاك، قد دعم عشائر العراق، وخاصة في الفرات الأوسط ضد الحكم التركي، بعد أن استشرى الفساد في البلاد، وبدأ النظام المتهريء يضغط على الشعب وينهب ثرواته، وسلط عليهم ولاة مستهترين فاسدين، لادين عندهم ليهتدوا به، ولاعقل لديهم، ليسترشدوا به طريق الهدى والصواب .

            وتبقى فتوى الجهاد التي أطلقها علماء الشيعة هي الفيصل الأول والأخير في تعبئة النفوس ضد الاحتلال البريطاني، وبغض النظر عن النتائج العسكرية التي أسفرت عنها «فإن حركة الجهاد هذه قد وجهت ضربة قوية للسياسة البريطانية، وحملت ذلك البعد التاريخي بدلالاته المهمة، أنّ اول تلك الدلالات هو انطلاق تلك الفتاوي من موقف شرعي إسلامي لايحتمل التراجع ولا يضع الاشتراطات وقوامه الدفاع عن كيان إسلامي في وجه عدو أجنبي كافر، وهذا يعني ان ذلك الموقف سوف لن يرتبط أو يتأثر بهزيمة الدولة العثمانية أو انتصارها، كما أنه لن يرتبط أو يتأثر بمدى استجابة أو رفض الدولة العثمانية لهذا المطلب الإصلاحي أو ذاك»([24]).

            «أما الدلالة الأهم إصدار فتاوي الجهاد، فقد تجلَّت في أنها وضعت حداً فاصلاً، ورسمت الحدود للمواقف إزاء الاحتلال والمشروع البريطاني (الاوربي) اي باعتبار بريطانيا وحلفائها دولاً استعمارية معتدية وكافرة لايمكن الحوار أو التفاوض معها. ولاينبغي الأخذ بوعودها وشعاراتها، وهو الأمر الذي سدّ الطريق أمام تبرير الفئات والنخب السياسية التي رفعت شعارات الاستقلال للتعاون والتحالف مع بريطانيا وحلفائها، والتي أصبحت مواقفها وتصرفاتها موضع شبهه، فضلاً عن عزلها عن المجتمع الاهلي الإسلامي وتأييده»([25]).

وانتفضت الأمَّة

            وبعد اصدار الفتاوي الشرعية، انتفضت المدن والقرى العراقية عن بكرة أبيها، ولاسيما المدن المقدسة، ومناطق العشائر في الفرات الأوسط والجنوبي، فمن مدينة النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، انطلقت الفتوى الشرعية بوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام المهددة بحراب الصليبية القادمة من أرض الضباب، وأخذ بعض العلماء المجاهدين على عاتقهم ايصال نداء الجهاد الذي انطلق من حناجر مراجع الدين في العتبات المقدسة الى سائر نقاط العراق.

            المراجع كلهم أفتوا بالجهاد، بدءاً بالسيد محمد كاظم اليزدي ومروراً بالشيخ محمد تقي الشيرازي وانتهاءً بشيخ الشريعة الاصفهاني، الذين تقلدوا المرجعية العليا للشيعة على التوالي منذ بدء الاحتلال حتى زمن الانتداب البريطاني على العراق.

            انطلقت طلائع الجهاد زرافات ووحدانا «ففي النجف الاشرف برز نجم العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي الذيم كان أشد العلماء تحمساً لحرب الانجليز، وصدهم عن العراق، فلم يقصر جهوده في مدينة النجف، بل أخذ يتجوَّل في المناطق العشائرية، يدعو المسلمين للجهاد، ومحاربة الكفار، ومعاونة الحكومة التركية في هذه الحرب الدينية المقدسة. كما كان موضع اعجاب الزعماء والرؤساء لثقافته ولباقته، ورغم ان اكثر الزعماء والرؤساء كانوا لا يرغبون في معاونة الاتراك. لما كانوا يلاقونه منهم من قسوة وخشونة وظلم وكثرة الضرائب، فقد تمكن من إقناعهم وموافقتهم على الاشتراك بعشائرهم وأتباعهم بهذه الحرب، والتأهب والاستعداد لها»([26]).

            «اما السيد مهدي الحيدري وهو أحد كبار مجتهدي الكاظمية، لقد بادر إثر احتلال الفاو الى ارسال برقيات الى علماء النجف وكربلاء وسامراء، عبّر لهم فيها عن رغبته في الاجتماع اليهم للبحث في أمر الاحتلال وعن عزمه على محاربة الكفار مهما كلّف الأمر، ثمَّ شرع في حثّ الناس من على منبر الصحن الكاظمي على الخروج للجهاد، وإذ أجابه ثلاثة من كبار المجتهدين في النجف وهم شيخ الشريعة الاصفهاني والسيد مصطفى الكاشاني والسيد علي الداماد، وتوجهوا الى الكاظمية، حيث رحب بهم سكان المدينة وهم يرددون شعار الجهاد.. اللّه أكبر»([27]).

            «من بين الذين تصدّوا للهجمة الاستعمارية البريطانية على بلد المقدسات العراق، الشيخ مهدي الخالصي، فمن جملة اعماله الجهادية قام بنشر رسالة عنوانها «السيف البتّار في جهاد الكفار» تعرض فيها لمسألة الجهاد في الإسلام وما يترتب على الامة الإسلامية للقيام بشروطه وقواعده وأركانه»([28]).

            وفي بغداد حيث لقيت فتاوى العلماء استجابة كبيرة، وانضم عدد من الاهالي الى صفوف المجاهدين، فقد برز الحاج داود ابو التمن، أحد وجهاء بغداد الشيعة في تنظيم تطوع المجاهدين والانفاق عليهم، وقد رافق المتطوعين من بغداد الى الجبهة، الوفد الذي أرسله السيد كاظم اليزدي برئاسة نجله السيد محمد الى أبي التمن، لاستنهاض العشائر، فنزل الوفد في ضيافته بعد أن استقبله أهالي بغداد بالحفاوة والتكريم.

            هنا وينبغي ان لا نتغافل عن أن الثورات الإسلامية في الحقب الاستعمارية، لعبت دوراً حاسماً في التعبئة الشعبية العامة، وفي مواجهة الاستعمار الغربي، وانزال الهزائم بجيوشه في الميدان، وهذه المواجهة رهينة تفاعل الأمّة مع قيادتها الرشيدة، ولولا هذا التفاعل والانشداد، فان ثمة انشقاقات وتصدعات ستظهر في جسد الأمة، ينفذ المحتل الكافر من خلالها الى الجسد ويحاول تفتيته وتقطيع أوصاله «ومن هنا تأتي أهمية مقولة مالك بن نبي الشهيرة حول القابلية للاستعمار حيث يرى أن السبب الاول في تمكّن الاستعمار من السيطرة على الشعوب الإسلامية يرجع الى السلبيات الداخلية التي يسميها القابلية للاستعمار، وفي الواقع يؤيد كثير من المفكرين والعلماء الحجة القائلة  أن الاستعمار ماكان ليستطيع إنزال الهزيمة العسكرية بهذه الثورات لولا وجود ثغرات اساسية في داخلها»([29]).

           

المراكز الثقافية.. محطات وعي

            كما ذكرنا سابقاً ان للفكر والثقافة الإسلامية اثراً بالغاً في تنشيط حركة الجهاد في الأمّة، وان الثقافة الإسلامية ليست وليدة الساحة، ولاهي ردة فعل تجاه الغزو الثقافي الغربي للبلاد الإسلامية، وانما هي حالة متجذرة واساسية في ذلك الدين القيم، ولو أخذنا العراق مثلاً نجد أنه وكما يصف الأديب والمؤرخ العراقي محمد مهدي البصير، كانت الحالة الثقافية السائدة فيه أواخر القرن التاسع عشر، بأنها نهضة علمية وأدبية واسعة، ويذكر أن ما تميّزت به تلك النهضة هو نبوغ عدد من علماء الدين الشيعة والسنة الأعاظم من الفقهاء والمفسرين، الذين ألّفوا في هذه المجالات وظلت كتبهم تدرس في الحلقات الدينية العليا، وفي تفسيره لاسباب هذه النهضة الثقافية الادبية وتقدمها، يرى البصير آنها تعود لاستمرار الثقافة الإسلامية العربية في العراق، منذ نهاية الدولة العباسية، التي ظلت قائمة في أروقة المساجد وحلقات المدارس الدينية، ولاسيما في منطقة الفرات الاوسط، حيث كانت الحلة مركز نهضة ثقافية عظيمة منذ أوائل القرن السادس للهجرة، ثم انتقلت الى كربلاء في أوائل القرن العاشر للهجرة، وبعدها انتقلت الى النجف، ويخلص البصير من ذلك الى الاستنتاج، بأن هذه الحركة - النهضة لم تبلغ في وقت من الاوقات مابلغت من النمو والانتشار في القرن الماضي، حيث كان ازدهارها على وجه التقريب عاماً، لأنه شمل بغداد والنجف وكربلاء والكاظمية وسامراء والموصل في وقت واحد.

            والملاحظ أن المدن المقدسة هي محور التحرك الديني والثقافي في العراق، وان بروز مدينة - بالاضافة الى قداستها الدينية والمعنوية - في فترة من الزمان دون غيرها في النهضة العلمية أو التحرك. فمثلاً في زمن العلامة الحلي، فإن مدينة الحلة برزت كمركز اشعاع علمي هام في الامة الإسلامية. والنجف الاشرف ازدهرت سياسياً وعلمياً عندما كانت تحتضن الشيخ الآخوند الخراساني زعيم ثورة المشروطة وبعض الاقطاب البارزين في ثورة العشرين امثال السيد الحبوبي والسيد هبة الدين الشهرستاني وغيرهم.

            والجدير ذكره ان النجف تعد من مراكز الاشعاع الفكرية المهمة في العالم الإسلامي، لاحتضانها الحوزة العلمية العريقة التي مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام. أما كربلاء فانها ازدهرت علمياً وسياسياً بعد أن انتقل اليها الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين، الذي جعل من هذه المدينة قلعة للثوار وملتقى للاعيان والشخصيات والعشائر العراقية الثائرة بوجه الاستعمار البريطاني، وما الدور المهم الذي لعبته مدينة قم المقدسة في تاريخ النهضة الإسلامية الايرانية إلاّ بأختيارها منتجعاً ومنطلقاً للثورة ضد الشاه من قبل الامام الخميني(رض) وبقية رموز الثورة من علماء الدين المجاهدين، وهكذا سامراء والكاظمية وبقية المناطق التي لعبت دوراً مهماً وبارزاً في التصدي للهجمة العسكرية والثقافية الغربية للبلاد الإسلامية.

            ومثلما ليس هنالك في الإسلام تفاضل لمكان دون مكان إلا بقدر تفاعل العظماء في التاريخ مع ذلك المكان، فإنَّه لا أثر ولا أهمية للنوع والجنس البشري إلا بالتقوى، والتفاضل انما يكون على أساس التقوى والعلم والعمل الصالح، وعلى ذلك فليتنافس المتنافسون.

            ومن هذا المنطلق، فإن مقياس المرجعية العليا للشيعة هو مقياس الهي - معنوي وليس مقياس مادي - قومي، وان المرجعية لايتبوّءها إلاّ من تجسدت فيه شروط مبيّنة في كتب الاحاديث والسنة النبوية، اهمها الزهد والتقوى والعدالة والعلمية وطهارة المولد والإعراض عن الدنيا وصيانة النفس عن الهوى واطاعة المولى، لهذا السبب نرى أن عشائر العراق العربية كانت تنصاع لأوامر المرجع الأعلى بغض النظر عن جنسيته وتبعيته الجغرافية، التي غالباً ما كانت إيرانية.

            وعلى هذا الاساس نجد أن الكثير من الثورات والانتفاضات التي عجت بايران بقيادة المراجع والعلماء كانت لها انعكاسات كبيرة على العراق، بحكم ارتباطه معها بالمذهب الواحد، والجغرافية المشتركة، وكذلك لوجود العتبات المقدسة في العراق، الذي له الاثر البالغ في كونه محط أنظار المسلمين وخصوصاً الشيعة «ومن هنا لاعجب إن رأينا أن  القيادة الدينية وهي في العراق تقود ثورة الشعب الايراني ضد الاستعمار البريطاني في ثورة التبغ، كما لا نستبعد ان يحدث العكس، اذ يكون أحد ابطال ثورة العشرين العراقية ضد الاستعمار البريطاني رجلاً ايرانياً كالسيد أبو القاسم الكاشاني، العالم الديني الكبير الذي دفع مصدِّق لتأميم النفط الايراني، واخراج الشاه من البلاد عام 1935م»([30]) .

            ولعل من أهم الثورات التي اندلعت في ايران، وكان لها صدى مميزاً في العراق هي الثورة الدستورية عام 1905 م بقيادة الشيخ ميرزا كاظم الخراساني المعروف بالآخوند الذي كان يتخذ من النجف منتجعاً له، عندما أفتى بأن الخروج على الدستور، الذي يؤيده الشعب بمثابة خروج على الإسلام «وهذه الثورة أطلقت في العراق حركة جدل واسعة امتدت الى اقسام كبيرة من السكان فضلاً على العلماء والمثقفين»


 

([31]).

            ومن المجتهدين الذين أيدوا الثورة الدستورية الشيخ محمد حسين النائيني، الذي عالج في كتابه «تنبيه الامة وتنزيه الملة» مفهوم التوحيد، وانطلق من ذلك لمعالجة شرعية مقاومة الحكومات الاستبدادية، والعمل على إقامة حكومات دستورية نيابية بدلاً عنها، ويرجع الدكتور عبد اللّه فياض في كتابه (الثورة العراقية الكبرى) النشاط السياسي في العراق الى الحركة الدستورية عندما يقول «وقد باركها جماعة من المجتهدين في النجف الاشرف، وعملت لها نخبة من المجتهدين في النجف الاشرف، وعملت لها نخبة من المثقفين في العراق»([32]).

            والحقيقة التي لا مناص من ذكرها هنا هي أن التلاقح الفكري والثقافي بين ايران والعراق بدأ منذ «مطلع القرن العاشر للهجرة (السادس عشر الميلادي) أبان حصول حدثين تأريخيين مهمين:

            الأول: قيام الدولة الصفوية في ايران، واتخاذها الشيعة الامامية مذهباً رسمياً لها.

            والثاني: بداية سيطرة العثمانيين على العراق، الذين اتخذوا بدورهم المذهب السني الحنفي مذهباً رسمياً للدولة.

            فمنذ قيام الدولة الصفوية واعلان تشيعها، أخذت ايران تؤثر، كما يذكر الاستاذ علي حسين الوردي، تأثيراً غير قليل في المجتمع العراقي، وقد اتخذ هذا التأثير على صعيد الشيعة، مظاهر سياسية واجتماعية وثقافية عديدة، فمن الناحية السياسية مثل تشيع ايران، التطور الأكثر أهمية في تاريخ الشيعة الامامية، والذي يوازي في اهميته المكانة الرفيعة التي تتمتع بها الإمامية وفقهائهم في العهد البويهي، أما بالنسبة لعموم الشيعة في العراق، فقد مثّلت ايران الشيعية رمزاً معنوياً يزيد من تماسكهم، ويشكل ظهيراً لهم يستندون اليه في مواجهة اضطهاد السلطات العثمانية، ومن الناحية الاجتماعية، أدى تشيّع ايران الى اتساع عملية التقارب والاختلاط بين شيعة ايران وشيعة العراق، والتي أخذت تنمو بمرور الأيام، حتى صارت قوافل الايرانيين تتوافد تباعاً الى العراق من أجل زيارة العتبات المقدسة أو طلب العلم أو دفن الموتى وغير ذلك.

            أما على الصعيد الثقافي، فاضافة للتأثير العام للثقافة الفارسية، التي أصبحت النجف وكربلاء من أهم مراكزها، فقد أعادت ايران في عهد الشاه اسماعيل، احياء الشعائر والتقاليد الشيعية التي ظهرت في العهد البويهي، حيث أخذ الشيعة في القرن الرابع للهجرة، وبدعم الحكّام البويهيين، أقامة شعائر خاصة كإحياء ذكرى عاشوراء والاحتفال بعيد الغدير، وادخال الشهادة الثالثة في الأذان، وأضافت اليها مجالس التعزية ومايرافقها من مظاهر الحزن والبكاء ودق الطبول، وقد أعاد الشيعة في العراق مرة اخرى وبتأثير ايران ممارسة هذه الشعائر، التي اضفت بعداً تراثياً شعبياً آخر على تكوينهم الثقافي، وساهمت في ترسيخ عقائدهم»([33]).

            ولقد جرى التعبير عن هذا الاتجاه، بالاعمال والنشاطات الفكرية، وبالمواقف السياسية لعدد من كبار المجتهدين والمرجعية العليا، حيث إنصب الاهتمام على نقد الثقافة والحضارة الغربيتين ومقاومتها وذلك عبر الدعوة لنهضة جديدة للاسلام، وتأييد الجامعة الإسلامية.

 

الدور الفكري للحركة الوطنية

            اما الدور الفكري للحركة الوطنية العراقية فيلخصه الدكتور عبد اللّه فياض بأنه «دخل هذه البلاد من وسائل الثقافة الحديثة سواء كان ذلك من الغرب مباشرة أو عن طريق بلدان الشرق الاوسط، وخاصة البلاد العربية مثل سورية ومصر، كما يتمثل الدور الفكري في نهضة صحافية محدودة، نشأت على الاكثر بعد الانقلاب العثماني سنة 1908م وخاصة في المراكز الثقافية المهمة مثل بغداد والبصرة والموصل والنجف الاشرف»([34]).

            «والحقيقة ان سوريا ومصر وحتى فلسطين قد تأثرت بوسائل الاعلام الغربية الحديثة، فكرياً وثقافياً، والسبب في ذلك يرجع الى ان الجهاز الديني فيها لم يستقل عن الجهاز السلطوي بل كان مندمجاً وذائباً فيه، حيث كان الحكم العثماني يمثل الشرعية السياسية والدينية معاً، وعندما أصبح هذا الحكم مكروهاً لدى الجماهير، لم تكن هناك جهة دينية، تكون البديل الشرعي القادر على قيادة الجماهير ضد الاستعمار، حتى الازهر الشريف بات عاجزاً عن القيام بأي عمل تجاه الحكم العثماني الفاسد. وكان الحاكم والمفتي معاً يعيّنان من مركز الخلافة العثمانية في إسلامبول، اضافة الى ذلك فإن التعصب التركي حرّك العصبية العربية المضادة، وعندما تحتل العصبية القومية محل العصبية العقائدية تتخذ القضية شكلاً آخر»([35]).

            وطالما أن الإسلام المتحرر من قيد السلطان لم يكن له مكان في تلك الدول، فانها انتحت منحى آخر وانتهجت طريقاً غير طريق ذي الشوكة، وارتضعت من ثدي القومية، لكي تقوى على مواجهة الظروف العصبية المحيطة بها. آنهابحاجة الى فكر لكي ترتكز عليه في تلك المواجهة العنيفة، فكانت القومية العربية هي مربط الخيل وحجر الزاوية لذلك المرتكز.

            اما بقية الدول التابعة للحكم العثماني، فانها كانت تتمتع باستقلالية الجهاز الديني عن الجهاز السلطوي، ولكن بنسب متفاوتة، حسب ما تتطلبه الظروف وتمليه عليهم العقيدة والمذهب «ففي ايران والعراق، وعلى الرغم من أن الإسلام القاجاري والعثماني قد ترك انطباعاً سيئاً في قلوب الناس، إلا أن شعبي البلدين لم يخضعا نفسياً لذلك الإسلام وبما أن  أغلبية الشعبين ينتمي الى الطائفة الشيعية، لاسيما الشعب الايراني، وبما أن  الشيعة على العموم كان لهم قيادة دينية مستقلة عن الحكام والسلاطين على طول الخط، فإن الشعب الايراني والعراقي قد انتفض تحت القيادة المرجعية الدينية للتصدي للاستعمار الاجنبي رغم أن حكام البلدين كانوا يتعاونون مع الغرب المستعمر، ولهذا السبب قام الشعب العماني والليبي والمغربي والجزائري ضد الغزو البريطاني والايطالي والاسباني والفرنسي تحت قيادات دينية مستقلة عن الحكم العثماني»([36]).

            ومن خلال سرد هذه المعلومات نستنتج ان ثمة فروق اساسية بين المؤسستين الدينيتين الشيعية والسنية تجاه تعاطيهما بشأن الاحداث التي عصفت بالامة الإسلامية، وان هنالك عدداً من العوامل والمؤثرات، شكلت أحد مظاهر تمايز المؤسسة الديينة الشيعية عن المؤسسة الدينية السنية في العراق آنذاك.

            ان الحركات الإسلامية التي انطلقت من الجامعات الدينية لدى الشيعة ضد الاستعمار الغربي كانت أكثر تكاملاً وتجذراً من الحركات التي أفرزتها الجامعات الدينية لدى السنة، ويرجع ذلك الى جذور تأريخية ومذهبية، فمن الناحية التاريخية يعتبر المذهب الشيعي الخط المعارض للحكام المستبدين على طول التأريخ الإسلامي، منذ أن اعتلى الخلافة معاوية وآل أمية ثم استمروا على نفس الخط المعارض في عهد بني العباس وآل عثمان وحتى اليوم. ومن هنا فإن الثورة امر طبيعي لدى الشيعة، لأنهم بالأصل قد تصلب عودهم في المعارك، وتبلورت روحياتهم في أتون الثورات، واصطبغ تاريخهم بالدم والشهادة، عكس علماء السنة الذين يمثلون خط الموالاة للحكام.

 

الفكر الإسلامي يتحدى

            فالعقائد، والتقاليد الشيعية التي أغنت الثقافة الإسلامية للشيعة، واستقلالية المؤسسة الدينية الشيعية عن السلطات الحاكمة، ودور المدن الشيعية كمراكز قيادية دينية وثقافية اساسية للشيعة في العالم، فضلاً عن دور المرجعية العليا، والدور الشخصي للمرجع الاعلى بالذات، قد مثلت عوامل رئيسية مهمة، ساهمت في ظهور الاتجاه الفكري - السياسي الإسلامي في المدن الشيعية أواخر القرن التاسع عشر.

            «حيث كانت النجف من بين المدن الشيعية الاخرى تمثل خلال الثلث الاخير من القرن التاسع عشر تواصلاً للازدهار الثقافي العلمي الديني، الذي ظهر منذ بداية ذلك القرن، وتواصلاً للانتصار في الجدل الخصب الذي دار طيلة نصف القرن الذي سبق هذه الحقبة بين الاخباريين والاصوليين، حيث انتصر فيه الاصوليون، فانها وبفعل تلك العوامل والمؤثرات برزت آنذاك كمركز ثقافي إسلامي، تصدّى علماؤها للثقافة والنظريات المادية الغربية، بالدراسة والنقد، فألفت عشرات الكتب حول ذلك باللغتين العربية والفارسية، منها نقد فلسفة داروين للشيخ آغا رضا الاصفهاني، ويذكر الاستاذ الوردي انه عندما وصلت أعداد «المقتطف» التي نشر فيها شبلي الشميل، مقالات متسلسلة في شرح نظرية داروين، انبرى له عدد من علماء النجف يردون عليها ويفندونها، وكان انشطهم في ذلك الشيخ رضا الطهراني والشيخ جواد البلاغي، فألفوا في ذلك كتباً ضخمة، حتى أن الاصفهاني، أرسل كتابه في نقد نظرية داروين الى شبلي الشميل نفسه، ومما يجدر ذكره هنا، ان الشيخ البلاغي اشتهر في كتابة عدد من المؤلفات التي تدافع عن الإسلام، وتحذر من مخاطر تغلغل الثقافة والحضارة الغربيتين ونظرياتهما المادية»([37]).

            وهذا الحديث يجرّنا الى ان الحركة الاستعمارية لم تكن مجرد حركة سياسية - عسكرية، بل أنها حركة ثقافية - فكرية أيضاً «فان علماء الإسلام الذين تتوفر فيهم الكفاءة العلمية كانوا الأقدر على رد فلسفة الغرب المادية وكل ما يتضرع منها من أفكار ومواقف، ويمتاز علماء الإسلام عن المثقفين بالفكر الغربي، الذين تصدوا للاستعمار السياسي، بأن علماء الإسلام كانوا في صراعهم مع الغرب متفوقين عليه نفسياً، وكانوا يملكون الطرح البديل للحضارة الغربية، بينما المثقفون بالفكر الغربي لم يكن لديهم الطرح البديل، لأنهم بالاساس قد ارتضعوا من ثدي الغرب، وبالتالي كانوا مهزومين أمام رؤيته الفلسفية منذ البداية»([38]).

            وان المجابهة الفكرية مع الغرب «كوّن تيار مضاد استهدف حماية الأمَّة من الاخطار الفكرية الخارجية هذا التيار نبع من أعماق الأمَّة في محيط ذاتي لم تصل اليه أية يد أجنبية ولم تلوثه أية سياسة خارجية، منبع ذلك التيار كان ولايزال هي الجامعات العلمية الدينية، التي حافظت مدى القرون على رسالة الإسلام، من تلك الجامعات انطلق نداء الجهاد الشامل ضد الاستعمار الغربي وتياراته الفكرية والسياسية الغازية، هذا النداء الأصيل تصدّى للتيار الغربي، وشق في المجتمع الإسلامي حركة فكرية - سياسية مناهضة للحركة الغربية في كل الوسائل والاهداف والغايات»([39]).

            الوعي السياسي والنبوغ الفكري، دعامتان اساسيتان كانتا يستند عليهما بعض علماء ومراجع الدين، الذين تخرَّجوا من الجامعة الإسلامية الشيعية «فمناهج وطرق التدريس في الجامعات الدينية التي تشكل سمة ملازمة للدراسة فيها، قادرة على أن تشكل في ظروف التحولات الفكرية والسياسية العامة منهجاً مهماً لمعالجة القضايا المعاصرة المستجدة. وتُبرز قادة دينيين - سياسيين في آن معاً قد يشكلون ظاهرة تاريخية لتجديد الفكر والممارسة الإسلاميتين، وعلى سبيل المثال يمكن أخذ ظاهرة بروز جمال الدين الافغاني كزعيم لحركة إسلامية - اصلاحية في أواخر القرن التاسع عشر، لقد درس الافغاني وعاش في النجف وكربلاء، وتشبع ذهنه في جوهما الفكري، واذا كانت الظروف في العراق لم تسمح حينذاك للافغاني بأن يقوم بالدور الذي قام به في القاهرة، فان الذي يمكن استنتاجه هو أن أنظمة ومناهج التدريس في الحوزات العلمية في النجف وكربلاء، التي ساهمت بشكل اساسي في تكوينه الثقافي والفكري تهيء بذاتها مجالاً مهماً لتخريج زعامات دينية وفكرية وسياسية. بأنماط موائمة لظروفها التأريخية. وهذا ما يمكن أن نشهده في بروز عدد من مراجع الشيعة في فترات مختلفة، وقيامهم بدور الزعامة الدينية والسياسية في آن معاً»([40]).

           

الإسلام وتوثيق البنى الاجتماعية

            وكان لهذا الفكر والثقافة اثره الفعّال، ليس لمجابهة الغزو الثقافي الغربي فحسب، بل تعداه الى اصلاح وتقوية البنية الاجتماعية «فقد شكَّل العامل الديني (الإسلام) كفكر وثقافة، عاملاً توحيدياً مهماً لجماعات السكان الإسلامية، فطغت وبدرجة مهمة، الدعوة للجهاد ضد الانجليز على الاختلافات المذهبية والاثنية، وعلى العزلة بين المناطق، وأدت الى انحسار التناحر بين عدد من العشائر المتعادية، ومن ثم انضمام بعض من أيَّد الانجليز منها، الى القتال في صفوف الثوار، هذا فضلاً عن دفع العديد من أفراد القبائل وعملاء الانجليز الى التمرد على زعمائهم الموالين لقوات الاحتلال بدوافع إسلامية»([41]).

            وعلى ضوء التجارب المريرة التي عصفت بالامة الإسلامية، والحيلولة دون امرار سياسته المشؤومة والتي ترتكز على بث الفرقة والتشتت بين أعضاء الجسد الواحد للامة الإسلامية «كان الخط الإسلامي والقيادة الدينية على وعي كامل بدور الاستعمار في تعميق التناقضات المذهبية والقومية والعنصرية في مجتمعنا الإسلامي. لذلك رفع الخط الإسلامي شعار الوحدة الإسلامية، كأساس للعمل السياسي ومواجهة الاستعمار الغربي. لقد كان الثائر الكبير السيد جمال الدين المعروف بالافغاني، أوَّل من أدرك أهمية الوحدة الإسلامية في المحافظة على الوحدة السياسية للأمَّة الإسلامية، والتصدي للنفوذ الاجنبي، لذلك سعى الى الجمع بين المذاهب الإسلامية عبر التركيز على الخطر الاستعماري»([42]).

 

وباء الغرب وأمصال الوعي

            ومن بين الدول العربية، ظل العراق بعيداً عن تأثير الاتجاهات الفكرية والثقافية الغربية، لاسباب مختصة بالشعب العراقي أولاً كالنهوض الثقافي الإسلامي، الذي شهده العراق في تلك الفترة، واخرى موضوعية بحتة، يذكر بعض الكتّاب عدداً منها وهي: انقطاع العراق عن الغرب بحكم موقفه الجغرافي وانعدام وسائل المواصلات، فهو من جانب كان بعيداً عن التيارات الفكرية الحديثة الغربية التي كانت تهب من الاستانة، ومن جانب آخر كان بعيداً أيضاً عن وسائل الثقافة الغربية والافكار الحديثة التي سادت في بلدان ساحل البحر المتوسط.

            «وكذلك يعزى ضعف التغلغل الثقافي الاوربي في اختراق الثقافة الإسلامية في العراق الى ضعف نشاط الارساليات التبشيرية ومدارسها القليلة العدد، والى ضآلة عدد المدارس الاجنبية التي تدرس وفق المناهج الاوربية الحديثة، فرغم حصر انشاء مثل هذه المدارس في ثلاث مدن رئيسية هي بغداد، الموصل، البصرة، فقد بقي نصيب العراق منها أقل من شقيقاته العربية مصر وسورية ولبنان»([43])، ذلك «لم يشهد العراق وجوداً مؤثراً وذا أهمية للاتجاه الثقافي المتغرب باستثناء بعض التعبيرات المحدودة الأثر، التي مجَّدت الثقافة والحضارة الغربيتين، ودعت للأخذ بهما، كجمعية مساعي التقدم، التي أنشأها مسيحيون عراقيون عام 1874م»([44]).

            «وفي هذا الصدد يذكر فيليب حتي مثلاً أنه باستثناء بعض الضباط والموظفين الذين دربوا بالقسطنطينية، لانكاد نجد أحداً من العراقيين، احتكَّ بالافكار العصرية»([45])، وان النخب التي تلقت علومها، سواء من الاستانة أو حتى من الدول الغربية «قد عجزت من أن تشكل اتجاهاً ثقافياً متغرباً في الامة، وقادراً على اختراق الثقافة الإسلامية، كثقافة محلية أصيلة، لأغلبية افراد المجتمع»([46])، فبقيت الاكثرية الساحقة للشعب العراقي صامدة أمام الوباء الثقافي الغربي الذي استشرى في الاقلية التابعة، وذلك لفاعلية أمصال وعي الثقافة الإسلامية التي كانت متجذرة في النفوس ضد عوامل التغيير والانحراف.

            «اذن قيام النهضة الفكرية والثقافية في العراق قد استند بشكل اساسي الى البنية الثقافية المحلية، المتكونة أصلاً عبر مراحل تأريخية، فان ثمة مؤثرات وعوامل خارجية قد لعبت دوراً مهماً في تطورها، وفي توسيع نطاق القضايا التي اهتمت بها. ففي مقابل ضآلة تأثره بالغرب وثقافته، تأثـَّر العراق بدرجة كبيرة من اتصالاته التقليدية بالهند وايران وتركية ومصر وبعض البلاد العربية الاخرى، وحيث كان لايران والهند بدرجة أقل وصحفها التأثير الاكبر على المسلمين الشيعة ومدنهم بوجه خاص، فإن تأثير مصر وسوريا وصحفها قد شمل المسلمين الشيعة والسنة على حد سواء، فكانت النجف وكربلاء كبغداد والموصل على اطلاع دائم بالصحف السورية والمصرية مثل العروة الوثقى والمقطم والمقتطف والمقتبس»([47]).

            ولكن التأثير الفعلي الذي خلفته الصحف الاخيرة قد اختلف في الاوساط العراقية، تبعاً لدور العلماء والمؤسسة الدينية لكل من الجماعتين الإسلاميتين السنية والشيعية وعلاقتهما بالسلطة، وتبعاً للتكوين الثقافي المتمايز لهما، فبينما بقي الشيعة على موقفهم المتصلب تجاه التيار الفكري الغربي، ورفض الاندماج بالدولة العثمانية الدكتاتورية، فاننا نجد أن بعض المدن الرئيسية كبغداد والموصل والبصرة، عبّر غالبية العلماء والمؤسسة الدينية السنية فيها عن اتجاه فكري سياسي محافظ ومندمج مع الدولة، حيث تعزز هذا الاندماج في سائر أجزاء السلطنة بعد إعلان دستور 1876م، وبعد انتهاج السلطان عبد الحميد الثاني سياسة إسلامية جديدة، قدّم نفسه من خلالها، كحام للدين الإسلامي والجامعة الإسلامية، بوصفه خليفة المسلمين.

            يقول الدكتور فياض في هذا المجال «ان العراق في بداية هذا القرن كان على صلة بالتيارات الفكرية العربية بمصر وسورية. وكان كثير من صحف هذين البلدين كالمقطم والعروة الوثقى والهلال المصرية والعرفان والمقتبس الشاميتين معروفاً في هذه البلاد، ومع أن معرفة هذه الصحف كان مقتصراً على عدد ضئيل من أنباء المدن الكبيرة كالنجف وبغداد والموصل،  إلا أن أثرها في الحركة الوطنية لم يكن بالقليل اما الصحف التركية، فانها ولعوامل متعددة كانت منتشرة بين من يجيد اللغة التركية في المدن العراقية المختلفة، ومع هذا فإن تأثيرها في الحركة الوطنية لاسباب سياسية في الغالب كان ضئيلاً وغير مباشر»([48]).

            أما العوامل والمؤثرات غير المحلية (الخارجية)، ولاسيما تأثيرات ايران بشكل اساسي ومصر بدرجة أقل، فقد كان لها آثار كبيرة على الاوضاع الثقافية - الفكرية والسياسية في سائر المناطق الشيعية في العراق، فعدا التأثيرات المختلفة للحركة الثقافية في مصر وصحفها، فقد شملت تأثيرات ايران المجالات الثقافية - الفكرية والاجتماعية، فضلاً عن الانعكاس الشديد للاحداث السياسية المهمة في ايران على المناطق الشيعية في العراق بشكل مؤثر، وكان من بين هذه التأثيرات توثق الصلات الثقافية، ووصول الصحف والمجلات والمطبوعات الايرانية الى المدن الشيعية، ولاسيما المقدسة منها. مثال ذلك مجلة بهار الطهرانية وجريدة كرمانشاه وجريدة جماليه الهمدانية. هذا فضلاً عن وصول جريدة القانون التي تطبع بالفارسية وتصدر في لندن ويساهم في تحريرها الافغاني، حيث كان لها قرَّاء كثيرون ممن يتكلمون الفارسية في العتبات المقدسة.

 

لكي لا نحرث البحر

            بقي أن نذكر ان الأمة التي تحمل فكر خصب وحيوي كالأمة الإسلامية في العراق، لماذا فشل روَّاد ذلك الفكر من تشكيل حكومة وطنية مستقلة، بالرغم من تجاوب الامة مع تلك القيادة، والتضحيات الواسعة التي قدمتها من أجل الاستقلال والحرية والانعتاق من ربقة الاستعمار والعبودية؟ وبعبارة أوضح لماذا لم تنتصر حركة المقاومة الإسلامية ضد الاستعمار الغربي، وتنقذ الامة من الاستعمار وأذنابه الجاثمين على مقدراتها منذ أكثر من نصف قرن؟

            وقبل الاجابة عن هذا التساؤل واستعراض اسباب النكسة التي عصفت بالامة المجاهدة في العراق ولكي لا نحرث البحر، ولكي لا نجتر الماضي بكل مآسيه وبكل ما حمله من مفارقات وانتكاسات وهزائم فانه ينبغي الاذعان بأن حركة المقاومة الإسلامية كانت لها ايجابيات لا يمكن التغاضي عنها، فانه «وبالرغم من أن الانتصار اللازم لم يتحقق إلا أن حركة المقاومة الإسلامية استطاعت أن تبقي جذوة المقاومة مشتعلة في النفوس، وأثبتت أن رسالة الإسلام لازالت حية نابضة وقادرة على تجديد حياة أمتنا كما فعلت قبل أكثر من ألف عام، ومع ذلك فإن عدم تحقق الانتصار يكمن في سببين اساسيين:

            الأول: لأن روح الدفاع لا الهجوم كانت تحكم اغلب تلك الحركات، وحركة دفاعية محكوم عليها بالزوال اذا عرف الخصم كيف يتجنب مواقف الاثارة المباشرة، ويحاول السيطرة على خصمه بالطرق الخفية الماكرة كما حدث بالفعل، فكلما أحس الاستعمار بعجزه عن مقاومة مباشرة لثورة شعبية أحنى رأسه لها مؤقتاً ليبتلعها بالطرق السياسية الماكرة.

            ثانياً: لأن فكرة اقامة حكم إسلامي ذي قيادة رسالية، لم تكن قد تبلورت في اذهان علماء الإسلام، بل أن أقصى ما كان تفكر فيه تلك القيادة هي لجم الحكام المستبدين عن التمادي في الغطرسة على الشعب، وليس اسقاطهم واقامة حكم منتخب ورسالي بدلاً عنهم، كما في ثورة الدستور الايرانية، وعندما تبلورت فكرة اقامة الحكم الإسلامي بقيادة رسالية منتخبة عند الامام الخميني(رض) نجد أنه كيف استطاع وبمؤازرة الشعب من أن ينتصر الانتصار الكاسح ضد أقوى الدول الاستعمارية في العالم.

            بالاضافة الى ذلك فإن ضعف التنظيم لدى علماء الدين أو انعدامه، أدّى الى تشتت قواهم في مواجهة الاستعمار، كما حصل ذلك فعلاً في ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني في العراق، وكذلك ضعف الوعي السياسي لدى بعض علماء الدين، الناشيء من الغياب الطويل عن المسرح السياسي إلاّ لدى الازمات وفي حالة الخطر، مع أن الكثير من علماء الدين الذين ناضلوا ضد الحكام المستبدين والاستعمار كانوا في قمة الوعي، إلا أن الجامعات الدينية كجهاز عام كان ينقصه الوعي بالتطورات السياسية العالمية وآثارها على المجتمعات الإسلامية»([49]).

            ان الذي يطالع صفحات التاريخ يجدها حقيقة لا ريب فيها ولا مواراة، ان مفردات كانت تتردد على كل الشفاه، لا يمكن لأحد أن ينكرها أو أن يغظ الطرف عنها أو أن يمر عليها مرور الكرام.. الكل كان قد التزم بها كثوابت وأصول، وكانت بمثابة المحور الاساسي للانتفاضة، والغضب الجماهيري ضد القوات البريطانية الغازية، وهذه المفردات عبارة عن الجهاد في سبيل اللّه، والدفاع عن الحرمات والعتبات المقدسة، والذود عن كرامة الامة والتفاني من أجل التربة والوطن.

            «ان جماهير الفلاحين والبدو وشغيلة المدن، هي التي اشعلت ثورة العشرين وتضورت بنارها، وكانت عمادها وقوتها، بالرغم من أن قيادة الثورة كانت تتكون من شيوخ القبائل ورجال الدين والبرجوازية الوطنية»([50]).

            التضحية والايثار، وتحمّل مصاعب الجهاد وأعباء المسؤولية لم تأت اعتباطاً وإنما كانت مستندة على قيم ومعتقدات، تلك القيم التي ترسخت في ضمير الجماهير.. وقدّموا من أجل تحقيقها الغالي والنفيس... ولبّوا نداء الجهاد الذي انطلق من حناجر علماء الدين والقيادات الوطنية المخلصة وشيوخ العشائر.. تأدية للواجب المقدس في الذود عن الدين الذي كان مهدداً بحراب الغزاة. والوطن الذي كان مسيلاً للعاب الطامعين.

            والذي له مسحة من الانصاف والموضوعية، واراد تقييم الثورة وقيادتها، فمهما يكن انتماؤه الفكري والسياسي، فانه لا يمكن أن يتغافل عن دور الفكر والثقافة الإسلامية ورجال الدين في تأجيج نار الثورة ضد الاستعمار البريطاني وضد الهجمة العسكرية للغرب على البلدان الإسلامية.

 

المصادر

1- عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان.

2- عبد الحليم الرهيمي - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق.

3- السيد عبد الشهيد الياسري - البطولة في ثورة العشرين.

4- منير شفيق - الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات.

5- مجلة العرفان - العدد السابع - دور الحركة الإسلامية في مقاومة الاحتلال       والمشاريع الانجليزية للسيطرة على العراق (1918 - 1920).

6- الدكتور علي حسين الوردي - لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث.

7- عبد الرزاق حسين - تاريخ العراق السياسي الحديث.

8- جورج انطونيوي - يقظة  العرب.

9- مجلة منبر الحوار - العدد (15) - تأسيس الدولة العراقية 1921م.

10- الدكتور عبد الله فياض - الثورة العراقية الكبرى.

11- كوتلوف - ثورة العشرين.


 

[1]- عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان - ص 17 .

[2]- منحت الدولة العثمانية الامتيازات للانجليز للمرة الاولى عام 1580م، إلا أن المصنع الذي أنشأه الانجليز في البصرة عام 1643م كان يعتبر بداية لتاريخ النفوذ الانجليزي في العراق.

[3]- عبد الحليم الرهيمي - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق ص 45 .

[4]- نفس المصدر السابق ص 45 ز

[5]- السيد عبد الشهيد الياسري - البطولة في ثورة العشرين - راجع ثورة الرميثة ص 191، حصار الثوار لحاميه ابي صخير ص 199، معركة الرارنجية ص 205 .

[6]- عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان ص 14 .

[7]- نفس المصدر السابق / ص 13 .

[8]- منير شفيق - الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات ص 10 .

[9]- نفس المصدر السابق / ص 11 .

[10]- أمثال الشيخ خزعل أمير المحمره، وشيوخ الكويت، الذين عقدوا منذ نهاية القرن التاسع عشر معاهدات تحالف مع انجلترا وأبدوا استعدادهم للتعاون معهم حفظاً لمصالحهم ومنافعهم الشخصية.

[11]- عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان ص 79 .

[12]- مجلة العرفان - العدد السابع - دور الحركة الإسلامية في مقاومة الاحتلال والمشاريع الانجليزية للسيطرة على العراق (1918 - 1920) ص 62 .

[13]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق ص 232.

[14]- مجلة العرفان - مرجع سابق ص 58 .

[15]- مجلة العرفان - مرجع سابق ص 60 .

[16]- نفس المصدر السابق / ص  60 .

[17]-  مجلة العرفان - مرجع سابق ص 64 - 65 .

[18]- مجلة العرفان - مرجع سابق ص 65 .

[19]- السيد عبد الشهيد الياسري  - مرجع سابق ص 138 .

[20]- السيد عبد الشهيد الياسري - مرجع سابق ص 140 - 141 .

[21]- الدكتور علي حسين الوردي - لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - ص 127 ج 4 .

[22]- عبد الرزاق الحسني - تاريخ العراق السياسي الحديث - ص 16 ج 1 .

[23]- جورج انطونيوي - يقظة العرب ص 222 .

[24]- مجلة منبر الحوار - العدد 15 تأسيس الدولة العراقية 1921م ص 112 .

[25]- مجلة منبر الحوار - العدد 15 - تأسيس الدولة العراقية 1921م - ص 116 .

[26]- السيد الياسري - مرجع سابق - ص 72 .

[27]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق - ص 166 و 167.

[28]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق - ص 167 .

[29]- منير شفيق - الفكر الإسلامي المعاصر ص 76 .

[30]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق ص 208 .

[31]- الدكتور علي حسين الوردي - مرجع سابق ص 115 ج 2 .

[32]- الدكتور عبد اللّه فياض - الثورة العراقية الكبرى ص 17 .

[33]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق ص 108 و 109 .

[34]- الدكتور عبد اللّه فياض - مرجع سابق ص 17 .

[35]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق ص 207 .

[36]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق ص 207 .

[37]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق / ص 126 .

[38]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق / ص 43و 44 .

[39]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق ص 41 و 42 .

[40]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق / ص 124 .

[41]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق/ ص 231.

[42]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق/ص 214 .

[43]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق / ص 117 .

[44]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق / ص 116 .

[45]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق / ص 116 .

[46]- عبد الحليم الرهيمي - مرجع سابق ص 116 - 117 .

[47]- نفس المصدر السابق / ص 119 .

[48]- الدكتور عبد الله فياض - مرجع سابق / ص 90 .

[49]- عباس محمد كاظم - مرجع سابق / ص 44 - 46 .

[50]- كوتلوف - كتاب ثورة العشرين ص 5 .