المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية

المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية

 

 

المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية

 

 

محمّد مهدي الآصفي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

توحيد (الاجتهاد) والبحث عن صيغ ورؤى متقاربة في عملية الاجتهاد من أهم عوامل التقارب بين المذاهب الإسلاميّة  المختلفة في الفقه والكلام.

وأقصد بتوحيد (الاجتهاد) أمرين:

الأول:التفاهم على الحجج والأدلة التي يمكن الوصول إلى رأي مشترك في إثبات حجيتها واعتمادها في الاحتجاج والاستدلال.

والثاني التفاهم على منهج علمي واحد في استخدام وتوظيف هذه الأدلة في الاستدلال واستنباط الحكم الشرعي.

وهو ما نقصده بالذات في هذه الدراسة.

وقد قدم فقهاء الشيعة الإمامية في (ترتيب الأدلة الاجتهادية) وتنظيم المنهج العلمي في الاستدلال وتقديم بعض الأدلة، بعض دراسات عملية عقلية.

وقد تكاملت هذه الدراسات وبلغت نضجها العلمي على يد فقيهين كبيرين تعاقبا على موقع الريادة في علم الأصول في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في مدرسة

(34)

كربلاء ومدرسة النجف، وهما مدرستان علميتان بارزتان في تاريخ الفقه والأصول لدى الشيعة الإمامية.

وهذان الفقيهان هما الوحيد البهبهاني (1118 ـ 1205 هـ) والشيخ الأنصاري (1214 ـ 1281 هـ ) قدس سرهما ونحن نعتقد أن المنهج العلمي الذي تمخضت عنه هذه المدرسة يصلح أن يكون أساساً علمياً جيدا لتوحيد المنهج العلمي في الاستدلال وترتيب الأدلة والحجج، إذا عرض على دراسات نقدية من قبل فقهاء المذاهب الإسلاميّة.

وفيما يلي أحاول ـ إنّ  شاء الله ـ تقديم صورة موجزة عن المنهج العلمي لهذه المدرسة في ترتيب الأدلة الاجتهادية وتقديم بعضها على بعض والمنهج العلمي لتوظيفها في الاستنباط. وقد اقتبست هذه الدراسة من دراسة سابقة في هذا الموضوع كنت قد أعددتها من قبل عن مدرسة الشيخ الأنصار قدس سره في الأصول.

على أمل أن يتم تقديم دراسة علمية مشابهة لتوحيد الحجج والأدلة الفقهية التي يمكن الوصول إلى رأي فقهي مشترك في إثبات حجيتها وإمكان اعتمادها في الاستنباط.

وإذا تمت  هذه النقطة وتلك على أساس علمي دقيق أمكن الوصول إلى اجتهادات فقهية مشتركة أو متقاربة في طائفة واسعة من المسائل المختلف فيها في العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم).

وسوف نتحدث في هذه الدراسة بإيجاز عن النقاط التالية:

1 ـ تعريف الحجة والدليل في اللغة والاصطلاح.

2 ـ الحجة الذاتية والحجة بالعرض.

3 ـ مبدأ الاستناد إلى الحجة.

4 ـ منهج ترتيب الحجج من حيث الاستناد.

(35)

5 ـ تقسيم الدليل إلى (الإمارات) و(الأصول).

6 ـ تقسيم مفاد الدليل إلى الأحكام والوظائف العملية.

7 ـ ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض.

وهذه النقاط مترتبة ومتسلسلة يترتب بعضها على بعض، وفيما يلي نقدم ـ أن شاء الله شرحا إجماليا لهذه النقاط في ضوء آخر متبنيات مدرسة الأصول عند الشيعة الإمامية. ومعظم أفكار هذه المدرسة الفقيهين:الوحيد البهبهاني والشيخ الأنصاري قدس سرهما.

 

1 ـ تعريف الحجة والدليل في اللغة والاصطلاح:

الحجة في اللغة كلّ ما يثبت به الإنسان دعواه، ويغلب به على خصمه.

وفي المصطلح العلمي الخاص:تختلف الحجة في المنطق عنها في الأصول.

ففي المنطق نطلق (الحجة) على مجموعة من القضايا المؤتلفة والمعلومة التي تؤدي إلى استحصال المعرفة والعلم بمجهول تصديقي.

وللحجة مصطلح آخر عند أهل المنطق وهو الحدّ  الوسط، لأن الحدّ  الأوسط في البرهان لا يخلو من أن يكون علة لثبوت الأكبر للأصغر؛ فيكون البرهان (لمياً)، أو يكون الحدّ  الأوسط معلولاً للأكبر وليس علة، أو يكون الحدّ  الأوسط والأكبر معاً معلولين لعلة ثالثة فيكون البرهان (انياً). وعلى كلّ حال يكون الحدّ  الأوسط علة لإثبات الأكبر للأصغر وهو (النتيجة).

وأما (الحجة) عند الأصوليين فهو ما يؤدي إلى إثبات حكم شرعي أو وظيفة شرعية أو عقلية بصورة قطعية.

فمن الحجج ما يؤدي إلى حكم شرعي كالكتاب والسنة والعقل، ومنه ما يؤدي إلى

(36)

وظيفة شرعية أو عقلية كالأصول الأربعة (الأدلة الفقاهتية).

وتتقدم (الحجة) دائماً بالقطع، ولابد أن تؤدي الحجة إلى إثبات ما يثبته من الحكم والوظيفة الشرعية والعقلية بالقطع، ومن دون القطع لن تكون الحجة حجة.

 

2 ـ الحجة الذاتية والحجة بالعرض:

وقد تكون الحجية ذاتية للحجة كما في حجية القطع نفسه، وقد تكون حجية الحجة غير ذاتية. وحجية هذه الحجج (غير الذاتية) لابد أن تنتهي إلى القطع، ولو بعدة وسائط، فلا تكون الحجة حجة إلاّ إذا كانت متقومة بالقطع مباشرة أو بالواسطة.

وبتعبير آخر:الحجة أما أن تكون ذاتية وهي القطع فلا تحتاج إلى جعل للحجية، وأما أن تكون (الحجة) مجعولة من ناحية الشارع جعلاً قطعياً وهي الحجة بالعرض.

ولا يصح إسناد حكم إلى الله تعالى من دون الاستناد إلى الحجة، ولن تكون الحجة حجة دون أن تنتهي إلى القطع والشك في الحجية يساوق عدمها، لأن قوام الحجة اليقين وهذا أمر مهم، وعلى درجة عالية من الأهمية في بحث الحجج.

 

3 ـ مبدأ الاستناد إلى الحجة:

التزم فقهاء الإمامية بمبدأ الاستناد إلى الحجة وقالوا:إنّ  الدليل ما لم يبلغ حد القطع والعلم لا يكون حجة ولا يجوز الاستدلال به والاستناد إليه في استنباط الحكم الشرعي.

كما لا يجوز التـنزل من الحجة إلى اللاحجة عند فقدان الحجة على الحكم الشرعي.

ومهما شككنا في حجية دليل، فإن الشك فيه يساوق عدم الحجية، لأن قوام الحجية القطع، فإذا تسرب الشط إليه اثلم القطع، وبه تنثلم الحجية.

أذن لا يكون الدليل حجة إلاّ إذا كان بذاته علما وقطعا أو كان يعتمد في حجيته

(37)

دليلاً قطعياً ولو بعدة وسائط. وأما الأدلة الظنية التي لا توجب القطع ولا تعتمد على دليل قطعي فلا تكون حجة.

وما لم نعلم علماء يقينيا بأن الشارع قد اعتمد سبيلا من السبل الظنية واعتبره وتعبدنا به لا يجوز لنا أن نتمسك به ونسند مفاده إلى الله.

وهذا أصل مهم في الاستنباط، ويستدل الشيخ الأنصاري قدس سره على ذلك بالأدلة الأربعة:

فمن الكتاب العزيز يقول تعالى:]... إنّ  يتبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يخرصون[([1]) ويقول تعالى:]... قل الله أذن لكم أم على الله تفترون[([2]).

وبموجب هذه الآية المباركة إسناد كلّ ما لم يأذن به الله تعالى إلى الله من الافتراء على الله القبيح عقلا والمحرم شرعاً، وليس من الإذن والافتراء فاصل.

ومن السنة الشريفة يستدل بما رواه الحر العاملي قدس سره:([3]).

«رجل قضى بالحق وهو لا يعلم».

ومن الإجماع ما ادعاه الوحيد البهبهاني قدس سره من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلاً عن الخواص.

ومن العقل اتفاق العقلاء على تقبيح الافتراء على الله تعالى.

ولا يخرج المكلف والفقيه من حالة الافتراء إلاّ إذا استند إلى حجة قطعية في اعتبار الظن، فإذا قامت حجة قطعية على اعتبار ظن خاص كان ذلك الظن حجة بها، ومستندا إليها ومن دون ذلك لا يكون الظن حجة.

وهذا أصل مهم في باب الحجج ذكرناه من قبل وأطلقنا عليه عنوان الاستناد

(38)

إلى الحجة.

ومحصل هذا الأصل:أن الظن ليس بحجة بذاته ولا يجوز اعتماده والاستناد إليه بالنظر إلى ذاته، وإنّما  يكون الظن حجة شرعا إذا قام على حجيته دليل علمي من ناحية الشارع، فيكون الظن حجة من ناحية ذلك الدليل وليس بذاته.

فإذا كان هذا الدليل دليلاً قطعياً بذاته انقطع السؤال، وإن لم يكن دليلاً قطعياً بذاته كان لابد أن ينتهي إلى دليل قطعي.

وبتعبير أوضح:أن حجية الظن عرضية وليست ذاتية، فلابد أن تنتهي حجية كلّ ظن ثبتت حجيته شرعا إلى القطع ولو بعدة وسائط.

فإذا انتهت سلسلة الحجية إلى القطع كان ذلك القطع هو الحجة ومبدأ الحجية في هذه السلسلة، تطبيقا للقاعدة العقلية المعروفة (ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات).

 

حجية الظنون الخاصة:

وهذه هي النقطة الثالثة في بحث الشيخ قدس سره في باب الظن، و(الظن الخاص) مصطلح محدد يذكر في مقابل (الظن المطلق).

ويقصد (بالظن الخاص) ما ثبتت حجيته بدليل علمي في مقابل (الظن المطلق) الوارد في دليل الانسداد في بحث حجية مطلق الظن، وأن لم يرد دليل شرعي خاص على حجيته.

والبحث عن الظنون الخاصة يعتبر الجانب التطبيقي والمصداقي لبحث الظن، ولهذا البحث أهمية كبرى في علم الأصول.

فنحن إذا رفضنا حجية مطلق الظن واقتصرنا في مسألة الحجية على الظنون الخاصة التي تثبت حجيتها بدليل علمي فلابد أن نعرف ونشخص هذه الظنون الخاصة

(39)

لنوظفها في عملية الاستنباط والاجتهاد لاكتشاف الحكم الشرعي.

ولكي نتمكن من اكتشاف الحكم الشرعي لابد لنا من أن نتثبت من حجية أخبار الآحاد التي بين أيدينا، ونتأكد من دلالتها على المعنى الظاهر منها، ونتأكد من جهة صدورها.

والوسائل والأدوات العلمية التي تمكننا من ذلك هي في الغالب وسائل وأدوات ظنية من حيث هي، ولابد لنا في هذا البحث من أن نتثبت من اعتماد الشارع لها واعتبارها ومنحها الحجية ليصح لنا أن نوظفها في اكتشاف الحكم الشرعي.

وهذه الظنون على طائفتين:

الطائفة الأولى:الأدلة والحجج الشرعية على الحكم الشرعي (أو ما يسمى بالطرق والامارات) كالسنة غير المتواترة والإجماع والشهرة.

والطائفة الثانية:المنهج والأسلوب العلمي الذي نوظفه للاستفادة من هذه الطرق في سبيل اكتشاف الحكم الشرعي مثل مسألة حجية الظهور.

فإن ظهور الدليل في مؤداه ليس التنصيص والتصريح كثيراً، وإذا توقفنا عن الأخذ بظهور الأدلة اللفظية بسبب عدم الصراحة والتنصيص ألغينا طائفة واسعة من الروايات والأخبار الظاهرة في معانيها غير الصريحة، وحجية الظهور تمكننا من الاستفادة من هذه الروايات.

والبحث عن حجية الظهور قد يكون بحثاً كبرويا (كليا) في أصل الحجية، ومستند العلماء في حجية الظهور هو طريقة العقلاء في الأخذ بالظهور في معاشهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، ولولا ذلك الأخذ لاختلت حياتهم، والشارع لم يلغ هذه الطريقة بل أمضاها، واعتبرها باعتباره سيدهم ورئيسهم، وإمضاء  الشارع لطريقة العقلاء يكفي في حجيتها.

وقد يكون البحث في حجية الظهور بحثا صغرويا كالبحث عن ظهور الأمر في

(40)

الوجوب والفور، والبحث عن ظهور الأمر عقيب الحظر في الإباحة. وتتكفل مباحث الألفاظ في الأبحاث الأصولية عادة بمثل الأبحاث الصغروية ويطلق عليها عنوان (المبادئ) بخلاف الجانب الكبروي من المسألة ـ وهو أصل مسألة حجية الظهور ـ فإنه يعتبر من صلب المسائل الأصولية.

 

4 ـ منهج ترتيب الحجج من حيث الإسناد:

ويتم ترتيب الحجج في الحجية وفي الاستناد إلى المنهج التالي، وهو المنهج الذي يقترحه المحقق الخراساني في كفاية الأصول في تعديل منهج أستاذه الشيخ الأنصاري قدس سرها في ترتيب الحجج:

يقول قدس سره:«فالأولى أن يقال أن المكلف أما أن يحصل له القطع اولا، وعلى الثاني أما أن يقوم عنده طريق معتبر أولا».

وتوضيح هذا الترتيب:

1 ـ أن المكلف إذا حصل له القطع بالحكم الشرعي فيعمل به بالضرورة، فإن القطع منجز للتكليف في حالة الإصابة، ومعذر عند دم الإصابة والمخالفة، والتنجيز والتعذير لازمان عقليان للقطع بالحكم الشرعي.

2 ـ وإذا لم يقطع المكلف بالحكم الشارع، وهو ما سميناه في العنوان السابق الحجة بالعرض في مقابل الحجة بالذات، وهو القطع وهذا الطائفة من الأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر تسمى عادة (الإمارات) و(الطرق) و(الظنون الخاصة) وذلك مثل (خبر الثقة الواحد) و(الإجماع) و(الشهرة) وغير ذلك من الأدلة الظنية التي اعتبرها الشارع وتعبدنا بها.

(41)

3 ـ وان لم يتيسر للمكلف طريق معتبر (دليل ظني معتبر) يرجع إلى الأصول العملية التي تقرر وظيفة المكلف في حالة عدم تمكنه من دليل ظني معتبر.

حالة الاستيعاب والترتب في الحجج:

وهذه المخمصة الجديدة في بحث الحجج تجمع من أمرين:الأول منهما استيعاب كلّ الحجج وبصورة كاملة فلا تبقى حجة من الحجج ذاتية أو مجعولة تفيد حكما شرعياً أم وظيفة عقلية أو شعرية إلاّ وتدخل ضمن هذه المنهجية، كما سنوضح ذلك أن شاء الله فيما يأتي.

والميزة الأخرى لهذه المنهجية الترتيب والحالة الطولية في عرض الحجج، فالقطع وهو انكشاف الواقع يتقدم على كلّ حجة أخرى ولا تزاحمه حجة، مهما كانت، وبعد ذلك يأتي دور الطريق والأمارات التي اعتبرها الشارع، وهي حجة في حالة عدم انكشاف الواقع وفقدان القطع، وأن تمكن المكلف من الوصول إلى القطع بالحكم الشرعي فهي حالة مترتبة على الحالة الأولى، بمعنى أن حجية الطرق والأمارات المعتبرة تأتي في حالة غياب القطع وعدم انكشاف الواقع، ومع انكشاف الواقع والقطع بالحكم الشرعي لا يصح الاعتماد على هذه الطرق والامارات وإن كان لا يجب على المكلف أن يسعى للوصول إلى القطع.

والحالة الثالثة مترتبة على فقدان الحالة الثانية، فإن المكلف إنّما  يصح له الرجوع إلى الأصول العملية الشرعية والعقلية في حالة غياب وفقدان الطرق والأمارات المعتبرة شرعا، وبعد الفحص عنها واليأس منها بالمقدار المتعارف.

 

5 ـ تقسيم الدليل إلى الأمارات والأصول:

ومن الشرح المتقدم يتضح أن المكلف إذا لم يقطع بالحكم الشرعي فلابد أن يعمل

(42)

 

بالأمارات والأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر.

وإذا فقد المكلف هذه الطرق الظنية المعتبرة، ولم يتيسر له طريق معتبر شرعا إلى الحكم الشرعي كان المورد مجرى لأحد (الأصول) المعروفة الجارية في الشبهات الحكمية أو الموضوعية.

أقسام الأصول:

وهذه الأصول بعضها عقلي كالبراءة والاحتياط العقليين، وبعضها شرعي كالاستصحاب والبراءة الشرعية. ومنها ما يخص الشبهات الموضوعية الخارجية أي ما يكون اللبس والشك في الموضوع الخارجي وليس في الحكم الشرعي وذلك كقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة سوق المسلمين وقاعدة أصالة الصحة في فعل الغير وغير ذلك.

ومنها ما يعم الشبهات الموضوعية والحكمية (أي ما يكون الشك فيه في الموضوع الخارجي أو الحكم الشرعي)... وأهم هذه الأصول التي تعم الشبهات الحكمية والموضوعية هي الأصول العملية الأربعة المعروفة التي يبحث فيها علماء الأصول في باب الشك.

وهذه الأحكام الظاهرية التي تجرى عند الشك متميزة عن الأمارات الظنية أنها تفقد صفة الكشف عن الحكم الواقعي ولا تكسب الشاك رؤية إلى الحكم الشرعي الواقعي، أو إلى الموضوع الخارجي ذي الأثر الشرعي بعكس الأمارات فأنها تملك في حد نفسها درجة من الكشف عن الواقع. غير أنها ضعيفة وغير كاملة، فيتممها الشارع بالاعتبار الشرعي، بإلغاء احتمال الخلاف واعتبار ما تؤدي إليه الامارة (كالخبر مثلاً) هو الحكم الشرعي الواقعي.

أما الأصول الشرعية والعقلية التي تجري في مورد الشك فتفقد هذه الخصوصية الناقصة عن الكشف، ولا تكسب الشك في الحكم الشرعي رؤية إلى الحكم وإنّما  تقرر له

(43)

وظيفته العملية في ظرف الشك فقط.

ومن هذا المنطلق بدأت تختمر عند علماء الأصول فكرة تفكيك الأصول عن الامارات والطرق، وفرز أحداهما عن الأخرى.

وهذا التفكيك بين الامارات والأصول ظهر كما يبدو ولأول مرة على يد الوحيد البهبهاني قدس سره إلاّ أن الوحيد اقتصر فقط على التفكيك بينهما دون أن يجعل من هذا التفكيك أساساً لتغيير منهج الدراسات الأصولية، ودون أن يتناول بالبحث الآثار العلمية الكبرى لهذا التفكيك.

أما الشيخ فقد جعل من التفكيك بين الامارات والأصول أساساً لمنهجه الحديث في علم الأصول وتناول الآثار والنتائج المترتبة على هذا التفكيك بشكل علمي وعميق وخرج نتيجة لذلك بتصورات وأفكار جديدة في علم الأصول. يقول الشيخ قدس سره في أول المقصد الثالث عن صاحب الفرائد وهو بحث (الشك):

قال الشيخ في اول المقصد الثالث وهو بحث الشك من كتاب (فرائد الأصول):

قد عرفت أن القطع حجة في نفسه لا بجعل جاعل، والظن يمكن أن يعتبر في الطرف المظنون لأنه كاشف عنه ظنا لكن العمل به والاعتماد عليه في الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به شرعا وهو غير واقع إلاّ في الجملة. وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعية في الجزء الأول من هذا الكتاب وأما الشك فلما لم يكن فيه كشف أصلاً لم يعقل فيه أن يعتبر فلو ورد في مورده حكم شرعي كان يقول الواقعة المشكوك حكمها كذا كان حكما ظاهرياً لكونه مقابلاً للحكم الواقعي المشكوك بالفرض ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضاً لأنه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه لأن موضوع هذا الحكم الظاهري وهو الواقعة المشكوك في حكمها لا يتحقق إلاّ بعد تصور حكم نفس الواقعة والشك فيه. مثلاً (شرب التتن) في نفسه له

(44)

حكم وفرضنا فيما نحن فيه شك المكلف فيه، فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم الوارد متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق وهذا الوارد ظاهري لكونه المعمول به في الظن وواقعي ثانوي لأنه متأخر عن ذلك الحكم لتأخر موضوعه عنه، ويسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهري أصلا، وأما ما دل على الحكم الأول علما وظنا معتبرا فيختص باسم الدليل وقد يقيد بالاجتهادي، كما أن الأول قد يسمى بالدليل مقيدا بالفقاهتي وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد، ثم أن الظن غير المعتبر حكمه حكم الشك كما لا يخفى. ومما ذكرنا من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأجل تقييد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي يظهر لك وجه تقديم الأدلة على الأصول، لأن موضوع الأصول يرتفع بوجود الدليل، فلا معارضة بينهما، لا لعدم اتحاد الموضوع بل لارتفاع موضوع الأصل وهو الشك لوجود الدليل.

 

المنهجية الجديدة لعلم الأصول:

 

ومهما يكن من أمر فان الشيخ الأنصاري قد وضع في هذا التقسيم الذي ذكره للدليل أساساً قويا لمنهجية جديدة تماماً في علم الأصول، وجعل منه منطلقاً جديداً لعلم الأصول، وانطلق منه إلى اكتشاف ودراسة الآثار والنتائج العلمية الكبرى المترتبة على هذا التفكيك.

وعلى هذا الأساس ادخل الشيخ الأنصاري الأدلة الاجتهادية في المقصد الثاني من كتابه، في بحث الظن كالبحث عن خبر الواحد والإجماع والسيرة والشهرة، وهي الفقاهتية) وهي الأصول العملية الأربعة في المقصد الثالث وهو مبحث الشك.

وقسم الشيخ الأنصاري الأصول العملية الأساسية التي تجري في ظرف الشك إلى

(45)

أربعة أقسام حصرا عقليا ودقيقاً؛ فقال في أول كتابه (الفرائد): فاعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فأما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن؛ فان حصل له الشك فالمرجع فيه في القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى بالأصول العلمية،وهي منحصرة في الأربعة لأن الشك أما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، وعلى الثاني فأما أن يمكن الاحتياط أم لا، وعلى الأول فأما أن يكون الشك في التكليف أو المكلف به.

فالأول مجرى الاستصاحب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى أصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.

وبعبارة أخرى:الشك أما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أولا، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني أما أن يمكن الاحتياط فيه أولا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط والثاني مجرى قاعدة التخيير.

وما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة وهو تنظيم جديد وجيد وقائم على أساس علمي متين.

وعلى هذا الأساس استقر علماء الأصول في تنظيم أبحاث الأصول منذ عهد الشيخ الأنصاري إلى اليوم الحاضر. وهذا التمييز بين الأدلة الاجتهادية والفقاهتية وتبويب الأدلة على أساس منها ما يختص به فقهاء الإمامية المعاصرون منذ عصر الشيخ الأنصاري إلى الوقت الحاضر... وعند ما نرجع إلى كتب الأصول للمذاهب السنية، المعاصرة منها والقديمة، لا نجد مثل هذا التفكيك، ونرى أنهم يذكرون هذه الأدلة في عرض واحد، فالكتاب والسنة والإجماع تذكر في عرض القياس والاستحسان، وهما يذكران في عرض الاستصحاب.

(46)

اختلاف المجعول في أدلة حجية الأمارات عن المجعول في أدلة حجية الأصول:

ما هو الفرق بين مفاد أدلة حجية الأمارات (الأدلة الاجتهادية)، ومفاد أدلة حجية الأصول (الأدلة الفقاهتية) ؟

وبتعبير آخر ما هو المجعول في باب أدلة حجية الأمارات وأدلة حجية الأصول ؟ هل هما شيء واحد، أم أن المجعول في ظل واحد منهما يختلف عن الآخر؟

وللإجابة عن هذا السؤال يرى المحقق النائيني ـ أحد ابرز تلاميذ هذه المدرسة ـ أن في كلّ علم ثلاث جهات:فهو صفة قائمة في نفس صاحبه أولا، وكاشفة عن المعلوم ثانياً، ومحركة إلى العمل بما يقتضيه المعلوم ثالثا.

 

مفاد أدلة حجية الأمارات بعد إلغاء احتمال الخلاف:

وأدلة حجية الأمارات تتكفل بجعل الجهة الثانية للأمارات، وأدلة حجية الأصول تتكفل بإثبات الجهة الثالثة.

ذلك أن الامارة ـ كحبر الثقة ـ تنطوي على درجة من الكشف والاحراز والطريقية بطبيعة الحال ن إلاّ أنها رؤية ناقصة وأدلة حجية الأمارات تتكفل بتتميم كشفها تعبدا، بمعنى إلغاء احتمال الخلاف تعبدا وهذا أمر ممكن ([4]) فلا يبقى لاحتمال الخلاف بعد قيام الدليل على اعتبار الأمارة وحجيتها قيمة، فإذا تم كشفها بتعبد من الشارع، كان علما بعناية التعبد الشرعي ومنجزاً لمؤداء بطبيعة الحال لأن التنجيز هو الأثر العقلي للعلم وهذا هو معنى ما اشتهر من مدرسة الشيخ الأنصاري قدس سره بأن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفيّة.

(47)

وأما التحرك العملي نحو المؤدى فهو من لوازم العلم بالمؤدى وانكشاف المؤدى للمكلف، وهو على نحو التعبد وإلغاء الخلاف، وليس هو المجعول ابتداء في أدلة حجية الأمارات.

 

مفاد أدلة حجية الأصول هو الجري العملي:

وأما مفاد الأدلة الدالة على حجية الأصول فهذه النقطة الثالثة من جهات العلم، بمعنى أن المجعول في الأصول هو الجري العملي بموجب المؤدى، وليس في الأصول أي كشف أو إحراز ورؤية للمؤدى إطلاقا، وإنّما  تتكفل أدلتها فقط بضرورة الجري العملي بالطريقة التي يقرها الأصل من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير، من دون فرق بين الأصول التنزيلية كالاستصحاب وغير التنزيلية في أن المجعول في باب الأصول التنزلية هو البناء العملي بموجب الأصل على أنّه هو الواقع وإلغاء احتمال الخلاف، وأما المجعول في باب الأصول غير التنزيلية فهو الجري العملي فقط دون البناء على أنّه هو الواقع.

وهذا هو ما اشتهر على السنة تلاميذ الشيخ قدس سره أن المجعول في باب الأصول هو الجري العملي.

نفي حجية مثبتات الأصول:

ومن هذا المنطلق قرروا حقيقتين:

الأولى:حجية مثبتات الأمارة دون الأصول، فإن الأمارات بعد أن يتم كشفها من ناحية الشارع تكون حجة في لوازمها العقلية والعادية، كما لو كان الكشف تاما تكوينا([5]).

(48)

وأما الأصول فلما كانت فاقدة لصفة الإحراز والكشف بصورة نهائية، ولم يكن لسان حجيتها جعل الكشف لها أو تتميم كشفها، فلا محالة لا يكون لوازمها العقلية والعادية حجة، ويقتصر أمر حجيتها على مؤداها فقط إذا كان مؤداها حكماً شرعياً، وعلى الأحكام التي تترتب على موضوعاتها إذا كان مؤداها موضوعاً لحكم شرعي.

والثانية:تقديم الأمارات على الأصول، واعتبارها واردة أو حاكمة على الأصول وهذا ما سنوضحه أن شاء الله فيما يأتي بناءً على متبنيات مدرسة الشيخ الأنصاري.

 

تقديم الأدلة بعضها على بعض:

انطلاقا من الشرح المتقدم في التمييز والتفريق بين الأدلة (الاجتهادية) و (الفقاهتية) تتولى مدرسة الشيخ الأنصاري أمر تنظيم الأدلة وتقديم بعضها على بعض، فليس بين الأدلة الاجتهادية والأدلة الفقاهتية بناء على هذا التمييز تعارض، كما لا يكون بين العام والخاص تعارض إلاّ ما يكون التعارض البدوي غير المستقر، فإن الامارات ترفع موضوع الأدلة الفقاهتية تكوينا وبالوجدان أو بالتعبد والتشريع، وبارتفاع موضوع الأدلة الفقاهتية ترتفع الوظيفة العملية الثابتة بالعقل أو بالشرع لهذا الموضوع، فتتقدم الأدلة الاجتهادية على الأدلة الفقاهتية قهرا، ويتم ذلك من خلال منهجين مختلفين هما:(الورود) و(الحكومة).

وسوف نتحدث عنهما في الفصل القادم عند الحديث عن تعارض الأدلة.

 

6 ـ تقسيم مفاد الدليل إلى الأحكام والوظائف العملية:

ما هو مفاد الدليل؟

تحدثنا عن الحجة والدليل، والآن نتحدث عن مفاد ومدلول الدليل.

ولكي نتحدث عن مفاد ومدلول الدليل لابد أن نفرق في البحث عن مفاد الدليل

(49)

 بين أمرين مختلفين الجعل والمجعول.

إنّ  الجعل يتم بإنشاء من ناحية المشرع، تحقق موضوعه في الخارج أم لم يتحقق، وأما المجعول فيتوقف بثبوته على حصول موضوعه في الخارج.

ففي قوله تعالى: ]واعلموا إنّما  غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولدي القربى[([6]) قد ثبت بتشريع هذا الحكم وتبليغه جعل وجوب الخمس على الغنائم على كلّ مكلف أحرز الغنيمة.

وهذا الجعل قد تم وثبت بأصل التشريع ولا يتوقف ثبوته على تحقق الغنيمة في الخارج.

أما الوجوب (المجعول9 على عهدة المكلف فيتوقف تحققه على وجود المكلف وحصول الغنيمة فأيهما هو مفاد الدليل؟

أن مفاد الدليل دائما هو الجعل وليس المجعول، فإن الدليل لا يتعهد غير بيان أصل جعل وجوب الخمس على الغنيمة، أما تحقق وثبوت هذا الوجوب في الخارج على عهدة المكلف فلا علاقة له بالدليل وإنّما  يتم بتحقق موضوعه وينتفي بانتفاء موضوعه في الخارج.

 

الأقسام الثلاثة للأصول:

وتوضيح ذلك أن الأدلة الفقاهتية على ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: الأصول المؤمنة كالبراءة العقلية والشرعية.

والطائفة الثانية: الأصول المنجزة والمثبتة للوظيفة الشرعية والعقلية كالاشتغال والاستصحاب في بعض الموارد.

والطائفة الثالثة: ما يفيد التخيير ويرفع كلية التعيين عن عهدة المكلف، وهو

(50)

اصل (التخيير) العقلي.

 

الوظيفة الشرعية والعقلية في موارد الأصول المؤمنة:

ومن الواضح أن الطائفة الأولى، وهي الأصول المؤمنة، ليست ناظرة إلى نفي وجود الحكم الشرعي المشكوك، ولا تزيد على براءة ذمة المكلف من التكليف في ظرف الشك بالحكم الشرعي والجهل به، وقد يكون الحكم الشرعي قائما بالفعل ولكنه لا يتنجز على عهدة المكلف إلاّ بالعم، وفي فرض الجهل لا يكون المكلف مطالبا بالتكليف.

فالأصول المؤمنة أذن لا تدل على نفي وجود الحكم الشرعي ويبقى المكلف حتّى بعد إجراء البراءة شاكا في وجود الحكم الشرعي ولا يقطع بانتفائه، إلاّ أنّه  يقطع ببراءة ذمته من التكليف المشكوك فقط في ظرف الجهل به.

الوظيفة العقلية في موارد الأصول المثبتة للتكليف:

وكذلك الأمر في موارد الأصول العملية التي تنجز وتثبت حكما على عهدة المكلف كأصل الاشتغال والاستصحاب، وهي الطائفة الثانية من الأصول، فإنها لا تثبت وجود حكم شرعي كان يجهله المكلف وإنّما  تثبت فقط على عهدة المكلف وظيفة شرعية أو عقلية بالاحتياط في مورد الاشتغال، وباستصحاب الحالة السابقة في مورد الاستصحاب، والاحتياط والاستصحاب وظيفتان للمكلف في ظرف الجهل بالحكم الشرعي ولا يمكن أن يكون مؤداهما هو الحكم الشرعي الثابت على عهدة المكلف، لأنهما يقعان في طول الجهل بالحكم الشرعي وفي رتبة متأخرة عن الحكم الشرعي، فكيف يمكن أن تتحد الوظيفة والحكم مع اختلافهما في الرتبة؟.

الوظيفة العقلية في مورد اصل التخيير:

وكذلك الأمر في الطائفة الثالثة وهي أصالة التخيير والأمر فيها أوضح من الطائفتين السابقتين، فان التخيير في مورد تردد التكليف بين المحذورين ليس هو الحكم

(51)

الشرعي الواقعي قطعاً، لأن الحكم الشرعي الواقعي لا يخلو من أن يكون أحد المحذورين، أما الوجوب أو الحرمة، وليس أحدهما على نحو الترديد والتخيير قطعاً. فالتخيير بينهما أذن هو وظيفة المكلف في ظرف تردده بين الوجوب والحرمة (المحذورين) مع العلم بثبوت أحدهما قطعا على نحو الأجمال.

 

الفرق بين الحكم والوظيفة من حيث الرتبة:

وهكذا يتضح من هذا الشرح أن مفاد الدليل في موارد الأصول العملية (الأدلة الفقاهتية) هو الوظيفة الشرعية أو العقلية.

وليست أدلة حجية الأصول ناظرة إلى إثبات الحكم الشرعي إطلاقا، لا إثباتا ولا نفيا، وإنّما  تفيد فقط تبيين الموقف العملي للمكلف في ظرف الشك والجهل، وهو أمر آخر غير الحكم الشرعي، بل لا يمكن أن يكون مفاد الأصول هو الحكم الشرعي، لأن الأحكام الشرعية مفاد الامارات (الأدلة الاجتهادية)، فلا يمكن أن تكون ـ مع ذلك ـ مفاداً للأصول نظراً لتأخر مفاد الأصول عن مفاد الامارات. فإذا كان مفاد الامارات هو الحكم الشرعي الواقعي، فلا يمكن أن يكون الحكم الشرعي الواقعي مفاداً للأصول في نفس الوقت. فإننا إنّما  نلجأ إلى الأصول عند الجهل بالحكم الشرعي الواقعي الذي هو مفاد الامارات.

فهما يأتيان في رتبتين مختلفتين فكيف يمكن أن يكون مفاد أحدهما هو مفاد الآخر؟ هذا من حيث الاختلاف في الرتبة.

الفرق بين الحكم والوظيفة من حيث المؤدى:

وكما يختلف الحكم عن الوظيفة من حيث الرتبة يختلف (الحكم) عن (الوظيفة) من حيث المؤدى أيضاً، فإن الأحكام ناظرة إلى وجود المصلحة والمفسدة في المؤدى، فقد تكون المصلحة أو المفسدة في المؤدى ملزمة فيكون الحكم واجبا أو حراماً. وقد تكون

(52)

المصلحة والمفسدة في المؤدى غير ملزمة فيكون الحكم مستحبا أو مكروها.

وقد تتوازن المصلحة والمفسدة أو يخلو الواقع من المصلحة والمفسدة فيكون الحكم مباحا.

أما الوظيفة فليست ناظرة إلى وجود مصلحة أو مفسدة في المؤدى والمجعول، إطلاقا وإنّما  هي ناظرة إلى مصلحة في اصل الجعل، لا المجعول لغرض التسهيل والتيسير على العباد كما في مورد البراءة، أو لغرض المحافظة على الأحكام الواقعية كما في مورد الاشتغال والاحتياط.

 

7 ـ ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض:

انطلاقا من الشرح المتقدم في التمييز والتفريق بين (الأدلة الاجتهادية) و(الأدلة الفقاهتية) تتولى المدرسة الأصولية عند الشيعة الإمامية أمر تنظيم الأدلة وتقديم بعضها على بعض.

فليس بين الأدلة الاجتهادية والأدلة الفقاهتية بناء على هذا التمييز تعارض حقيقي، كما لا يكون بين العام والخاص تعارض إلاّ ما يكون من التعارض البدوي غير المستقر.

فإن الأمارات ترفع موضوع الأدلة الفقاهتية تكوينياً، وبالوجدان أو بالتعبد والتشريع، وبارتفاع موضوع الأدلة الفقاهتية ترتفع الوظيفة العملية الثابتة بالعقل أو بالشرع لهذا الموضوع فتتقدم الأدلة الاجتهادية على الأدلة الفقاهتية قهرا، ويتم ذلك من خلال منهجين مختلفين هما (الحكومة) و(الورود).

ولا بد لهذا الأمر من إيضاح وتفصيل وشرح، واليك هذا الشرح.

(53)

التعارض البدوي غير المستقر بين الأدلة:

هناك أربع حالات من حالات العلاقة بين الدليلين تبدو ابتداء أنها داخلة ضمن حالات التعارض بين الأدلة ولكن ببعض الإمعان والتأمل نجد إنها خارجة من دائرة التعارض بين الأدلة، وهذه الحالات هي:

1 ـ التخصص.

2 ـ التخصيص.

3 ـ الورود.

4 ـ الحكومة.

وبموجب هذه الحالات يتم تقديم دليل على دليل آخر، دون أن تدخل هذه الحالات في دائرة التعارض بين الأدلة.

وسوف نتحدث أن شاء الله عن هذه الحالات الأربع واحدة بعد أخرى.

1 ـ التخصص:

التخصص هو خروج موضوع الدليلين عن موضوع الدليل الآخر، كما إذا حكم أحد الدليلين بإكرام العالم، ونهى الدليل الآخر عن إكرام الجاهل فإن موضوع الدليل الثاني هو (الجاهل) وهو خارج عن موضوع الدليل الأول بالوجدان، فلا منافاة بين هذا الدليل وذلك ولا تعارض بين هذا الأمر وذاك النهي.

2 ـ التقييد والتخصيص:

لا شك في أن دليل (الخاص) يتقدم على (العام)، ويعتبر قرينة على أن المتكلم لم يكن يقصد من أول الأمر العام بالمعنى الظاهر منه، غير أن الدليل إذا كان متصلا بالعام كان قرينة مانعة من انعقاد ظهور العام في معناه من أول الأمر وأما إذا كان الدليل المخصص منفصلا عن العام فإن ظهور العام ينعقد لا محالة في معناه الظاهر فيه، غير أن المخصص

(54)

يكشف لاحقا عن أن المتكلم لم يكن يقصد المعنى الظاهر من العام في استعماله الأول.

فيتقدم على كلّ حال الدليل المخصص على الدليل العام، ولا يكون ثمة تعارض وتناف بين الدليلين، إذا إنّ  الدليل المخصص بعينه قرينة موضحة لمراد المتكلم من الاستعمال الأول.

فلو أمر الآمر بإكرام الفقراء، ثم نهى عن إكرام الفقراء الفساق فان النهي الثاني يعتبر قرينة على أن المتكلم لم يكن يقصد في الاستعمال الأول من كلية الفقراء عموم الفقراء وإنّما  كان يقصد الفقراء العدول.

أذن الجمع العرفي والعقلائي بين هذين الدليلين بعد ضم أحدهما إلى الآخر يقتضي تقييد المطلق وتخصيص العام من الاستعمال الأول إلى الاستعمال الثاني، واعتبار الدليل الثاني شارحا وموضحا لمراد المتكلم من الاستعمال الأول.

وبذلك فلا يدخل التخصيص والتقييد في باب تعارض الأدلة.

3 ـ الورود:

نستطيع أن نفهم معنى إجمالياً عن (الورود) بملاحظة العلاقة بين (الامارات) وبين الأصول العقلية العملية وهي البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليان.

أن خبر الثقة الواحد من الأمارات الظنية التي تثبت حجيتها بالدليل القطعي، بعكس النصوص المتواترة والمستفيضة الموجبة للقطع بنفسها والتي لا تحتاج إلى دليل من الشرع على حجيتها.

فإذا ورود خبر من ثقة على حكم شرعي بعد ثبوت حجية خبر الثقة الواحد يعتبر هذا الخبر بيانا من قبل الشارع على ذلك الحكم، وبه يرتفع موضوع البراءة العقلية وهو (عدم البيان) من ناحية الشارع بناء على القاعدة العقلية المعروفة (قبح العقاب بلا بيان) فإن بخر الثقة الواحد بيان من ناحية الشارع قطعا وبه ينتفي موضوع الأصل، وهو عدم البيان.

(55)

وكذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على أصالة الاحتياط العقلية، فإن موضوع أصالة الاحتياط هو احتمال العقاب عل ترك الوجوب المحتمل أو ارتكاب الحرمة المحتملة، ومع حصول خبر الثقة الذي ثبتت حجيته من ناحية الشرع يحصل للمكلف الأمن من العقوبة على مخالفة الوجوب المحتمل أو ارتكاب الحرمة المحتملة لأن المكلف حينذاك يستند في ترك الواجب المحتمل أو ارتكاب الحرام المحتمل إلى ترخيص وأذن من الشارع، وبه يأمن عقوبة الشارع، ولا يبقى موضوع ولا مجال لجريان (أصالة الاحتياط من الناحية العقلية).

كذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على أصالة التخيير العقلية فإن التخيير العقلي هو عدم وجود مرجح لأحد الطرفين على الطرف الآخر، وخبر الثقة الواحد يصلح أن يكون مرجحا للطرف الذي يدل عليه الخبر على الطرف الآخر، فلا يبقى مع وصول الخبر موضوع ولا مجال لجريان أصالة التخيير العقلية وبناء على هذا الإيضاح فإن الامارات والطرق (الأدلة الاجتهادية) تقدم على الأصول العقلية من البراءة والاحتياط والتخيير والطرق (الأدلة الفقاهتية) ولا يكون بينهما تعارض، لأن معنى التعارض هو تكاذب الدليلين، ولايتكاذب الدليلان إلاّ إذا كانا في عرض واحد، واما إذا كان أحدهما في طول الآخر فلا يتكاذبان الأمر هنا كذلك فإن الأصول العقلية تجري عند انتفاء خبر الثقة، ولا معنى لجريان هذه الأصول مع وجود خبر الثقة، ويسمي الشيخ الأنصاري قدس سره هذه العلاقة بين الأدلة (الورود) ويحدده بما لو كان الدليل الوارد ينفي موضوع الدليل (المورود) نفيا تكوينيا ووجدانيا، بعناية التعبد من الشارع.

وهذا نوع من العلاقة بين الأدلة الاجتهادية والفقاهتية اكتشفه الشيخ الأنصاري قدس سره في جهده العلمي في المباحث العقلية من الأصول.

4 ـ الحكومة:

والنوع الثاني من العلاقة بين (الأدلة الاجتهادية والأدلة الفقاهتية) هو (الحكومة) 

(56)

وهي أيضاً تقتضي تقدم الدليل الاجتهادي على الدليل الفقاهتي، ولكن ببيان آخر وطريقة أخرى تختلف بعض الشيء عن (الورود).

وتطلق (الحكومة) في مدرسة الشيخ الأنصاري قدس سره على حالة خاصة من العلاقة بين الدليلين يكون فيها أحد الدليلين ناظرا إلى مفاد الدليل الآخر وشارحا له ومبينا لكمية مدلوله، حتّى إذا كانت هذه النظارة والشرح من الدليل الثاني للدليل الأول بغير الألفاظ المستعملة للشرح والتفسير نحو قولنا (بمعنى أي التفسيرية).

وفي مورد (الحكومة) لا تنفي الأدلة الاجتهادية موضوع الأصول العملية نفيا تكوينيا بالوجدان كـ(الورود) وإنّما  تنفيه نفيا تشريعيا وبتعبد من الشارع، وبحكم منه، ولعل ذلك هو سبب تسميته بـ(الحكومة) وهذه (الحكومة) ترد كثيراً في العلاقة بين الامارات والأصول الشرعية (البراءة الشرعية والاستصحاب)، فإن موضوع البراءة الشرعية بمقتضى حديث الرفع: (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) هو الجهل بالحكم الشرعي، وبوصول خبر الثقة يرتفع الجهل بتعبدنا من ناحية الشارع، فإن المكلف يبقى من الناحية التكوينية لا محالة شاكا بالحكم الواقعي الشرعي، وجاهلا به ولا ينفي خبر الثقة الواحد جهله وشكه تكوينيا وبالوجدان، ولكن بما أن الشارع تعبدنا بحجية خبر الثقة وأتم الكشف الذاتي الناقص الموجود في هذا الأمارة فإن وصول خبر الثقة إلى المكلف يرفع الجهل بالحكم الواقعي الشرعي لديه بتعبد وتشريع من ناحية الشرع، ومع انتفاء الجهل تعبدا ينتفي موضوع الأصل فيثبت الدليل الاجتهادي ويتقدم على الدليل الفقاهتي ولا يعارضه الدليل الفقاهتي وهو يختلف عن طريقة تقدم خبر الواحد الثقة على الأصول العقلية فإن خبر الثقة بعد ثبوت حجيته من الشرع بيان من دون شك وهو يرفع موضوع البراءة العقلية ـ مثلا ـ وهو اللابيان بصورة تكوينية قطعا.

وهذه (الحكومة) على ما اصطلح عليه الشيخ قدس سره نحو آخر من تقدم الامارات

(57)

على الأصول العملية.

 

العلاقة بين الأصول العملية:

ويتحدث الشيخ بعد ذلك عن العلاقة بين الأصول العملية نفسها، فمن الممكن أن تتعارض الأصول العملية بعضها مع بعض، وهذا التعارض يكون بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية (البراءة والاحتياط والتخيير) أو بين استصحابين.

 

العلاقة بين الاستصحاب والأصول العقلية:

أما في العلاقة بين الاستصحاب والأصول العقلية (البراءة العقلية والتخيير والاحتياط)، فالاستصحاب لا محالة يكون واردا على هذه الأدلة بموجب مصطلح الشيخ، ورافعا لموضوعها رفعا تكوينيا، لأن الاستصحاب حينئذ يعتبر بيانا من الشارع، ومع وجود البيان ينتفي موضوع الأصل، بصورة تكوينية، وموضوع الاحتياط عدم الأمن من العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب، وبالاستصحاب يتحقق الأمن من العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب، وبالاستصحاب يتحقق الأمن من العقاب شرعا بصورة تكوينية كذلك ولا يبقى موضوع الاحتياط...

وموضوع التخيير عدم وجود مرجح لأحد الطرفين، والاستصحاب يصلح شرعا أن يكون مرجحا حقيقيا للطرف الذي يدل عليه الاستصحاب، وبذلك ينتفي موضوع التخيير وهو عدم وجود المرجح.

وبناء عليه يتقدم الاستصحاب على كلّ من الأصول العقلية الثلاثة، وتكون العلاقة بين الاستصحاب وبينها علاقة (الورود) على مصطلح الشيخ قدس سره.

 

العلاقة بين الاستصحاب والبراءة الشرعية:

وأما العلاقة بين الاستصحاب والبراءة الشرعية فهي من (الحكومة) لأن الاستصحاب يرفع موضوع البراءة الشرعية وهو (الجهل بالحكم الشرعي الواقعي)

(58)

بتعبد من الشارع لأن للاستصحاب نظراً إلى الواقع، ويختلف الاستصحاب بذلك عن سائر الأصول العملية، التي لها صفة وظيفية محضة، وليس لها نظر إلى الواقع، وعليه فإن الاستصحاب بتعبد من الشارع يرفع حالة الجهل فيكون حاكما على البراءة الشرعية بالتوضيح المتقدم.

الأصول التنزيلية:

ومن هنا انفتح على هذه المدرسة باب جديد من العلم في التمييز بين نوعين من الأصول العملية (التنزيلية منها وغير التنزيلية). فقد وجدوا أن مهمة طائفة من الأصول العملية كالاستصحاب هي تنزيل أحد طرفي الشك منزلة الواقع في البناء العملي، بينما وجدوا أن مهمة طائفة أخرى من الأصول العملية تحديد الوظيفة العملية للمكلف في ظرف الشك بمقتضى ما يؤدي إليه الأصل دون النظر إلى الواقع وتنزيل المؤدى منزلة الواقع.

وسموا الطائفة الأولى بالأصول التنزيلية والطائفة الثانية بالأصول غير التنزيلية، وقالوا بحكومة الأصول التنزيلية على غير التنزيلية، لأن مهمة الأصول التنزيلية هي تنزيل مؤدى الأصل منزلة الواقع في مقام العمل.

وبهذا التنزيل العملي يرتفع الشك والجهل بالحكم الشرعي ويرتفع بذلك موضوع الأصول غير التنزيلية بالتفصيل الذي تحدثنا عنه تعبداً، وبذلك تكون الأصول التنزيلية حاكمة على الأصول غير التنزلية مقدمة عليها، ولا يكون بينهما تعارض لتقدم الأول على الثاني إلاّ ما يبدو لأول وهلة بينهما من (التعارض البدوي) الذي يزول بعد النظر والتأمل.

 

[1]  ـ سورة الأنعام: 116.

[2]  ـ سورة يونس: 59.

[3]  ـ وسائل الشيعة الباب الرابع من صفات القاضي الحديث 6.

[4]  ـ يرى المحقق العراقي قدس سره أن الكشف وتعميمه أمر تكويني غير قابل للجعل والرفع بالتشريع ولكنه من الممكن أن يتعلق التشريع بإلغاء احتمال الخلاف. 

[5]  ـ حجية مثبتات الأمارات وان اشتهرت على ألسن المتأخرين لكنها ليست قطعية وللمناقشة فيها مجال واسع. 

[6]  ـ سورة الأنفال: 41.