الفقه وفقه النظريات العامة

الفقه وفقه النظريات العامة

 

 

الفقه وفقه النظريات العامة

 

الشيخ خالد الغفوري

رئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام  في مدينة قم المقدسة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

من المناسب أن نبيّن أن علم الفقه يشترك مع غيره من العلوم الإنسانية في بعض الجهات ويختلف عنها في جهات أخرى:

1 – فمن جهات الاشتراك أن العلوم الإنسانية عبارة عن عملية عقلية يسير فيها العقل البشري من المجهول إلى المعلوم وفق منطق معين ومنهج خاص وغرض مشخص، وهذه المسيرة الفكرية تمر بتطورات وتقطع أشواط من التقدّم ولاتظل تراوح في مكانها.

من هنا نجد أن علم الفقه والممارسة الفقهية مرت بمراحل وأدوار اتسع فيها هذا العلم على مستوى المسائل التي يعالجها وعلى مستوى عمق ودقة الاستدلال شأنه في ذلك شأن العلوم الأخرى.

2 – ومن جملة جهات الاشتراك أن الغرض من الفقه هو تشخيص الوظيفة الشرعية والموقف الشرعي للإنسان في كل ظرف وفي كل زمان وفي كلّ مكان، وهذا يعني حتمية حركة الفقه بموازاة حركة تطور الحياة، ولو تأخر الفقه عن مواكبة المسيرة الصاعدة فهذا يعني عدم قدرته على أداء دوره في تقديم الحكم الشرعي بالشكل اللائق والمطلوب لله سبحانه.

3 – وأما الجهات التي يتميز بها الفقه عن غيره فمنها انه علم يمارس دوره في اطار دائرة النصوص الشرعية المستقاة من الوحي والشارع المقدس، فهو يختلف عن العلوم الادبية والتاريخية التي تتحرك في دائرة النصوص والموروثات البشرية والتي ربما يكون بعضها وهمياً أو خرافياً.

4 – ويترشح عن تلك الميزة ميزة أخرى، وهي ان الفقيه في ممارساته الفقهية يكون دوره دور المكتشف الذي يستخرج الحكم ويستنبطه من بين الأدلة الشرعية المتراكمة، وليس دوره دور المبدع والمخترع.

وننتهي من هذه المقدمة إلى النتيجة التالية: ان علم الفقه له طرفان طرف مرتبط بالشريعة والوحي وطرف مرتبط بالانسان وحركته الفكرية والحضارية، فعلى الرغم من كون الفقه محدّداً من ناحية الأدلة التي ينطلق منها هو مطلق في حركته في عملية استنطاق هذه الأدلة على ضوء حركة الحياة.

اذن فأساس علم الفقه ثابت وعطاؤه ثرّو واسع كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء أراد الله لها ان تؤتي أكلها كل حين باذن ربها.

واما معالم حركة التطور في علم الفقه فهي كثيرة، ولست بصدد دراستها فعلا، وانما استهدف في هذا البحث تسليط الاضواء على احد هذه المعالم، إلا وهو فقه النظريات العامة، فانه يعتبر اتجاهاً جديداً نسبياً، ولايكاد يتعدى تاريخ ظهورها أكثر من خمسة أو ستة عقود، وذلك عندما احس الفقهاء بضرورة التصدي للتيارات والانظمة الوضعية التي غزت البلدان الإسلامية وغزت اذهان ابنائها، حيث اقدم بعض رواد النهضة الإسلامية المعاصرة على بعض المحاولات في سبيل اكتشاف النظرية الإسلامية في المجال الاقتصادي واطلّ على العالم الإسلامي باطروحة متينة تحت عنوان (اقتصادنا).

ما هو المراد بفقه النظرية العامة

بالنظر لكون هذا المصطلح ليس متداولا وقد يفسر بعدّة تفسيرات فلابد في البدء من تحديد ما هو المقصود بهذا اللفظ اولا قبل الخوض في التفاصيل؛ لكي لانقع في المناقشات اللفظية.

فنقول: ان فقه النظرية هو عملية استنباط الموقف الفقهي العام تجاه مجال معين من مجالات الحياة، وبلورة المعالجة الإسلامية في صيغة نظرية عامة تكون بمنزلة القاعدة الكلية التي تنبثق عنها الابنية العلوية من الاحكام والقوانين لتنظيم الحياة.

وهي علمية يقوم بأعبائها الفقيه، كما يمارس دوره في استنباط الاحكام الجزئية. وتحسن الإشارة إلى بعض نقاط الفرق بين عملية استنباط الحكم الجزئي وبين عملية استنباط النظرية العامة:

1 – ان الواقعة التي يستهدف الفقيه معالجتها تكون جزئية ومحدودة في عمليات الاستنباط التقليدية، بينما يكون افق الواقعة في فقه النظرية اوسع بسعة الواقع ورحيب برحابة الحياة، وهذا يعني أن الفقيه لابد ان ينقح الموضوع الخارجي ويحصل على صورة واضحة حوله مما يتطلب منه انفتاحا على الحياة ومواكبة لحركتها وان يفقه الواقع في المرتبة الأولى قبل ان يشرع في عملية الاستنباط، وكلما كانت الواقعة المراد استخراج حكمها معقدة ومليئة بالملابسات والحيثيات المختلفة كلما تعقدت عملية تنقيح هذه الموضوعة، فمثلا من اراد ان يفتي في مسألة شرعية ذبح الحيوان بالمكائن الحديثة عليه ان يتصور كيف تتم عملية الذبح بالماكنة وماهي الحيثيات المؤثرة في عملية الافتاء، من قبيل امكانية التسمية على كل واحد من الذبائح وعدمه، ومن قبيل امكانية احراز استقبال القبلة وعدمه، ومن ناحية نسبة حركة الآلة القاطعة إلى الذابح وعدمها، ومن ناحية كون الآلة حديدا وعدمه، ومن ناحية اسلام الذابح وعدمه، وغير ذلك من العناصر المؤثرة في عملية الافتاء بالنسبة إلى هذه الواقعة، في حين ان تنقيح الموضوع في عملية الذبح اليدوي خال من هذه الحيثيات.

فكلما تعقد الموضوع والواقعة كلما اقتضى ذلك جهدا اضافيا من الفقيه قبل الخوض في عملية الافتاء، فعندما يتصدى للافتاء وتحديد الموقف الشرعي بالنسبة لموضوع متشعب كالمجال الاقتصادي والذي هو مجال واسع مترامي الاطراف تحركه عدة عناصر مختلفة ضمن شبكة من العلاقات والتأثير والتأثر فهذا ما يستلزم قطعا متابعة علمية ميدانية يقوم بها الفقيه في سبيل الاحاطة بموضوع فتواه كي لايتورط بمخالفة الواقع، وليس هذا من قبيل الموضوعات التي يترك أمر احرازها إلى المكلف وما على الفقيه إلا اصدار فتواه بنحو القضية الحقيقية، ولايصح ان يقاس هذا بمحل الكلام؛ إذ ان المراد هو تقديم اجابة وحل لواقع خارجي فما لم يتم تصور كامل للواقع يظل السؤال مبهما، ومع ابهام السؤال كيف يمكن البحث عن الجواب، وماهي علاقة الجواب بالسؤال حينئذٍ؟!

فلو سئل الفقيه عن الموت الطبي أو عن بطاقات الائتمان أو نحو ذلك فكيف يجرؤ على الافتاء قبل ان يعرف حقيقة الموضوع المسؤول عنه، فكذا الحال أيضاً عندما نسأل الفقيه عن النظرية الإسلامية في المجال الاقتصادي وهل هي ذات طابع رأسمالي أو اشتراكي أو شيء آخر؟ فياترى هل يمكن للفقيه ان يجيب من دون ان يتصور ابعاد النظام الاقتصادي والاركان التي يستند إليها والترابط القائم بين العناصر التي تحركه؟!

أو عندما يسأل الفقيه حول النظرية الإسلامية في اطار السياسة الخارجية أو عن نوع النظام السياسي الذي يراه الإسلام هل هو النظام الملكي أو الجمهوري أو غيرهما؟ وفي مثل هذه الحالة من الواضح انه يجب تصور ما تقتضيه السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والقوانين الدولية والمنظمات الدولية والاتفاقات الدولية والاعراف الدولية قبل الاجابة عن السؤال الأول وأيضاً لابد من امتلاك صورة واضحة المعالم عن الحكم وشؤونه وما يحف به من حيثيات حتّى يتسنى للفقيه تحديد مجموعة من الاسئلة المحددة ثمّ بعد ذلك يشرع في استنطاق ما بحوزته من الأدلة من اجل استخراج الاجابة على هذه الاسئلة.

والخلاصة ان عملية اكتشاف النظرية العامة تقتضي وعي الواقعة والواقع الخارجي قبل عملية، ولايكفي مجرد وعي الشريعة.

2 – ان عملية اكتشاف النظرية العامة بما انها عبارة عن اعطاء الموقف الشرعي في قبال الاطروحات الوضعية الأخرى، فانها بمعنى من المعاني لاتبدأ من الصفر، بل لابد من مراجعة موقف المدارس الوضعية وما تقدمه من نظريات كي تتحدد نقاط الالتقاء والاختلاف مما يجعل الصورة المتوخاة أكثر وضوحا وبعيدة عن حالات الابهام. فان دراسة الاطروحات الموجودة فعلا والتي صاغها البشر يثير في ذهن المتابع مجموعة من الاثارات والتساؤلات ويدل الباحث على مكامن الضعف في تلك الاطروحات وعلى مكامن القوة فيها، سيما النظريات الحديثة ولايصح الاقتصار على النظريات القديمة، وبعبارة أخرى لابد من دراسة النظريات الحيّة والمعاشة ميدانيا، ولايقتصر على ادبيات العقود السالفة على صعيد الحقوق والاقتصاد والاجتماع والسياسة وغير ذلك من المجالات.

3 – ان الافتاء في الوقائع الجزئية يتمثل في عبارة يجوز أو يحرم أو يجب أو يصح ونحو ذلك وقد تذكر بعض الشقوق للمسألة لو كانت، اما بيان الموقف الشرعي تجاه مجال معين فهو يتم من خلال بيان اطروحة كاملة بما لها من الأسس والركائز والامتدادات والمؤشرات والتحليلات وبيان علاقات بين حيثيات معينة ودرجة التأثير ومستوى أهمية بعض العوامل من بعضها الآخر وتسمية العناصر المرنة والمناطق الحمراء في النظرية وآلية التطبيق. من هنا نعرف ضخامة المسؤولية التي تواجه الفقيه فيما لو تصدى لاكتشاف النظرية العامة، والمساحة الواسعة التي لابد من التحرك فيها ليسجل ملاحظة هنا واحتمالا هناك وتأملا في تلك الزاوية واقتراحا في زاوية أخرى ثمّ يحاول ان يخط خطا محيطا بدائرة هذا البحث الواسع ويقدمه كمجموعة منسجمة يلتقي اولها بآخرها.

وهذا ما يفرض على الفقيه أن يقضي فترة قد تربو على عدة سنوات في تهيئة مقدمات البحث، فهي عملية شاقة كما سنشير إلى ذلك.

4 – ان عملية الافتاء في الموارد الجزئية تتم بتسليط الضوء على مراجعة الأدلة في باب معين، فمن اراد ان يستنبط الحكم في جواز النكس في غسل اليدين في الوضوء لايرى أي ضرورة في مراجعة الأدلة الواردة في الابواب الفقهية الأخرى كالقضاء والحدود والمعاملات والزكاة والحج، في حين ان المفتي في باب النظرية العامة تتسع عنده دائرة الاحتمال فتشمل عدة ابواب قد لايحتمل غير المجتهد ارتباطها بموضوع البحث في الوهلة الأولى، غير ان المتصدي لاستنباط النظرية قد يطرق ابوابا فقهية مختلفة، فيحصل من بعضها على مقطع ومن بعضها الآخر على مقطع ثان وهكذا حتّى تتم جميع مفاصل النظرية. وهذا ما يتطلب اشرافا كاملا على الفقه بأبوابه المختلفة، بل ربما لايستفيد من بعض الأدلة أو الاحكام اللصيقة بالبحث بالنظر البدوي. بل ربما يستعين بأدلة قد ترد في باب العقائد أو يستند إلى بعض الآيات في تحليل ظاهرة معينة أو بيان معادلة ما.

كما هو الحال بالنسبة إلى الآيات الكريمة في سورة إبراهيم (والله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ان الإنسان لظلوم كفار).

حيث استفيد منها لتحليل المشكلة الاقتصادية واسباب نشوئها؛ فان الآيات الكريمة اوضحت ان السبب لم ينشأ من الانتاج بل هو ناشىء من سوء التوزيع والظلم الذي يمارسه الإنسان تجاه اخيه الإنسان. وهذه نقطة مركزية في البحث حول النظرية الاقتصادية في الإسلام.

آلية الاستنباط في فقه النظرية

قد يتبادر إلى بعض الاذهان ان الحديث عن النظريات العامة حديث شيق إلا انه بعيد عن الدائرة العلمية والفقهية باعتباره لايتعدى عالم الحدس والاحتمال. وهذا الكلام مردود من عدة جهات:

أولا – ان الاحتمال العلمي له قيمة علمية، فنحن نلمس ذلك بشكل واضح في كل العلوم، ففي اطار البحث الفقهي نرى اهتمام الفقهاء بالاحتمالات والوجوه لما تمثله من بعد استدلالي. وكثيرا ما نرى بعض محاولات تقوية بعض الاحتمالات وتبدلها إلى دليل.

ثانيا – ان عملية اكتشاف النظرية وان كان نقطة الانطلاق فيه هي الاحتمال لكن لابد من مراجعة الأدلة وضرب بعضها ببعض كي يتحدد الموقف تجاه تلك الاحتمالات التي اما ان تتضاءل قيمتها وتطرد من دائرة البحث واما ان تقوى وتنمو وتصل إلى مستوى معرفي وتصديقي أقوى.

ثالثا – من الواضح ان شريعتنا تشتمل على بعض المسلمات والادلة الثابت حجيتها فليس امام الفقيه ركام من الاحتمالات دائما، بل ربما يلتقي في بعض المجالات بمجموعة غنية من الأدلة المعتبرة شرعا.

ومهما يكن من أمر فانه لابد من بيان المنهج الذي يتبع في عملية استنباط النظرية العامة، فان المنهج يتركب من خطوتين:

الخطوة الأولى – تجميع الاحكام والادلة المتناثرة والتي يحدس دخالتها في عملية اكتشاف النظرية جمعا علميا:

1 – ففي مجال اكتشاف النظرية الاقتصادية لابد من تجميع الاحكام الفرعية والادلة المرتبطة بمسألة ملكية الموارد الطبيعية الاولية كالحيازة، وأيضاً ما يرتبط بمسألة ملكية نتيجة النشاط الاقتصادي كالربا الناتج عن عملية الاقراض.

2 – وفي مجال اكتشاف النظرية الاعلامية في الإسلام ينبغي تجميع ما يحتمل دخالته في ذلك من مسألة حرمة الكذب ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسألة حرمة اشاعة الفاحشة وحرمة الفحش والبذاءة والغيبة والتهمة ونحو ذلك من الاحكام.

3 – وفي مجال اكتشاف النظرية الاجتماعية من اللازم حشد مجموعة الاحكام والادلة المتعلقة بذلك نحو الاحكام المرتبطة بالاسرة والمرأة والانساب والوظائف الموكولة إلى الأُمة واحكام الاخوة والجوار واحكام الوقف واحكام أهل الذمة واحكام الرقيق.

الخطوة الثانية – عملية التركيب بين تلك العناصر المتناثرة، فيدرس كل عنصر باعتباره جزء من كل ولاينظر إليه بصورة مستقلة لكي يرى مدى ارتباطه بغيره وبأي مستوى من الارتباط، ثمّ يخلص الباحث في النهاية إلى اكتشاف صيغة كاملة وشاملة تضم تلك العناصر، ويتشخص دور كل عنصر.

ومن الواضح ان عملية الانتقال من العناصر المتناثرة إلى اكتشاف المركب الكلي لايتم بمعجزة أو صدفة بل من خلال عمليات مقارنة وتقوية لبعض الاحتمالات وتضعيف لبعضها الآخر، واعمال الذوق الفقهي الاجتهادي والمهارة التي يتمتع بها الفقيه في اصطياد القرائن والنكات. وربما يقتضي الأمر مراجعة المفاهيم والمبادىء العامة، فلو فرض كون الباحث بصدد اكتشاف النظرية الاجتماعية فهنا سيكون لمبدأ المساواة التي ثبتة الآية الكريمة: (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) دور مؤثر في ترسيم اطار النظرية العامة.

معطيات فقه النظرية

اجد من اللازم البحث حول مدى جدوى النظريات العامة، وهل ثمة فوائد وآثار عملية يمكن ان تترتب على ذلك أو لا؟ فقد يظن الظانون والذين يلقون الكلام بغير حساب ان ذلك لايعدو ان يكون تحليلا صرفا لاطائل تحته.

لذا ينبغي فهرسة الثمرات العملية وتشريح الانعكاسات الواقعية والآثار الناشئة من تلك النظريات وعلى اصعدة شتى، فان لفقه النظريات العامة بركات كثيرة وفوائد جمة، وسنبوب بعض هذه الثمرات حسب الابعاد المتوقعة لفقه النظرية.

1 – الفكر والثقافة

تشكل النظرية العامة رقما صعبا في المعادلة الثقافية والفكرية، وتوفر امامنا فرصا ذهبية للامتداد والزحف نحو اقتحام وفتح الساحة الثقافية المناوئة وتقصر المسافات للوصول إلى الاهداف الرسالية وتقرب البعيد؛ حيث يتم بواسطة الصياغات العامة ضغط الكم الهائل من الاحكام الممتدة افقيا – والتي يتعذر عادة الاحاطة بها تصورا من قبل الملأ العام فضلا عن القناعة بها – ضمن قوالب ناجزة وقواعد معدودة يسهل دركها ولايصعب تصديقها، ففرق كبير بين الخطاب المنفوش والبيانات الموزعة وبين الخطاب المركز والحاوي لعصارات المنهج الإسلامي وخلاصات البرنامج الحضاري المتبنى. ولاريب في رجحان الأسلوب الثاني باعتباره يخلق في الاذهان وضوحا وانكشافا، ويرفع النفوس إلى مستوى الشهود الرسالي. ونحن وان استطعنا ان نزرع في الساحة الثقافية جوا من الوضوح في الاطار العقائدي أو في الاطار الاخلاقي أو المعنوي إلا ان ذلك وحده غير كاف؛ فانه يدفع الجمهور إلى نصف الطريق حيث يمدهم برؤية كونية ويعرفهم هويتهم الوجودية ويقف عند هذا الحد، ولا يعرفهم هويتهم الحضارية؛ مما يجعل الحاجة إلى مكمل لهذه الرؤية أكثر الحاحا..

وهذا المتمم للوعي يتمثل بتحصيل الرؤية الحياتية ووعي الموقف، وان فقه النظرية بتأمين ذلك لجدير، فمن خلاله يمكن تقديم صورة متجانسة لوجهي الواقع، أي الواقع الموجود والواقع المطلوب، فيزيد المؤمنين ايمانا مع ايمانهم ويكسبهم الثقة العالية بدينهم والاطمئنان الراسخ برسالتهم، وتثبت بذلك اقدامهم على الحق المبين ولايهنوا تجاه امواج الغزو الثقافي، بل يمكنهم حينئذ الانطلاق لخوض المنافسة والنزال مع الغير؛ فان للنظرية العامة لبهاء وسحرا وان عليها لطلاوة تأخذ بمجامع العقول وتجتذب الافئدة. ولانريد ان نبالغ في تصوير مدى الاثر الاعلامي والثقافي للنظريات العامة، فان بعض الاباطيل والاتجاهات الهزيلة استطاعت ان تجد لها مكانا في الساحة الثقافية وتسبغ على نفسها سمة المسلك لأنها تسربلت بزي النظرية العامة. وهذه حقيقة لاينكرها إلا مكابر؛ فان النظرية العامة هي العملة الرائجة في سوق الأفكار، وهي اللغة المفضلة في عصرنا الراهن، وهي الموضة الراقية بنظر المثقف.

واعرب الشهيد الصدر(قدس سره) عن أهمية فقه النظرية بقوله: (…تكون الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والاسلام حاجة حقيقية ملحة، خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وانسان العالم الغربي، بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية، حيث وجد الإنسان المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لابد لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات وان يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في اعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية سلبا وايجابا، لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة) ([1]).

2 – الادارة والحكم

 

مقدمة نقول: ان التكاليف الشرعية على قسمين فردية واجتماعية، ولايعرف الفرق بينهما من خلال لحاظ صيغة الافراد أو الجمع في الخطاب، بل ان الفرق ابعد من ذلك واعمق.. فهو ناشىء في مرحلة المبادىء والملاكات ويستمر إلى مرحلة الامتثال بل يتجاوز ذلك ويمتد إلى الآثار واللوازم. والعلة في ذلك تعود إلى الاختلاف بين طبيعة الفرد والمجتمع، فالمجتمع ليس هو حصيلة تصاعد كمي وعددي مسبب عن ضم فرد إلى آخر واضافته رياضيا، بل هو مركب ذو ماهية مستقلة وشخصية ذات كيان خاص وان كان غير خارج عن الافراد إلا ان الفارق بين الوجود الفردي والاجتماعي – مضافا إلى الفارق الكمي – فارق كيفي ينشأ من عنصر العلاقات المتشابكة التي تربط افراد المجتمع بعضهم ببعض. وان شئت قلت: ان للفرد حيثيتين وعنوانين: احدهما من حيث هو، والآخر من حيث هو جزء من كل.

وهذا الفرق ليس فرقا اعتبارياً بل هو فرق واقعي ينسحب ويترتب عليه جملة من الآثار، كاختلاف السنن التي تحكم كل منهما، واختلاف طبيعة الدور الذي يلعبه الفرد والمجتمع، ومجال حركة كل منهما في الحياة.

واستدل السيد الشهيد(قدس سره) على الفرق بين كيان الفرد وكيان المجتمع بالآيتين الكريمتين، وهما:

اولا – قوله تعالى: (لكل امة اجل إذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولايستقدمون) ([2]).

ثانيا – قوله تعالى: (ولكل امة اجل فإذا جاء اجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون) ([3]).

وقرب الاستدلال بقوله: (نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ان الاجل اضيف إلى الأُمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك الفرد بالذات. اذن، هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، اجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي للافراد، للامة بوصفها مجتمعا ينشىء ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابليات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة له اجل، له موت، له حياة، له حركة، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثمّ يموت، كذلك الأُمة تكون حية ثمّ تموت، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل وقانون، كذلك الامم أيضاً لها آجالها المضبوطة وقوانينها. وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل…) ([4]).

وهذا الفرق ينسحب إلى احكام ووظائف كل منهما؛ فان التفاوت بين الاحكام والتكاليف الفردية جوهري. من هنا نلمس البون الشاسع بين خطاب (اقيموا الصلاة) ([5])، وبين خطاب (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) ([6])، رغم اتحاد الصيغتين لفظا؛ فان الخطاب الأول موجه إلى فرد أو مجموعة افراد لايصدق عليهم أي جامع حقوقي فكل مكلف يمكنه امتثال هذا الأمر، بينما الثاني يقصد به الكيان والجهة. فالامة من حيث هي كيان ذات شخصية حقوقية مسؤولة عن اقامة الدين وحدوده، لا ان كل مكلف يسوغ له اجراء ذلك وتنفيذه. وليس من الصحيح تصوير الفرق بين النحوين على أساس العينية والكفائية في التكاليف؛ فان (صلاة الاموات) من الاحكام الكفائية إلا انها ليست حكما اجتماعيا. كما ان العكس صحيح أيضاً فرب تكاليف واحكام اجتماعية تكون عينية يوكل امرها إلى طائفة معينة بل إلى شخص واحد كالاحكام المرتبطة بولي الأمر.

وعلى اية حال فان الكتب الفقهية عكفت على تشخيص التكاليف الفردية – وربما بعض التكاليف الاجتماعية أحياناً – بصورة مفصلة وبيان كيفية تطبيقها وامتثالها وتفصيل شرائطها… في حين ان وظيفة فقه النظرية التصدي لمعالجة وبحث التكاليف في دائرة اوسع من الفرد، أي بحث التكاليف الاجتماعية؛ فان هذا المجال الفقهي الواسع بمستوى من الخطورة والضرورة يفوق فقه الفرد بمراتب ما دمنا نعتقد بان قيادة الإسلام للمجتمع من المسلمات اليقينية فقهيا؛ إذ من الواضح ان رسم الصورة الإسلامية في طريقة حكم وادارة المجتمع لايكفي فيه استعراض أو استنباط الاحكام الفردية أو بعض الاحكام الاجتماعية المتناثرة هنا وهناك.

ونحن نجد الفقيه لايدخر جهدا في استنباط الموقف الشرعي تجاه مسألة جزئية تطرح من قبل شخص واحد أو اثنين، فنراه لايقر له قرار حتّى يعرف حكم الله ليعرفه السائل والمستفتي. فالمأمول بالفقيه ان يبذل قصارى ما في وسعه لاستخراج الموقف الشرعي تجاه الحركة الاجتماعية العامة وكيفية توجيهها وادارتها، ولاريب في ان من جملة الحلول – ان لم نقل اقربها واقواها – هو النظرية العامة، ولا اقل من القول بأن التوفر على رؤية شاملة وامتلاك قاعدة عامة للانطلاق في معالجة قضايا حكم المجتمع وادارته وما يكتنف ذلك من ملابسات وتعقيدات خير من المعالجات المقطعية والتي تؤدي إلى الهرج والمرج واشاعة الفوضى قطعا سواء على صعيد الحاكم الشرعي الأعلى – ولي الأمر – أو على مستوى اجهزته المتعددة ودوائره المختلفة، فان مثل هذه الاجهزة تصدر يوميا عشرات القرارات..

انه من المسلم فقهيا ان هناك جملة من الحوادث تركت الشريعة أمر معالجتها إلى ولي الأمر سواء آمنا بتمامية ادلة ولاية الفقيه أو ناقشنا في ذلك وتمسكنا بحبل الحسبة؛ فانه لاشك من وجود مساحة مرنة لكي يتحرك فيها المتصدي ويحدد فيها الموقف. ومن المعلوم ان تحديد الموقف مشروط اولا: بمراعاة المصلحة العامة وثانيا : بما يكون منسجما مع مذاق الشارع. والقيد الأول احرازه عن طريق دراسة الظروف داخلا وخارجا ووعي المرحلة والتقديرات المستقبلية. واما احراز القيد الثاني فهو أمر صعب مستصعب؛ لأنه ما من حكم ولائي إلا ويتزاحم مع بعض الاحكام – سواء كانت واقعية أو ظاهرية ترخيصية أو الزامية وان كانت الترخيصية اخف اشكالا واهون – من قبيل التصادم مع مبدأ سلطنة الناس على نفوسهم واموالهم وشؤونهم الخاصة بهم، ولاسبيل للخروج من هذا المأزق إلا بتوفر ولي الأمر على رؤية واضحة ومحيطة بالاتجاهات العامة للشريعة ومذاقها – الذي هو بمثابة ملكوت الاحكام الشرعية وام الكتاب لها – فحينئذ يمكن تحديد الخطوط الحمراء التي لايمكن تخطيها بحال.

اذن فان تطبيق الشريعة كنظام يتوقف على تحديد الاتجاهات العامة للتشريع.. والا تكون التجربة ساذجة ومتعثرة تحكم على نفسها بالفشل.

يقول(قدس سره): (لابد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ليصل إلى النظريات الاساسية، لا ان يكتفي بالبناءات العلوية والتشريعات التفصيلية، بل ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية إلى النظريات الاساسية والتطورات الرئيسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام؛ لاننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتطورات.

ففي مجال الحياة الاقتصادية ترتبط تلك الاحكام بنظرية الإسلام بالمذهب الاقتصادي الإسلامي، وفي مجال النكاح والطلاق وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الاساسية عن المرأة والرجل ودور كل منهما. هذه النظريات الاساسية تشكل القواعد النظرية لهذه الابنية العلوية، لابد من التوغل عموديا أيضاً إليها، ومحاولة اكتشافها بقدر الامكان) ([7]).

ونحن نلمس الحاجة الماسة إلى فقه النظرية في عدة مجالات عملية، منها مايلي:

المجال الأول: التقنين: وهذا ما يمكن ان نتصوره على مستويين:

المستوى الأول: تحديد الأسس الكلية للقوانين بصورة اجمالية، أو ما يصطلح عليه بالدستور. ومن المعلوم اننا لو قصرنا النظر على دائرة الاحكام الفرعية والفردية ولم نتقدم خطوة إلى الامام في اقتناص النظريات العامة فسوف نعجز عن اراءة الحل الاصيل، ولانهتدي إلى تحصيل الاتجاهات والبنى التحتية التي تقف عليها كل التفاصيل والفروع، فمثلاً كيف يمكن تحديد الرؤية الإسلامية تجاه تحديد وظائف كل من القوى الثلاث العليا: وهي القوة المقننة والقوة القضائية والقوة التنفيذية، وهل انها تعمل مستقلة أو غير مستقلة بعضها عن بعض؟

ان الرؤية الشاملة أي فقه النظرية سيعين كثيرا في تقديم الاجابة المتينة وبشكل محدد تجاه هذه المسائل واشباهها.

المستوى الثاني: سن القوانين والانظمة التفصيلية اللازمة لادارة المجتمع: فمع رفضنا للفقه الوضعي وما يتبنى من تقنيات. كيف يمكن تأمين هذه الحاجة وملء الخلأ؟! فهل من المعقول الاستغناء عن نظام التربية والتعليم أم هل يمكن غضّ النظر عن نظام البلديات أم هل من المعقول إغفال التخطيط الصحي أو الاقتصادي أو الأمني، أم هل يمكن إهمال تنظيم الجيوش والقدرات الدفاعية وسائر الدوائر؟! فَهل ان الدولة الإسلامية شرعا مسؤولة عن تعليم افراد المجتمع وتوفير امكانات ذلك؟

هل ان من واجب الدولة تقديم الخدمات الصحية؟ وبأي مستوى وكيف؟

هل ان للدولة الإسلامية جهازا أمنياً، وماهي حدود صلاحياته وكيف يمارس نشاطه؟

هل ان سن الخدمة العسكرية الاجبارية أمر سائغ شرعا أو لا؟

وغير ذلك من الاسئلة الكثيرة المنبثقة من صميم الواقع الاجتماعي. ان كثيرا من هذه الظواهر والاسئلة لانمتلك اجوبة واضحة عنها، وأنّى لنا بالاجابة مع عدم امتلاك صورة محيطة على الموقف العام والنظرية العامة.

فان ما لدينا من الأحكام الفرعية والفردية – مع قلتها وعدم نظرها إلى هذه الزوايا – سرعان ما تتآكل بسبب ما تبتلى به من تزاحم، فلو تصدينا مثلا لمعالجة النظام المصرفي من خلال ما نمتلك من احكام فرعية فقط كحرمة الربا. فيا ترى هل يحالفنا التوفيق في تقديم النموذج الناضج! الحق: اننا ما لم نكتشف التكييف الشرعي للمعاملات المصرفية على ضوء النظرية الاقتصادية العامة وفي ظل التصور التام حول الثروة وحقيقة المال وسائر العناصر المقوّمة لحركة الاقتصاد فستنحسر الحلول في عمليات الترقيع والترميم.

وربما سعى بعض الفقهاء لحل المشكلة من زاوية النظر إلى الفرد، فيتفنن في تصيد طريق شرعي – ولو صوري ومتكلف – غير ملتفت إلى ان هذه مجرد عمليات تسكين لاترقى إلى مستوى الحل؛ ولذا نرى المكلف يستلم فتاوى لا ترضي وجدانه، لأنها معالجات مقطعية تنظر إلى المراد الشرعي بعين واحدة ومن افق ضيق.

المجال الثاني: النظام القضائي والحقوقي: فان التعامل مع باب القضاء والحقوق طبقا للاحكام الجزئية والحدود والديات وبعض الابواب المتفرقة لايؤمن لنا العدالة المنشودة، بل ربما يؤول الأمر إلى اشاعة الفوضى واختلال النظم العام؛ لان كل مجتهد يقضي وفق اجتهاده فتجد الحالة الواحدة لها أكثر من معالجة نتيجة لاختلاف في الاجتهاد. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموقف تجاه وسائل الاثبات وطرق التحقيق والاستجواب. وهل هناك مجال لاعطاء حق الدفاع وجعل الوكيل الحقوقي من قبل الفرد. وكيفية التعامل مع نظام العقوبات البدنية أو المالية أو الحقوقية أو السياسية. وعشرات المسائل الأخرى التي لو لوحظت مستقلة لانتهينا إلى نتائج غير متسقة واذا لوحظت كأجزاء من كل أو جزئيات لكلي لأعطت نتائج ليست مقصودة وغير مرضية للشارع.

هذا كله بالنسبة إلى الجانب التشريعي من عملية القضاء واما بالنسبة إلى تحديد كيفية اجراء الاحكام وسير الدعاوى والجانب التشريفاتي فهذه أيضاً حاجة أخرى ترجع إلى مجال التقنين.

المجال الثالث: التنفيذ: فان طريقة تطبيق النظرية الإسلامية على ارض الواقع قد يكون بطرق عديدة، فان انتخاب أي طريق من هذه الطرق قد يتم على ضوء النظرية العامة، فهي قد تلقي باشعاعاتها على طريقة الاجراء أيضاً.

ففي اطار تحديد النظام البنكي نلمس مدى التأثير الذي تتركه النظرية العامة على ذلك، يقول الشهيد الصدر(قدس سره): (من الواضح ان الإسلام لايقر البنك الرأسمالي بصورته التي شرحناها؛ لأنه:

اولا – يتناقض مع احكام الشريعة الإسلامية والقانون المدني للفقه الإسلامي التي حرمت الاقراض بفائدة.

وثانيا – يتناقض مع أسس الاقتصاد الإسلامي وروحه العامة في توزيع الثروة واستثمارها… فلا يكفي فقط التخلص من التناقض الأول، بل لابد من حل كلا التناقضين بين البنك الرأسمالي والاسلام لكي نحصل على بنك إسلامي حقيقي يشكل جزءا اصيلا في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلامي، وليس مجرد عملية ترقيع للبنك الرأسمالي… وبدلا من استخدام وسائل رأسمالية في انجاز المهمة الموضوعية يستخدم البنك في المجتمع الإسلامي وسائل ذات طابع إسلامي في هذا المجال، وبذلك يحصل المجتمع على المكاسب الموضوعية للنشاط المصرفي في الحياة الاقتصادية ولكن في اطار المذهب الاقتصادي الإسلامي ووفقا لمقولات الحياة الإسلامية، ويعبر ذلك في الحقيقة عن تحول عظيم في طبيعة النشاط المصرفي.

ويمكن تلخيص هذا التحول في النقاط التالية:

اولا – ان عملية تجميع الاموال وتوظيفها تتولاها في المجتمع الإسلامي الدولة نفسها عن طريق بنك رسمي، ولايسمح بالاستثمارات المصرفية في القطاع الخاص، وبهذا ينفصل الهدف التنموي لهذه العملية عن مغزاها الرأسمالي؛ إذ تصبح عملية تجميع الاموال عملية اجتماعية تنوب فيها الدولة – بمعنى من المعاني – عن اصحاب الاموال انفسهم. واي قدرة جديدة يخلقها هذا التجمع لن تكون ملكا لفرد أو افراد محدودين، كأولئك الذين يسيطرون على النشاط المصرفي ويمسكون بزمام الحياة الاقتصادية كلها في المجتمعات الرأسمالية.

ثانيا – ان الدولة لاتعتمد في تجميع الاموال والكميات المبعثرة أو المدخرة من النقود على الاغراء بدخل ثابت تحت اسم فوائد، كما تصنع البنوك الرأسمالية، وانما تنطلق في رسم سياستها في هذا المجال من التركيب بين حقائق أو قضايا مستمدة من مذهبها الاقتصادي ومستوحاة من الروح العامة للتشريع الإسلامي) ([8]).

وبعد ان اوضح الشهيد(قدس سره) تلك القضايا والحقائق المستمدة من المذهب الاقتصادي قال: (بعد ان حددنا – في الفقرة السابقة – المركب النظري الذي يعتمده البنك في المجتمع الإسلامي اساسا لممارسة مهمته الموضوعية ودوره في الحياة الاقتصادية نستطيع ان نتعرف على الطريقة التي تمكن البنك الإسلامي من تجميع الكميات المتفرقة من النقد بدون اغراء بالفائدة الربوية ولااستعمال للاساليب الرأسمالية…) ([9]).

المجال الرابع: القرارات المصيرية: إذ لاريب في تعرض الأُمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي إلى حالات عصيبة وازمات داخلية أو خارجية على اصعدة مختلفة، وفي مثل هذه الحالات اما يكون الموقف من ولي الأمر موقفا متخذا على أساس المصالح الدنيوية والخبرة الخاصة والمهارة الذاتية، واخرى ان يضاف إلى ذلك الخطوط العريضة التي تعين أو ترجح موقفا معينا على غيره.

3 – الاجتهاد والافتاء

ان فقه النظرية بمقدار ما يساهم في تكوين نظرة متكاملة وتحصيل رؤية شاملة سوف يدخل بنفسه كعنصر مؤثر في استنباط الاحكام الفرعية أيضاً؛ فان النظريات العامة تعطي للادلة الشرعية بعدا جديدا شأنها في ذلك شأن اية قاعدة فقهية أخرى لكن بأفق ارحب واوسع، وبذلك يتطور لدينا مفهوم القاعدة الفقهية، وتبرز موارد جديدة لها. هذا من جانب ومن جانب آخر ان فقه النظرية سينفع باتجاه تفعيل عملية الاجتهاد وادخال عنصري الزمان والمكان في الاستنباط. وانت خبير بان اخضاع عملية الاجتهاد لتأثير الزمان والمكان مطلقا ومن دون وضع حدود يعني مسخ الشريعة ومحقها، إلا اننا يمكننا تحصين الاجتهاد من تلك الاخطار بفقه النظرية الذي هو بنيان مرصوص وحصن واق.

وأيضاً من جملة الآثار التشريعية معرفة مدى الموافقة أو المعارضة مع الروح العامة للكتاب، فقد ذكر الفقهاء في بعض الابواب كالشروط والاصوليون في باب التعارض مقياسا وهو عدم مخالفة الشرط أو الحديث مع الكتاب الكريم، والا فيسقط الشرط وكذلك يسقط الحديث عن الاعتبار عند المخالفة.

والتفسير المشهور لذلك : ان كل حديث لايكون في القرآن دلالة – ولو بالعموم أو الاطلاق – توافق مدلوله وتشهد عليه لايكون مقبولا ([10]).

وفي قبال ذلك اختار الشهيد الصدر(قدس سره) بأنه ليس المراد من المخالفة والموافقة المضمونية الحدية مع آيات الكتاب، بل انها تشمل حالات المخالفة مع الروح العامة للقرآن الكريم، وما لاتكون نظائره واشباهه موجودة فيه.

ويكون المعنى حينئذ ان الدليل إذا لم يكن منسجما مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج احكامه العام لم يكن حجة، فمثلا لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس وبيان خستهم في الخلق أو انهم قسم من الجن، قلنا ان هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنسا وحسبا ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت اصنافهم والوانهم. واما مجيء رواية تدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحث على التوجه إلى الله والتقرب منه عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان. وهذا يعني ان الدلالة الظنية المتضمنة للاحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لاصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة، خصوصا إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه ([11]). ولاريب في ان النظرية العامة تكشف النقاب عن هذه الروح العامة للقرآن.

تأملات في فقه النظرية العامة

هناك جملة من التساؤلات تواجه البحث حول النظريات العامة في الإسلام:

التأمل الأول – ان البحث حول فقه النظرية العامة مبني على مصادرة وفرض وادعاء بحاجة إلى اثبات، فمن قال ان الشريعة تشتمل على نظرية عامة أصلاً؟ فلعل الشريعة تتصف بمنهجية خاصة، فلاينبغي ان نقيسها بالمدارس والاطروحات الأرضية.

والجواب: ان لدينا ارتكازا متشرعيا له مبرراته الموضوعية منعقد على ان الإسلام يمتلك مواقف في مختلف مجالات الحياة؛ باعتبار ان الإسلام جاء للتطبيق والعمل، ولم يكن كالمسيحية التي باتت مجموعة طقوس وعبادات، فهناك ملازمة بين ضرورة تطبيق أحكام الله وشريعته وبين امتلاك الشريعة ملاكات كبروية تجمع شتات تلك الاحكام الفرعية وتلم شعثها.

وكما قلنا ان هذا الارتكاز لم ينشأ صدفة، بل له أسباب موضوعية، فان الشريعة نفسها قد صرحت ببعض الخطوط العامة للتشريع من قبيل:

1 – نفي الضرر، فان ذلك يعتبر قاعدة مهمة وشاملة للشريعة بكل ابعادها.

2 – نفي العسر والحرج، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج). وهذه القاعدة القرآنية تعطي ضابطا كليا لجميع التكاليف الشرعية، وان الله لايشرع حكما فيه حرج ومشقة وضيق على المكلف.

اذن هناك ملاكات عامة وكلية تكون ملحوظة من قبل الشريعة، وهذا ما يكون شاهدا ومؤيدا على استناد الشريعة إلى مرتكزات عامة تنطلق منها في امتداداتها وتشريعاتها الفرعية الكثيرة..

ونحن نرى الفقهاء في بعض الموارد يؤيدون استدلالاتهم ويدعمونها بمذاق الشارع، والمراد بمذاق الشارع هو ذلك الارتكاز الذي ينخلق تدريجا لدى الفقيه من خلال ممارسة الشريعة بالاتجاه العام لها في مجال من المجالات.

لذا فلا وجه للتشكيك في اصل وجود اتجاهات عامة للتشريع في الجملة، إنّما الكلام في كيفية الوصول إليها وكيفية اكتشافها، وهل هذا الانكشاف يصل إلى حد اليقين أو الظن وماهو مقدار حجيته.

 

التأمل الثاني – قد ينطلق بعض الاستصحابيين في رفضه وعدم قبوله هذا المنهج من شبهة الحداثة والعصرنة وتوهم عدم اصالة هذا النمط من التفكير وانه منهج دخيل على الفقه واصول الشريعة؛ فمن يتخذ هذا السبيل لاضمان لصحة ما ينتهي إليه من نتائج. فهو لاينجو من الوقوع في محذور المخالفة الدينية وتقليد الأفكار المستوردة ومحاكاة ما ابتدعه الوضعيون من قوانين ونظريات عامة لتنظيم الحياة انطلاقا من توجهاتهم المادية وتصوراتهم الخاصة، والنظر إلى الأمور دائما بعين واحدة. والا فلا عين ولا اثر لذلك فيما بين ايدينا من كتب ومصنفات علماء الإسلام بشتى مذاهبهم وبمختلف اتجاهاتهم.

والجواب: ان المعيار في الحكم على أمر بكونه اصيلا اولا هو صحة الاسناد والنسبة إلى الشريعة فبعد قيام الدليل المحكم على قضية من القضايا يصح وصفها بالاصالة وكونها منتمية إلى الشريعة، ولا عيب في اسنادها ونسبتها إلى الدين الحنيف حينئذ. فليست الأصالة مساوقة للقدم ولا الحداثة تساوق الابتداع، فكم من بدعة قديمة عاشت بين الناس دهورا وعشعشت في اذهانهم، وكم من فكرة حقة باتت خافية على الكثير حتّى التفت إليها المتأخرون. وكم ترك الأول للآخر.

فاننا لو رجعنا إلى الشريعة واستنطقناها وامكننا تحصيل بعض الخيوط لنسيج نظرية مستقاة من معين الأدلة الشرعية فأية غضاضة في ذلك؟! وهل ان التصدي لاكتشاف عناصر القوة في الفقه المعطاء يعد أمرا مستهجنا؟! وهل هذا إلا رجوع إلى تلك المقولة المشؤومة الداعية إلى تعطيل الفكر وغلق العقل بمغاليق التحجر واقفال الذيلية غير المشروعة؟! وتعطيل الذهن ومنعه من الكدح لتحصيل اليقين بامتثال شريعة الله واحكامه والفوز بمرتبة الطاعة له سبحانه واتباع سبيله وخطه.

صحيح ان الأفكار الوافدة من الغرب كان لها دور ملحوظ في اثارة البحث والتساؤل عن النظريات العامة في الإسلام مما فتح باب البحث في ذلك على مصراعيه، إلا ان ذلك مجرد حيثية تعليلية لهذا النمط من البحث العلمي في داخل الاطار الإسلامي، لا ان تلك الاثارات صارت حاكمة على الذهنية الإسلامية واخذت تسيرها باتجاهها. وهذا غير دعوى عدم اصالة هذا المنهج وكون فقه النظريات العامة فكرة دخيلة وقالب مستورد من الغرب.

أجل، انه مجال خطير يمكن ان تزل فيه الاقدام فلايسوغ لكل احد اعطاء الرأي، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك مفصلا، بل لابد للباحث من التوفر على ما يعصمه من الانزلاق، فعليه الاحتياط التام كما يحتاط في الفتيا في الفروع الجزئية، بل ان الأمر هنا اخطر واهم بمراتب. كما انه لابد من اعداد المقدمات اللازمة قبل البت في شيء، ولابد من تقنين عملية اكتشاف النظريات العامة، لتحاشي الاخطار والاضرار المتوقعة، ولابد من ان تتم هذه العملية ضمن أهل الاختصاص الفقهي وضمن مؤسسة الافتاء.

التأمل الثالث: لماذا اقتصر النبي o في بيان الاحكام الفرعية المتداولة ولم يشر إلى تلك النظريات العامة لامن قريب ولامن بعيد (وما على الرسول إلا البلاغ) فلو كان في الشريعة للنظريات العامة وجود فلماذا لم يعتن بها الاعتناء المناسب ولم تلق ذلك الاهتمام من قبل الشارع نفسه، سيما وان النبي الاكرم o قد خاض تجربة تطبيق الإسلام واجراء الشريعة، فبالرغم من انه أسس دولة لم يطرح الإسلام على شكل نظريات عامة، إلا يكفي ذلك دليلا على عدم وجود مثل هذه الأفكار والنظريات في الشريعة؟!

والجواب: ان البيان الشرعي النبوي لاينحصر باللفظ، لذا نرى الاصوليين قد قسموا السنة النبوية الشريفة إلى ثلاثة اقسام: سنة قولية، وفعلية وتقريرية.

ولو سلمنا بهذا الاشكال فانه يسري إلى كثير من عمليات الاستنباط التي تعتمد الأدلة اللبية بل حتّى الأدلة اللفظية، باعتبار ان الأدلة ليست كلها نصا في المراد بل قد تكون بمستوى الظهور، وقد يكون هذا الظهور ليس ظهورا بسيطا بل يحتاج إلى دعمه اقامة قرائن متعددة، وربما تستلزم عملية اكتشاف الموقف الفقهي عملية تجميع حشد كبير من الأدلة ومن مجموعها تتم عملية الاكتشاف.

وقد اشار احد كبار المفكرين والمنظرين لفقه النظرية إلى هذا الاشكال وتصدى لرده قائلا: (ان النبي o كان يعطي هذه النظريات، ولكن من خلال التطبيق ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة الإسلامية، وكان كل فرد مسلم في اطار هذا المناخ يفهم هذه النظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا؛ لان المناخ والاطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي رسمه النبي o كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث) ([12]).

ثمّ قال (اذن، الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول o إذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم) ([13]).

 

الهوامش:

([1]). المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 13: 40-41.

([2]). يونس: 49.

([3]). الاعراف: 34.

([4]).المدرسة القرآنية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 3: 52-53.

([5]). الانعام: 72.

([6]).المائدة: 38.

([7]).المدرسة القرآنية ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر13: 38.

([8]).الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي، ضمن المجموعة الكاملة المؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 12: 193-197، ط – دار التعارف.

([9]).المصدر السابق: 199.

([10]).انظر: تعارض الأدلة الشرعية: 319.

([11]).انظر المصدر السابقّ 333-334.

([12]).المدرسة القرآنية – ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 13: 39.

([13]).المصدر السابق: 40.