المسلمون في الأقطار غير الإسلامية حقوقهم، واجباتهم، مشاكلهم وحلولها

المسلمون في الأقطار غير الإسلامية حقوقهم، واجباتهم، مشاكلهم وحلولها

 

 

المسلمون في الأقطار غير الإسلامية حقوقهم، واجباتهم، مشاكلهم وحلولها

 

  

محمد مختار السلامي

عضو الهيئة الادارية للاتحاد العام التونسي

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد

فقد قبلت دعوة كريمة من سماحة الشيخ محمد علي التسخيري حفظه الله الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بإيران للمشاركة في الدورة التاسعة عشرة للمؤتمر الدولي للوحدة الإسلامية هذه الدورة التي اختارت أن تتوجه عناية الباحثين والمشاركين فيها إلى التعمق في موضوع (المسلمون في الأقطار غير الإسلامية حقوقهم - واجبا تهم. مشاكلهم وحلولها) ويسعدني تلبية الدعوة مع الشكر والتقدير، وأن أسهم بما ييسره لي الفتاح العليم من تصور للمشاكل وحلولها: المحور الثالث، حسب التفصيل البياني الملحق بالدعوة .

 

أهمية الموضوع

يقول الله تعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(([1]) تقرر الآية حقيقة من حقائق الدين أن علاقة المؤمن بالمؤمن تفرض أن كل واحد منهم هو ولي للآخر ،  اتحدت الدار أو بعدت تقاربت الأعراق أو اختلفت، على اعتبار أن الوحدة الجامعة المقدمة في العلاقات والتصور هي وحدة العقيدة الإيمانية، بما تحمله كلمة الولي من معان، يقول الزبيدي: والولي له معان كثيرة فمنها المحب وهو ضد العدو، اسم من والاه إذا أحبه . ومنها الصديق، ومنها النصير من والاه إذا نصره، والولي الصهر وكل من ولي أمر واحد فهو وليه([2]) وعن ابن الأثير: وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لا يطلق عليه اسم الوالي([3]) هذه الشحنة من المعاني ـ الحب ـ والصداقة - النصرة ـوالرابطة التي تحصل بين الأسرة المتباعدة بواسطة المصاهرة - والجمع بين التدبير والقوة والفعل ـ جمع القرآن بينها كلها في كلمة واحدة، وذلك من إعجازه في تخيره للألفاظ الغنية التي تثير في النفس مجموعة كبرى من الدلالات يكون الارتباط بينها أقوى عندما يعبر عنها بلفظ واحد، مما لا يحصل لو أفرد كل مدلول بلفظ خاص.

وقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الدلالات، شأنه في قيامه بالبيان التفصيلي لما انتظمه النص القرآني من ثري المعاني فقد أخرج البخاري ومسلم واللفظ للبخاري قال صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه )لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه بل ينصره) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة([4]).

وأخرج البخاري عن أنس و مسلم عن جابر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: تأخذ فوق يده.([5])

كما أخرج البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.) علق عليه ابن أبي جمرة: إن الذي يظهر أن التراحم والتواد والتعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف:فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل للمحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب عليه ليقويه به. ([6])

ومن هذه المقدمة المختصرة يتبين أن هذا الموضوع يعتبر من أولى ما يتحتم أن تنصرف له عناية المسلمين بالبحث وبالعمل على مساعدة إخواننا الذين هم أقلية في البلدان التي يقيمون فيها.

 

 تعريف الأقلية

الأقلية في الأنظمة الاجتماعية مصطلح جديد لا نجد له ذكرا في موسوعات اللغة العربية . وأقره مجمع اللغة العربية وشرحه: الأقلية هي خلاف الأكثرية. ([7])

وقد عرفتها الموسوعة الفرنسية:إن الأقلية هي مجموعة من الأشخاص تكون جزءا من الشعب، ولكنها تختص باعتقادها أنها تملك مقومات ذاتية تختلف بها عن بقية الشعب . وتتنوع الأقليات إلى أقليات لسانية كالكتلان والباسك في إسبانيا، وإلى أقليات دينية كالمسلمين في بلغاريا، وإلى أقليات عرقية كالرومس في رومانيا (2004.(Encarta-

فالأقلية ما تحقق فيها العناصر الآتية:

1)    أن تكون جزءا من الشعب، فالأقلية لا تطلق على المقيمين في بلد لا ينتسبون إليه . فالطلبة الأجانب الذين يلتحقون ببلد لا يعتبرون أقلية ما داموا يحملون جنسيات بلدانهم ويخضعون في إقامتهم إلى ترخيص .فهم ليسوا من الشعب الذي يدرسون في معاهده العلمية، ولا يطلق عليهم مصطلح الأقلية .

2)    أن تؤلف بين هذه الجماعة مقومات ذاتية تختلف بها عن بقية الشعب الذي تعيش في وسطه .

3)     أن تكون هذه المقومات متمكنة تمكنا تجعل أصحابها مقتنعين بأنهم بما لهم من تلكم المقومات هي مختلفون من تلكم الناحية عن بقية الشعب .

4)     أن تكون داخل الحدود الوطنية للشعب الذي تقيم بين أظهره .

5)    أن ما تتميز به يوجب لها الحق في الاحتفاظ به باعتباره المحقق لهويتها حتى لا تذوب في المجموعة الكبرى .

وإن التحقيق يدعونا إلى ضبط أمر هام مبناه هو: هل إن الأقلية هو القسم من الشعب الذي يكون عدد أفراده أقل، على معنى أن الأقلية هي دائما الأقلية العددية ؟

إن الأنظمة الديموقراطية التي تزداد انتشارا في العالم تقوم على أن الأكثرية التي تتفوق في الاقتراع العام هي الجديرة بقيادة الشعب سياسيا وتنفيذ منهجها في الحياة، وبناء على ذك فإن الأقلية هي التي تفشل في الاقتراع لأن مجموع ما حصلت عليه من أصوات أقل من الأصوات التي حصل عليها الفائز .ولكنها مع ذلك هي غير مقصودة بمصطلح الأقليات، وذلك لأن المنهزمين ولو بواحد من الألف لا يدعون أنهم يملكون خصائص ذاتية يختلفون بها عن الآخرين، وإنما الخلاف في المنهج السياسي والأطروحات التي يقدمها كل طرف للناخبين.

 

الخلفية التاريخية لحقوق الأقليات

استعرت الحروب الدينية في أوروبا بين البروتستان والكاتوليك مما تولد عنه ظهور بنود في المعاهدات الدولية تنص على حماية حقوق كل طائفة  لا تمثل الأغلبية في الدولة التي تقيم فيها .وفي المؤتمر المنعقد في باريس سنة 1856 في أعقاب حرب القرم، تضمنت تلكم المعاهدة التراتيب الواجب اتخاذها لحماية المسيحيين في تركيا .

ثم إنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى تم كما هو معروف تقسيم العالم الإسلامي بالألوان لتستبد إنكلترا بما نشرت به إمبراطوريتها إلى أطراف بعيدة في الأرض، ولتتوسع فرنسا في هيمنتها الاستعمارية فكانت (معاهدة سايكس بيكو ) وانبنى التقسيم على مصالح استراتيجية للدولتين دون نظر إلى التركيبة العرقية ولا النظر إلى المعطيات التاريخية والثقافية والحضارية، مما تولد عنه وجود أقليات داخل الحدود المفروضة بقوة تلكم المعاهدة .

حاولت عصبة الأمم أن تضع نظاما أساسيا يحقق حماية الأقليات ويحفظ هويتهم الخاصة دون أن يؤثر على انتمائهم للدولة التي يقيمون داخل حدودها، ولكن هذا النظام لم يحقق أهدافه المرجوة منه، وقُضي عليه في المهد وذلك لعجز عصبة الأمم عن تنفيذ قراراتها .

ثم إنه بعد الحرب العالمية الثانية عاودت حقوق الأقليات الظهور على المسرح السياسي، فاعتنت بها منظمة الأمم المتحدة باعتبار أنها من متعلقات حقوق الإنسان التي أولتها المنظمة عناية كبيرة . واعتمدت حقوق الأقليات على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 كما اعتمدت على القرارات الصادرة عن اللجنة الفرعية لمقاومة الإجراءات التمييزية والقيام بحماية الأقليات، وقد تأسست هذا اللجنة سنة 1947 داخل هياكل هيئة حقوق الإنسان .

 لقد كان لقراراتها أثر محمود على النطاق العالمي فاستلهمتها بعض الدول فيما يخص تعاملها مع الأقليات، وأمكن بفضل اعتمادها حل بعض المشاكل التي ظهرت داخل حدودها.

ومع ذلك فإن هذه القرارات تبدو غير كافية لأنها لم تتبع بآلية تفرض احترامها وتنفيذها. كما أنه عند التطبيق يلاحظ أن الإدانات التي تدين بها الأمم المتحدة دولة من الدول لعدم احترامها لحقوق الأقليات تكون مرتبطة في كثير من الأحوال بخلفية سياسية تحقق بها الدول الكبرى مصالحها، ويتسلط العتاب والتنديد والتشويه على الدول الضعيفة، دون الدول القوية المستبدة التي تبقى بمنأى عن التتبع . وهذا الانحياز وعدم العدالة في المواقف أضعف تأثيرها لدى الرأي العام.

 ثم إن الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان سار خطوة إلى الأمام، وذلك لتضمنه ما يمكن الأفراد المنتسبين للأقليات داخل أوطانهم الأوروبية إذا انتهكت حقوقهم، بعد القيام بالإجراءات القانونية في أوطانهم، من أن يرفعوا قضاياهم إلى المجلس الأوروبي لينصفهم ويحمي هويتهم حماية ينقذها من مخالب التذويب والانصهار القسري  (2004 ـ Encarta) ولكن هذه التنظيمات داخل المجلس الأوروبي متوقفة على إجراءات معقدة ومكلفة مما يحد كثيرا من فاعليتها .

يتجلى من هذا العرض السريع تطور حقوق الأقليات في القرنين الأخيرين عالميا، ويتجاذب هذا الواقع أمران:

 أولهما: قيام رجال مؤمنين بالكرامة الإنسانية يظهرون مقتضياتها، ويدافعون عنها، ويشرحون تفصيلاتها، ويقدمون للمجتمع الدولي في مؤسساته الصورة المثلى التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات البشرية، ومعاملة الإنسان كإنسان من السلطة التي تحكم المتساكنين في الوطن الواحد.

ثانيهما: قيام قوى متسلطة ومستكبرة لا يهمها إلا بسط سيطرتها على تلكم الأقليات، أو استخدام تلكم المبادئ النبيلة لأغراض سياسية تمكن لهيمنتها المتغطرسة على بعض الدول لابتزازها، والتدخل في شؤونها الداخلية .

 

التطبيق السيئ لحقوق الأقليات

رفعت الأقليات الشاذة سلوكيا شعارات حقوق الأقليات، وكشفت عن وجهها القذر، محاولة أن تعتمد المبادئ الإنسانية الرفيعة مبررا لانحرافها. فقد أخذت جمعيات الشاذين جنسيا من حقوق الأقليات غطاء لفسادها، وتحصنت بها كقوة تَظهر به في العلن مطالبة بأن يكون لها كيانها المعترف به قانونيا واجتماعيا . وأقول: إن البشرية تدمر نفسها كلما فقدت الرابطة التي تربطها بالله وأقفرت أرواحها من الإيمان، فيتعرض الخير إلى انتكاسة ومسخ وينقلب شرا.

وناحية أخرى هي التشويه الإعلامي - إن أجهزة قوية تابعة للدول العظمى تقوم بضجة كبرى منوهة بحقوق الأقليات، وتبالغ في تشويه سمعة من ينتهكها من الدول الضعيفة في ميزان القوى الدولية، فتعد بذلك الرأي العام العالمي للانحياز إلى ما ترغب الدول العظمى في تحقيقه من غايات تسلطية بناء على تلكم الانتهاكات المقيتة فعلا، ولكن هذه الأجهزة الإعلامية تخرس عن كشف الانتهاكات الأخزى التي تقوم بها الدول القوية وعن تسلطها الغشوم‌ التمييزي على الأقليات داخل حدودها.

ووجه آخر ما عرفت له البشرية نظيرا في تاريخها الطويل، هو مأساة فلسطين، التي تآمرت فيها الصهيونية العالمية مع قوى البغي والشر في العالم فعملت على طرد السكان أصحاب الديار والأرض، وأحلت محلهم شتاتا من مختلف الجنسيات والأعراق، وما تزال تنمي من عدد الوافدين الغرباء بتيسير إقامتهم واحتلالهم للأراضي التي سقاها الفلسطينيون من عرق جبينهم وأودعوها قوى سواعدهم وأحبلوا أرضها بالزيتون والأشجار المثمرة والمزارع المختلفة الأنواع، وللمساكن التي بنوها وولدوا فيها وعاشوا في غرفها من الأجداد البعيدين إلى الأحفاد الحاضرين، وتوصد الأبواب في وجوههم فتحرمهم بقوة السلاح والجبروت من أن يدخلوا إلى الأراضي الفلسطينية، وبالمقابل تبحث عمن يزعم أنه يهودي فتغريه بالاغتصاب، وتفرش له الأرض بالدولارات وبالأموال التي ما يزال الصهاينة في العالم يستحوذون عليها بالأساليب الماكرة .وتقوم ديموقراطية الكيان الصهيوني على اعتبار الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين الذين كانت لهم من العزائم ما هو فوق الوصف، وصمدوا على الأذى وبقوا في داخل الحدود المسلوبة، اعتبارهم مواطنين من الدرجة السفلى أقل قيمة وأقل حظا من يهود الشرق والفلاشا . وهذا ما يعرض الأمن والسلام العالميين للخطر. إنه حسب قوانين الكون - الضغط يتبعه الانفجار -

 ووجه آخر: الكوامن التي كانت خفية مستورة واستبطنها أصحابها ولم يستطيعوا إعلانها، قد اتخذوا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر مبررا للجهر بها، فرفعوا تلك الأقنعة وجاهروا بعداء الأقليات الإسلامية والمسيحية الواردة من الشرق الأوسط الذين اتخذوا من الولايات المتحدة موطنا جديدا لهم شأنهم شأن جميع الوافدين على هذه القارة الجديدة. مع أن المسلمين والمسيحيين الواردين من الشرق على الولايات المتحدة، هم من الجادين وأصحاب العزائم الذين أسهموا في تطور الولايات المتحدة ورخائها .

 إن طغيان الولايات المتحدة بعددها وقوتها وعملها على سحق الشعب الفلسطيني قد احتقن ذلك في طوايا النفوس، فكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر شظية من شظاياه . وهو ما يؤكد ما قلته سابقا من أن الضغط الظالم يولد الانفجار الذي يذهل الضاغط عن عواقبه . وإن السلام العالمي يبقى مهتزا معرضا للانهيار ما دامت القوة العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية ) ممعنة في قلب الحقائق بجعل الظلم الصهيوني عدلا، والحق الفلسطيني ظلما، والمطالبين بحقوقهم في ديارهم التي طردوا منها وفي أراضيهم،المجاهدين ،إرهابيين، وما دام العسف الصهيوني وأنياب رئيس وزرائه ومخالب قواد جيوشه والآلة العسكرية الطاحنة يقلبها الظلم إلى سلام، ودفاع الفلسطيني عن حقوقه يعتبر إرهابا حتى من بعض من ينتسبون إلى الأمة الإسلامية ويمسكون بمقاليد السلطة السياسية أو القوة القلمية النافذة .

 

موقفنا من تلكم المبادئ

إن تلك المبادئ التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة ووثقتها   تحمل خيرا كبيرا إذا أحسنت الدول الصغيرة التكيف معها باحترامها في أوطانها، وبالتوحد لإقرارها واقعيا لحماية كرامة الإنسان حيثما كان في إطار القيم والمعايير الخلقية السليمة .

إن انتصار هذه المبادئ وإن كان يبدو بعيدا الآن عن التحقق بفعل الغطرسة للدول القوية، إلا أن إعلانها وتذكير البشرية بها والعمل على غرسها في تربية النشء وفي ذاكرة المجتمعات، ووفاء وسائل الإعلام لها بالتنويه بها والتشهير بمن ينتهكها، يقرب ولا شك اليوم الذي تتحقق فيه، وهو ما يجعلني متفائلا غير متشائم من إمكان تطور العالم نحو الخير الذي تحترم فيه حقوق الأقليات كما تحترم حقوق الأكثرية .

 

تنوع المشكلات التي تواجهها الأقليات الإسلامية

إن المشكلات التي تواجهها الأقليات الإسلامية ليست على نمط واحد . بل هي متنوعة تبعا للأعراق، والمستوى الثقافي، والرأي العام الذي يسود بلد الإقامة بين بلد متفتح على الآخر وبلد رافض للآخر، وبين ذلك وجوه كثيرة من التعامل والمشاكل التي تتولد عنها، ومشاكل الوافدين المنتقلين من بلدانهم غير مشاكل ذريتهم التي ولدت في الموطن الجديد .كما أن الأقليات الإسلامية تختلف مشاكلها تبعا لما يحمله المهاجرون المستوطنون في مستقرهم الجديد معهم، من أعراف بلدانهم وتقاليدها ومذاهبهم الدينية وقيمهم الاجتماعية فيها.وهذا التنوع يجعل البحث بطريقة نمطية تحشر كل الأقليات في إطار واحد مجافيا للحقائق وللدقة من ناحية، ويجعل التصور لجميع المشاكل والظفر بحلولها أمرا صعبا جدا. وقد يكون التقرير الذي يتألف من بحوث السادة المشاركين هو الذي يقربنا إلى تصور أقرب إلى الصدق وإلى اقتراح الحلول المناسبة .

 

أولا-المسلمون الذين دخلوا حديثا في الدين الإسلامي

ينتشر الإسلام في جميع بقاع الأرض انتشارا يضعف أو يقوى تبعا لعوامل كثيرة، ليس هذا مكان رصدها و تحليلها. ومنهجي في البحث أن أحشر كل مجموعة لها خصائص مشتركة في إطار واحد وأبحث مشاكلهم وحلولها مجتمعين .وأقسمهم إلى قسمين كبيرين:

أ- القسم الأول -المسلمون الجدد من الشعوب الأوروبية والأمير كية .

ب- القسم الثاني - المسلمون الجدد من بقية القارات .

 أما المسلمون الجدد في غير القارة الأوروبية وأميركا فإني لا أعرف عنهم وعن مشاكلهم شيئا دقيقا وموثقا ولذلك أردت من الأول أن أنبه على أن بحثي لا يتناولهم وإن كنت أعتقد جازما أن لهم مشاكل . ولكن أكتفي بعرض عنوان عنهم ولا أقحم نفسي فيما لا أملك فيه ما يساعدني على البحث الموضوعي .

 أ -المسلمون الجدد من الشعوب الأوروبية والأمير كية ينقسمون إلى أقسام ثلاثة كبرى:

   القسم الأول - يشمل الذين لهم مستوى علمي رفيع، وعقل منصف يتبع الحق.وهؤلاء اهتدوا فآمنوا بأن الإسلام هو الدين الذي ختم الله به رسالاته إلى أهل الأرض، ووجدوا فيه ما رفع حيرتهم وفتح لهم من نور الحق مسارب أوغلوا فيها فظفروا بالطمأنينة. وعدد غير قليل وجدوا في التصوف الإسلامي مرتعا آمنا سرحوا فيه أرواحهم وأذواقهم .

إن هذا القسم لا يواجه مشاكل مادية، لأنهم احتفظوا بجنسياتهم التي لا تمنعهم من الدخول في الإسلام ولا تنقص شيئا من حقوقهم المدنية المضمونة لكل مواطن . ذلك أن البناء الحضاري للغرب هو تبادل بين المادة والحقوق . فالمواطن يدفع الضرائب، وهذا ما يمكنه من التحصيل على جميع الحقوق التي يخولها القانون لكل فرد أيا كان مذهبه الديني أو تصوره الاجتماعي أو انتماؤه السياسي .وقد استطاعوا حسب خبرتي من أن يكونوا فيما بينهم روابط من الود والتكامل إذا ما تعددوا في مدينة واحدة . ولهم الفضل في الدفاع عن قضايا المسلمين، وهم أقدر من غيرهم في الدعوة إلى الإسلام .

وهذا لا ينفي أن منهم من يحكم عقله الخاص في بعض الأحكام الشرعية، ويجد في المنتسبين للإسلام المستغربين مستندا لما حصل في نفسه، مع أن خطأهم منشأه ضيق ما حصلوا عليه من السنة النبوية، وضعف تمرسهم بالأساليب العربية لفهم القرآن فهما يكشف لهم أبعاد تلكم الأحكام وتوجيهها العقلي وصلاحها للفرد والمجتمع . ولا بد لي من إظهار الفرق بينهم وبين هؤلاء المستغربين، فهؤلاء المسلمون من الغرب  يبذلون جهودا متتابعة للتعمق في فهم الإسلام وهم مقتنعون به، أما المستغربون فهم على النقيض يبحثون عن التأويل ابتغاء الفتنة، ويقطعون النصوص عن سباقها وسياقها، ويكررون المطاعن التي طعن بها المستشرقون في الإسلام والتي تولى علماء المسلمين كشف حقيقتها و سوء نيتهم وزلاتهم الفكرية. فالمستغربون كما قال الله تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا([8]) وينطبق عليهم قول الشاعر:

               إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا**

وأما المسلمون الجدد هؤلاء ففي نظري هم نوع جديد من المؤلفة قلوبهم، لا يحتاجون إلى الدعم المادي والصدقات، ولكنهم يحتاجون فعلا إلى العناية بهم وربط الصلات معهم، كاحتياجنا نحن إلى هذا الارتباط لخير الإسلام وقضاياه .

وقد عرض علي شاب فرنسي أسلم وحسن إسلامه مواظب على أداء صلواته في أوقاتها، حج واعتمر، يخشى الله ويسعى جهده للإقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره، ومشكلته أنه يريد أن يتزوج بمسلمة لها مستوى ثقافي رفيع وملتزمة في سلوكها الديني وبخاصة إقامة الصلوات في أوقاتها وذلك هو المعيار المقدم عنده، ولكنه لم يظفر بها لحد الآن .

ولذا فإن مقترحي لمثل هذا المشكل الذي مرده إلى غربة تحصل للذين أسلموا من ذوي المستوى الثقافي الرفيع، أن المسؤولية يتحملها أولا وبالذات المسلمون المثقفون الذين يعيشون في الغرب، فإن عليهم أن يمدوا أيديهم إليهم، وأن يربطوا خيوط الاتصال بهم في منظمات ثقافية متنوعة، وهم في الغرب قد توفرت لهم الحرية المسؤولة في مختلف أضرب النشاط الثقافي .

كما أن على المنظمات الثقافية في بلاد الإسلام أن تظهر العناية بهم، وأن تؤكد لهم عمليا ما وجوده نظريا في الدين الإسلامي من أنه يؤسس لوحدة عالمية جامعة تذوب فيها الفوارق اللغوية والعرقية، وتجد في صفاء الإيمان بالله وبالوحدة الإنسانية ما يجتث جرثومة التعصب وضيق النظر.

      القسم الثاني   - المسلمون الجدد من ذوي المستوى الثقافي المتوسط والضعيف .وهؤلاء دخل كثير منهم في الإسلام بسبب زواجهم من مسلمات . فكثير من المسلمات بعد أن يهدأ الاندفاع العاطفي الذي ربطهن بأزواج غير مسلمين تستيقظ في نفوسهن بذرة الإسلام و يؤثرن في أزواجهن تأثيرا يدفعهم إلى الدخول في الإسلام .وحسب تجربتي فإن كثيرا منهم يقومون بذلك رغبة في الاستقرار العائلي بعد أن توسعت الأسرة بما أنجبوه من أولاد، و لأن انتسابهم إلى دينهم الأصلي انتساب تاريخي، ولدوا في أسرة غير مسلمة فارتبطوا بدين أسرهم دون فهم ولا بحث مع قليل من التطبيق في المناسبات المتباعدة .

وبعض منهم رفض الاستمرار في دينه الأصلي لأن فطرته هدته إلى رفض الاستمرار على دين لا يستجيب لفطرته ولا لمقتضيات عقله وبصيرته.

وبعضهم تأثر بسلوك المسلمين الصالحين الذين خالطهم في العمل أو بسبب الجوار أو الاشتراك معهم في نشاط اقتصادي أو غيره، ولاحظ سمو الأخلاق وطهارة السلوك ومجموعة من القيم غريبة عن مجتمعه من التناصر والإيثار والصدق فأسلم وحسن إسلامه .

إن هذا القسم لا يختلف عن القسم الأول في عدم تعرضه لمشاكل مادية .

ولكن مستواهم الثقافي لا يخولهم الثبات على الإسلام إذا ما تعرضوا للغزو الفكري والديني كما أنهم يجهلون الصورة التي يعمل الإسلام على غرسها وإبراز المسلم عليها في معاملاته وعلاقته بالكون كله .و يتحمل المسلمون مسؤولية مساعدتهم على الثبات على الإسلام والأخذ بأيديهم، وتعميق المفاهيم الإيمانية في قلوبهم،  وتبصيرهم بالأحكام الإسلامية في الحياة . إذ كثير منهم لا يعرفون من التشريع الإسلامي إلا العبادات بصفة إجمالية وأن الإسلام يحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير .

القسم الثالث - سلالة الأفارقة ذوي البشرة السوداء الذين اختطفهم الغربيون من مواطنهم، واستعبدوهم وسخروهم لإحياء الأراضي وتعبيد الطرق وشق الأنفاق في صخور الجبال . إن هؤلاء المنحدرين من الأصول الإفريقية ، وقد سحق مختطفوهم أصولهم ، قد تمكنوا من استرجاع كرامتهم الإنسانية، وقاوموا التمييز العنصري في المدرسة ووسيلة النقل والأماكن العامة . ووجدوا في الدين الإسلامي، بمبادئه الإنسانية العادلة،  سندا لطموحاتهم، فدخل عدد هام منهم في الإسلام .و قد استفاد كثير منهم من تجارب البيض الاقتصادية فساروا على منوالهم وحققوا مستوى اقتصاديا رفيعا، كما برز عدد منهم في التعليم الجامعي وحازوا رتبا علمية رفيعة .وتجد في الملحق رقم (1) تعريفا بهم أوسع وأشمل مما ذكرته هنا وذلك مأخوذ من البحث الذي قدمته في الدورة السادسة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.

 

ثانيا-المسلمون الذين ولدوا في بلاد الإسلام ثم هاجروا إلى الغرب

 أولا - العامل الاقتصادي .

تبع التخلف الاقتصادي في معظم بلاد الإسلام ضيق في فرص العمل، وانتشرت البطالة بين أصحاب السواعد الذين يحركهم عاملان: نشاط حيوي عارم في داخلهم لبذل المجهود، وحاجة مادية للإنفاق على من يتحملون واجب إعالتهم من الوالدين والزوجة والأولاد وحتى الأقارب.فتخيروا المغامرة والهجرة إلى الغرب لحاجة سوق العمل في بلاد الغرب إلى الأيدي العاملة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، تلكم الحرب الآثمة التي هدمت المصانع والمباني والبنية التحتية، وقتلت ستين مليونا من البشر . فاتحدت الحاجة من الطرفين وتوافد على البلاد الغربية ملايين العمال من المسلمين وغيرهم .وهؤلاء العمال معظمهم شبه أمي ، ويختلف تمسكهم بدينهم اختلافا بينا تبعا لوضع الأسر التي نشأوا بين أحضانها. كما تختلف شخصياتهم:

 بين شخصيات مهتزة انبهرت بمظاهر الحضارة الغربية  وبمغرياتها فأطلقوا رصاصة  بأيديهم على عزتهم وأصيبوا  بالضياع  فلاهم من الغرب  ولا هم من أوطانهم التي ترعرعوا في منابتها ونموا في أرضها وتحت أشعة شمسها . ومعظم هؤلاء من الذين هاجروا وكان انتسابهم للإسلام لا يعدو الانتساب الجغرافي الميت الذي  لا ينبض بحركة خيرة تربط الإنسان بربه وبالحق.

وبين من تأصل الإسلام في قلوبهم وكان بريق الإيمان واضحا في البواطن والظواهر، في المشاعر والسلوك ، فلم تبهرهم مظاهر الحضارة الغربية ولا بريقها الخلب، وكان نبض الإسلام والوفاء للقيم يشدهم إلى هويتهم ويحميهم من متاهات الضياع .

ثانياـ العامل السياسي ـ

إن بعض الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي، دفعت بعض ذوي الرأي الذين تختلف وجهة نظرهم مع السلطة، والذين يخشون الظلم والعسف، وما يرتبط به من السجن والتضييق، إلى الهجرة، إذا ظهرت بوادر الشر،  إلى البلاد الغربية التي تأوي أنظمتها أصحاب الرأي المهددين في حرياتهم.وهؤلاء بعضهم من المسلمين الصادقين، وبعضهم من المتحللين من الدين .

ثالثا - العامل العلمي .

الشباب الذين رحلوا إلى الغرب لمتابعة دراساتهم العالية، والتمكن من بعض التخصصات التي لا تتوفر في بلدانهم . إن من بين هؤلاء من يختار البقاء في الخارج لعوامل متعددة، منها سوء تقدير المواهب العلمية الرفيعة في كثير من بلدانهم، إذ كثيرا ما يعينون في وظائف و تسند إليهم مهام بعيدة عن الميدان الذي حذقوه فيصابون بالإحباط ويكون ذلك شبحا مخيفا للذين لم يعودوا فيفضلون البقاء في الغرب حيث يجدون الميادين التي يبرزون فيها مواهبهم ويحققون فيها قيمتهم الإنسانية . ومنها أن الرواتب المغرية في الغرب لا تقارن بما يقدم لهم في بلدانهم . ومنها أن المتميزين يهمهم أولا وبالذات أن يعيشوا في جو علمي تتوفر فيه مراكز البحث بما تتطلبه من تجهيزات،  ومن عقلية علمية تقوم على التعاون، و يؤلف بين أعضائها انسجام تام أخوي، أرفع ما يعتبرونه في سلم القيم هو التقدم بالمعرفة . وهذا ما لا يتوفر في كثير من بلدانهم .

وطائفة انبهرت بالغرب وارتبط بعض أعضائها بزوجات غربيات، وبفعل الانبهار ذابت شخصياتهم وفقدوا هوياتهم فضلا عن الاعتزاز بثقافتهم وحضارتهم . انسلخت عن مجتمعها ولشديد غفلتها وعظيم مصيبتها خيل لها أنها أصبحت عضوا مندمجا في الغرب، فتجد الواحد منهم  يسمي أولاده بأسماء غربية كشارل ومارك ولويس وأنٌا و ماتيلد وروزا .ويتخذ عادات لا معنى لها عنده حسب ثقافته وعقليته الحقيقية، فيحتفل بعيد الميلاد، وبرأس السنة الغريغورية، و بعيد الفصح، وتذوب كل مظاهر أصالته وما ربي عليه وما ينفعل فعلا معه مما هو كامن في باطنه وانتقش في مجاري عقله منذ صباه الباكر. فهو في حرب مع نفسه يريد أن يخفي وجهها الصادق ويبرز قناع الزور الذي هو غير مقتنع به، وغيره أحرى أن لا ينجر في المغالطة الغبية.وعدد غير قليل منهم تجابههم الحقيقة في يوم من الأيام فيصابون بالإحباط الذي يصل ببعضهم إلى فقدان التوازن النفسي من الكآبة إلى الجنون .

 رابعا - أولاد المهاجرين وذريا تهم الذين يفصلهم عن أصولهم جيل أو أكثر من جيل .

فتحوا عيونهم على سماء حزينة رمادية، تأتيهم أشعة الشمس في معظم الأوقات من وراء حجاب . الدفء الأسري إن وجد في أعضاء الأسرة الصغيرة هو صقيع وراء ذلك، فالأخوال والأعمام والعمات والخالات وذرياتهم صلتهم بهم في الصور أو في فترة قليلة من فترات الإجازة السنوية إن اختارت العائلة قضاءها في وطنها .و قلما تسنح فرصة المشاركة الفعلية في مناسبات الأفراح أو الأحزان .

إن تَوَحَد أصل الأم والأب فقد يسمعون في البيت اللغة الوطنية ويتحدثون بها، خاصة إذا كانت الأم أمية أو شبه أمية، أما إذا خرجوا من إطار البيت الضيق حسا ومعنى انقطعوا عن سماع لغتهم الوطنية أو الحديث بها.

 و إذا كانت الأم أجنبية فتجدهم ينشأون كما ينشأ بقية الصبيان في البلد الذي يقيمون فيه، يتحدثون لغته، وأما لغة وطنهم الأصلي فهي غريبة عنهم قد يعجزون حتى عن الخطاب العادي البسيط بها

ومع ذلك فإنه لا يبعد أن ترسخ في نفوسهم عقد، بمجرد ما تطأ أقدامهم أرض أوطانهم، إذ تبدو لهم الفوارق البعيدة الصارخة، بين المطار الذي ارتحلوا منه وبين المطار الذي نزلوا فيه، بين جمال الطرق ونظافتها التي يعيشون فيها وبين الوضع الذي عليه بلدهم، وأمثال هذه   المظاهر الحضارية التي تلفت النظر، فيزدادون غرابة ورفضا للعودة إلى أوطانهم في يوم من الأيام، إن لم ينطووا على احتقار لقومهم .

إن ما وصفته   أعلاه هو وصف أغلبي وليس وصفا عاما . فبعض الأسر قد بذلت جهودا جبارة تستحق التنويه والتقدير، ونجحوا في تربية أولادهم تربية احتفظ فيها أعضاء العائلة بدينهم و قيمهم وأصالتهم وثقافتهم، ولم يذوبوا في المجتمعات التي يعيشون فيها ، ولكنهم قلة محدودة وسط الكثرة الغالبة التي انهزمت في سعيها للاحتفاظ بهويتها إن كانت قد سعت فعلا لذلك.

 

مقترحات لحل مشاكل بعض الأقليات الإسلامية من الذين أصولهم من بلاد الإسلام

  الناحية الدينية

المسلمون الذين تعود أصولهم إلى البلد الذي يقيمون فيه وقد هداهم الله للإسلام وكما ذكرت أعلاه هم ثلاثة أنواع .وقد أدمجت مشاكلهم مع مقترحات حلها في ثنايا عرضي لخصائص كل نوع .

أما المسلمون الذين هاجروا من أوطانهم وذرياتهم إلى البلاد الغربية، فقد أدمجت في التعريف بهم بعض مشاكلهم، وأريد الآن أن أقدم مقترحات لحل مشاكلهم في وحدات قد تصلح لجميعهم وقد تصلح لبعضهم .

التدقيق الأول الذي أريد أن أقدمه بين يدي عرضي للمشاكل والحلول هو أنه لا يمكن أن نتجاهل تأثير الوسط الذي يعيش فيه هؤلاء المغتربون وذرياتهم . فالإنسان كما يتأثر بالجو المادي المحيط به من حر أو برد، وتلوث أو طهارة، هو يتأثر بالجو الإنساني، ومظاهره من تدين أو لا مبالاة، ومن حرص على العمل أو تراخ، ومن حياء أو وقاحة ،إلى ما لانهاية له من الأنماط السلوكية . ومن عدم الدقة إلصاق كل نقيصة بالغرب وكل كمال بما يجري عليه الأمر عندنا . فالحقيقة أن كثيرا من الأنماط السلوكية هي جيدة جدا في الغرب، وكثير من الأنماط السلوكية في أوطاننا رديئة ومخالفة للإسلام . ولذا فليس غرضي من عرض الحلول اقتلاع المسلم المغترب في أقلية إسلامية من محيطه ومساواته بمن لم يغترب بل إنه من الطبيعي والمنطقي أن يتأثر المغترب بالبلد الذي يقيم فيه . ولكن ما أهدف إليه أن لا يمسخ فيصدق عليه مثل الغراب الذي حاول أن يمشي مشية الطاوس حتى نسي مشيته وأصبح لا هو من الغربان ولا من الطواويس منكورا منهما .

الإشكال الأول - هو حكم الإقامة في غير بلد الإسلام . ذكر الإمام المازري أنه أفتى برد شهادة الذين يذهبون إلى صقلية لجلب الطعام في إحدى سني الجفاف بتونس . وذكر القرطبي أن هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمَل فيها بالمعاصي. ونقل عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها وتلا ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) ([9]) وقد عول كثير من الفقهاء على قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفوراً ([10]) وإن كانت هذه الآية نزلت في أهل مكة الذين أسلموا ولم يهاجروا فإن العبرة بعموم اللفظ . وقد أبدع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه لما فصل الأوضاع المختلفة للمسلم المقيم في غير دار الإسلام .

1)    الحالة الأولى- أن يكون في بلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج قال: فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية . وضرب لذلك بمسلمي الأندلس لما فتنوا في دينهم خرجوا فارين بدينهم وتركوا أموالهم وديارهم وأراضيهم .

2)    الحالة الثانية -أن يكون المقيم ببلاد الكفر غير مفتون، ولكن يكون عرضة للإصابة في ماله أو في نفسه، فهذا عرض نفسه للضرر وهو حرام .

3)    الحالة الثالثة- أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا المسلمين في دينهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه في إقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له ما يوجب فصل القضاء . وهذا كحال المقيمين اليوم في أوروبا . وظاهر قول مالك أن الإقامة مع ذلك مكروه كراهة شديدة . وهو ظاهر المدونة . وتأولها كثير من المحققين على الحرمة.

4)     الحالة الرابعة- أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون، ولا يفتنونهم في دينهم ولا في أموالهم، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى الشريعة الإسلامية، كما وقع في صقلية عندما استولى عليها جرجير النرماني . وكما تم في الأندلس في غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على العهد الذي كتب بينهم، فأقام بعضهم بها على ما تم توثيقه وهاجر بعضهم،  ولم يعب المهاجر على القاطن ولا العكس .

5)     الحالة الخامسة - أن تكون السلطة العليا بيد غير المسلمين، وتبقى للمسلمين السلطة التابعة، ويتصرف ملوكهم في تعيين القضاة وإجراء أمور دينهم وعبادتهم على حكم الإسلام، كالحماية والوصاية والانتداب . كما وقع في مصر وفي تونس والمغرب الأقصى وفي بلاد الشام والعراق ( وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة) .

6) الحالة السادسة - البلد الذي تغلب فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام، ولا يجبر فيها المسلم على ارتكابه خلاف الشرع، ولكن لا يستطيع تغييرها إلا بالقول أو لا يستطيع ذلك أصلا . وهذه قد روي عن مالك وجوب الخروج منها، ورواه ابن القاسم، غير أن ذلك حدث في القيروان أيام بني عبيد ولم يحفظ أن أحدا من الفقهاء الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ محمد بن أبي زيد وأمثاله ( وحدث في مصر أيضا في مدة حكم الفاطميين ولم يغادر أحد من علمائها الصالحين) .

ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، «وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية»([11])

إن هذا التفصيل الجامع والدقيق الذي كتبه سماحته رحمة الله عليه يجيب عن كثير من التساؤلات التي يبحث عنها المسلمون حول الإقامة في بلد غير إسلامي أو في بلد إسلامي ولكن لا تحترم فيه أحكام الإسلام . وحسب بيانه فإن المسلمين الذين يعيشون اليوم في الغرب يدخلون تحت مظلة الصنف الثالث سواء أكانت أعراقهم من بلد إسلامي وهاجروا إلى الغرب طلبا للعلم أو الرزق، أم كانت جنسياتهم الأصلية من البلد الذي يقيمون فيه .وذكر أن الراجح هو حرمة الإقامة .

وإنه مع تغير النظام العالمي في الإقامة وفي التنقل بين الأقطار، وما أحاطت به كل دولة حدودها من رقابة صارمة لا تقبل الوافد إلا حسب ما ضبطته قوانيها،  وكذلك الجنسية التي يتبعها الحقوق والواجبات التي يستوي فيها حسب القانون جميع المواطنين والتي لا يحملها إلا المواطنون وذريا تهم، إنه تبعا لأوضاع العالم التي استقرت، فإن الأحكام تصطبغ قطعا في نظري بهذه المعطيات الجديدة .فأقول: إن الذين دخلوا في دين الله من الحاملين لإحدى الجنسيات الغربية لا يجب عليهم أن يهاجروا إلى بلد معظم أهله مسلمون .وذلك لعدم تمكنهم من الهجرة ولا من التحصيل على الجنسية . فقد ضيقت القوانين الحمائية أرض الله الواسعة . فهم مكرهون على البقاء في أوطانهم . وإذا كان المكره على الكفر وهو لا يستطيع الانفلات من الظروف الزمانية والمكانية التي يتم إكراهه فيها،  قد عفا الله عنه، ولو نطق بكلمة الكفر، فأحرى أن يكون المقيم في بلد الكفر معفوا عنه . قال تعالى:من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ([12])

ومن ناحية ثانية فإن القوانين والدساتير الغربية تحمي المسلمين من ذوي الجنسيات الأصلية ما داموا مقيمين في بلدانهم، وقد ذكرنا أعلاه أن الوحدة الأوروبية قد حمت كل متدين من أن يفتن في دينه أو ماله أو في عرضه . بقي أن الأحكام التي تطبق عليهم فيها : أحكام تتفق مع الإسلام ، وأحكام تخالفه . والشريعة الإسلامية لا تطبق في معظم البلدان الإسلامية .

ومن ناحية ثالثة فإن ذوي المكانة العلمية المتميزة هم يعتبرون اليوم خير دعاة للإسلام، إذ وحدة الأصل بينهم وبين مواطنيهم ترفع حاجز الرفض تبعا لاختلاف العرق والثقافة .

 المسلمون الذين هاجروا طلبا للعلم- النظرة الأولى تقتضي أن بقاء قسم منهم في بلاد الغرب هو إهدار للثروة المالية، ذلك أنهم ما وصلوا إلى مستوى التعليم العالي إلا بعد أن أنفقت عليهم الأمة من ثروتها، لأنهم في سن التعلم يستهلكون ولا ينتجون . وإهدار أيضا للثروة العقلية، ذلك أن عدد النابهين في كل دولة عدد قليل بالنسبة لمجموع أفراد الشعب، ففي بقائهم في الغرب تقوية للمستوى المعرفي للبلد المهاجر إليه، وفقر في البلد الإسلامي الأصلي . ولكن إذا ربوا تربية صالحة تجعلهم أوفياء لأوطانهم الإسلامية فإنه بهذه التربية ستعوض الخسارة من نواح:

أ- أنهم يفيدون بلدانهم بما وصلوا إليه ولا ينقطعون عن أوطانهم .

ب - أنهم يتقبلون الطلبة الجدد من العالم الإسلامي، ويقومون بمساعدتهم على التميز.

ج - أنهم يكونون خير دعاة للإسلام . ذلك أن نشر الإسلام ليس له إلا سبيل واحدة هي الدعوة إليه، وإقناع الناس عقلا وسلوكا بأنه الدين الذي يفتح للبشرية مسالك الأمن والرضا، ويبعث فيهم العزم على إصلاح الأوضاع الإنسانية التي فقدت الصراط المستقيم .

 أما الذين تراخوا في القيام بهذه الرسالة، فإن المعول على القسم السابق في إثارة العزة في نفوسهم، و رفع حجاب الغفلة عن بصائرهم.

 

المؤسسات الثقافية

إن القوانين الدستورية في الغرب تحمي النشاط الثقافي و تساعد عليه، وهذا يفرض على هؤلاء المهاجرين أن يبعثوا في أماكن إقامتهم مؤسسات ثقافية لا تقتصر على المساجد، فتُسند أماكن العبادة بجمعيات ثقافية ينشط فيها ذوو المستوى العالي بتحليلهم العلمي المقنع، والشباب بمختلف أوجه النشاط الذي يجلب الناس لنظافته والتزامه وقيامه ببذل العون الإنساني .

 

المسلمون الذين هاجروا طلبا للرزق

هم الكثرة الكاثرة، ومشاكلهم الدينية متنوعة:

من هؤلاء من هاجر طلبا للرزق وهو محصن دينيا، وقد قام البعض ممن نجح اقتصاديا في بلاد الغرب وكون ثروة، بواجبه من البذل السخي لتأسيس المساجد ومد العون لإخوانه المغتربين، وكان سلوكه مثالا للمسلم الصالح الذي يلفت الأنظار إليه لاستقامته، وكان بذلك داعية لدين الله . وما دامت القوانين الغربية لا تمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية، ولا تتعرض لأموالهم ولا لأعراضهم بالسوء فبقاؤهم في الغرب قوة للإسلام .وحتى يتلاءموا مع الأوضاع الغربية فقد اهتدوا إلى بعث المجلس الإسلامي الأوروبي الذي يحل لهم المشاكل التي يتعرضون لها في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي . والمهم أن ينسجموا مع مقررات المجلس .

وبعضهم قد تحول طلبا للرزق وهو فقير ماديا وفقير روحيا، وكلما طالت إقامته في الغرب زاد بعدا عن الإسلام . وعلى حكوماتهم والمؤسسات الإسلامية   الثقافية في الغرب أن تعنى بهم وتتصل بهم وتغريهم لإبراز انتسابهم إلى الجامعة الإسلامية، وتحيي ما هو كامن في بواطنهم من الدين الذي عاشوا أمدا من حياتهم وهم يشاركون بقية إخوانهم مظاهر الانتساب إليه .

والمشكلة الأعظم تتمثل في تنشئة الذرية على الإسلام . وهو ما يحتم على الأقلية الإسلامية وعلى دولهم وعلى منظمة المؤتمر الإسلامي أن ترعاهم بتكميل دراستهم في المدارس العامة بإيجاد البرامج والأماكن والمدرسين الذين يقومون بتعريفهم بالدين الإسلامي عقيدة وعبادة وسلوكا . وأن يسعوا، في البلدان الغربية التي لا تقوم على الفصل بين الدين والدولة فصلا يلغي الدين، إلى إلزام الحكومات الغربية هذه بمعاملة الإسلام معاملة بقية الأديان، وقد كللت مساعي بعض الأقليات الإسلامية بالنجاح كما هو الحال في بلجيكا.

 

الناحية الثقافية

الناحية الثقافية تمثل مجموعة العوامل التي تؤثر في الفرد فتطبع شخصيته، وتحدد انتماءه، وتعامله مع الإنسان والكون، وفهمه للوجود ودوره فيه . و يعتبر الدين الذي يدين به الفرد سواء أكان دينا سماويا أو مذهبا فلسفيا رافضا للغيب، أو حيرة وضلالا، يعتبر أكبر عامل ثقافي في نحت الشخصية . وبما أنا قد ألمعنا فيما سبق إلى المشكلات الدينية التي تواجهها الأقلية الإسلامية في الغرب، فإنه تبعا لذلك سأقتصر على بعض المؤثرات الثقافية   وإشكالاتها بالنسبة للفرد المسلم الذي هاجر من وطنه الإسلامي و يعيش مع أقليات إسلامية .

  اللغة - اللغة هي حاملة الفكر، ووسيلة الترابط بين الفرد وغيره، وتحمل في مصطلحاتها وطريقة تركيبها، ميراثا ثقافيا ينحت شخصية الفرد ويبرز ملامحها الخاصة وانتماءه .

يتحول المهاجرون من أوطانهم وقد ربوا على التخاطب بلغتهم فلا تمثل اللغة القومية بالنسبة إليهم أي مشكل . ولكن المشكلة تظهر في أولادهم الذين نشأوا في المهجر . فالعوامل الثلاثة التي تتعاون على تلقين الفرد اللغة هي: البيت، والمدرسة، والمحيط الذي بينهما من الأصدقاء والأشخاص الذين يتم معهم التعامل في مختلف أوجه الحياة المدنية المتشعبة . والعاملان الأخيران يعتديان بغير قصد على لغة الناشئ القومية ويقطعانه عنها. ولم يبق إلا البيت الذي تعظم فيه مسؤولية الأبوين. وتحملهما لمسؤولية التربية يحتم عليهما قصر الخطاب بين أعضاء الأسرة على اللغة القومية .ولما كانت لغة التخاطب ليست اللغة العلمية الحاملة للفكر الراقي فإنه تبعا لذلك يتحتم على حكومات الدول التي يتبعها مجموعة من مواطنيها في بلدان المهجر، عليها أن توفر للناشئين تعليما تكميليا باللغة الأم حتى يستمر التواصل بين الجيل الثاني، وما يتبعه في السلسلة، مرتبطا بقومه ووطنه . ولما كانت دول كثيرة من العالم النامي تعتمد فيما تعتمد عليه لسلامة اقتصادها على التحويلات التي يغذي بها المغتربون القوة المالية لوطنهم، فإنه يتحتم، حتى لا ينقطع هذا الوريد في المستقبل، أن تبقي على أولادهم مرتبطين بدولتهم غير منبتين عنها. واللغة من أقوى عوامل الارتباط والانتماء.

                    

العادات والتقاليد

إن مجموعة العادات والتقاليد التي يعيش عليها الفرد داخل أسرته ومجتمعه تعطيه ملامح يتميز بها من ناحية، وينسجم بها مع أسرته وبني وطنه من ناحية أخرى .

إنه على سبيل المثال نجد في طريقة إعداد الطعام وتناوله، والأفراح والأحزان وما يصحبها، والأعياد وما يهيأ فيها من أطباق خاصة، وطريقة الخطاب والتعامل بين الفرد وبين أعضاء أسرته وبني قومه، نجد ذلك وغيره ما يقوي اللحمة بين أعضاء المجتمع الصغير والكبير.والمغترب لا شك أنه يتأثر بعامل الانقطاع عن المظهر العام والخاص الذي تتلون به الحياة في تلكم المناسبات . وهذا الإشكال يوهن الارتباط بين المغترب ووطنه ويزداد ذلك عنفا بالنسبة لأولاده وما ينحدر منهم . ولذا فإنه يتحتم على المغتربين في كل بلد أن يؤسسوا نوادي تجمع بينهم في تلكم المناسبات، وأن يبذلوا في سبيل إحيائها ما يبقي على أثرها في شخصية الأسرة وأن يبنوا موازناتهم على تخصيص جانب تقضي به الأسرة عطلتها السنوية في موطنها. وعلى حكومات دولهم أن تيسر لهم ذلك بما تشرعه من حوافز .

 

 الأخلاق

يتميز الغرب بأخلاق اقتصادية رفيعة . فكل ما يعود على الاقتصاد بالنماء وبالمحافظة على مكانته، وما يمكنه من غزو الأسواق، كل ذلك قد عود الغرب نفسه وطوع كل الداخلين في الدورة الاقتصادية على مراعاته . فحفظ الوعد، والجدية في العمل، والسعي الدائب نحو التحسين، والصدق في المعاملة وعدم الغش إلى آخر الأخلاق الاقتصادية، وكذلك بعض الأخلاق المدنية كالنظام واحترام الآخر ونحو ذلك،  كل ذلك قد أخذ به الغرب نفسه والتزم به، وأصبح عرفا اجتماعيا، من يخرج عنه يرفضه المجتمع ويخسر موقعه فيه . وحبذا أن يعود المغتربون أنفسهم وذريتهم على ذلك ففي ذلك خير كبير لأنفسهم ولأوطانهم إذا ما قرروا العودة إليها في يوم من الأيام. وهي من صميم الأخلاق الإسلامية .

وبجانب الأخلاق الاقتصادية الرفيعة أخلاق اجتماعية، هي اهتمام الفرد بغيره واعتبار أن سعادته منقوصة إذا كان أحد من إخوانه يعيش ظروفا قاسية مالية أو غيرها، والحياء في المنطق واللباس والمعاملة، واحترام الأبوين وطاعتهما، هذه الأخلاق وما جرى مجراها، هي إحدى ركائز البناء الاجتماعي الإسلامي تدخل في تربية الفرد مرتبطة بروحه وبسلامة عاقبته .وقد تحلل الغرب من كثير من هذه الالتزامات ومن الانضباط في سلوكه على نهجها. وهذه الأخلاق تمثل الشخصية الإسلامية السوية في عصرنا، ولا شك أن الإقامة في الغرب، وما يشاهده المغترب كل يوم وفي كل مكان من تجاوزات للحدود الخلقية سيتأثر به،  وخاصة الأولاد الذين نموا بعيدا عن المجتمع الإسلامي الذي يعطي لهذه الأخلاق قيمة ويجعلها معيار الفرد في صلاحه ورشده أو في فساده وسفهه.                 

 

مشكلة الرفض للآخر

تختلف المجتمعات الغربية في انفتاحها على الآخر وقبولها له، فبعضها شديد التعصب لجنسه، مغرور بعقدة التفوق المادي والتكنولوجي . وبعضها يقبل الاختلاف الحضاري ويعتبره عامل إثراء، وإن كان عدد هذا القسم قليلا ضائعا في الكثرة الأولى . ولو كان الأمر مما استقر في البواطن وليست له آثار على حياة المسلم المغترب لهان الأمر،  ولكن قد يصل التعصب إلى إيذاء المغترب في دينه أو في كرامته، أو يكون سببا لعدم تمكينه من حقوقه، وأهمها حق الشغل . تجد صاحب العمل في حاجة إلى اليد أو الفكر العامل، ولكنه يرفض أن يعين المغترب المقتدر وينتظر وجود غيره .

لعل حل هذا المشكل يتم بثلاثة أمور:

1)    السلوك المستقيم من النزاهة والثقة، والقيام بالواجب، واحترام الوقت، والطاعة، والابتعاد عما يثير المشاكل .

2)    عدم قبول التعدي على حقوق الفرد، بالرفع للقضاء . وبما أن التداعي لدى السلطة القضائية يكلف نفقات قد لا يقدر عليها المغترب فالحل هو في تأسيس جمعيات، من رجال القانون المغتربين، ومن غيرهم ممن صفت سرائرهم وأشربوا حب العدل، تتولى الدفاع عن كل مغترب اعتدي على حقوقه .

3)    أن تقوم القنصليات والسفارات بتأييد المغتربين المنتسبين إليها، وتبنى العلاقات بين الدولة التي يقيم فيها المغترب وبين الدولة التي يحمل جنسيتها، على إنصاف مواطنيها واحترامهم، ورد ظلاماتهم إن ظلموا .

المشاكل الاقتصادية -

إننا إذا تتبعنا المغتربين فإنا نجد أن من بينهم من حقق نجاحا كبيرا، وحصل على ثروة معتبرة، ومنهم من لم يوفق . ولذا فإنه حسب علمي الأمر يرجع إلى ذات المغترب لا إلى الأنظمة .

وقد سافرت إلى روسيا، واتصلت بإخواننا المسلمين هناك، وكان وضعهم الاقتصادي ضعيفا، بعد ما قامت به الشيوعية من نهب الثروات،  وقد اقترحت عليهم أن يبنوا أنفسهم اقتصاديا بالتعاون، بإنشاء شركات أو تعاونيات تلبي احتياجاتهم وتنفتح على التعامل مع غيرهم . فمثلا شركة أسفار لا يشتري المسلم تذكرة سفره إلا منها، ونقط بيع للحاجات اليومية تقترب من أماكن تجمعاتهم أكثر ما يمكن،  والتخطيط لتطويرها لتصبح منتجة لتلكم الحاجيات، وانفتاحها على كل من يتعامل معها ولو من غير المسلمين، فالغنم الاقتصادي هو المحرك الأساس .وإن شرط نجاحها هو توقد الحماس لها وعدم العجلة في اغتنام الأرباح .وقد اقتنعوا بهذا التوجه بعد ليلة سهرناها معهم . وهو مشروع ضخم لا بد له من ذوي العزم الحديدي، والتضحية في خطواته الأولى، والدعوة له باستمرار بمختلف أضرب الدعاية المؤثرة،  والنزاهة في القائمين عليه .

وإني لمؤمن أن مثل هذه المشاريع يمكن أن تعتمدها الأقلية الإسلامية لتصبح قوة اقتصادية لها وزنها في الميدان السياسي . إن الضعيف اقتصاديا مهمش مسحوق في الغرب .

 

المشاكل السياسية

المشاكل السياسية كثيرة ومعقدة وتختلف كما قلت في طالعة بحثي من بلد إلى آخر . ولكن ما أريد التعرض إليه وأعتبر علاجه أمرا حتميا لضمان حقوق الأقليات الإسلامية هو:

أولا - إنه حسب تتبعي المحدود وجدت أن المغتربين ينقلون إلى مكان إقامتهم الجديد خلافاتهم، وبهذا تضيع جهودهم، ولا يحققون ما تتطلبه أوضاعهم الجديدة من حلول ومن إسهامات فاعلة فيما تفرضه حياتهم في المهجر .فلا بد من ترشيدهم لتحويل طاقات النزاعات إلى طاقات هادفة إلى إصلاح أوضاعهم .

ثانيا - لاحظت انكماشا عن الإسهام في الحياة السياسية، في آفاق الأحزاب التي تعج بالحركة الفاعلة. إنها مدارس سياسية، تطرح القضايا الهامة، وتصور طرق سيرها المستقبلي، والمواقف التي يتحتم اتخاذها حسب سياسة الحزب، وتفترض وترصد العوارض التي تنحرف بها وكيف يمكن التغلب عليها، وتعنى بالإعداد لانتخاب من هو أقدر على تنفيذ سياسة الحزب، وتنظم الحملات الانتخابية، فيها يتم التمرن على اكتساب أصوات الناخبين، وبذلك يتم بلوغ النضج السياسي الذي   لا يحصل إلا بالمران والإسهام في جميع المستويات .

إنه من الحتمي في نظري أن يسهم المسلمون في الأحزاب السياسية إسهاما فاعلا، وأن يعملوا على بلوغ النجاحات التي تخولهم التأثير في مستوى المسؤولية في المجالس المحلية وفي المجالس النيابية.

إن حل قضاياهم لا يتم بالاحتجاج وحده، ولا بالتظلم، ولكن سبيله حسب النمط الغربي الاستيلاء على قنوات التأثير التي من أهمها العمل السياسي داخل الأحزاب .

النظرة المستقبلية

أدرك الهرم الشعوب الغربية فهي ذاهبة إلى التناقص العددي، وأن المسنين الذين تطول أعمارهم وتضعف قواهم عن الإنتاج في ازدياد مطرد.وتقدر التوقعات الإحصائية أن أوروبا سينمو فيها سوق الشغل الذي لم توفر له من المواليد ما يعمره . وهذا ما يفرض على الشعوب الفتية أن تبني إستراتجيتها على هذه المعطيات . وأن تقوم من الآن بالإعداد للمستقبل فتنظم الهجرة تنظيما يكون به لها قوة في التعامل مع الغرب، ولا يتأتى لمؤتمرنا هذا أن يضع الخطط التفصيلية لمثل هذا المشروع العظيم. ذلك أنه مشروع يجب أن ينكب عليه رجال مؤهلون من جميع الاختصاصات ذات الصلة وأن يضبطوا ما على الحكومات أن تقوم به في جميع الميادين التربوية والإعلامية والسياسية بعيدا عن الارتجال والسرعة

وقبل أن أنهي كلمتي أريد أن أؤكد على أمر هام:إن كل من يعمل في الغرب عليه أن يكون أمينا في عمله، وفيا للبلد الذي احتضنه ويسر له العمل والحياة الكريمة .وأن الإسلام لا يحل ظلم الآخر اتفق معك في الدين أو خالفك بما يشمله الظلم في معناه الواسع، من الغش، والتدليس والتراخي في العمل، والاستحواذ على المال بغير حق، فضلا عن السرقة أو التعدي على الأعراض قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).([13])

 والله أعلم وأحكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على إمامنا وحبيبنا وشفيعنا ونبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مباركا فيه . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

كتبه فقير ربه راجي عفوه وفضله عبده

([1]) التوبة: 71.

([2]) تاج العروس، ج4.ص242 والصحاح ج 6 ص2529.

([3])  لسان العرب ج 3ص   985.

([4])  فتح الباري ج 6 ص22.

([5])نفس المصدر ص 23.

([6]) فتح الباري ج 13 ص46.

([7]) المعجم الوسيط ج2ص758.

([8]) سورة البقرة آية 10.

([9]) الجامع لأحكام القرآن ج 5 ص346/347.

([10]) سورة النساء آية 97 ـ 99.

([11]) التحرير والتنوير ج 5، ص178ـ 180.

([12]) النحل آية 106.

([13]) المائدة آية8.