العلاقة بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب الإسلامية

العلاقة بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب الإسلامية

 

 

العلاقة بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب الإسلامية

 

مُنى عبد الأمير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة:

 

والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الاطهار وصحبه الابرار.

 

من الحقائق الثابتة في حركة الإنسانية انّ الإنسان يختلف مع أخيه الإنسان، في كثير من القضايا، في الفكر وفي العاطفة وفي الممارسات العملية، وهذا الاختلاف ناجم عن الاختلاف في الطاقات والامكانات العقلية والنفسية والروحية، اضافة إلى الاختلاف في التنشئة الاجتماعية والتربوية، واختلاف المحيط الاسري والاجتماعي الذي يحيط بالانسان.

 

والاختلاف أمر طبيعي يحكم به العقل والمنطق السليم والتجربة التاريخية لحركة الأمم والاديان وخصوصاً حركة الأمّة الإسلامية منذ الصدر الأول للاسلام إلى يومنا هذا، والاختلاف القائم على أسس موضوعية لا محذور فيه ما دام واقعاً في طريق البحث عن الحقيقة عن الرأي الأسلم والموقف الاصوب، بل قد يكون عاملاً مساعداً للفعالية والنشاط والحركة الدؤوبة لتحقيق الأهداف الكبرى الآنية والمستقبلية، ويبقى الاختلاف ظاهرة صحيحة وسليمة إذا كان مؤدياً للتنافس المشروع، ويتحول إلى داء خطير ان اصبحت المنافع الضيقة والمصالح الذاتية هي المحرك الاساسي له، ويصبح مرضاً قاتلاً ان تحكمت فيه الأهواء والأمزجة بعيداً عن المقاييس والمعايير الثابتة.

 

وفي هذا البحث نرى انّ الاختلاف بين أئمة أهل البيت وأئمة المذاهب الإسلامية كان ظاهرة طبيعية لاختلافهم في المستويات العقلية، واختلافهم في النشئة الاجتماعية، واختلافهم في ظروف التلّقي والتعلّم، واختلافهم في تأثير العامل الوراثي على شخصياتهم، ومع هذا الاختلاف هنالك اختلاف في مستوياتهم العلمية من حيث درجة قربهم وبعدهم عن تشخيص الحكم الشرعي الذي هو واحد في مقام الثبوت، واختلافهم في الحكم على الاوضاع والمواقف والوجودات والكيانات القائمة.

 

وفي جميع ظروف وأجواء الاختلاف كانوا يلتقون معاً في العمل للاسلام والحرص على تقرير مفاهيمه في واقع الحياة لأنّهم جميعاً يجتمعون حول عقيدة واحدة ومصالح واحدة وأهداف واحدة ويواجهون تحديات واحدة من قبل الحكّام المعاصرين ومن قبل التيارات المنحرفة كالزنادقة والغلاة وعموم أعداء الإسلام، وكان الحب والاحترام المتبادل حاكماً على علاقاتهم العلمية والاجتماعية فلا تقاطع ولا تدابر، بل لا حساسية ولا خصومة، وكان أتباعهم تبعاً لهم في العلاقات الأخوية وكانت الزيارات قائمة بينهم جميعاً، بل انّهم تعرضوا لظروف عصيبة واحدة حيث طاردتهم السلطات القائمة وحاصرتهم بلا فرق بين إمام وآخر أو مذهب وآخر.

 

وقد تظافرت الجهود والطاقات من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونشر مفاهيم الإسلام وقيمه واتحدت الخطى في نطاق الافق الأرحب متعالين على الفواصل الجزئية وتعاملوا معها في حدودها الضيقة، وكذلك اتباعهم.

 

وهذه العلاقة ينبغي ان تكون محوراً لنا جميعاً في طريق التقريب والتوحيد، فما دام ائمتنا متوحدين في محاورهم المشتركة فلماذا لا نتحد نحن في مواقفنا العملية ضمن المشتركات الثابتة للوصول إلى الأهداف الكبرى التي جاهد أئمة أهل البيت وأئمة المذاهب من أجل تقريرها في الواقع.

العلاقات في مجالي العلم والفقه:

لم تكن العلاقات في مجالي العلم والفقه علاقات انزواء وانكماش وتقوقع، وانّما كانت علاقات تفتح انعدم فيها عنصر الأنا والعنصر الشخصي، ولا وجود للنظرة السلبية مع الآخرين، فالجميع انطلقوا ضمن الأهداف المشتركة وكانوا يأخذون العلم ويقتفونه من مناهله ومنابعه على اختلاف مناهجها ومتبنياتها، فلا يوجد انفصال في الحياة العلمية، حيث يروي بعضهم عن بعض ويتبنى بعضهم آراء بعض، وقد اتفق الجميع على مرجعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) العلمية لأنّهم اخذوا العلم عن آبائهم وبالتالي عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أخذوا العلم عن أهل البيت مباشرة أو بصورة غير مباشرة وعلى رأسهم الامامين «أبو حنيفة ومالك».

 

وكان اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وأتباع أئمة المذاهب يطلبون العلم والفقه سويّة بلا انزواء ولا تقاطع، فيدرسون عند هذا أو ذاك بغض النظر عن مذهبه ومتبنياته الفقهية والاصولية، وكان يحدّث احدهم عن الآخر أو عن إمام مذهب آخر، فمثلاً كان سفيان الثوري يحدّث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وعن الأعمش، وكان الاعمش يحدّث عنهما، وكان أبان بن تغلب يحدث عنهما أيضاً، وكان الإمام أبو حنيفة يحدّث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وعن اتباعه، وهم بدورهم يحدّثون عن الإمامين الصادق وأبي حنيفة.

 

فقد كانت العلاقات قائمة على قواعد الودّ والمحبّة والثقة المتبادلة، وكان أهل البيت يشجعون اتباعهم على تعميق مثل هذه العلاقات، وكانوا بأنفسهم يحضرون في مجالس من هم أقل منهم علماً وشأناً لكي يكونوا قدوة لاتباعهم في ازالة الحواجز والفواصل الجزئية، وعلى سبيل المثال كان الإمام على بن الحسين (عليه السلام) يجالس قوما دوناً ويستمع إلى حديثهم، حتى قيل له: انّك تجالس قوماً دوناً، فأجاب القائل ـ وهو نافع بن جبير ـ انّي اجالس من أنتفع بمجالسته في ديني([1]).

 

وقال الزهري: حدثت عليّ بن الحسين بحديث فلمّا فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك، هكذا سمعناه، فقلت: لا أراني حدثت حديثاً أنت أعلم به منّي، قال: لا تفعل ذلك، فليس من العلم ما لم يعرف إنّما من العلم ما عرف([2]).

 

وكان الفقهاء والعلماء يستمعون إلى نصائح أهل البيت (عليهم السلام) ويلتزمون بتوجيهاتهم وارشاداتهم، اعترافاً منهم بمرجعيتهم العلمية، فمثلاً كان الحسن البصري يقص في الحج، فمرّ به الإمام علي بن الحسين، فقال له: يا شيخ... ثم دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت؟ فما قصّ الحسن بعدها([3]).

 

وفي كتب الحديث نجده يروي أحاديث كثيرة يسندها إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك نجد ذلك في أحاديث سفيان الثوري والاوزاعي وغيرهم.

 

وكان سفيان الثوري من تلامذة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ومن تلامذة زيد بن عليّ (عليه السلام).

 

واشتهر عنه انّه كان يقول للامام: لا أقوم حتى تحدثني، فقد حدثه مرّة بحديث النعمة والرزق والضيق، فقال سفيان: «ثلاث وأي ثلاث»([4]).

 

ووردت له عبارات عديدة يكرر فيها القول: «حدثني جعفر بن محمد» و:«سمعت جعفراً يقول»([5]).

 

وكان يسأله في كثير من مجالات العلم والمعرفة، وبالخصوص في الفقه والاحكام الشرعية وعن عللها([6]).

 

ونتيجة للاختلاف في ادراك الحقائق والوقائع والأحداث، والاختلاف في المتبنيات الاجتهادية كان يعترض على بعض مواقف وممارسات الإمام الصادق (عليه السلام) فكان الإمام يجيبه عن اعتراضاته أو اشكالاته برحابة صدر([7]).

 

ولتعميم الفائدة من نفس حديث الإمام (عليه السلام) نذكر نصه حسب رواية سفيان الثوري حيث يقول: سمعت جعفراً يقول: «الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وترك حديث لم نروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالفه فدعوه»([8]).

وكان الإمام محمد الباقر (عليه السلام) يحاسب الإمام أبا حنيفة على آرائه وخصوصاً في القياس، وكان يتقبل هذه المحاسبة وهذا الاعتراض، ويستسلم لتوجيهات وارشادات الإمام الباقر، ويتعامل معه تعامل المرؤوس مع رئيسه([9]).

 

وأخذ الإمام أبو حنيفة العلم عن أربعة من أئمة وفقهاء أهل البيت (عليهم السلام)وهم: محمد الباقر وجعفر الصادق، وزيد بن علي وعبدالله بن الحسن بن الحسن([10]).

 

وقد اعترف بفضل الإمام الصادق (عليه السلام) عليه وعلى ايصاله إلى هذه الدرجة والمنزلة العلمية والفقهية، فقال: «لولا السنتان لهلك النعمان»، ويرى الشيخ محمد أبو زهرة انّ هاتين السنتين كانتا عند ما خرج أبو حنيفة من العراق مهاجراً للمدينة، فانّه أقام ببلاد الحجاز، ولعله قد لازم الإمام الصادق في هذه المدة([11]).

 

وكان الإمام الصادق يختبره في الكثير من المسائل من أجل زيادة العلم والمعرفة، فقد سأله عن محرم كسر رباعية ظبي، فقال: لا أعرف جوابها، فقال: أما تعلم انّ الظبي لا يكون له رباعية([12]).

 

وكان يشجعه على التعليم والتدريس، وكان يحضر حلقة الدرس التي يعقدها، وهو لا يعلم به، وحينما يعلم بحضوره يقف احتراماً واجلالاً له([13]).

 

وكان الإمام أبو حنيفة يستمع إلى إرشادات وتوجيهات الإمام العلمية والفقهية والاصولية، ففي أحد المرات دخل القاضي عبدالله بن شبرمة والامام أبو حنيفة على الإمام الصادق، فقال ابن شبرمة: هذا رجل من أهل العراق له فقه وعلم، فقال الإمام: لعله الذي يقيس الدين برأيه... ثم قال له: اتق الله ولا تقس الدين برأيك.

 

اتق الله يا عبدالله ولا تقس; نقف نحن غداً وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل، فنقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال الله عزّ وجلّ، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيعمل بنا وبكم ما يشاء([14]).

 

وأخذ الإمام مالك بن أنس العلم عن جماعة ومنهم الإمام جعفر الصادق، ولكنّه اخفى الحديث عنه في عهد الحكم الاموي لظروف الارهاب التي امتاز بها الحكم انذاك، ولموقفهم العدائي من أهل البيت (عليهم السلام)، وبدأ بالحديث عنه في عهد العباسيين قبل استلامهم للسلطة وفي بدايتها كما دلت على ذلك بعض الاخبار([15]).

 

وكان الإمام الصادق يشجع طلاب العلم للحضور في حلقة الإمام مالك الدراسية، وأخذ العلم منه، لازالة الحواجز والفواصل بين المسلمين عموماً وطلاب العلم خصوصاً، وهذا التشجيع يساهم مساهمة فعالة في تعميق أواصر الإخاء والمودة، وفي تقريب وجهات النظر لاتخاذ المواقف الواحدة تجاه الاحداث والوقائع والوجودات.

 

ومن الامثلة على ذلك ان الإمام قال لتلميذه عنوان البصري (ان يجلس إلى مالك) ([16]).

 

والامام الشافعي وان لم يتتلمذ على يد الإمام الصادق مباشرة الاّ انه أخذ العلم ممن اخذه من الصادق، فعن اسحاق بن ابراهيم قال: قلت للشافعي: ما حال جعفر بن محمد عندكم؟ فقال: ثقة، كتبنا عنه اربعمائة حديث([17]).

 

ومن يتتبع مسند الإمام أحمد بن حنبل يجده ينقل العديد من الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

 

وكان أئمة المذاهب يتعاملون مع أئمة أهل البيت كمراجع لهم وللأمة الإسلامية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قول الإمام الشافعي: أخذت احكام البغاة والخوارج من مقاتلة عليّ لأهل الجمل وصفين([18]).

 

وفي اثبات خبر الواحد كان يقول: وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعوّل على أخبار الآحاد([19]).

 

وذكر له أحدهم مسألة فأجاب عليها، فقال له: خالفت علىّ بن أبي طالب، فقال: اثبت لي هذا عن عليّ بن أبي طالب حتي أضع خدي على التراب وأقول: قد اخطأت، وأرجع عن قولي إلى قوله([20]).

 

وكان الكثير من القضاة الذين يتبنون آراء بعض المذاهب يرجعون إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لاخذ رأيهم في مختلف المسائل وعلى سبيل المثال كان القاضي ابن أبي ليلى لا يتنازل عن رأيه في القضاء لأحد الاّ للامام جعفر الصادق([21]).

علاقات الاحترام والتكريم والولاء:

كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب الإسلامية ينطلقون في ظل الأهداف الكبرى للرسالة الإسلامية متعالين على الفواصل الجزئية الطبيعية، ولهذا كانت علاقاتهم قائمة على الاحترام والتكريم وعلى الولاء المتبادل، فالاخاء والتآزر والتعاون هو القاعدة الاساسية في العلاقات العامة والخاصة، وعلى الرغم من وجود قوى لا يروق لها صفو العلاقات فانّها لم تستطع تفريق الصفوف وتشتيت الاتحاد وخصوصاً بين الائمة والاتباع من قبل الطرفين، فلم تستطع مؤامرات الحكام وأساليبهم المتنوعة في تبعيد القلوب وفي تفريق الصفوف وبقي الاحترام والتكريم هو الحاكم على العلاقات مهما اختلف الجميع في متبنياتهم الفكرية والسياسية والعلمية.

 

قال رجل للحسن البصري: انهم يزعمون أنك تبغض علياً، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، وربّاني هذه الأمّة وذا سابقتها وذا فضلها لم يكن النئومة عن أمر الله، ولا بالملومة في حق الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة وأعلام بيّنة([22]).

 

وقال الحجاج للحسن، وعنده جماعة من التابعين، وذكر عليّ بن أبي طالب: ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول هو أوّل من صلّى إلى القبلة، وأجاب دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّ لعليّ منزلة من ربّه، وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردّها أحد، فغضب الحجّاج غضباً شديداً وقام عن سريره، فدخل بعض البيوت وأمر الناس بالانصراف([23]).

 

وكان يمتدح فاطمة الزهراء (عليها السلام) ويذكر فضلها حباً منه لأهل هذا البيت (عليهم السلام) وتعظيماً لأبنائها وأحفادها، وهو القائل: ما كان في هذه الأمّة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورمت قدماها([24]).

 

وذكر هذه الفضائل وفي ظروف الارهاب الأموي يدل دلالة واضحة على عمق الاحترام والتكريم والولاء لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وفيما يلي نستعرض هذه العلاقات بشكل من الايجاز:

الإمام جعفر الصادق وسفيان الثوري:

كان سفيان الثوري ملازماً للامام الصادق وله في قلبه حبّ وودّ، وكان يعترف بفضله وينشره وينشر فضائل أهل البيت، وقد نسب اليه انّه كان زيدياً، والحقيقة انّه وان «اشتهر عنه الزيدية، الاّ أنّ تزيده إنّما كان عبارة عن موالاة أهل البيت، وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم، واجلال زيد بن عليّ وتعظيمه، وتصويبه في أحكامه وأحواله»([25]).

 

وسفيان الثوري من دعاة الوحدة بين المسلمين وكانت له خطوات ميدانية في ذلك مع الاحتفاظ بحبه وولائه لأهل البيت، حتى قال عنه عمرو بن حسان: كان سفيان نعم المداوي; إذا دخل البصرة حدّت بفضائل عليّ، واذا دخل الكوفة حدث بفضائل عثمان([26]).

 

وقيل عنه «فيه تشيّع يسير»([27]).

الإمام الصادق وابن أبي ليلى:

كان ابن أبي ليلى قاضياً في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) وكان يكن الود والحب لأهل البيت وعلى رأسهم الإمام الصادق (عليه السلام)، ويراه أهلاً للتبجيل والاحترام، ويرى وجوب محبته وموالاته، وقد جسد هذه الرؤية في ممارسات عملية ميدانية، فكان يتنازل عن ارائه الاجتهادية إذا علم بمخالفتها لآراء الإمام الصادق، وكان يلبي ما يريده منه، ولا يعصي له امراً أو يخالف له نصيحة، فحينما ردّ شهادة محمد بن مسلم الثقفي ارسَلَ اليه الإمام رسالة جاء فيها: «ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف منك باحكام الله)، ولم يجد بذلك بأساً وتقبل كلامه برحابة صدر وخلوص نيّة وأرسل إلى محمد بن مسلم ليشهد عنده ويجيز شهادته([28]).

 

الإمام الصادق والامام أبو حنيفة:

كان الإمام أبو حنيفة يرى وجوب حبّ وموالاة أهل البيت (عليهم السلام) وكان يشهد لهم بالفضل والأعلمية وبامامة المسلمين ايماناً منه بتجسيد هذا الحب في ممارسات ميدانية واقعية، فحينما أجبره أبو جعفر المنصور على مناظرة الصادق ناظره مكرهاً، وفي ذلك اعترف بفضله قائلاً: « ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، لما اقدمه المنصور الحيرة، بعث إلى فقال: يا أبا حنفية، انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهي له من مسائلك الصعاب، فهيأت له أربعين مسألة، ثم اتيت أبا جعفر وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما، دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لابي جعفر... فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا.

 

اليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»([29]).

 

وهذا المدح والثناء والاعتراف بمرجعيته العلمية يعبّر عن الحب والولاء للامام ولأهل البيت عموماً.

 

وكان يعترف بانّ الإمام الحقّ هو جعفر الصادق، ويوجه الانظار اليه ويدعو إلى طاعته والارتباط به، كما دلت على ذلك بعض الاخبار والروايات المحايدة([30]).

 الإمام الصادق والامام مالك بن أنس:

قال الإمام مالك: «والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد زهداًوفضلاً وعبادة وورعاً، وكنت أقصده فيكر مني ويقبل عليّ»([31]).

 

وقال: «كنت أدخل إلى الصادق جعفر بن محمد فيقدّم لي مخدّة ويعرف لي قدراً، ويقول: يا مالك انّي احبّك، فكنت اسرُّ بذلك وأحمد الله عليه»([32]).

 

وكان يمتدح الإمام ويثني عليه ويذكر جملة من فضائله ومناقبه فيقول: « لقد كنت آتي جعفر بن محمد، وكان كثير التبسّم، فاذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وآله) اخضر واصفرّ، ولقد اختلفت اليه زماناً فما كنت أراه الاّ على احدى ثلاث خصال: امّا مصلياً، واما صائماً، وإمّا يقرأ القرآن... وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله»([33]).

 

وكان يحترم جميع من له صلة قربى بائمة أهل البيت، روي عن اسماعيل ابن موسى الفزاري قال: «رأيت يحيى بن عبدالله بن الحسن جاء إلى مالك بن أنس بالمدينة، فقام له عن مجلسه واجلسه إلى جنبه»([34]).

الإمام الشافعي وأهل البيت(عليهم السلام):

عرف الإمام الشافعي بمحبته لأهل البيت (عليهم السلام) وكانت له علاقات حميمة معهم، ولكنّ هذه المحبة وهذه الموالاة لم تصل إلى مرحلة العمل من أجل ايصالهم إلى السلطة أو العمل على جعل الحكم في سلطانهم([35])، وكان لا يتحدث في مجلس يحضره أحد العلويين، ويقول: « لا أتكلم في مجلِس يحضره أحدهم هم أحقّ بالكلام»([36]).

 

وكان يصرّح بهذا الحبّ وهذا الولاء، ومن اشعاره ما روي عن الربيع بن سليمان قال: حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً الاّ وهو يبكي وينشد:

 

يا راكباً قف بالمحصّب من منى واهتف بقاعد خيفنا والنّاهض

 

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض

 

إن كان رفضاً حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أنّي رافضي

 

 وله اشعار اخرى في هذا المجال ومنها:

نصلي على المختار من آل هاشم ونؤذي بنيه انّ ذا لعجيب

 

لئن كان ذنبي حب آل محمد فذلك ذنب لست عنه أتوب

 

هم شفعائي يوم حشري وموقفي وبغضهم للشافعي ذنوب

 

 

 

وانشد ايضاً:

لو فتشوا قلبي لألفوا به سطرين قد خطا بلا كاتب

 

العدل والتوحيد في جانب وحبّ أهل البيت في جانب

 

وفي المقابل لم يحدثنا التاريخ انّ أهل البيت (عليهم السلام) قد ذكروه بسوء([37]).

 

الإمام أحمد بن حنبل وأهل البيت(عليهم السلام):

انّ ظروف الملاحقة والارهاب وأجواء المراقبة الشديدة لأئمة أهل البيت; ([38])، حالت دون حدوث لقاء بينهم وبين الإمام أحمد بن حنبل، فقد كان هو الآخر يعيش محنة حقيقية، ولكنّ عدم اللقاء وعدم الاجتماع لا يعني وجود تقاطع أو تدابر بل انّ الحب والتقدير والتكريم كان قائماً، وكان الإمام أحمد كثير العلاقة مع عموم العلويين، حتى قيل للمتوكّل انّه يأوي العلويين ويدعو إلى بيعتهم، وقد فتش منزله للتأكد من ذلك([39]).

 

وكان يدافع عن عليّ بن أبي طالب في عهد المتوكل الذي عرف بمعاداته لأهل البيت، وقد قال في حقّه وحقّ أهل البيت:

 

«انّ الخلافة لم تزيّن علياً، بل عليّ زينها».

 

«علي بن أبي طالب من أهل بيت لا يقاسى بهم أحد»([40]).

 

«ما جاء لأحد من الصحابة من الفضائل مثل ما لعليّ بن أبي طالب»([41]).

 

والدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) ونشر فضائلهم في عهد المتوكل وغيره يدل دلالة واضحة على حبّه لهم وموالاتهم.

 

 وحدة الموقف من السلطات الحاكمة:

اتفق العلماء والفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية على صفات وخصائص وشروط الإمام أو الخليفة أو الحاكم الإسلامي وهي: الاجتهاد والعدالة والكفاءة، امّا أئمة وفقهاء الشيعة فانهم اشترطوا العصمة في الإمام وهي الدرجة العليا أو المرتبة العليا من مراتب العدالة، ورأيهم واضح، امّا أئمة وفقهاء السنة فقد اشترطوا العدالة، وهذا يظهر من آرائهم، وقد توهم البعض في فهم آراء علماء وفقهاء السنة حول الخليفة والحاكم، وظنوا انّهم يتبنون خلافة وحاكمية المنحرفين والجائرين كبني امية وبني العباس، وبالحقيقة انّ هذا التوهم جاء من خلط المفاهيم بالمصاديق أو خلط النظرية مع الواقع أو الموقف العملي، فاغلب فقهاء المذاهب استسلموا للأمر الواقع حينما لم يجدوا مصلحة في مواجهة الحكّام وركنوا إلى اصلاح الاوضاع بطريقة سلمية دون الاصطدام مع الحاكم الجائر، امّا من الناحية النظرية فانهم يشترطون العلم والعدالة والكفاءة في الحاكم وهذا يظهر من متبنياتهم الفكرية والفقهية التي ذكروها في كتبهم([42]).

 

واذا تتبعنا مواقف أئمة المذاهب من الحكّام المعاصرين لهم، نجدها مواقف سلبية الاّ في نطاق محدود وفي حدود المصلحة الإسلامية العليا، وانّ ما يقال من انّهم أو بعضهم ساند الحكّام لا دليل عليه ولا صحة له، وهذا ما سنثبته في هذا البحث.

 

فجميع أئمة المذاهب كانوا سلبيين تجاه حكّام زمانهم، وكان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) رائدهم في ذلك، ففي موقف له من المنصور يثبت موقفه السلبي; حيث كتب اليه المنصور: لم لا تغشانا كما يغشانا ساير الناس؟ فأجابه: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الاخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك.

 

فكتب اليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه: من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك.

 

فقال المنصور: والله لقد ميز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الاخرة، وانّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا([43]).

 

وكان أئمة المذاهب معارضين لحكام عصرهم ولكن تلك المعارضة كانت معارضة سلمية لا تصل إلى تغييرهم بالقوة، وفيما يلي نستعرض جملة من مواقفهم:

الحسن البصري:

كان الحسن البصري معارضاً لحكّام زمانه الاّ انّه لا يرى وجوب الخروج عليهم، فقد استفتي في الخروج على الحجاجّ فقال: أرى أن لا تقاتلوه، فانّها ان تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وان يكون بلاءً فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين([44]).

 

فقد اكتفى بالمعارضة السلمية وحث القرّاء وعموم الناس على مقاطعتهم فقد وجد جمعاً من القرّاء على باب ابن هبيرة، فقال لهم: ما يجلسكم ها هنا تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء... اما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم([45]).

 

ونهى عن الدخول في الفتنة حينما خرج يزيد بن المهلب على الحاكم الاموي بعد ما كان والياً له، فقيل له: والله لكانك راض عن أهل الشام.

 

فقال: أهل الشام قبحهم الله أليس هم الذين احلّوا حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقتلون أهله... قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة... عليهم لعنة الله وسوء الدار([46]).

 

وكان ينتقد السياسة الاموية ويستعرض سيرتها المخالفة لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد انتقد سياسة مؤسس الدولة الاموية في ادعاء زياد وقتل حجر ابن عدي وأصحابه واستخلاف يزيد([47]).

 

وكان ينتقد الحجّاج ويقول: الا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الانبياء وينزل ويفتك فتك الجبارين، يوافق الله في قوله، ويخالفه في فعله.

 

وحول سياسة عبدالملك بن مروان والحجّاج قال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وكتاب الله دغلاً واستحلوا الخمر بالنبيذ... واذا اقبل عدو الله ففي سرادقات محفوظة.

 

فارسل الحجّاج اليه شرطيين، فلما أدخل عليه، قال له: نعم الشيخ أنت، ولئن بلغني عنك ثانياً لافرّقنّ بين رأسك وجسدك.

 

وقد أراد الحجّاج قتله مراراً، الاْ انّ الله عصمه منه.

 

وحينما قتل الحجاج سعيد بن جبير، قال الحسن البصرى: اللهم أعن على فاسق ثقيف، والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار.

 

وحينما اخبر بموت الحجّاج، سجد وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته فاقطع سنته وأرحنا من سيرته وأعماله الخبيثة([48]).

 

فعلاقته مع حكّام زمانه كانت علاقة سلبية وهي تنسجم مع مواقف أئمة أهل البيت من حكّام زمانهم، وموقفه هذا يصبّ في مصلحة أئمة أهل البيت لأنّه ساهم في كشف جرائم الجائرين بحقهم وبحق أتباعهم وأنصارهم، ولم تستطع الدولة الاموية أن تستميله لتخدع به عموم المسلمين، فلم يؤازرها بأي لون من المؤازرة الاّ بالحث على الجهاد في ثغور المسلمين وهو جهاد الإسلام ضد الكفر وهو واقع ضمن المصلحة الإسلامية العليا.

سفيان الثوري:

كان سفيان الثوري يتألم على ما يجري بحق أئمة أهل البيت من ظلم وجور وينكر ذلك([49]) وكان ينكر على حكّام بني العباسى مواقفهم من المسلمين عموماً ومن أهل البيت خصوصاً، ولكنّه كان لا يرى وجوب الخروج عليهم([50]).

 

وكانت علاقته بهم سلبية، فقد دخل ذات مرّة على أبي جعفر المنصور وقال له: اتق الله فانما انزلت هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وابناؤهم يموتون جوعاً ([51]).

 

وقال له: تبغضنا وتبغض دعوتنا، والثوري يقول: سلام سلام، ثم رفع رأسه فقال: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد... انّ ربّك لبالمرصاد» ثم خرج عنه([52]).

 

وقال له ذات مرة: عظني، قال الثوري: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت.

 

قال: فما يمنعك أن تأتينا؟ قال: انّ الله نهى عنكم فقال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ([53]).

 

ونتيجة لشدّة معارضته للحكّام كانوا يتخوفون منه، فقد حَبَسَهُ المنصور في أحد المرات لكنّ الوالي اطلق سراحه على أن يختفي، وفي وقت آخر بعث الخشابين حيث خرج إلى مكة وقال لهم: ان رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه([54]).

 

ودخل ذات مرّة على المهدي العباسى وقال له معترضاً: كم انفقت في حجتك هذه، ثم خرج وتوارى، فنودي من جاء به فله ديته ومن وجد في منزله فقد برئت منه الذمة([55]).

 

وقال له في موضع آخر: قد ملأت الأرض ظلماً وجوراً فاتق الله، قال المهدي: ارأيت ان لم استطع دفعه؟ قال: تخلّيه وغيرك([56]).

 

وكان كثير الاختفاء عن أعين الحكّام، وفي أحد مراحل الاختفاء جيء به إلى المهدى، فقال: اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه فيها حكم، فخرج من عنده فرمى الكتاب في دجلة وهرب([57]).

 

وكان يقول: إذا لم يكن للعالم حرفة ولا عقار كان شرطياً لهؤلاء الظلمة، واذا لم يكن للجاهل حرفة كان رسولاً للفسّاق([58]).

وكان يقول: إذا دعوك لتقرأ عليهم «قل هو الله أحد» فلا تأتهم([59]).

 

وممّا تقدم يظهر انّ علاقته مع الحكّام كانت علاقة سلبية وكانت القطيعة هي الغالبة عليها، واذا اقتضت الضرورة اللقاء والاجتماع كان يستثمر هذا اللقاء على إداء الواجب الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان وكان لسانه أكثر عمقاً من السيف في التأثير عليهم، فقد كان سلبياً معهم الاّ انّه لم يفت بوجوب الخروج عليهم بل جعل الخروج مباحاً، وعلى سبيل المثال كان أبو اسحاق الفزاري قد قتل أخوه مع ابراهيم بن عبدالله بن الحسن فاتى إلى سفيان فقال: قلت لا امرك بالخروج ولا أنهاك([60]).

 

فهو يرى جواز الخروج على الحكّام الجائرين، فلو كان يرى الحرمة لنهى عنه، ولكنّه لا يرى الوجوب.

 

 الإمام أبو حنيفة:

كان موقف الإمام أبي حنيفة مطابقاً لموقف أئمة أهل البيت من الحكّام المعاصرين، فقد كانت علاقته سلبية مع الحكّام والولاة، وكان يرى حرمة التعاون معهم، ومن آرائه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت([61]).

 

قاطع الدولة الاموية ورفض ان يتولى أيّ منصب فيها، اراده ابن هبيرة ان يكون قاضياً ايام مروان بن محمد آخر حكام بني أمية فرفض فضربه مائة سوط([62]).

 

وكان يساند الحركات المسلحة الخارجة على الحاكم الاموي، فقد كان (يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علىّ وحمل المال اليه والخروج على اللص المتغلب المسمى بالامام والخليفة) ([63]).

 

وقال حول خروجه: ضاها خروجه خروج رسول الله يوم بدر، فقيل له: لم تخلفت عنه؟ قال: حبسني عنه ودائع الناس، وقال: لو علمت انّ الناس لا يخذلونه لجاهدت معه لانّه امام حق، ولكنّي اعينه بمالي، فبعث اليه بعشرة الاف درهم وقال للرسول: ابسط عذري له([64]).

 

وحينما بدأ العباسيون يعدون العدّة للقضاء على الحكّام الامويين ساندهم واشترك معهم في تحريض المسلمين وحثهم على الاشتراك في هذه الحركة([65]).

 

وفي بداية حكومة ابي العباس السفاح اجتمع معه وأيده قائلاً:

 

(الحمد لله الذي بلغ الحقّ من قرابة نبيّه (صلى الله عليه وآله) وأمات عنّا جور الظلمة... وقد بايعناك على أمر الله، والوفاء لك بعهدك إلى قيام الساعة) وقد استمر على ولائه لبني العباسي، حتى نزل الأذى بآل علىّ([66]).

 

فكان انزال الاذى باهل البيت (عليهم السلام) هو الفاصل بين الإمام أبي حنيفة والعباسيين، ولهذا كان يرفض أي لون من العلاقة بينه وبينهم وكان يعارض سياستهم ويخالفها ما دامت لا تحكم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) والامثلة على ذلك عديدة، ومنها انّ المنصور شرط على أهل الموصل ان خرجوا عليه تحلّ دماؤهم فخرجوا، فافتى له الفقهاء بالجواز الاّ أبو حنيفة قال: انهم شرطوا لك ما لا يملكون وشرطت عليهم ما ليس لك.

 

ودعاه للقضاء فقال: لا يصلح للقضاء الاّ رجل يكون له نفس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي.

 

وضلّ يكرر عليه القضاء فيأبى، فلهذا عذبه ثم اخرجه من السجن ومنعه من الدرس والافتاء، وقدمات بعد ذلك بقليل([67]).

 

وفي رواية اكرهه على شرب سويق مسموم، فمضى به إلى السجن فمات فيه([68]).

 

وتواترت الروايات انّه مات في السجن([69]).

 

وفي رواية عن زفر بن الهذيل قال: كان أبو حنيفة يجهر بالكلام أيام ابراهيم ـ بن عبدالله بن الحسن ـ جهاراً شديداً، فقلت له والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا، فلم يلبث ان جاء كتاب المنصور إلى عيسى بن موسى فحمله إلى بغداد خمسة عشر يوماً ثم سقاه فمات([70]).

 

وقد تواترت الروايات على نصرته لابراهيم، جاءت اليه امرأة، فقالت: انّ ابني يريد هذا الرجل وأنا امنعه، فقال: لا تمنعيه([71]).

 

وقالت له امرأة: اشرت إلى ابني بالخروج مع ابراهيم ومحمد ابني عبدالله بن الحسن حتى قتل، فقال: ليتني مكان ابنك([72]).

 

وهو الذي ثبط بعض قواد المنصور عن الخروج لحرب ابراهيم ومنهم الحسن بن قحطبة([73]).

 

وكتب إلى ابراهيم يشير عليه أن يقصد الكوفة ليعينه الزيدية، وقال له: ائتها سراً، وكتب ايضاً: إذا اظفرك الله بعيس وأصحابه فلا تسر فيهم سيرة أبيك في أهل الجمل، فانه لم يقتل المنهزم ولم يأخذ الاموال، ولكن سر فيهم بسيرته يوم صفين... فنظر المنصور بكتابه فسيره واشخصه وسقاه شربة فمات منها([74]).

 

وأهم من ذلك اعترافه بامامة جعفر الصادق (عليه السلام) كما تقدّم، فانّ هذا الاعتراف اضافة إلى تأييده لحركة ابراهيم بن عبدالله بن الحسن يعتبر جريمة في نظر العباسيين أودت بحياته، وهذا ان دلّ على شىء إنّما يدل على موالاته لأهل البيت (عليهم السلام) والتعاطف معهم والاعتراض على ما يجري عليهم وما يواجهونه من ظلم واضطهاد، ولعل رفضه للقضاء داخل في هذا التعاطف حيث رفض التعاون مع حاكم ظلم أهل البيت وذويهم وأنصارهم، والاّ فانّه قادر على الدخول مع السلطان وكان العباسيون يتوددون اليه، الاّ انه رفض جميع المغريات فكان موقفه كموقف أئمة أهل البيت من حكّام زمانهم.

 

الإمام مالك بن أنس:

اعتزل الإمام مالك ميدان الصراع المسلح بين الحكّام والخارجين عليهم، فلم يكن مع أيّ طرف منهم([75]).

 

ومع ذلك كان يفتي بما يراه شرعياً ولا يراعي مصلحة الحكّام أو أهدافهم، فقد ضُربَ وعُذب في فتوى لم توافق أغراضهم([76]).

 

وقد اختلفت الروايات أو اختلف الباحثون في موقفه من حركة محمد ذي النفس الزكية على أقوال:

بعض الروايات انّه افتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور، وقيل له: إنّ في اعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنّما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين([77]).

 

وانّ هذه الفتوى شجعت الناس على الخروج فأسرعوا إلى الالتحاف بمحمد بن عبدالله بن الحسن([78]).

 

ويرى الشيخ محمد أبو زهرة: انّه ضرب لتحديثه بهذا الحديث في وقت خروج محمد بن عبدالله بالمدينة، لا لانّه كان يحرض بذلك الحديث، بل الذي نعتقده أنّه حدث بهذا الحديث ورواه ونقله الناس عنه، فوجد الناس فيه ما يدل على أنه يجوز ان يتحللوا من بيعة المنصور زاعمين انها كانت بالغلبة والاكراه، ووجد الكائدون لمالك في ذلك فرصة للكيد له، فاخبروا والي المدينة بذلك... وهؤلاء ظنوا انّه بروايته يروّج للدعاية ضدهم ويمالئ بروايته في وقت خروج الخارجين([79]).

 

والذي نراه انّه بروايته «ليس على مستكره يمين» أراد بالفعل تبيان حكم شرعي وهو جواز نقض البيعة لانّ القسم لم يتم لانهم اقسموا تحت الاكراه، ولا يخفى على الإمام مالك انّه سئل عن ذلك في أجواء حركة محمد بن عبدالله بن الحسن، وانّ الناس سيفهمون جواز نقض البيعة، وهو ما حصل بالفعل، فالقرائن تدلُّ على انّه كان مسانداً لهذه الحركة المسلحة، وان موقفه من الحكّام كان سلبياً أو على أقل التقادير انّه كان محايداً لم يؤازرهم ولم يساندهم في صراعهم مع المعارضين..

 

 

 

الإمام الشافعي:

صرّح الإمام الشافعي بموالاة أهل البيت في أشعاره وأقواله، وهذا التصريح بنفسه يعد معارضة للحكّام الذين ارادوا طمس معالم أهل البيت والقضاء على منهجهم، ولكنهم لم يواجهوه بالعنف لتعدد الثورات في زمانه، وهنالك اخبار ترى انّه قدم للقتل بسبب هذه الموالاة، ولكن اخرج بشفاعة القاضي ابي يوسف فافرج عنه ولولاه لقتل([80]).

 

وكان موته باعتداء فحبس الوالي فتيان([81])، فجاء شباب متعصبون لفتيان واعتدوا على الشافعي، فلم يزل عليلاً إلى ان مات([82]).

 

وهذا الاعتداء وان لم نملك ادلة ومعلومات عن اسبابه ودوافعه والاهداف المرجوة منه، الاّ انّه لا يستعبد ان يكون للحكّام دوراً في تحريك المعتدين، وخصوصاً انّهم لم يستطيعوا استمالته ليكون تابعاً لهم أو على الأقل التخلي عن موالاته لأهل البيت (عليهم السلام).

 

 الإمام أحمد بن حنبل:

رفع إلى المتوكل أنّ أحمد بن حنبل ربّص علوياً في منزله، يريد أن يخرجه ويبايع له، ففتشوا منزله فلم يجدوا أحداً([83]).

 

ووشي به انّه يشتم آباء المتوكل ويرميهم بالزندقة([84]).

 

وسجن الإمام أحمد عدة مرات في عهد ثلاثة من حكام بني العباس، وعذب تعذيباً شديداً لقوله بعدم خلق القرآن، فقد سجن في عهد المأمون ولم يخرج الاّ في عهد المعتصم، وقد عذب في عهده ثم أفرج عنه([85]).

 

وسجنه لا يعقل بسبب قوله بعدم خلق القرآن، لانّ العباسيين لا يهمهم ما قيل في القرآن مخلوق أم قديم بقدر ما يهمهم بقاء سلطانهم، فلعل سجنه كان بسبب معارضته لهم في مواقفهم المخالفة للشريعة، أو بسبب نشره لفضائل أهل البيت.

 

وفي جميع الاحوال والظروف كان موقفه سلبياً من الحكّام المتعاقبين على السلطة، فقد رفض تولي القضاء في عهد الأمين، وكان يرفض العطاء والهدايا من قبلهم، ولزم منزله لا يخرج إلى جمعة أو جماعة، وامتنع عن التحديث في خلافة المأمون والمعتصم والواثق([86]).

 

واراد منه المتوكل ان يقيم ليحدث الناس عوضاً عمّا فاتهم منه في أيام المحنة، فاعتذر انّه عليل([87]).

وخلاصة القول: انّ العلاقة بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب كانت علاقة ودّ وتآزر، ولم تحدث بينهم قطيعة أو تدابر، وكان اتباعهم كذلك، فكانوا يتزاورون ويجتمعون معاً في المساجد وفي أماكن التجمعات الاخرى، فكانوا يعودون المرضى ويشيعون الأموات ويحضرون ولائم الزواج والافراح، وقد تواترت الروايات الدالة على هذا التعاون والتآزر وعلى عمق العلاقات الاجتماعية، ومن يتتبع كتب التاريخ والحديث يجد صحة ذلك، يقول الرواة والمحدثون ما نصه: « دخلت على ابي عبدالله وعنده أبو حنيفة»، «دخل أبو حنيفة على جعفر الصادق»، «دخل مالك على جعفر بن محمد»، «اكل أبو حنيفة طعاماً مع الصادق»، وكذلك قول بعض أئمة المذاهب من قبيل: «دخلت على جعفر بن محمد»، «اختلفت اليه زماناً»، وكانت لهم علاقات مع حريز والأعمش ومؤمن الطاق، وكان يأنس أحدهم بالآخر.

 

ولم يحدثنا التاريخ انّه حدث خلاف أو تنافر أو تقاطع بين أئمة أهل البيت وأئمة المذاهب أو بين اتباعهم، وجميع الخلافات حدثت بعد عصرهم وفي مراحل متأخرة من حركة ومسيرة المسلمين، وأغلبها كان بفعل أعداء الإسلام أو من فعل الحكّام المنحرفين الذين لا يقوى سلطانهم الاّ بالفرقة والتمزق.

 

وفي عصر الصحوة الإسلامية المعاصرة عاد المسلمون إلى ما كانوا عليه من وفاق ووداد وقد اختفت بعض الخلافات وهي في طريقها للزوال ان تظافرت جهود وطاقات الفقهاء والعلماء من أجل توحيد الصفوف وخصوصاً في المواقف العملية، وما اجتماع علماء وفقهاء ومفكري الأمّة في طهران في مؤتمر الوحدة الاّ دليل واقعي على التقريب والتفاؤل بالوحدة.

 

«الفهرست»

المقدّمة

العلاقات في مجالي العلم والفقه

علاقات الاحترام والتكريم والولاء

الإمام الصادق وسفيان الثوري

الإمام الصادق وابن أبي ليلى

الإمام الصادق والامام أبو حنيفة

الإمام الصادق والامام مالك بن أنس

الإمام الشافعي وأهل البيت

الإمام أحمد بن حنبل وأهل البيت

وحدة الموقف من السلطات الحاكمة

الحسن البصري

سفيان الثوري

الإمام أبو حنيفة

الإمام مالك بن أنس

الإمام الشافعي

الإمام أحمد بن حنبل

الهوامش:

([1]).مناقب آل أبي طالب 4: 75 ابن شهرآشوب، دار الاضواء، بيروت، 1412 هـ.

([2]).كشف الغمة 2 ، 101، الأربلي.

([3]).وفيات الأعيان 2 : 70، ابن خلكان، ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1969 م.

([4]).سير أعلام النبلاء 6: 262 ـ الذهبي ـ مؤسسة الرسالة ـ 1405 هـ

([5]).صفة الصفوة 2 : 171.

([6]).سير أعلام النبلاء 6: 266.

([7]).م . ن 6: 266.

([8]).تاريخ اليعقوبي 2: 381.

([9]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 689 ـ محمد ابو زهرة ـ بيروت.

([10]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 361.

([11]).الامام الصادق: 38

([12]).شذرات الذهب 1: 220، إبن العمّاد الحنبلي، دار الافاق الجديدة، بيروت.

([13]).الامام جعفر الصادق: 162، عبدالحليم الجندي ـ القاهرة ـ 1397 هـ.           

([14]).الأخبار الموفقيات: 77، 78، الزبير بن بكّارـ منشورات الشريف الرضي، قم، 1416 هـ، ط 1.

([15]).تهذيب التهذيب 2: 88، ابن حجر العسقلاني ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1404 هـ

([16]).الامام جعفر الصادق: 161.

([17]).تاريخ الاسلام حوادث سنة 201 هـ : 366.

([18]).الصواعق المحرقة: 40، كتاب تطهير الجنان.

([19]).شرح نهج البلاغة 15: 274.

([20]).الفهرست: 441، ابن النديم.

([21]).الامام جعفر الصادق: 161.

([22]).العقد الفريد 2: 95، أحمد بن عبد ربّه الاندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ.

([23]).شرح نهج البلاغة 13: 231.

([24]).ربيع الابرار 2: 104، محمود بن عمر الزمخشري، منشورات الرضي، قم، 1410 هـ.

([25]).شرح نهج البلاغة 6: 371.

([26]).حلية الأولياء 7: 26.

([27]).سير أعلام النبلاء 7: 241.

([28]).بحارالانوار 47 : 403.

([29]).سير أعلام النبلاء 6: 258.             

([30]).تاريخ العلويين: 200، محمد أمين غالب الطويل، دار الأندلس، بيروت، 1399 هـ.

([31]).بحارالانوار 47: 20.

([32]).م . ن 47 : 16.

([33]).تاريخ المذاهب الاسلامية : 397.

([34]).مقاتل الطالبيين: 464.

([35]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 442.

([36]).الفهرست: 441.

([37]).سير أعلام النبلاء 10: 58، طبقات الشافعية 1: 299.

([38]).ينابيع المودة: 399، 568.

([39]).البداية والنهاية 10: 337، سير اعلام النبلاء 11: 267.

([40]).المناقب: 163.

([41]).ينابيع المودة: 142.

([42]).الاحكام السلطانية للماوردي: 6، الاحكام السلطانية للفرّاء: 20، روضة الطالبين، 7: 262، مآثر الاناقة في معالم الخلافة: 1: 39، تمهيد الاوائل: 471، أصول الدين للبغدادي، 227، مقدمة ابن خلدون: 152، شرح المواقف 8: 349.

([43]).كشف الغمة 2 : 209.

([44]).الطبقات الكبرى 7: 164.

([45]).حلية الأولياء 2: 151.

([46]).تاريخ الطبري 4: 84.

([47]).ربيع الأبرار 2: 486.

([48]).حلية الأولياء 2: 159.

([49]).شرح نهج البلاغة 6: 371.

([50]).سير اعلام النبلاء 7: 242.

([51]).م . ن 1: 106.

([52]).الجرح والتعديل 1: 114.

([53]).العقد الفريد 3: 109، سورة هود الاية: 113.

([54]).سير اعلام النبلاء 7: 251.

([55]).الجرح والتعديل: 1: 108.

([56]).سير اعلام النبلاء 7: 264.

([57]).مروج الذهب 3: 323.

([58]).ربيع الابرار 2: 545.

([59]).الطبقات الكبرى 6: 372.

([60]).تاريخ بغداد 13: 385، الخطيب البغدادي، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

([61]).تاريخ الخميس 2: 327، حسين الديار بكري، مؤسسة شعبان ـ بيروت.

([62]).وفيات الأعيان 5: 407.

([63]).تاريخ الخميس 2: 327.

([64]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 368.

([65]).دائرة المعارف الاسلامية 1: 332.

([66]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 370.

([67]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 372، 374.

([68]).ربيع الابرار 3: 605.

([69]).سير اعلام النيلاء 6: 401.

([70]).تاريخ بغداد 13: 330.

([71]).مقاتل الطالبيين: 378.

([72]).تاريخ الخميس 2: 327.

([73]).مناقب أبي حنيفة 2: 22.

([74]).مقاتل الطالبيين: 367.

([75]).تاريخ مذاهب الاسلامية: 414.

([76]).شذرات الذهب 1: 290.

([77]).تاريخ الخلفاء: 210.

([78]).مقاتل الطالبيين: 283.

([79]).مالك بن أنس: 59، تاريخ المذاهب الاسلامية: 416.

([80]).لا سنة لا شيعة: 57، الدكتور الزعبي، عن: مناقب الشافعي للرازي: 25.

([81]).فتيان: شخص مخالف للشافعي في الرأي قام بالاعتداء عليه.

([82]).تاريخ المذاهب الاسلامية: 450.

([83]).سير أعلام النبلاء 11: 267.

([84]).البداية والنهاية: 10: 340.

([85]).سير أعلام النيلاء 11: 238، 259.

([86]).البداية والنهاية 10: 337.

([87]).م . ن 10: 338.