العدل .. والسلام العالمي

العدل .. والسلام العالمي

 

 

العدل .. والسلام العالمي

 

 الدكتور حامد بن أحمد الرفاعي

رئيس المنتدى الاسلامي العالمي للحوار

والأمين العام المساعد لمؤتمر العالم الاسلامي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكـر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) ـ النحل/ 90.

 

الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا ورسولنا الهادي البشير محمد بن عبدالله .. وعلى آله وصحبه أجمعين .. والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين.

العدل والإحسان .. والظلم والبغي: قيم متضادة

العدل: فضيلة، ورحمة، وأمان، وتكريم، وسلام

والظلم: رذيلة، ونقمة وعذاب، وتحقير، ودمار

والصراع لا يزال قائماً ومحتدماً بين العدل والظلم منذ بدء الخليقة .. والمعارك بينهما سجال.

 

فمع غلبة العدل تكون الرحمة .. وتصان كرامة الإنسان .. ويعم الأمن والسلام بين الناس.

 

وإن كانت الجولة للظلم كان معه القهر والعذاب .. وتهان كرامة الإنسان، ويعم الفساد والدمار، وتسعر الحروب والعداوة بين الناس.

 

ولكن من هم أهل الظلم وأنصاره؟ وهل أحد من البشر يدعي الظلم ويحمل رايته؟ والجواب المألوف: لا.. ليس هناك أحد من البشر ينسب نفسه الى الظلم أو ينسب الظلم الى نفسه .. فالناس جميعاً من حيث الظاهر يعلنون كراهيتهم ورفضهم للظلم والظالمين .. بل ويعلنون حربهم على الظلم وأهله، والكل مجمع على أن الظلم سبة ورذيلة، متفقون على قبحه ومقته وكراهيته.

 

إذاً من هو المسؤول عن الظلم يا ترى؟ ومن ذا الذي يمارسه ويحمل أوزاره؟

 

والجواب المحير على لسان حال كل جهة في الأرض .. أن المسؤول جهة ما في الأرض! ولكن من هي هذه الجهة؟ وما هي هويتها وما هو دينها وثقافتها؟ لا أحد يجيب .. والمهم أنه بريء.. وأن أحداً ما غيره هو المتهم.. فالناس يصرون على أن الظلم شر وقبح ورذيلة.. وأنهم يناضلون للتخلص منه ومن أهله .. إذاً هو موجود وممارساته قائمة .. وضحاياه مشهودة.. وآثاره المؤلمة شاخصة .. وهذا ما يجعل هذه القضية لغزاً يحتاج لمن يفك طلاسمه.. ويجلي اشكالياته.. ويتحمل مسؤولية ازالة اللبس في شأنه .. ليتمكن الناس من تحديد وتشخيص هذا العدو المجمع على عداوته وخصومته .. وأحسب أن مثل هذا اللقاء الحاشد من عقلاء وحكماء مختلف الأديان والثقافات .. معني بهذه المسؤولية العظيمة وهذه الغاية النبيلة .. وأنا من جهتي ومن خلال هذه الورقة، بذلت جهد المقل في تقديم قراءة متواضعة حيال هذه الإشكالية المحيرة .. فبعد التأمل والمراجعة وجدت أن جوهر هذه المعضلة يكمن في: اضطراب واختلاط معايير العدل والظلم بين الناس .. فما هو من الظلم عند البعض، تجده عين العدل والإنصاف عند آخرين .. وتداخلت خصائص وصفات وممارسات العادل والظالم .. فما هو بنظرك عادل .. يكون عند غيرك من الظالمين المعتدين .. وهكذا اضطربت الرؤى واختلت القيم والمبادئ.. فاختلف الناس في تحديد الظالم من المظلوم .. والمعتدي من المعتدى عليه .. أو هكذا زينت لهم اهواؤهم ونزعاتهم .. فافترقوا افتراقاً شديداً.. وتدابروا وتخاصموا تجاه هذه المسألة الجوهرية في حياة الناس .. مما جعلهم جميعاً عاجزين عن التعامل مع هذه القضية بمعايير وقيم ثابتة ومشتركة، تحول بينهم وبين الصدام والاقتتال بشأنها للأسف.

 

هذه حقيقة مرة قائمة .. وواقع مؤلم تعاني منه المجتمعات البشرية اليوم مثلما عانت منه خلال تاريخها الطويل .. وقد حاولت قدر الإمكان تتبع رحلة الإنسان مع قضية العدل والظلم منذ فجر التاريخ .. فوجدت أن ظاهرة اختلال القيم والمعايير حيال العدل والظلم قديمة .. لمست شيئاً من هذا الخلل:

 

ـ في شريعة حمورابي (في الألف قبل الميلاد)، الذي كان يفتخر صاحبها بأن الإله سماه (الأمير الشهير الخائف من الرب القائم على توطيد العدل في الأرض وازالة الشر والفساد وحماية الضعيف من القوي وظلمه)، وكان يفتخر كذلك فيقول: أنا حمورابي الراعي المفضل الذي وزع الغنى والثروة .. وأنه أزال الخوف من نفوس الناس، وقد وصف البعض شريعته بأنها (إنسانية، ديمقراطية) ورغم ذلك لم تنجو شريعته من الاتهام بممارسة المظالم والانتهاكات.

 

ـ أما شريعة مانو (القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، فقد ركزت على الجوانب القانونية والمسائل اللاهوتية، وواجبات الفرد في الدين والعبادات والأخلاق، وسنت العقوبات التي تطهر المذنب لما بعد الموت، إلا أنها اتهمت بالممارسات الطبقية والمظالم وانتهاك الحقوق، واستخدام العقوبات التي وصفت بالوحشية.

 

ـ وفي شريعة بوذا (ألف سنة قبل الميلاد)، ركز على الأخذ بالجوهر دون المظهر، ودعت الى ضبط النفس ونكران الذات، كما دعت الى مقاومة الشهوة والعاطفة باعتبارها السبيل الى السعادة بعد الحياة الأولى، إلا أنها رغم التعديلات التي أدخلتها على شريعة مانو او دين البراهمة، إلا أنها اتهمت بانتهاك حقوق الإنسان واعتمدت مذهب التمايز الطبقي بين الناس.

 

ـ وفي شريعة كونفوشيوس (551 ـ 478 قبل الميلاد)، كانت العناية كبيرة بالأخلاق، واهتمت بشكل أساس ببناء الأسرة باعتباره الأساس المتين لبناء المجتمع، واشتهر كونفوشيوس بعبارته التي تقول: (إذا قامت الأسرة على أساس سليم أمن العالم وسلم)، كما اشتهر عنه مبدأه الذي يقول: بأن على الحكومة أن توفر للناس (كفايتهم من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، وإقامة الثقة بينهم وبين حكامهم)، ولكن وجد في الصين حركة مناهضة ومعارضة لشريعة كونفوشيوس واعتبرتها مثالية لا تصلح لتحقيق مصالح الناس، ووصفوها بالجمود والتعصب، وأنها حقرت النساء وأذلت المرأة، ومارست بذلك التمييز الطبقي.

 

ـ الشرائع اليونانية( 1100 ـ 400 قبل الميلاد)، وامتازت أو عرفت بعدد من القيم والقوانين التي وصفت بالظلم والقهر والقسوة بالحروب، وإشاعة الإباحية الجنسية، ومارست التمييز الطبقي، وحمت الملاك على حساب العمال وباقي المواطنين، إلا أنه بالمقابل وفي بعض مراحلها اهتمت بالقانون وتحرير من استرقوا، وعملت على تحقيق المساواة بين الناس، ثم انتكست في مراحل اخرى لتعود الى ممارسة نظام التمييز الطبقي، مما جعل الشرائع اليونانية توصف بأنها كانت تتأرجح بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم والقهر، وقد مثلتها نماذج أربعة هي: (أشعار هوميروس، قوانين دراكون، قوانين صولون، قوانين ليكر جوس).

 

ـ أما الشرائع الرومانية، فأبرز ما يمثلها الألواح الإثنى عشر، ويصف المؤرخ والقانوني الفرنسي المشهور (مونيه) ما جاءت به الألواح فيقول: (إننا في الحقيقة أمام تشريع بربري يعلمنا بأن المدينين العاجزين عن وفاء ديونهم ينبغي استرقاقهم من قبل الدائن وتعطيه حق بيعهم او قتلهم، وإن تعدد الدائنون فلهم جميعاً الحق في تقطيع حسم المدين إرباً إرباً وهو حي)، كما يقول مونيه ايضاً بأن القانون الروماني وضع لخدمة مصالح الملاكين للأرض على حساب الفلاحين، وشجع على ممارسة الظلم والقهر بين الطبقات، إلا أن القوانين الرومانية طرأ عليها شيء من التطوير والتحسين بعد ميلاد المسيح عليه السلام تأثراً بالقيم الربانية العادلة.

الشرائع او المذاهب الاجتماعية المعاصرة

ويمثلها بشكل رئيس خمسة مذاهب هي: الفاشية، والنازية، والصهيونية، والشيوعية، والليبرالية، وأبرز هذه المذاهب وأكثرها تأثيراً في المسيرة الحضارية المعاصرة، الشيوعية الاشتراكية. والليبرالية الديمقراطية، حيث تميزت الأولى أي الشيوعية بشكل رئيس بانحيازها لصالح المجتمع على حساب الفرد، وعرفت الليبرالية من جهة أخرى بانحيازها لصالح الفرد على حساب المجتمع، وجرت محاولة في فترة الحرب الباردة بين القطبين الشيوعي والرأسمالي، وفي إطار الأمم المتحدة الوصول الى نظام وسط بين المذهبين السائدين آنذاك، فطلبت الجمعية العمومية عام 1975 من الطرفين ليقدم كل منهم صيغة وسط بين الشيوعية والرأسمالية، فلم يفلحا وجاء مشروع كل منهما منحازاً لصالحه، فأحالت الجمعية العمومية الأمر الى منظمة اليونسكو فقدمت مشروعاً يقوم على ثلاثة مبادئ:

 

1ـ وجوب الاعتراف بوحدة الأسرة البشرية وحقها بالتعايش بأمن وسلام.

2ـ العمل على تطوير مشترك للتنمية بما يحقق انتعاشاً اقتصادياً للجميع.

3ـ إحقاق عدالة التوزيع في الأرض.

 

إلا أن الأمم المتحدة وجدت نفسها عاجزة عن تطبيق مشروع اليونسكو بسبب الحرب الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكرين يومئذ، وبعد انهيار القطب الشيوعي، برزت محاولة مماثلة عام 1998 قادها ممثلو احزاب اليسار الوسط بزعامة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الحالي، حيث طرحت فكرة (الطريق الثالث) كمشروع وسط بين الرأسمالية والاشتراكية، ووضعت سبعة أعمدة لذلك المشروع، إلا أن موجة العولمة العارمة طغت وغيبت مقاصد تلك المحاولة، وتفاقم أثر وسطوة القطب الواحد على مقدرات الوضع الدولي، وشعر الناس بتراجع هيبة وأثر الأمم المتحدة في السيطرة على القرار الدولي، وأخذ الناس يتحدثون عن حالة اللانظام التي تعاني منه المسيرة البشرية في أوضاعها الراهنة، وما نجم عن تعطل ميثاق الأمم المتحدة من ازدياد في اضطراب واختلاط معايير العدل والظلم .. مما جعل المجتمعات الدولية تعيش هاجس الرعب والخوف .. وتحس أن أمنها واستقرارها تهدده نذر حروب عالمية شاملة مدمرة .. وأدركت الأمم المتحدة خطورة المجتمعات الدولية خطورة ثقافة الصراع والصدام بين الحضارات، التي أخذت تروج لها جهات عالمية معروفة، وحاولت من جهة أخرى ان تستعين بالقيم الدينية والروحية لتدارك الأمر، فعقدت قمة عالمية للقيادات الدينية والروحية في مقر الأمم المتحدة عام 2000م لإصدار تعهد مشترك بشأن السلام العالمي، ولتشكيل مجلس استشاري دائم في الأمم المتحدة من القيادات الدينية والروحية، وأصدرت القيادات الدينية والروحية تعهدها بشأن السلام العالمي وقوبل بصدى واسع من الترحيب والتقدير على كافة المستويات، إلا أن مجلسهم الاستشاري لا يزال يعاني من مخاض صعب، وربما من محاولات اجهاض مبكر .. بل إن المؤشرات تنبئ بأن الإجهاض قد وقع بأمن وسلام.

الشرائع السماوية

وهي من حيث الأصل ترجع الى مصدر واحد وتسعى لغاية واحدة .. مصدرها الله تعالى .. وغايتها إخلاص العبودية له جل شأنه .. وعمارة الأرض وإقامة العدل فيها، وحدث خلل، وأحدث بعض الناس في دين الله تعالى ما ليس منه، وهجر بعضهم الآخر القيم الدينية واحتكموا لأهوائهم ورغباتهم، مما ولد ـ كما أسلفنا ـ اضطراباً كبيراً في المفاهيم، واختلاطاً شديداً في معايير العدل والظلم عند كثير من الناس إلا من رحم ربي .. وبعد يبقى السؤال الكبير المتكرر ما العمل؟ وهل من سبيل للخروج من هذا المأزق العالمي الخطير؟ أحسب أن مثل هذا اللقاء معني بأن يقول كلمته بهذا الشأن .. وأن من واجبنا باعتبارنا اتباع دين الله تعالى والمؤمنون بقيم ومبادئ الإسلام الخالدة، وحملة رسالته السمحة العادلة للناس اجمعين ان نبذل النصح والترشيد، ونهيب بصناع القرار الدولي أن يصغوا باهتمام وجدية الى ما يبذل لهم من نصح وتذكير .. لذا فإنني باسم المنتدى الاسلامي العالمي للحوار، وباسم مؤتمر العالم الاسلامي الذي لا يزال منذ أن تأسس في مكة المكرمة عام 1926م، يعمل على تجلية القيم الدينية والمبادئ الربانية التي تؤكد على أهمية العدل باعتباره الأساس، لتحقيق الأمن والاستقرار، والمصدر الأقوى في توفير أسباب التعايش بسلام بين المجتمعات، اقترح أن يصدر عن هذا المؤتمر نداء عالمي بشأن اهمية العدل في إقامة السلام العالمي والتعايش الآمن بين الناس آخذين بعين الاعتبار المبادئ التالية:

 

1 ـ أهمية القيم الدينية والروحية في تأسيس فضيلة العدل في نفوس الناس.

2 ـ احترام وحدة الأسرة البشرية وتكامل مصالحها.

3 ـ العدل حق للجميع دون تمييز.

4 ـ حرمة حياة الإنسان وحرمة كرامته وممتلكاته.

5 ـ المحافظة على سلامة البيئة وعدم الإفساد فيها.

6 ـ حرية العبادة وعدم الإكراه في الدين.

7 ـ التعاون والتنافس في الخير لمصلحة الجميع.

8 ـ المرأة والرجل شريكان في مسؤوليات الحياة على أساس من التكامل المنصف بينهما.

9ـ خيرات الأرض لصالح الجميع على أساس من احترام حق التملك ومشروعية الانتفاع المتبادل.

10ـ التكامل بين الحقوق والواجبات منطلق أساس لتحقيق التوازن بين مسؤوليات الإنتاج والاستهلاك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.