الواقعية في الإسلام (دراسة وتحليل)

الواقعية في الإسلام (دراسة وتحليل)

 

 

الواقعية في الإسلام

(دراسة وتحليل)

 

ماجد سعيد

قم ـ إيران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

خصائص الإسلام العامة

تمتع الإسلام بجملة خصائص رفيعة كان لها الأثر الفاعل في انتشاره وانتصاره وبقائه، وهي كثيرة، ويمكن استقطابها في خمس نقاط رئيسية، وكل واحد منها يمكن ان تتفرع إلى فروع ثانوية كثيرة، وهي:

1 ـ الربانية: إذ إن الإسلام دين الهي أنزله الوحي من رب عليم حكيم، وقد تجسدت مقرراته وأحكامه ومبادئه في: القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا ميول وضعية توجد، ولا التقاطات فكرية تحصل.

2 ـ الإنسانية: إذ ان دعوته المباركة ومنذ اللحظة الأولى استهدفت تحرير الإنسان وإصلاح مجتمعه وتعزيز كرامته وحقوقه المشروعة، وتنظيم علاقاته.

3 ـ العالمية: إذا ان الإسلام بما يحمل من مبادئ سامية وقيم رفيعة ودعوة إلى الصراط المستقيم إنّما يدعوها إلى الإنسانية كافة، بلا فرق بين الأسود

ـ(228)ـ

والأبيض والأحمر والأصفر، وبين الغني والفقير، وبين المدني والقروي والبدوي، ودعا إلى نفي كل أنماط التفرقة المبنية أساسا على اللغة أو اللون أو القومية أو العنصرية أو الجنسية أو غيرها.

4 ـ الشمولية: إذ ان أحكام الإسلام ومنظومته العملية قد شملت جميع نواحي الحياة، ومست كل جهات الإنسان الشخصية والاجتماعية، الخاصة والعامة.

5 ـ الواقعية: وهو موضوع بحثنا ـ إذ اعتمد الإسلام الواقعية في أسلوب منهجه، والتوازن والاعتدال في أحكامه، بلا إفراط أو تفريط، ومن دون انحياز لميول على حساب ميول أخرى، لذا فقد كانت أحكامه منسجمة مع العقل، وتشريعاته متلائمة مع الفطرة.

الواقعية:

إن النقلة الحضارية الكبرى في حياة الإنسانية التي وضعت حدا فاصلا بين ماضي هذه الإنسانية وحاضرها، ومهدت السبيل امامها لأن ترقى سلم المدنية والتحضر، تحتاج إلى فلسفة ومنهجية تضع في حسابها جميع الحلول للمشاكل الذي يمكن ان يحدثه هذا التحوّل النوعي في الحياة العملية والتي قد شكل عائقا أمام مسيرة تحضرها.

والإسلام الذي كان لـه الفضل الكبير في رقي البشرية نحو المدنية قد حمل بين طياته الفلسفة الصحيحة والمنهجية العملية، وبرمج لها الوسائل الممكنة التي كان الغرض الأول منها تنظيم حياة الإنسان الفرد وتلبية حوائجه.

إذ لم يدع الإنسان يعيش حياته العملية وسط فوضى النظريات الوضعية التي

ـ(229)ـ

تنطلق في معظم الأحوال من الدوافع الذاتية والنزعات الشخصية، ولم يتركه يحيا حياته بوحي الاجتهاد الشخصي؛ لما يحمل في جوانبه من نزعات وغرائز عديدة ومختلفة، وإنّما هيأ لـه الأرضية المناسبة لسعادته مع بني جنسه.

ولذا فقد وضع الإسلام للإنسانية جمعاء منظومة عملية وواقعية تعمل على تنظيم علاقة الإنسان بخالقه أولاً، ثم وجه هذه العلاقة لتطوير العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، وأحكام لها ضوابط وأسس عامة، فكانت بمجموعها صياغة عملية وجدية لمصلحة الإنسان ومجتمعه.

ان هذه الفلسفة والمنهجية العملية اللتان دعا إليهما الإسلام قد اتسمت أكثر ما اتسمت بالواقعية، مما كان لها الأثر الفاعل والكبير في خلود رسالته وانتشارها في إنحاء المعمورة، بل ان صفة الواقعية هذه قد اختص بها الإسلام عن غيره من الأديان والفلسفات الأخرى.

كتب الدكتور عون شريف القاسم يقول: «لقد كانت الديانات السماوية قبل الإسلام رغم اشتمالها جميعا في صورتها المصفاة على جوهر العقيدة الخالدة، تعبر عن مرحلة البساطة الأولى من تطور البشر، وتحمل في سماتها على المستوى الاجتماعي، فكانت كل رسالة موجهة لمجموعة بعينها من الناس لتلائم وضعهم الحضاري، وتقلصت رسالات السماء في نهاية المطاف من جراء جحود الناس وعصيانهم لتصبح رمزا للجمود والتعصب والتحريف على أيدي من أنزلت عليهم، كما هو الحال في رسالة سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ التي استحالت عند اليهود إلى ديانة قومية عنصرية تحل لليهود ما تحرمه على غيرهم... وانتهى بهم الأمر ان جعلوا الله رب الناس إلها قوميا خاصا بهم دون جميع الناس.

وجاءت المسيحية لتصحيح هذه التحريفات حتى يتسع دين الله محبة الناس.

ـ(230)ـ

 ويخرج من الإطار القومي الضيق الذي حصره فيه اليهود، وليصبح الله سبحانه وتعالى كما أراد ربا لكل الناس لا لليهود وحدهم، ولكن المسيحية لظروف تاريخية معلومة لم تتوسع في تنظيم علاقات المجتمع، وإنّما اكتفت بما جاءت به التوراة وما وضعه الرومان من تشريع...

كانت البشرية في حاجة إلى تعبير جديد عن تطرها، مما يحتاج الأمر معه إلى صياغة جديدة للفرد والمجتمع تعيد إليهما جميعاً التوازن والانسجام بما يحفظ للمجتمع تماسكه وتكافله، ويضمن للفرد حريته وتطوره، وكان الجديد الذي أتى به القرآن الكريم تعبيرا عن هذا الوضع الجديد، فأكمل رسالة سيدنا موسى وسيدنا عيسى ـ عليهما السلام بأن أدخل الدين في حياة المجتمع بحيث أصبح الدين هو الدنيا، وأصبحت الدنيا هي الواجهة الأخرى للدين» (1).

إذ لم تتجلى الواقعية في فكر أو فلسفة أو ديانة سابقة بمثل ما تجلت في الفكر الإسلامي، ذلك لأنه «موجه أصلا لتعريف الإنسان المؤمن بخالقه وبنفسه وبمركزه في الوجود وبكونه خليفة في الأرض، يتعامل مع قوانينها المادية وحقائقها الموضوعية» (2).

وتظهر هذه الواقعية بجلاء في نوعية تعامل هذا الفكر ومنهجيته مع طبيعة الإنسان وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته على البسيطة، إذ لا يتم هذا التعامل إلا في حدود فطرته وطاقته واستعداداته التي يسرها الله سبحانه لـه وأودعها فيه بما يناسب حجمه ومقدرته، فلم يحمله مالا يحتمله، ولا يسوء به الظن، ولا يحتقر دوره في الأرض، ولا يهدر قيمته، كما ولا يرفعه إلى مقام الألوهية في أي جانب

_________________________

1 ـ الإسلام والثورة الحضارية: 53.

2 ـ الإسلام والتنمية الاجتماعية للدكتور محسن عبد الحميد: 30.

ـ(231)ـ

من جوانب حياته، وإنّما يعتبره مخلوقا كباقي المخلوقات إلا ما اشتمل على بعض الشمائل المميزة لـه عن باقي الموجودات.

ان هذه الواقعية كانت إحدى الأركان الأساسية التي أسس عليها الإسلام نظامه الحضاري الشامل في كونه يجمع بين الدين والدنيا، بين الشرع والوضع في وحدة عضوية فاعلة ومدهشة، تجعل قيم الدين واحكامه جزءا معاشا من حياة الناس، وبذلك صاغ حياة الأفراد صياغة اجتماعية بالغة الدقة، بحيث يصح ان نقول: انه جعل الفرد المسلم في كثير من جوانب شخصيته هو التجسيد الفعلي لقيم الإسلام الأصيلة.

ومن أهم مظاهر هذه الواقعية:

1 ـ الانسجام مع الفطرة والعقل:

امتازت النظرية الإسلامية عن غيرها من النظريات الوضعية بكونها تحمل طابع الشمول والاستيعاب لجميع جوانب الإنسان الروحية والمادية، والبحث عن علاج ملائم لجميع مشاكل البشر العامة والخاصة.

إذ ان الهدف الأول للإسلام هو الإنسان والعمل على تربيته ودفعه نحو التكامل من جميع الجوانب ـ المادية والمعنوية ـ من دون ان يترك إحداها لأجل الأخرى، كما ولم يدع كليهما في حيز الاهمال، ذلك لأن الإنسان مجبول بطبيعته على دوافع تتعلق بالمادة لها أثر كبير في ميوله المادية، وبنفس الوقت لـه ميول تتعلق بالجانب الروحي لها أثر فاعل في نوعية رغباته الذاتية.

فالفكر الإسلامي لم يحدث انفصالاً بين هذين الجانبين، ولم يمل إلى أحدهما على حساب الآخر كما عليه الأنظمة الوضعية، فهو يرى ان هناك اتصالا

ـ(232)ـ

تاما بين الروح والبدن، وان لكليهما متطلبات وحاجات يجب ان يعتنى بها، فانبرى يعرض برنامجه المشرق في كونه يخالف انهدام الموازنة بينهما، ويلاحظ سعادة الإنسان من خلال النظر إلى جميع جوانبه على السواء من دون قمع ميوله الروحية أو يقطع شيئا من موارد ارتباطه بالمادة.

لقد شرّع الإسلام قوانينا وأحكاما تنظم حياة الإنسان المادية والمعنوية معا في عملية مزاوجة مدهشة أثارت إعجاب المشرّعين والمنظّرين الوضعيين، وصبها في بوتقة واحدة تكون بمجموعها نظاما رائعا متمتعا بانسجام عجيب مع الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.

كتب الأستاذ السيد مجتبى اللاري يقول: «لقد وقف (الإسلام) موقفا وسطا بين سلسلة من العقائد الموضوعة في سبيل اختناق الغرائز الإنسانية وبين أفكار وأنظمة تنادي بالحرية الحيوانية المطلقة والتي يقف إلى جانبها جمع من علماء النفس من نظراء فرويد»(1).

فالتربية الإسلامية أصلا تبتني على أساس تهذيب العواطف الإنسانية، ودفعها إلى العمل في المسار الصحيح والمعقول، من دون قمع لها أو إطلاق الحرية الكاملة لها. وبذلك فالنظام التربوي الإسلامي هذا يسلك بما هو موجود في طبيعة الإنسان من الغرائز والدوافع المحركة للحياة من جانب، والميول الفطرية والحاجات الأصيلة في أعماقه من جانب آخر، في نظام خاص جامع كامل، بحيث لا تدع الغرائز من ان تسجن العقل وتأخذ بزمام اختيار مصير الإنسان كاملة، وبنفس الوقت لا تترك العقل من ان يقمع هذه الغرائز بصورة كلية ويمحو

_________________

1 ـ الإسلام والحضارة الغربية: 99.

ـ(233)ـ

أثرها بالتمام.

قال تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾(1).

وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله ان كنتم إياه تعبدون﴾(2).

وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما احل الله لكم﴾(3).

وبذلك يمنع الإنسان عن السقوط في ورطة الهلاك، وفي ذات الوقت يبيح لـه حظا معقولا من المتع المادية، مما آثار إعجاب الباحثين الشرقيين والغربيين على السواء.

فقد كتب المستشرق جورج روبير يقول: «ان الإسلام ليس دينا فحسب، انه آخر الأديان التي ظهرت في التاريخ، وأنه بصفة خاصة مجتمع روحي واجتماعي ونظام سياسي وأسلوب للعيش، لقد أعطى الإسلام للدنيا حقها وللآخرة حقها، فلا يرهق الروح على حساب البدن، ولا يرهق البدن على حساب الروح، فالازدواج كامل بين الروحية والمادية في شخصية المسلم» (4).

ويقول أميل درمنجم في هذا الصدد أيضاً: «الإسلام ليس عقيدة مادية تنطبق عليها المقاييس المادية، وليس عقيدة روحية لا صلة لها بالمادة ولا بالحياة، وإنّما الإسلام عقيدة ترتكز على المادة والروح، والدنيا والآخرة، جسم وروح، ودولة ودين وحياة وغيب، والإسلام عقيدة تقدمية لا بوصفه مؤيدا لنظريات الاجتماع

_________________________

1 ـ سورة البقرة: 201.

2 ـ سورة البقرة: 172.

3 ـ سورة المائدة: 87.

4 ـ نقل عنه أنور الجندي في سقوط العلمانية: 195.

ـ(234)ـ

الحديثة بل لأنه يدفع الإنسان دوما إلى الأمام» (1).

هذا كله من جانب، ومن جانب آخر: إن أساس التربية الإسلامية قد تأسس على قواعد عقلية بعيدة عن الخرافات والأساطير، فالقواعد التربوية التي ابتناها ليست إلا سلسلة من العقائد النزيهة عن شوائب الأوهام، ومجموعة قيم وفضائل بعيدة عن ملابسات البدع والهوى.

ذلك لأن الفكر الإسلامي قائم على الاعتقاد المؤيد بالعقل الذي يتحرك في داخله حركة موزونة هادفة، وذلك من خلال محورين:

الأول: المحور الثابت، ويدور حول حقيقة الوجود الإلهي وانه الخالق والمعبود الحق، وحقيقة الإنسان وكونه خليفة الله في الأرض، وان البشر كلهم من أصل واحد خلقوا للعبادة والعمل بما أمرهم الخالق، وانه سبحانه قد اصطفى منهم رسلا وأوصياء ليتموا إبلاغ رسالاتهم، وأما الباقون فقيمتهم الحقيقية فيما يربطهم بالعقيدة ومدى التزامهم بها، وليس للجنس أو الأرض أو اللون أو الطبقة قيمة بتاتاً.

والحكمة في إيجاد هذا المحور هو ضبط حركة الإنسانية عامة، كي لا تضل في مشاعرها وتصوراتها ونظمها الحيوية عن الصراط المستقيم، فتستسلم إلى الهوس والخرافة والأسطورة.

الثاني: المحور المتغير، إذ ان الفكر الإسلامي يؤمن بقانون التطور العام في الكون والمجتمعات والمتمثل في تطور علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، بل ويدعو إليه، وذلك من خلال دعوته إلى اكتشاف قوانين الحياة والطبيعة والعمل

________________________

1 ـ المصدر السابق: 196.

ـ(235)ـ

على تسخيرها لسعادته وتطوير حضارته، ومن أجل ذلك فسح المجال أمام العقل البشري ان يتحرك ويجتهد ويستنبط لكن ضمن ضوابط ثابتة.

يقول المستشرق غوستاف لوبون: «الإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم» (1).

وقد نقل عن الأستاذ هورتن قولـه: «نجد في الإسلام اتحاد الدين والعلم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما، ونجد فيه كيف ان الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرتين معا باتحاد، ومتجاورتين كتفا إلى كتف» (2).

2 ـ التوازن والاعتدال في أحكامه:

ومن مظاهر الواقعية التي تحلّى بها الإسلام في قيمه وأحكامه هو توازنه واعتداله من حيث مصادر المعرفة ومضامين أحكامه، فهو لا يسمح للعقل بالحرية المطلقة المؤدية إلى اختراق ما لا يمكن اختراقه من الغيب المجهول الذي تكفل به الوحي الأمين ليتحول إلى ضرب من الكهنوت، وبنفس الوقت لم يقمع حركته إلى حد يقصر عما أوكل إليه وبالتالي يصبح مقيدا فيستسلم للخرافة والأسطورة، بل وضع العقل في موقع متقدم، وسمح لـه بالحركة لكن ضمن منهجية منظمة، بلا إفراط ولا تفريط.

فقد أطلق للعقل الحرية الكاملة في العمل والجد والاجتهاد والبحث عن الحقيقة وانتخاب الصواب من كل ما يعرض عليه من مسائل أو اختيارات، لكن

_________________________

1 ـ حضارة العرب: 126.

2 ـ نقل عنه أنور وجدي في سقوط العلمانية: 197.

ـ(236)ـ

من دون السماح لـه في تجاوز حدوده المرسومة لـه، وعندما يتقرب من هذه الحدود فهو يستطيع ان يستعين بالكتاب المنزل الذي يمثل الوحي السماوي في حل المشاكل المتعلقة في هذا الشأن.

ويتجلى هذا التوازن والاعتدال في قيمه وتعاليمه، فقد دعا إلى عبودية الإنسان المطلقة لله سبحانه وتعالى، وبنفس الوقت اثبت دعوته إلى تكريم مقام الإنسان في الكون، فحقق بذلك وجود الإنسان ومقامه من دون ان يحوله إلى اله معبود، وفي ذات الوقت لم يدعه عبدا مغلوبا على أمره مقهوراً في رأيه.

وكذا الأمر في مسألة شعور الإنسان بالألم وبين شعوره بالجزاء الدنيوي والأخروي.

واما في مذهبه الاقتصادي فانه ينحى منحى منقطع النظير، ويتمثل في رفضه إلغاء الملكية الفردية إلغاء تاما كما ذهب إليه الشيوعيون، وفي ذات الوقت يرفض إلغاء الملكية الجماعية كما تبناه الرأسماليون، وإنّما اتخذ مذهبا يتجسد فيه أروع صور الاعتدال والموازنة في طرح فكرة الملكية الفردية في نطاق محدود ووفق منهجية خاصة، يستشعر من خلالها قيمة الإنسان ككائن حي لـه رغباته وطموحاته، ودعمه لكي يكون عضوا فعالا ونافعا لبناء المجتمع الكبير.

قال تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾(1).

وكذلك في العلاقة الاجتماعية والقوانين الأسرية، فقد وضع الإسلام أسسا دقيقة ومنهجية ثابتة غايتها تنظيم حياة الأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية لبناء الأمة.

__________________________

 1 ـ سورة الإسراء 29.

ـ(237)ـ

فقد نظم علاقة الابن مع الأبوين، والأخ من أخيه، والصغير مع الكبير، وبين الزوجين، في نظام رائع. قال تعالى: ﴿وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ (1) ففرض طاعتهما بأوسع صورها بعد ان قرن طاعتهما بطاعته، ثم استثنى فقال:﴿وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾(2).

فقضى ان يقيم العصيان مكان الطاعة في موارد خاصة، وذلك إذا ما اصطدمت طاعة الله سبحانه مع طاعتهما وأمراه بخلاف ما أمر الله تعالى.

ان هذا التوازن العجيب بين «أطعهما» و«لا تطعهما» أثارت دهشة الباحثين، فراحوا يكتبون عن منهاج هذا الدين وبرامجه التربوية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية ليستفيدوا منها في وضع نظمهم وقوانينهم الوضعية التي ابتدعوها بعد ما ثبت عندهم فشلها ونجاح ما ذهب إليه الإسلام.

بل ان الدراسات المقارنة الحديثة بين الأنظمة العامة في الشريعة الإسلامية والأنظمة القانونية الوضعية أثبتت بأن الشريعة الإسلامية بأصولها وقواعدها ونظرياتها ومصادرها الاجتهادية تفوق القوانين الوضعية كلها في تجسيد المرونة والتسامح، وتمثيل الفطرة الإنسانية، وشموليتها الزمانية والمكانية وفي وحدة اتجاهها وتناسق أجزائها.

وهذا ما دفع المؤتمرات القانونية الدولية ان تقوم الشريعة الإسلامية تقويما علميا صادقا، وتصدر بشأنها قرارات في غاية الأهمية، فمنها:

1 ـ قرار مؤتمر لاهاي للقانون الدولي المقارن الذي عقد في سنة 1938 م والذي نص على ان «الشريعة الإسلامية تعتبر مصدرا من مصادر التشريع العام،

__________________________________

1 ـ سورة البقرة: 83.

2 ـ سورة لقمان: 15.

ـ(238)ـ

وانها شريعة حية مرنة قابلة للتطور، وانها قائمة بذاتها ليست مأخوذة من غيرها» (1).

2 ـ قرار مؤتمر المحامين الدولي في لاهاي أيضاً الذي عقد في سنة 1948م والذي ورد فيه ما نصه:

«اعترافاً بما في التشريع الإسلامي من مرونة، وما لـه من شأن هام يجب على جمعية المحامين الدوليين ان تقوم بتبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع والتشجيع عليها» (2).

3 ـ ومن مقررات المؤتمر الدولي للحقوق المقارنة الذي عقد في باريس عام 1951م نقتطف منها ما يلي:

«ان المؤتمرين بناءً على الفائدة المتحققة من المباحث التي عرضت أثناء أسبوع الفقه الإسلامي وما جرى حولها من المناقشات التي نستخلص منها بوضوح:

أ ـ إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية لا يماري فيها...

ب ـ إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعاملات ومن الأصول الحقوقية هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي ان يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة، والتوفيق بين حاجاتها...» (3).

4 ـ وفي توصية أصدرها عمداء كليات القانون والشريعة في ندوتهم التي عقدت في بغداد سنة 1974 جاء فيها:

_________________________

1 ـ محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي للأستاذ محمد يوسف: 9.

2 ـ الفقه الإسلامي في ثوبة الجديد لمصطفى الزرقاء: 119.

3 ـ محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي: 9 ـ 10.

ـ(239)ـ

«لقد أثبتت الشريعة الإسلامية صلاحيتها لحكم البلاد العربية والبلاد الإسلامية كنظام قانوني شامل طيلة قرون عديدة، ولم يكن انحسار مجال تطبيقها بعد صدور التقنيات الحديثة راجعا إلى قصور في أحكامها، بل كان راجعا إلى أسباب عدة، أهمها ما قام به الاستعمار من فرض قوانينه وإحلالها محل الشريعة الإسلامية، وآية ذلك ان هذه الشريعة لا زالت مطبقة بصورة جزئية في بعض المجالات في جميع البلاد العربية، الأمر الذي يدل على مرونة أحكامها، وقابليتها لمواجهة التطور الحاصل أخيرا»(1).

 3 ـ الإيجابية:

ومن مظاهر الواقعية في الفكر الإسلامي: الحالة الإيجابية التي تظهر غالبا في نفوس معتنقي الإسلام من جهتين:

الأولى: من حيث علاقة الله سبحانه بالوجود واعتنائه بكل ذرة فيه، وتدبيره الحكيم للوجود كله مع مقدرة كاملة وعلم محيط بالموجودات وعلاقتها مع بعضها.

فإن هذه الخاصية تمد الحياة الإنسانية بالمشاعر الخلاقة، وتمنحها نوعا من العواطف الوجدانية التي لها الأثر الكبير في إفراز حالة خاصة يكون لها دور هام في ضخ الحياة البشرية بالنشاط والحيوية.

إذ ان هنالك فرق كبير بين الذي يؤمن بالله أصم لا إرادة لـه ولا شعور، وبين من يؤمن بالله قادر فعال مدبر حكيم، قال تعالى:

_________________________

1 ـ كراسة صادرة عن اتحاد الجامعات العربية (الأمانة العامة) تحت عنوان: «ندوة عمداء كليات الحقوق والقانون والشريعة بالجامعات العربية »: 3 وما بعدها.

ـ(240)ـ

 ﴿افمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدي إلا ان يهدى﴾(1).

فإن الأول يعيش الاضطراب والصراع الروحي الناشئ من اصطدام المادة بالروح، والشعور بالتعاسة والقهر اللازمين حياته، بينما الثاني يعيش السعادة النفسية واطمئنان القلب والتوازن العام، ذلك لأن الإيمان بالله حكيم مقتدر يلزم عبادته وطاعته استجابة لفطرته المركوزة في النفس البشرية، قال تعالى:

 ﴿وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى شهدنا﴾(2).

فتظهر آثارها النفسية ان تستقر فيه الطمأنينة وراحة البال، والخارجية ان تبدو عليه السلامة في علاقاته والنزاهة في معاملاته.

ولذا يعيش المسلم في مجتمعه مستودعا للطمأنينة، ينبوعا للخير والبركة، مصدرا للتوازن الروحي والأخلاقي، مخلصا في أعماله جميعا، لأنه يطيع الله بذلك ويعبده، وينتظر عليه الجزاء والثواب يوم يلقى ربه الكريم.

ومن هنا يظهر ان العبادة في الإسلام لا تقود الإنسان قط إلى عزلة اجتماعية، ولا تدعوه إلى الخرافة في أي شكل من أشكالها، لأنها نظام عقلاني منظم، يثبت العلاقة القويمة في الوجود.

كتب اللورد هيدلي بعد إسلامه يقول: «ليس هناك في الإسلام إلا الله واحد نعبده ونتبعه، انه أمام الجميع وفوق الجميع، وليس هناك قدوس آخر نشركه معه، انه لمن المدهش حقا ان تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية ان تحجب عن

____________________________

1 ـ سورة يونس: 35.

2 ـ الأعراف: 172.

ـ(241)ـ

نظرهم رؤية السماء رؤية القهار المتصل دواما مع مخلوقاته، سواء كانوا عاديين أو أولياء مقدسين»(1).

الثانية: من حيث إيجابية الحياة الإنسانية ـ ككل ـ الصادرة عن افراد يتمتعون بصفات إيجابية مشرقة تجعله كتلة مشتعلة من الفعالية والانتشار.

فالمؤمن بالإسلام ما يكاد يستقر الإيمان في ضميره حتى يحس انه قوة فاعلة ومؤثرة في نفسه وفي هذا الكون من حولـه، فلا يعرف القعود، ويرفض السلبية المتمثلة في انتظار المعجزات، بل يحاول التغيير المستمر، ويسعى دوما ليحقق ذاته المؤمنة بأن عناية الله تعالى ترعاه لكي يكون أهلا لرضاه ودخول جنته، وهذا أكثر ما يكون باعثا نحو العمل والجد فيه إلى ابعد الحدود.

ينقل الدكتور عبد الحليم محمود قصة طريفة حول إسلام الكونت هنري دي كاستري أحد كبار الموظفين الفرنسيين في الجزائر، يقول شارحا حاله: «كان من عادته ان يسير ممتطيا صهوة جواده، ويسير خلفه ثلاثون من فرسان العرب الأقوياء، فخورا بمركزه، وكان يملؤه الغرور للمدح الذي يزجيه إليه هؤلاء الذين تحت إمرته، وفجأة وجدهم يقولون لـه في شيء من الخشونة، وفي كثير من الاعتداء بالنفس: لقد حان موعد صلاة العصر، ودون ان يستأذنوه في الوقوف ترجلوا واصطفوا للصلاة متجهين إلى القبلة، ودوت في أجراء الصحراء كلمة الإسلام الخالدة: «الله اكبر»، فشعر الكونت في هذه اللحظة بشيء من المهانة في نفسه، وبكثير من الإكبار والإعجاب بهؤلاء الذين لا يبالون به، وذلك لأنهم اتجهوا إلى الله وحده بكل كيانهم، وبدأ يتساءل: ما الإسلام؟ أهو ذلك الدين

______________________________

1 ـ نقل عنه الدكتور عبد الحليم محمود في «أوروبا والإسلام»: 51 ـ 52.

ـ(242)ـ

الذي تصوره الكنيسة في صورة بشعة تنفر منها الأنفس ولا يطمئن إليها الوجدان؟ وبدأ يدرس الإسلام، وتغيرت فكرته عنه، ورأى من واجبه ان يعلن ما اهتدى إليه فكان كتابه (الإسلام خواطر وسوانح) (1).

وفي هذا المضمار أيضاً كتب توماس ارنولد: ان البلجيكيين حكموا على زعيم مسلم بالإعدام، فقضى هذا ساعاته الأخيرة وهو يحاول ان يدخل الإسلام إلى قلب المبشر المسيحي الذي كان قد أرسل إليه ليزجي إليه التعزيات الدينية ! (2).

حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية

تجسيد حي للواقعية

 ان في حركة التقريب وما تلعبه من دور هام على هذا الصعيد إنّما هو تجسيد حي لمظاهر الواقعية الثلاث التي تقدم الكلام فيها.

كيف؟؟

وقبل الجواب عليه ينبغي هنا ذكر مقدمة مختصرة، فنقول:

لا يخفى على كل مطلع ممن أوتي حظا من الثقافة والعلم: ما للأمة الإسلامية من خصائص وامتيازات لا تتمتع بها الأمم الأخرى. فهي تحتل موقعا جغرافيا متميزاً من حيث المناخ وخصوبة الأرض وتنوع البيئة من جهة، ومن جهة أخرى فإن لهذا الموقع أهمية استراتيجية بالغة تتمثل في كونه يقع وسط العالم ما يشكل أشبه ببوابة تربط بين القارات الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا.

______________________________

1 ـ أوروبا والإسلام: 39.

2 ـ الدعوة إلى الإسلام لتوماس ارنولد: 454.

ـ(243)ـ

وبالإضافة إلى ذلك فإن الأمة الإسلامية تمثل من الكثافة السكانية نحو من خمس العالم، فإذن هي تتمتع بثروة بشرية هائلة، والأهم منه إنها تمتلك ثروة مادية طائلة من حيث الأراضي الزراعية الشاسعة والأنهار العذبة والمعادن الثمينة المدفونة في باطن تربتها والتي لا غني للناس عنها.

وفضلا عن هذه الامتيازات التي تتمتع بها امتنا فلديها العقيدة التي تحمي البشرية من الضلالات والبدع، والتشريع الذي يكفل العدل وينظم أمور أفراد الأمة فيما بينهم وبين الآخرين.

ومن هنا فقد سال لعاب الأمم الاستعمارية لهذه الخصائص والامتيازات النادرة التي تتمتع بها الأمة الإسلامية دونهم، مما يجنونه من أرباح خيالية فيما لو استعمروا هذه الرقعة الجغرافية واستعبدوا أبناءها.

فمن الموقع الجغرافي الهام والمتميز يمكن من خلاله ان يسيطروا على طرق المواصلات البرية والبحرية والجوية بين القارات الكبرى، وهذا يعنى تحكمهم بخطوط الاتصالات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب.

ومن وجود هذه الكثافة السكانية الهائلة يمكن ان تتحول هذه الأمة إلى سوق عريض لبضائعهم، ومخزن واسع لمنتجاتهم، وبالتالي ستكون بشكل أو آخر مستودعا استهلاكيا يتم من خلاله صرف منتوجاتهم المصنوعة. هذا بالإضافة لما يستفيدون من تهيئة الأيدي العاملة الرخيصة لمصانعهم العظيمة.

ومن وجود الثروات الهائلة فيها فيمكن تحويلها إلى مستودع مجاني للطاقة التي بها تدوم مصانعهم وتعمل، ومخزن هائل للمواد الأولية التي تدخل في عملية التصنيع والإنتاج.

ولهذا وذاك بدأت الأمم الاستعمارية بشن حملاتها العسكرية من أجل

ـ(244)ـ

إخضاع الأمة الإسلامية تحت حكمهم وإحكام القبضة عليها تمهيدا لتنفيذ مخططها الخبيث، لكن اصطدمت أول ما اصطدمت بالعقيدة الإسلامية التي يحملها المسلمون، مما أدى إلى فشل هذه الحملات الذريعة وتقهقرها على اعقابها.

يقول الأستاذ إبراهيم النعمة في كتابه «المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري»:

«لقد شنت أوروبا ثمان حملات صليبية شرسة على الشرق الإسلامي، وقد باءت هذه الحملات بالاخفاق والهزيمة، فالقديس لويس التاسع قائد الحملة الصليبية وملك فرنسا وقع أسيرا في مدينة المنصورة في مصر، ثم خلص من الأسر بفدية ! ولما عاد إلى فرنسا ايقن ان قوة الحديد والنار لا تجدي نفعاً مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة تدفعهم إلى الجهاد وتحضهم على التضحية بالنفس وبكل غال. اذن لابد من تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته ان يهتم اتباعه بتغيير فكر المسلمين، والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر» (1).

وهكذا بدأ الغزو بثوبة الجديد، وبشكله المنظم تنظيما دقيقا بحيث يمكن الدخول عبره إلى جميع مرافق الحياة عند المسلمين من خلال السينما والمسرح والإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات.. وكلها تتم وفق برنامج مدروس موجه من قبل خبراء في هذا المجال، فكانت الخطة جملة تقتضي:

__________________________

1 ـ المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري: 12.

ـ(245)ـ

1 ـ إماتة روح الاعتزاز عند عوام المسلمين بتاريخهم، وقطع صلتهم بتراثهم الإسلامي واستبداله بتراث وضعي وثقافة موضوعة.

2 ـ زرع الفرقة والاختلاف بين علماء المسلمين من خلال اثارة الفتن بينهم، وبث روح التعصب المذهبي فيهم؛ لينشغلوا بها ويتركوا الأمة تتخبط في أمورها فيسهل افتراسها.

يقول المستشرق المعروف شاتلي ضمن توصيته لأبناء جلدته: «وإذا أردتم ان تغزو الإسلام وتحصدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيس لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، عليكم ان توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأُمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك لأن الشجرة يجب ان يتسبب لها في القطع أحد أغصانها» (1).

وبهذا يتضح خبث المخطط الاستعماري وشراسته ليشمل حتى المغفلين من المسلمين والبسطاء، وربما حتى المجانين ! فما بالك بالعلماء والمفكرين من هذه الأمة؟

وبهذا يتضح خبث المخطط الاستعماري وشراسته ليشمل حتى المغفلين من المسلمين والبسطاء، وربما حتى المجانين ! فما بالك بالعلماء والمفكرين من هذه الأمة؟

يقول الصهيوني بن غوريون: «ان أخشى ما نخشاه ان يظهر في العالم الإسلامي محمد جديد» (2).

_______________________

1 ـ نقلا عن «أجنحة المكر الثلاثة» لعبد الرحمن حسن جنكة: 99.

2 ـ الإسلام والغرب والمستقبل: 73.

ـ(246)ـ

إذ ان خشية الأمم المستعمرة تزداد لو ظهر عالم رسالي أو مفكر إسلامي يدعوان إلى تبني القرآن منهجا للعمل والحركة، لأن فيه الخطر ما ليس في غيره، لذا فقد جاء في أحد التقارير السرية التي كتبها سفير أميركي في دولة أفريقية منبها عن خطر الإسلام المنبعث عن الجمهورية الإسلامية في إيران، جاء فيه:«ان عمامة بيضاء في هذا البلد اخطر من قنبلة ذرية!»(1).

فإن العالم الإسلامي أو المفكر الرسالي يمثل جزءا كبيرا من الأمة نظرا لما يلعبه من دور كبير من تهيئة فرص التعبئة وبث روح الثورة بين العامة الغفيرة، لذا فاتفاق كلمة العلماء ووحدتهم إنّما تعني اتحاد أجزاء الأمة الواحدة الذي بذل المستعمرون الغالي والنفيس من اجل تفريقه اشتاتا متناثرة.

والى هذا المعنى أشار الصهيوني الخبيث بن غوريون في قولـه: «ان الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب ان نضع في حسابنا ان النائم قد يستيقظ»(2).

وجاء في كتاب «ما لم يقل عن ديغول»: «ولكن الذي أخاف منه هو: هذا الخطر الذي يمتد من طنجة إلى كراتشي. ان الإسلام ذو حضارة وثقافة، وهو جدير بأن يكون الوارث لنا، فإذا تحالف مع الصين ـ مثلا ـ فانه لن يوجد أحد يوقف المسلمين عند بولتييه!»(3).

ومن هنا انبرى ثلة مخلصة من علماء المسلمين ومفكريهم إلى الدعوة إلى الوحدة والتقريب في العالم الإسلامي، ونبذ كل أشكال التفرقة والتشتت، وذلك لأمرين:

______________________________

1 ـ نقلته مجلة الدعوة في ليبيا، العدد 109، السنة الثانية ص 70.

2 ـ الإسلام والغرب والمستقبل:73.

3 ـ ما لم يقل عن ديغول تأليف هنري جادفيك بريسيليان: 227.

ـ(247)ـ

الأول: انه امتثالا لأمر الله تعالى بالاتحاد والائتلاف ونهيه عن التفرق والاختلاف.

قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾(1).

وقال عز اسمه: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾(2).

وقال أيضاً: ﴿ان هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون﴾،(3) وقال في موضع آخر: ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحد وانا ربكم فاتقون﴾(4).

وفي رواية ابن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» (5).

ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» (6).

الثاني: نظراً الحاجة الإسلام في هذا الظرف العصيب إلى توحيد صفوفه، وتظيم خطوط دفاعاته ضد الهجمات الشرسة التي يشنها أعداؤه، ومن ثم صياغة جامعية إسلامية قادرة على تشكيل منظومة دفاعية إسلامية قوية.

وحركة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي انبثقت في القاهرة قبل نصف قرن نموذج حي يجسد بقوة مدى استجابة أبناء الأمة الإسلامية لدعوات

__________________________

1 ـ سورة آل عمران: 103.

2 ـ سورة آل عمران: 105.

3 ـ سورة الأنبياء: 92.

4 ـ سورة المؤمنون: 52.

5 ـ أخرجه البخاري في الصحيح 3: 158 و 4: 213، ط دار الفكر.

6 ـ أخرجه أبو داود في السنن 3: 80 ح 2751.

ـ(248)ـ

المخلصين لهدف إنقاذها من مخالب الأمم المستعمرة.

فكان لمجرد الإعلان عن وجودها حتى وجدت السند في اكبر مرجعية دينية سنية المتمثلة بمشيخة الأزهر الشريف في مصر، وأكبر مرجعية دينية شيعية تتمثل بمراجع الحوزات العلمية في إيران والعراق ولبنان، ثم ساندها جمع غفير من أبناء الفريقين وأعلنوا تأييدهم ودعمهم لها، بينهم العلماء والكتاب والدعاة والمثقفون، واستمرت حتى السبعينيات تؤتى أكلها على صعيد العالم الإسلامي، ونجحت أيما نجاح في كسر كثير من السدود، وإزالة كثير من العقبات، وإشاعة روح الجامعة الإسلامية (1).

إن القيمة الحقيقية في حركة التقريب المباركة هي في اعتبارها الطريق العقلاني في الوصول إلى الوحدة بين فرق المسلمين، وفي التصدي لكل أشكال التفرقة من خلال بلورة الواقعية التي يتمتع بها الدين الإسلامي الحنيف على أسس فكرية تتبنى «التفكير المتفتح» على أكثر من «موقع خلافي» بين طوائف المسلمين، وبذلها الجهود الحثيثة على تحويل المذهبية الطائفية التي تختنق في داخلها مشاعر التوتر وضيق الأفق إلى مذهبية فكرية واعية تتفتح على الفكر الآخر في المذهب الآخر.

وعملية التحول هذه كانت ذات أثر فاعل في دعوة أصحاب المذاهب المتنوعة، المخلصين لمذاهبهم ومشاربهم، إلى الوقوف في خط الالتزام الوحدوي الذي من وظيفته ان يحتوي «الفكرة» أو «الرأي» ويصيغها صياغة بحيث تتحول إلى حالة وعي للظروف المستجدة المحيطة بكيان الأمة الإسلامية

__________________________

1 ـ مقتطف من افتتاحية مجلة «رسالة التقريب» التي يصدرها المجمع العالمي للتقريب، العدد 17 الدورة 5.

ـ(249)ـ

ككل، وموقف صلب اتجاه هذه الظروف.

إن حركة التقريب هذه حركة فكرية حضارية، تنتهج عنوانا ثقافيا من أجل إثارة وجدان المسلم وعقله نحو التفكير في مدى امتثاله لأوأمر الله عز وجل ونهيه، في مجال التعاون والائتلاف ونبذ الاختلاف والتطاحن. وهذا بالحقيقة استجابة واعية لنداءات الفطرة وحكم العقل اللذان يقتضيان التركيز على أكثر من جانب منه، واستيعاب لجوانب الإنسان الروحية والمادية.

فبالتعاون مع الآخرين والائتلاف معهم إنّما هو إشباع لحاجة الإنسان الروحية، إذ ان الإنسان مخلوق اجتماعي بالطبع، وهو إشباع أيضاً لمتطلبات الجسد الضرورية، من مأكل ومشرب ومزاوجة ومعاملة.. وغيرها.

وبهذا يتضح انه تجسيد لأول مظاهر الواقعية.

كما ان من أهداف هذه الحركة الشريفة انها تعمل على تحفيز التفكير الواعي في الجانب الآخر في الفكرة، ومحاولة فهم واقع الطرف الآخر وأدلته ومبانيه، وهذا بمجموعه يشكل عملية إثارة رائعة ودائمة تقود الجميع إلى نبذ «المواقف الحادة» المنبعثة جراء التعقيدات الذاتية والموضوعية، وتهدئة المشاعر المتوترة التي تجعل الوجدان في حالة «دخانية كثيفة» فتحجب عنه الرؤية الصحيحة الصادقة. وهذه بلورة حية وصميمية في دفع الوجدان إلى ارتياد «المواقع المعتدلة» وتوجيهه إليها. أذن هو تجسيد لثاني مظاهر الواقعية.

ثم ان دعوة حركة التقريب هذه إنّما هي في الحقيقة مد لجسور الأواصر المبنية على المحبة والألفة بين جميع فرق المسلمين مما يهييء الفرص الكثيرة للعمل المشترك المنبثق من المشاعر المشتركة، وبالتالي تزداد مساحة الحركة ومجالاتها العملية، مما يعمل على تهيئة مناخ علمي عام يمكن ان يلعب دورا

ـ(250)ـ

فاعلا وبارزا في بعث الروح الحركية والسلوك الرسالي عند المسلم.

ولا أدل شيء على ذلك بمثل ما يدل عليه انعقاد هذه المؤتمرات الوحدوية الإسلامية، والحضور المتزايد من علماء ومفكري جميع الفرق الإسلامية الشريفة، والجلوس جنبا إلى جنب ليعيشوا هموم العالم الإسلامي ككل، وهذا بعينه تجسيد لثالث مظاهر الواقعية المشار إليها.

خلاصة البحث

ان من يتصفح تاريخ صدر الإسلام، وبالتحديد القرون الأربعة الأولى، ويحاول ان يستقرأ الحوادث التي صنعها الفكر الإسلامي عبر ذلك التاريخ ستصيبه الدهشة بلا شك حينما تصدع مسامعه أخبار الانتصارات الساحقة التي سجلها على كافة الأصعدة حتى كاد يكون سيد العالم قوة وعلما وخلقا وعمارة وصناعة وتجارة.

ولم تحدث هذه الانتصارات، وتحصل هكذا نقلة نوعية بلا سبب، ولم تتجمع سحبها هكذا بغتة من لا شيء لولا ان اتصفت الشريعة الإسلامية بجملة خصائص مميزة لها دون غيرها من الشرائع والأديان السابقة والتي كان لها الدور الفاعل في حصول تلك الانتصارات المدهشة.

ومن هنا فلابد قبل البحث في موضوعنا عن خصائص الإسلام وبالتحديد خصيصة «الواقعية في الإسلام» ان نستعرض استعراضا تاريخيا مختصرا بمثابة المدخل إلى موضوع بحثنا.

وبالجملة فإن العناصر الرئيسية للبحث ثلاث:

ـ(251)ـ

الأول: المدخل، ويشتمل على المواضيع الرئيسية التالية:

أ ـ تصوير عام لظروف وأجواء البلاد الإسلامية: الجزيرة العربية وبلاد فارس وبلاد الهند وأفريقيا وبلاد ماليزيا وما جاورها، قبل البعثة النبوية الكريمة، وما كان يسودها من عقائد فاسدة وخرافة وأساطير، ومن ممارسات خاطئة مبنية أساسا على الخرافة والخزعبلات.

ب ـ تصوير عام لفترة البعثة الشريفة، وما أحدثته من ثورة عارمة اقتلعت جميع تلك العقائد المنحطة والخزعبلات المقرفة، مستبدلة بعقائد صحيحة مشرقة مبنية على أساليب المعرفة وكسبها؛ لغرض التسليح الثقافي الذي هو الخطوة رقم واحد لمسيرة ألف خطوة نحو البناء الحضاري الشامخ.

ج ـ تصوير مختصر لبعض المباني التي بناها الإسلام وشيد صرحها للبشرية لغرض رفعها من الحضيض إلى السماء، ودفع عجلتها نحو الأمام، فكانت الحصيلة ان بني عرش العدل، وارتفع صرح العلم، وتلألأت نجوم في سماء البشرية من العظماء والعلماء والأدباء والشخصيات التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بشهادة جمع غفير من مقالات المستشرقين الغربيين في ذلك.

الثاني: موضوع البحث: واقعية الفكر الإسلامي في مبانيه الفلسفية والاجتماعية والفقهية والاقتصادية، وقبل الشروع في الكلام فيه، تم استعراض أهم الخصائص الكبرى التي تحلى بها الإسلام وتميز به عن غيره من الأديان والنظريات والفلسفات الموضوعة، وأهمها باعتبارها الأصول الرئيسية التي منها تتفرع باقي الفروع:

1 ـ الربانية، فإنها موحاة من خالق الكون العزيز الحكيم، لذا فهي مبّرأة من كل نقص أو جهل أو هوى لا كما هو حال الفلسفات والنظريات الوضعية.

ـ(252)ـ

2 ـ الإنسانية، فإنها وجدت أصلا لكي تلبي الكينونة الإنسانية، وتدخل دائرة إدراكها، لذا فهي لم تكن موضوعة لقهر الإنسان واستعباده من خلال هضم حقوقه، وابتلاع جهوده لصالح فئة معينة.

3 ـ العالمية، فإنها وجدت لهداية الناس كافة، الأبيض منهم والأسود، بلا فرق بينهم، لذا فهي تنفي جميع أنماط التفرقة سواء على أساس اللغة أو الجغرافيا أو اللون أو القومية أو الجنسية، وبنفس الوقت فهي تستوعب الثقافات والتقاليد ما دامت لا تنافي مبادئها الأساسية.

4 ـ الشمولية، فإن الشريعة الإسلامية ليست منبثقة من تفكير الإنسان المحدود بالزمان والمكان بل هي تستند إلى إرادة الإله السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة، فلا يجد الإنسان نفسه تائها حائرا في أمره وإنّما يشعر بالراحة والطمأنينة لما يجد في الشريعة السمحاء جميع أجوبة مسائله، فهي تشتمل على كل جوانب حياته الروحية والمادية.

5 ـ الواقعية، لأن المذهبية الإسلامية موجهة أصلا لتعريف الإنسان بخالقه وبنفسه وبمركزه في الوجود وبكونه خليفة يتعامل مع قوانيها المادية وحقائقها الموضوعية، فهي لا تحتقره وتنكر دوره في الأرض ولا تهدر قيمته، ولا ترفعه إلى مقام الألوهية في أية صفة من صفاته.

موضوع البحث: الواقعية في الإسلام

إن الحضارات الكبرى ـ أية حضارة ـ التي تلتزم بوضع حد فاصل بين ماضي الإنسانية وحاضرها لابد وان تحتاج إلى فلسفة شاملة ومنهجية كاملة تضع في حسابها جميع الحلول للمشاكل التي يمكن ان يحدثه هذا التحول النوعي في

ـ(253)ـ

الحياة العملية.

ولم تتصف آية حضارة بهكذا وصف مثل ما اتصفت الحضارة الإسلامية عبر تاريخ البشرية الطويل من قوة في الأسس، وسلامة في النظم، وشمولية في الفلسفة، وتكامل في المنهجية، وواقعية في الأسلوب مما كانت بمجموعها صياغة عملية وجدية لوجه الإنسانية على هذا الكوكب الصغير.

وأهمها هو اتصافها بالواقعية الحقيقية في الفكر والعمل مما كان لها الأثر الفاعل في خلود الرسالة المحمدية وانتشارها في أطراف المعمورة.

وتظهر هذه الواقعية في نوعية تعامل الشريعة مع طبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه المحيطة به، إذ لا يتم هذا التعامل إلا في حدود فطرته واستعداداته، فلم تحمله ما لا يحتمله، ولا تهدر قيمته وقيمة وجوده، وتنكر دوره، وبنفس الوقت لا ترفعه إلى مقام الألوهية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنها وفقت في تنظيم حياته العملية، وإشباع رغباته المادية وميوله الروحية معا في عملية تزاوج منقطع النظير، يندهش لها الباحثون، وأوردنا ببعض أقوالهم.

ثم عرج البحث إلى بيان أهم مظاهر الواقعية:

1 ـ الانسجام مع الفطرة والعقل، إذ ان أساس التربية الإسلامية قام على إشباع غرائز وعواطف الإنسان المادية والروحية معا من غير قمع أحدهما للآخر، أو إطلاق أحدهما على حساب الآخر. كل ذلك في نظام خاص ومنهجية اثارت إعجاب المفكرين. وقد أوردنا مقتطفات من أقوال بعض المستشرقين في هذا المضمار.

2 ـ التوازن والاعتدال، فالشريعة الإسلامية اتخذت أحكامها على أساس

ـ(254)ـ

يتصف بالاتزان والاعتدال، فهو من جانب لا يمسح للعقل بالحرية المطلقة المؤدية إلى اختراق الغيب ليتحول فيما بعد إلى ضرب من الكهنوت، وبنفس الوقت لم يقمع حركته إلى حد يقصر عما أو كل إليه، وبالتالي يصبح مقيدا فيستسلم للخرافة والأسطورة. وتتجلى مظاهرها على سبيل المثال: في عبودية الإنسان المطلقة لله سبحانه وبنفس الوقت أثبتت دعوتها إلى تكريم مقام الإنسان في الكون، وهكذا الأمر في مذهبه الاجتماعي، والاقتصادي، ...، ....، وفي نهاية المطاف عرضنا بعض الشهادات من قبل بعض المؤتمرات القانونية الدولية التي أقيمت في بعض الدول الأوروبية والعربية كمؤتمر لاهاي عام 1938 م، ومؤتمر المحامين الدولي الذي عقد في لاهاي أيضاً عام 1948م، والمؤتمر الدولي للحقوق المقارنة الذي عقد في باريس عام 1951م... وغيرها.

3 ـ الإيجابية التي تظهر غالبا في نفوس معتنقي الإسلام، وهي من جهتين:

ألف ـ من حيث علاقة الله سبحانه بالوجود وتدبيره الحكيم لـه. فإن لهذه الخاصية دور كبير في مد الحياة الإنسانية بالمشاعر الفياضة وتمنحها نوعا من العواطف الوجدانية التي تلهب الحياة بالنشاط والحيوية.

ب ـ من حيث إيجابية الحياة الإنسانية ككل، الصادرة عن أفراد يتمتعون بصفات إيجابية مشرقة تجعله كتلة مشتعلة من الفعالية والانتشار، فالمؤمن ما يكاد يستقر فيه الإيمان حتى يحس انه أصبح قوة فاعلة ومؤثرة في نفسه وفي هذا الكون من حوله.

الثالث: حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية تجسيد حي للواقعية:

ان في حركة التقريب وما تلعبه من دور هام على هذا الصعيد تجسيدا حيا لمظاهر الواقعية الثلاث، فمن خلال دعوتها إلى نبذ التطاعن والتطاحن بين أبناء

ـ(255)ـ

هذه الأمة المرحومة، والجلوس سويا حول المائدة المستديرة لمعايشة هموم الأمة كلها إنّما هو استجابة لأمرين رئيسيين:

ألف ـ امتثالا لأمر المولى عز وجل في ذلك.

ب ـ لحاجة الظرف الحالي إلى الاتحاد وملازمة المسلم لأخيه المسلم في وقت تكالبت عليهما كل القوى الشريرة.

لذا فإن حركة التقريب إنّما هي في الحقيقة حركة فكرية حضارية، تنتهج عنوانا ثقافيا من أجل إثارة وجدان المسلم وعقله، وتحفيزه نحو التفكير في مدى امتثاله لا وأمر الله ونهيه في مجال الائتلاف والاختلاف. وهذا ـ في الحقيقة ـ استجابة واعية لنداءات الفطرة وحكم العقل اللذين يقضيان التركيز على ذلك.

فالإنسان كما هو اجتماعي الطبع فإنه بحاجة إلى الجماعة ليمارس حياته العملية بشكل تام. وهذا تجسيد لأول مظاهر الواقعية.

ثم ان من أهداف حركة التقريب هو تحفيز التفكير الواعي في الجانب الآخر من الفكرة، ومحاولة فهم واقع الطرف الآخر وأدلته. وهذا بمجموعه يشكل عملية إثارة رائعة تقود الجميع إلى نبذ المواقف الحادة أولا، وبسط الحالة الشفافة دون الضبابية التي تحجب الرؤية الصحيحة والصادقة ثانيا. وهو بالجملة: بلورة حية في دفع الوجدان إلى ارتياد «المواقع المعتدلة» والعمل على أساسها. وهذا هو تجسيد حي لثاني مظاهر الواقعية المتقدمة.

ومن أهدافها المعلنة أيضاً مد جسور الأواصر المبنية على الود والألفة بين جميع فرق المسلمين، مما يهييء الفرص الكثيرة للعمل المشترك، وبالتالي تزداد مساحة الحركة ومجالاتها العملية، فينشأ ـ من خلاله ـ مناخ علمي يسوده الهدوء والوئام، فيلعب دورا بارزا وكبيرا في بث روح الحركية والسلوك الرسالي للفرد

ـ(256)ـ

المسلم.

وما انعقاد هذه السلسلة السنوية من المؤتمرات الوحدوية الإسلامية في إيران الإسلام، والحضور المتزايد من العلماء والمفكرين والشخصيات الإسلامية من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وجلوسهم جنبا إلى جنب ليعيشوا هموم العالم الإسلامي، إلا تجسيد حي لثالث مظاهر الواقعية المشار إليها.