الوحدة الإسلامية كمبدأ تشريعي أعلى

الوحدة الإسلامية كمبدأ تشريعي أعلى

الوحدة الإسلامية كمبدأ تشريعي أعلى

السيد عباس علي الموسوي
عضو تجمع العلماء - لبنان

 

نتعرض في هذه المقالة لدراسة مبدأ الوحدة الإسلامية كمبدأ تشريعي أعلى ينسحب على دائرة الأحكام الولائية فيكون حاكما عليها، ومؤسسا لإطار فقهي ـ ولائي يعتمد على الحفاظ على المبادئ التشريعية العليا.

تمهيد
الأحكام الولائية في الفقه الإسلامي
الحكم الولائي أو الحكم الحكومتي، وهو الحكم الصادر من الفقيه بصفته حاكماً وولياً، ولا بدّ لنا من تسليط الضوء على بيان حقيقة هذا الحكم، والقواعد العامة المتبعة في الأحكام الولائية.
لا بد لنا أولا من بيان الفرق بين الحكم الولائي والحكم الأولي أو الثانوي، وهي فوارق متعددة، تتمثل في:
الأول: إنّ خصوصية الأحكام الولائية هي أنّها أحكامٌ يُصدرها الفقيه فهي إنشائية. وأمّا الأحكام الأوليّة فهي أحكام يكشفها الفقيه ويستنبطها، فهي أحكام إخبارية([1]).
الثاني: إنّ الأحكام الولائية هي أحكام تطبيقية، أي إنّ الحكم الولائي هو تطبيق لحكم كلي في الموضوعات الخارجية. وأمّا الأحكام الأوليّة فهي أحكام كليّة غير مطبّقة على مصاديقها الخارجية. وعملية التطبيق للحكم الولائي تارة تكون تطبيقاً لحكم أولي، وأخرى تكون تطبيقاً لحكم ثانوي.
الثالث: إنّ الأحكام الولائية لا يمكن نقضها من قبل فقيه آخر، بخلاف الأحكام الأولية فلكل فقيهٍ رأيه الذي يصل إليه من خلال مراجعة الأدلّة الشرعية، فالنقض لا يصدق في الفتاوى ولكنه يصدق في الأحكام.
الرابع: إنّ الأحكام الأولية قائمة على أساس مصالح ومفاسد في ذوات الأشياء، يلحظها الشارع المقدس ويصدر حكمه فيها، وأمّا الأحكام الولائية فهي أحكام تتبع المصالح العامة لحفظ النظام والملاكات الأهم التي يدركها الحاكم الشرعي، أو التطبيقات التي ينصرف نظره إليها في الموضوعات الخارجية.
الخامس: إنّ الأحكام الأوليّة تعبّر عن الحالة الطبيعية للأشياء كما يراها الإسلام، وأمّا الأحكام الولائية فقد تعبّر عن مقتضيات المصلحة التي يراها ولي الأمر وتشكل حالة استثنائية([2]).
وتوضيح ذلك أن الأحكام الصادرة من الولي على قسمين: الحكم الولائي والحكم الكاشف.
أما الحكم الكاشف فهو حكم الولي بالهلال، فإن ذلك يصدر منه دون قصد لإعمال ولايته بل لأنه يرى حقيقة ثابتة قبل إعماله الولاية.
وأما الحكم الولائي فهو الحكم الذي يراد منه إنشاء تكليف واقعي على المجتمع، لا تنجيز الواقع. كما لو رأي الولي ضرورة تحديد الأسعار([3]).

أقسام الحكم الولائي
ذكر بعض الباحثين أنّ الحكم الولائي ينقسم إلى أقسام عديدة، وعدّها كالتالي:
أولاً: الحكم الصادر من الفقيه الحاكم في موارد إجراء الأحكام الجزائية، من الحدود و القصاص و الديات.
ثانياً: الحكم الصادر منه في الأُمور السياسية، مما يرتبط بشؤون الحكومة، كنصب الأُمراء و الوزراء ومسؤولي الحكومة و عمّالها و عزلهم. و الحكم بقطع العلاقة من بعض الدّول و الحكومات و بإيجادها مع بعض آخر.
ثالثاً: الحكم الصادر في جهة عمران البلاد و تخطيط المدن، كالحكم بإحداث الطرق و توسيع الشوارع في أملاك الناس باقتضاء المصلحة و الضرورة. و تخريب المساجد و البيوت و الأماكن الواقعة في مسير الطرق.
رابعاً: الحكم الصادر في الأُمور العسكرية، كالحكم بإجبار الشباب على الخدمة العسكرية، و التوجه الإجباري إلى جبهات الدفاع و القتال، و منع عموم الناس من حمل السلاح.
خامساً: الحكم الصادر في الأُمور القضائية، كالحكم في المرافعات لفصل الخصومات و قلع مادة النزاع.
سادساً: الحكم الصادر لدفع المفاسد و منع المنكرات بأنواعها.
سابعاً: الحكم الصادر في الأُمور الاقتصادية، كالحكم بتعزير المحتكر، و تقييم الأجناس، و المنع من إخراج العملة و الأمتعة الأساسية عن المملكة الإسلامية. و مثل الحكم في تحديد الإجراءات الجمركية، و أخذ الضرائب المالية، و الحكم بمصادرة الأموال الربوية، و نحو ذلك مما يكون دخيلا في حفظ النظام الاقتصادي.
ويجمع الكل أن الحكم الولائي إما أن يكون من قبيل تطبيقات الأحكام العامة، وإما أن يكون تدبيرات لنظم الأمر وفي هذا القسم قد يقال بعدم إمكان تخطئة الحاكم لأنه لا واقع له وراء إنشاء الحكم.
وهذا يدعونا إلى البحث عن دائرة الحكم الولائي والطريقة التي سنعتمدها في بيان دائرة الحكم الولائي وكما تقدّم هو ملاحظة الأحكام الولائية الصادرة عن المعصومين   ( لمعرفة مدى سعة الدائرة، ويعتمد ذلك على أنّه متى تحددت الدائرة للحكم الولائي، وقامت الأدلة على ثبوت الولاية العامة للفقهاء كان مقتضى الأصل ثبوت الولاية لهم بكل ما يثبت للمعصوم % بما هو ولي وحاكم لا بما هو معصوم، على أن يكون تضييق تلك الدائرة متوقفاً على الدليل المُخصص. وبعبارة أخرى يكون تضييق الدائرة هو المحتاج إلى الدليل، وعليه لا بدّ لنا من ملاحظة هذه الموارد بعد توضيح محل البحث.
دائرة الحكم الولائي
اختلفت الأنظار في تحديد دائرة الحكم الولائي فمنهم من خصّ تلك الدائرة بالأمور المباحة، فإن كان المراد المباح بالمعنى الأخص، أي ما كانت الإباحة فيه قسماً خاصاً مقابل الأحكام التكليفية الأخرى([4])، كانت دائرة الأحكام الولائية في غاية الضيق، وإن كان المراد الإباحة بالمعنى الأعم كانت الدائرة أوسع، إذ تشمل حينئذ الأحكام الثلاثة من المستحب والمكروه والمباح بالمعنى الأخصّ، وهي بهذا المعنى لا تشمل سوى منطقة الفراغ التشريعي وهي التي اصطلح ذكر الشهيد الصدر أنها تطلق على ما أوكل فيه الشارع لولي الأمر أمر ملئها وفق مقتضيات والمتبدلة، والذي يظهر أن الشهيد الصدر يخص هذه المنطقة بدائرة المباحات بالمعنى الإعم([5])؛ ولكن ثمة رأي ثالث يرى هذه الدائرة متسعة فتشمل حتى الوجوب والحرمة فهي تشمل جميع الأحكام الشرعية دون أن يضرّ ذلك بالأحكام الأوليّة الثابتة على الأشياء بعناوينها الأوليّة، لأنّ علاقة الحكم الولائي مع الحكم الأولي تكون كعلاقة الحكم الثانوي مع الحكم الأولي، وهو ما يعبّر عنه بالحكومة، فيكون الحكم الولائي مقدّماً على الحكم الأولي، دون أن تقع المزاحمة بينهما، بل ثمة رأي رابع بأن الحكم الولائي حكم أولي مقدّم على جميع الأحكام هنا موقعية الحكم الولائي متقدّمة بطبعها على الأولي، ولعل قطب هذه التوسعة هو الإمام الخميني! في رسالة وجهها إلى القائد السيد الخامنئي>، وينصّ فيها صريحاً على مدى سعة هذه الدائرة إذ يقول: (إنّ الحكومة شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدّمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج وان باستطاعة الحاكم أن يخرب أي مسجد أو بيت يقع طريق الشارع ويعطي قيمة ذلك البيت لصاحبه.... ويستطيع الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع أن يعالجه بدون التخريب، وتستطيع الحكومة أن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضراً بمصالح الإسلام ما دام كذلك.إنّ الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتاً وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية)([6])

أدلّة التشريع العليا
لا شكّ في أنّ الحكم الولائي لا بدّ وأن يكون محكوما بالمصلحة، وهذه المصلحة هي المصلحة الإسلامية ومصلحة الأمة. وتحدّد هذه المصلحة أُطرٌ عامة تُسمّى بالأدلّة التشريعية العليا، فما هي حقيقة أدلّة التشريع العليا؟
تنطلق الحاجة إلى ملاحظة أدلَّة التشريع العليا والبحث فيها من حيثيات متعددة تتمثل في:
ونحن من الممكن لنا الدخول في البحث من جهة ملاحظة أنّ الولي الفقيه لا بدّ وأن تكون لأحكامه الولائية منطلقات وأسس تستند إلى الشريعة الإسلامية، ولا تكون عبثية أو منطلقة من أسس هي محلّ إشكالٍ وجدل، لا بدّ وان ينطلق الفقيه في أحكامه الولائية، من هذه المبادئ التشريعية التي لا يسمح الشارع بتجاوزها، بل لا بدّ من رعايتها مهما اختلف الزمان والمكان. وعلى هذا يظهر أنّ للبحث جهات متعددة ومداخل متنوعة. والشهيد الصدر! ، وإن كان بحثه بداعي تقديم صورة للاقتصاد الإسلامي، ولكنه جعل ما اصطلح عليه بالعناصر المتحركة تحت يد ولي الأمر، وجعل العناصر الثابتة هي الأساس الذي ينبغي على ولي الأمر ملاحظته عند تحركه في دائرة العناصر المتحركة، فهو يرى لولي الأمر صلاحية تحديد العناصر المتحركة، فالعناصر الثابتة هي أسس الأحكام الولائية الصادرة عن الحاكم.
مبدأ وحدة الأمة الإسلامية
قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي)([7])
تشكّل وحدة الأمة الإسلامية مبدأً أساسياً في الإسلام، ويكفي لذلك ملاحظة التضحيات التي قام بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في سبيل ذلك، فعدم قيام أمير المؤمنين علي%، طوال خلافة الثلاثة، إنّما كان لأجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية.
وهنا يمكن ملاحظة الفتوى الصادرة عن السيّد الخامنئي  >  بجواز الصلاة خلف أهل السنة ـ وإن كان منصوصا في بعض الروايات ـ، ويعلِّق ذلك الحكم على ما إذا كان الأمر لأجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية، بل ويجوز الصلاة خلفهم حتى ولو لم يحرز المكلف دخول الوقت بالنسبة لمثل صلاة المغرب، فيما إذا كانت مراعاة الوحدة الإسلامية تقتضي ذلك([8]). ويمثِّل بعض الفقهاء للتقية المستحبة بمثل حضور مساجدهم والصلاة معهم من دون احتمال الضرر على تقدير تركها([9]).
والذي يؤكد على أهمية هذا المبدأ وضرورة ملاحظته كمبدأ تشريعي، تصريح الروايات الواردة في التقية الآمرة بالتعاطي الايجابي مع المخالفين، ففي صحيحة هشام الكندي قال سمعت أبا عبد الله%  يقول: (إياكم أن تعملوا عملاً نعيَّر به فإنّ ولد السوء يعيَّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً صلوا في عشائرهم، وعودوا في مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فانتم أولى به منهم والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء قلت: وما الخباء قال: التقية)([10]). فإنّ هذه الرواية تتحدث عن عدم توقف التقية على مسألة ترتب ضرر على تركها، ومنها يستظهر السيد الخوئي! أنّ الرواية تدلُّ على أنّ حكمة المداراة معهم في الصلاة، أو غيرها، إنّما هو ملاحظة المصلحة النوعية واتحاد كلمة المسلمين من دون أن يترتب ضرر على تركها، ويلاحظ هذا الفقيه الكبير هذه الحكمة في بحث آخر، ويستفيد منها لأجل تعميم التقية حتى لمثل عصرنا حيث لا قدرة حاكمة من قبلهم وعدم اختصاص ذلك بزمان شوكة المخالفين واقتدارهم. إذ انه وان كان لا يحتمل الضرر في ترك التقية في أمثال هذا الزمان لأجل عدم توقف التقية على الضرر، بل لان الحكمة في تشريعها هو المداراة وتوحيد الكلمة([11]).
وهذه التقية يصطلح عليها بعض الفقهاء باسم (التقية المداراتية)، ويستشهد لها بالآيات المتقدمة وبفعل الأئمة سيما أمير المؤمنين علي% وبالروايات الواردة في ذلك([12]).
وكذلك نلحظ الفتوى الأخيرة للإمام الخامنئي المتمثلة بعدم جواز التعرض لرموز أهل السنة، والتي صدرت متأخرا، وذلك بعد أن سعى الغرب بأدوات الفتنة التي لديه ليزرع شقوق الخلاف والاختلاف بين المسلمين في البلاد الإسلامية.

 

--------------------------------------------------------------------------------
([1]) السيفي المازندراني، الشيخ علي أكبر، دليل تحرير الوسيلة، ج 3، ص 26.
([2]) التسخيري، محمد علي، العمل الحكومي ودوره في تحقيق مسؤوليات الدولة الاسلامية، مجلة رسالة الثقلين العدد29 ص 71.
([3]) الحائري، السيد كاظم الحسيني، ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص265ـ266.
([4]) التبريزي، الميرزا جواد، صراط النجاة، ج 3 ص 436.
([5]) الصدر، السيد محمد باقر، اقتصادنا، ص680.
([6]) إبراهيم، فؤاد، الفقيه والدولة،422.
([7]) الأنبياء: 92.
([8]) السيد الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات ج 1 ص179 دار النبأ 1995.
([9]) الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي، ج 5 ص 277.
([10]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي باب 26 حديث 2 ج 16 ص 219.
([11]) الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي، ج 5 ص 276.
([12]) الروحاني، السيد محمد صادق، فقه الصادق، ج 11 ص 420.