الوحدة الإسلاميّة مناط سيادة وعزة المسلمين

الوحدة الإسلاميّة مناط سيادة وعزة المسلمين

 

 

الوحدة الإسلاميّة مناط سيادة وعزة المسلمين

 

 

الأستاذ الدكتور محمد فتحي الديني – الأردن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وأصلّي على أشرف المرسلين الذي جاء برسالة أكمل دين.

أمّا بعد:

فإنّي أشكر هؤلاء القوّامين على مثل هذه المؤسّسة الكبرى التي أعتبرها مؤسّسة قلّ نظيرها، وقلّ حدوثها.

فمنذ الخمسينات لم نرَ إلا المؤسسة الأولى في التقريب بين المذاهب التي كانت تعمل في سبيل الوحدة الإسلاميّة، وكما قلت أكثر من مرة فإنّ الوحدة الإسلاميّة فضلاً عن أنّها ائتمار بأمر الشريعة فإنّها أضحت من الأمور المعلومة في الدين بالضرورة، وإضافة إلى ذلك فإنّ هذه الوحدة – كما قلت وكما أقول دائماً – تعتبر مناط السيادة والعزّة للمسلمين جميعاً في سائر أقطارهم، وإنّها وإن عزّ تحقيقها اليوم ولكنّها أمل الشعوب الإسلاميّة جميعاً في المستقبل القريب إن شاء الله. ومهما حالت الحوائل دون تحقّقها اليوم، فإنّني أعتقد أنَّ العزم وصلابة الإرادة ووضوح الرؤية وتقديم الأهداف السامية للمسلمين على أيّ شيء آخر، إذا اجتمعت هذه العوامل كلّها فلابدّ أن تأخذ الوحدة الإسلاميّة

ـ(250)ـ

سبيلها إلى التحقيق، وما في ذلك شكّ، ذلك لأنّي على يقين من أنّ منطق الشريعة ومنطق أحكامها ومنطق مبادئها الكبرى ومنطق أصولها العامّة اللفظيّة منها والمعنوية أو ما أُسمّيه منطق اليقين هو الواقع في الأخير، وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة ذلك وبيّن أنّ أيّ قوّة مهما بلغت في تأثيرها المادّي أو المعنوي لن تستطيع أن تنقض منطق اليقين في النفس الإنسانيّة، ولذلك فإنّ المراد في قوله جلّ وعلا ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾(1) يجحد بها ظاهراً، ولكنّه في يقين أمره، أمر واقع لا محالة منه، لأنّ الفطرة الإنسانيّة نفسها قد أعدّها الله تعالى على أن تكون مطابقة لشرعه. وفي هذا المقام كثيراً ما أستشهد بقول المرحوم فضيلة الشيخ محمود شلتوت، حيث يقول «إنَّ الذي فَطَر الفطرة هو الذي أنزل الشرع على قدرها» وهذا مستمدّ من قوله تعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(2) فلا تبديل لشرع الله ماداما متطابقين، وإنّ هذه أُوجِدَت مطابقة للشرع، فإذا كانت الفطرة لا تتبدّل فالشرع لا يتبدّل وإلا فُقِدَ التطابق والفرض أنّ التطابق قائم، وأمّا فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرع والوحدة فإنّ الشرع لا يتبدّل أيضاً وتبقى الوحدة شيئاً يقينياً ثابتاً، ففي الآية الكريمة ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(3) هناك – كما يقول الأصوليون – نصّ آمر لا يحتمل تأويلاً ولا تبديلاً، ولن يختلف في فهمه اثنان وإذا كان نصّاً «آمرا» فعلى المسلمين أن ينفّذوه وإلا كانوا عصاة. إذن ننتهي إلى أنّ الوحدة الإسلاميّة قد بلغت مبلغ اليقين في منطق الشريعة، ومنطق اليقين في الشريعة محال أن يُنقض، وجاء به نصّ آمر لا يحتمل تأويلاً ولا تبديلاً، وهذا من النّصوص القاطعة التي لا يسع المسلمين مخالفتها، وإن لم يقوموا بإخلاص واستقامة لتحقيقها فقد عصوا الله ورسوله وتخلّوا عن سيادتهم

_______________________________________

1 - سورة النمل: 14.

2 - سورة الروم: 30.

3 - سورة آل عمران: 103.

ـ(251)ـ

لأنّ الشّيء لا يقوم بدون سببه، فالسّيادة سببها الوحدة ولا مُسبِّبَ دون سَبب، هذا ترتيب إلهي.

كنت أودّ أن أُعلِّق على الكلمة العلميّة التي ألقاها الأستاذ الكبير الشيخ الفاضل التسخيري، وحقيقة الأمر إنّي كنت في حالة نفسيّة مرتاحةٍ جدّاً إلى وصول فضيلته إلى مثل هذه المقرّرات التي هي من أعماق علم الأُصول، ولي بعض الزيادات – لا النقد – التي توضّح هذا الموضوع الكبير وهو منهج الاستدلال وإن شاء الله سنتّخذه موضوعاً لكتاباتنا في المستقبل عسى أن يرسم الطريق للمجتهدين وأن يقرّبوا فيما بينهم في أصول الشريعة.

يتَّهمنا المستشرقون دائماً وناقدو الشريعة كذلك من الذين خفَّت في نفوسهم موازين العلم، أو روح التديّن إن كانوا مسلمين حيث يقولون:

إنّ الشريعة مفاهيم ذهنيّة مجرّدة قد ارتقت إلى مستوى المثالية ممّا يعزّ على الإنسان تحقيقها. هذه التّهمة ليست في محلّها، لا نظريّاً ولا واقعيّاً. أمّا من حيث هذه المفاهيم فإنّها موضوعية المعنى لا يسع الإنسان أن يخالفها غير أنّها تحلّق في آفاق عليا من السمو التشريعي، بحيث لو رُحت تقارن هذه المفاهيم الذهنيّة المجرَّدة لا يسعك أن تجدَ لها نظيراً. لقد قالوا: إنَّ أعظم قانون وتشريع صدر حتّى الآن في البلاد الأوربيّة هو قانون صدر – وأظنّه – في السويد، وبرّروا ذلك أنّه يحمل مفاهيم كبرى وواسعة بحيث تستقبل مفاهيمها كلّ تطور يمتدّ به الزمن بالناس ممّا يجعل هذا القانون أكثر مرونة ولكنّها مرونة غير سيّالة، مرونة منضبطة تستطيع الوقوف أمام كلّ تطوّر يأتي بشيء جديد. هذا تعليلهم وقد وافقهم العلامة المرحوم السنهوري لأنّه حجّة في القوانين حيث قال «إنّ ذلك يعتمد على هذه العمومات والإطلاقات الموجودة في مثل هذا القانون». إذا ثبت هذا وهو ثابت لامِرية فيه نجد أنّ القرآن الكريم في مجال بيانه الأحكام قد جاء على نحو كلّي في

ـ(252)ـ

معظم آياته ولم ينزل إلى التّفصيلات إلا في أمور ثلاثة رأى أنّ المصلحة تقتضي أن توجد هذه التفصيلات حتّى لا يكون ثمّة خلاف فيها، ولأنّ الشارع الحكيم قد صاغ نصوصاً تحتمل الخلاف وفي هذا المقام نستدرك بأن نقول: إنّ الخلاف الفقهي بين الفقهاء وإن اتّخذوا مناهج أصوليّة متّحدة لابدّ أن يقع، لأنّ هذا الخلاف – كما يقول الأصوليون جميعاً – من فطرة النّظم القرآني نفسه – أي من طبيعته – ما دام قد أنزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي حمّال للمعاني المتزاحمة في اللفظ الواحد، بل في السياق تجد الاختلاف في المعنى، معنى هذا أنّه لابدّ من الخلاف ولكنّه خلاف علمي اقتضته طبيعة اللغة نفسها فضلاً عن الخلاف في التفاوت في المَلَكات الذهنيّة التي أُوتيها كلّ مجتهد والتي يغذّيها ويصقلها بالثقافة المتطوّرة عبر العصور.

والعقل الإنساني عجيب. لا يُدرك مدى القدرات والطاقات التي ينطوي عليها العقل الإنساني إلى حدّ أنّه لا يملك القدرة على أن يتفهّم مدى التفكير الذي يصل إليه عقله عبر الزمن وهذا واقع ومشهود وإلا فما سرُّهذه الانجازات العلمية في عصرنا الراهن من تقدّم التقنية، وما أتى به العقل الإنساني في مجال العلم من إنجازات يذهل العقل نفسه عن تبيّنها؟ ولهذا حرم الله تعالى السكر والخمر لأنّه يشل أكبر نعمة أسبغها الله على الخلق، ولا يدرك قيمتها. إنّ الذي يعاقر الخمر سفيه لأنّه لا يمكنه – لسفهه – إدراك مدى قوّة الفكر في عقله، ولا مسارب الفكر التي تسير فيها ثمرات تفكيره. عجيب ! فما بالك إلى قيام يوم الساعة ! لا تدري ماذا سيحصل؟ فالتشريع إذن يعتمد على الثقافة، والاجتهاد يعتمد على الثقافة، وملكات العلماء والفقهاء مرهونة دائماً بالتقدّم العلمي في كلّ عصر، وإذا كانت الملكات عند الاجتهاديين أو عند المجتهدين متفاوتة فإنّ هذا التفاوت هو السبب الأوّل في هذا الاختلاف.

إذا كانت تمتاز مفاهيم الشريعة من حيث مثاليتها وتحليقها في آفاق عليا من هذه

ـ(253)ـ

المثالية، فإنّها تمتاز أيضاً بموضوعيّة المعنى والموضوعيّة أمر يقيني، فلا يقبل النقض، وخلقيّة المبنى وهذا أمر ثابت، وعالميّة الأثر لأنّها لا تختصّ ببيئة أو أخرى، وشموليّة التوجيه والهيمنة فإنّ هذا لا يمكن أن ينقض مطلقاً بل هو جدير بالبقاء، لكن الأمر الذي اريد أن اؤكّده هنا أنّ هذه الموضوعيّة والمثاليّة والخلقيّة والعالميّة والشموليّة لم تكن في فراغ وإنّما كانت منطلقات أساسيّة للمسلمين يوم أنزل هذا الوحي على النّبي في أرض المدينة، ويوم قامت الدولة كانت هي المنطلقات الأساسيّة لها. وهذا أمر يؤكّد لنا أنّها ليست بعيدة عن التنفيذ كما يدّعون، بل كانت المنطلقات للنشاط الحيوي الإنساني وقد أدرك الرعيل الأول هذا المعنى، فلم يكتفوا بأن يتغذّوا بهذه المفاهيم وأن يجعلوها منطلقات أساسيّة لسعيهم في كل ما يأمر به الكتاب والسنّة، لم يكن ذلك إلا دليلاً قاطعاً على أنّ مفاهيم الإسلام المجرّدة ليست عصيّة التنفيذ، ثمّ ما كان منها مبدأ واحد مناقضاً للفطرة الإنسانيّة لأنّ التناقض بين الشرع والفطرة لن يكتب له البقاء وأنّ ما تقتضية الفطرة هو ما يمكن الامتثال فيه، وهو ما يمكن أن يدرك الغاية منه وهو المنطلق الذي ينطلق منه الممتثل إلى السعي حثيثاً إلى تحقيق تلك الغاية التي رسمها له الشرع، فالغاية منطقيّة يقتنع بها العقل، وخُلقيّة يرتاح بها الوجدان.

ثم إنّ خلقيّة هذا المبدأ تتسرّب إلى الوجدان فتنشأ الإرادة الصلبة في التحقيق فضلاً عن وازع الدين، أي لو أخذ التشريع من حيث هو، فإنّه يحمل المرء على الطوع الذاتي لأنّه معقول المعنى ومعقول الغاية وَبَيّن الخلقيّة، فالوجدان يرتاح والعقل يقتنع، والإرادة الصلبة تتولّى التنفيذ. هذا إلى جانب وازع الدين، فلم تكن إذن الوحدة الإسلاميّة أمراً مفروضاً من خارج وإنّما هي أمر تفتعل به النفس الإنسانية فتنطلق إلى التحقيق ذاتيّاً فضلاً عن الأمر الإلهي بتحقيق هذه الوحدة.

نعم، إنّ التقريب بين المذاهب أضحى من الأمور التي يجب تنفيذها بالضرورة

ـ(254)ـ

مادام هذا التقريب متوقّفاً عليه تحقيق الوحدة للمبدأ الذي نعرفه «أنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب»، ولكن لا يكفي في تحقيق الوحدة أن تكون هذه المعاني الّتي قدّمناها نظرية فقط والتي تنقض كلّ ما يوجّه إلى الإسلام من نقد، من دون التنفيذ العملي الذي تقوم به الدولة، ولذلك لم يكن للإسلام كيان إلا بعد أن هاجر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأقام الدولة الفتيّة التي كانت تحيط بها تحدّيات من الداخل والخارج على نحو لم نرَله مثيلاً في تاريخ الدول.

فقريش الكافرة وبقية القبائل الأخرى التي كانت تأكلها العصبية والإحَن والأحقاد، لم تكن تقيم لمبدأ ولا لمُثل عليا أيّ وزن، ولو أنّهم فكّروا قليلاً لأيقنوا أنّ الإسلام لا يستأهل منهم هذه الحروب التي شنّوها عليه، ولا ألوان الجرائم التي اقترفوها في حقّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وفي حقّ الرعيل الأول لأنّهم لم يكونوا عنصريين ولا قبائليين، وإنّما كانوا مؤمنين بالله، وأنَّ المبدأ الأوّل في الدولة، بل المبدأ الأول في الإسلام نفسه (محو العنصرية) بدليل أنّه وجّه البشرية كلّها إلى شيء واحد ومصدر واحد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(1) والبدء بكلمة التقوى لأنَّها تحسيس لهؤلاء أن يرجعوا لضمائرهم، وأن يفتح في نفوسهم ما يجعلهم أكثر إدراكاً لماهية أصلهم فإذا كان الأصل هو الوحدة الإنسانية كما يقرّ بذلك القرآن الكريم، فإنّ السبيل ممهّد للوصول إلى الوحدة الإسلاميّة لأنّه محا العصبيّة من الأولى وسيمحو العصبية من الأخرى وعلى ذلك تقوم الوحدة الإسلاميّة على أساس الوحدة الإنسانيّة إذ لا فرق إلا في الدين، وقد جاء الدين في الوحدة الإسلاميّة مكمّلاً لإنسانيّتها.

قلت: إنّ ما يخالف فطرة الإنسان في التشريع لن يكتب له ديمومة ولا بقاء كما شاهدنا ذلك في الشيوعية الكافرة التي انهارت في عقر دارها، وقد تنبَّانا بذلك من قبل،

_______________________________________

1 – سورة النساء: 1.

ـ(255)ـ

فلماذا وقع هذا؟ إنَّ السبب هو شيء بسيط وقاعدة آمل أن تدركوها وهو أنّ الشيء لا يثبت مع ما ينافيه، فإذا كان الشرع منافياً للفطرة فلن تقبله الفطرة لأنّ هذا تضادّ، ولذلك نصّ الأصوليّون على هذا المعنى بأن لا يخالف الإنسان مقتضى فطرته، فتستكنّ في نفسه القصود والنوايا غير المشروعة وغير الإنسانيّة، فقال الإمام الشاطبي: إنّ هذه القصود وهذه النوايا غير الإنسانيّة وغير المشروعة إذا تعلّقت بفعل بطل الفعل ولو كان ظاهر الفعل مشروعاً، لأنّه لو كان أصل الفعل في ظاهره مشروعاً، ولكن في باطنه توجد نيّة غير إنسانيّة، أو غير إسلاميّة فإنّ الفعل يبطل لأنّ الله تعالى لا ينظر إلى الظواهر فحسب، فيقول بالعبارة: إنّ الأفعال لم تشرع لذواتها وإنّما شرعت لمعانٍ أخرى هي روحها وهي المصالح التي قصد الشارع تحقيقها من وراء مشروعيّة الفعل فإذا أُدّيَ الفعل في ظاهره وباطنه على ما رسم الشارع كان ذلك الفعل في ظاهره وباطنه مشروعاً وإذا كان ظاهره مشروعاً وباطنه غير مشروع فالفعل ينقض ويبطل من أصله لأنّه ليس على سند مشروع، وهذا ما قامت عليه أحدث نظريّة في العالم اليوم وهي نظريّة التعسّف في استعمال الحقّ.

كتبت أنّ المُثل العليا هي السبب في قيام الوحدة، وأنَّ منها الإيثار كما حدث ذلك على يد الأنصار حينما آوَوا المهاجرين وآثروهم على أنفسهم لم يكن ذلك بأمر من القرآن، القرآن لم يَقُل لهم آثروا المهاجرين على أنفسكم، بل فعلوه تلقائياً، وهنا يجب الوقوف والتأمّل!

القرآن أثنى عليهم حينما آثروا المهاجرين على أنفسهم طبعاً بعد أن آثروا، ولكن ما الذي دفعهم إلى الإيثار الذي ليس له نظير في المجتمعات البشرية لا في القديم ولا في الحديث ولا أراه واقعاً في المستقبل؟ هو العقيدة بدليل الآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ

ـ(256)ـ

وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1) ما معنى تبوّأ؟ معناها تمكّن في الدار، أي في المدينة، والإيمان؛ أي بمعنى وتمكّن في الإيمان، فجعل الإيمان داراً مع أنّ الإيمان في القلب، في جزء من الإنسان، ولكن أراد القرآن الكريم أن يشير إلى ما يفعله الإيمان في النفس الإنسانيّة فيستغرق في إيمانه حتّى يصبح الإيمان دراً له فيحتويه الإيمان احتواء ولا يكون فقط في القلب، يحتويه كما تحتويه الدار تماماً ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2) وهذا أسمى ما يمكن أن يتصوّر في الإيثار من أن يكون على فقر، وفقر مدقع، وخصاصة لأنّه هو أحوج ما يكون إلى أن يقضي حاجته من هذا، ولكن مع ذلك آثر حتّى الزوجات!

فالإمام محمّد عبده يتكلّم في الوحدة – ولا أدري لماذا لم يضعوا صورة له مع الشّخصيّات وهو أوّل من نادى بالوحدة الإسلاميّة قبل الشيخ شلتوت في أوائل هذا القرن؟ وأمّا الشيخ شلتوت ففي منتصف هذا القرن -، حيث يقول ما يلي: «فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية (المجتمع) وعروة الاتحاد بين الآحاد (الأفراد)، تميل بكل منهم إلى الآخر، إلى من يشاكله، حتّى يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرّك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته غاية واحدة... إنّ مجموع الفضائل هو (العدل) في جميع الأعمال فإذا شمل طائفة من نوع الإنسان، وقف بكلّ من آحادها عند حدّه في عمله، يخضع التعسف لا يتجاوزه بما يمسّ حقّاً للآخر فيكوّن التكافؤ والتآزر». يعني هذا أنّ فيه إشارة إلى أنّ العدل ليس مفهوماً ذهنيّاً مجرّداً – كما يقول أفلاطون – وإنّما العدل عند علماء المسلمين أنّ الإنسان عندما يكون عمله مستقيماً على النهج الإلهي فهو عادل، فالعدل عملي كما ترون، والفضائل إذا نفّذت كانت عدلاً والله تعالى يقول ﴿ إِنَّ اللّهَ _______________________________________

1 - سورة الحشر: 9.

2 - سورة الحشر: 9.

ـ(257)ـ

يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(1). أي بالأفعال التي شرعها الشارع وقرنها بالأحكام، فإنّ كانت تلك الأحكام واجبة تقتضي الوجوب أو تقتضي الإباحة أو تقتضي التحريم، فهذا هو العدل، فالعدل متجسّد في العمل، في جميع الأعمال،،«فإذا شمل طائفة من نوع الإنسان وقف بكلّ من آحاده عند حدّه، أي لا يتجاوزه» «ولو کان يتصرّف في حقّ، ولكنّ تصرفه جاء على نحوٍ يخلّ لا يمكن أن يتغيّا غاية تعود على المصلحة العامّة للدولة والأُمّة بالنقد لأنّ هذا هو التعسّف، ولكنّه لم يعبّر بكلمة التعسّف التي يعبّر بها القانونيّون والفقهاء في أيّامنا هذه «لا يتجاوزه بما يمس حقّاً للآخر فيكوّن التكافؤ والتآزر» وهذا هو التكافل.

إذا كانت الفضائل هي مناط الوحدة فسوف تدرك السرّ في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم «إنّما بُعِثْتُ لاتِّممَ مَكارِمَ الأخلاقِ» أي لأحقّق الوحدة التي مناطها مكارم الأخلاق.

إنّ مفهوم هذا الكلام المخالف عند الأصوليين في قوله تعالى ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾هو مفهوم ذهني مخالف لازم عن معنى العبارة، وهو أنّه، إن لم تفعلوا ذلك فلن تفلحوا، لكنّ الله تعالى لم يرد أن يقفوا عند المعنى الذّهني لأنّه ربّما يكون كثير من النّاس لا يفقه اللوازم العقليّة، فصرّح بما هو لازم عقلي وقال تعالى ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(2) أي تذهب قوّتكم، وهي مطلقة، والمطلق يجري على إطلاقه، أي تزهق قوتكم الماديّة والمعنويّة إن لم تعتصموا، مادمتُ قد شرعت لكم مناط الوحدة فلِمَ لم تحقّقوا هذا المناط لتتكوّن الوحدة؟ الوحدة لم آمركم بها لمجرّد الأمر، بل وضعت لكم السبب، وهكذا يكون القرآن الكريم في تشريعه يبيّن دائماً السبب في هذا الفعل والسبب في هذا الترك، ثمّ يرسم في النهاية الحكمة أو المصلحة وإن كان الأصوليون

_______________________________________

1 - سورة النساء: 58.

2 - سورة الأنفال: 46.

ـ(258)ـ

يسمّونها الحكمة، ولكن هي في الحقيقة المصلحة الشرعية المعتبرة لا التي تنتج عن العقل وحده لأنّ العقل الآدمي أو الإنسانيّ مغلوب على أمره في كثير من نوازع الهوى وإلا فما سرُّ التّباين في التّشريعات في العالم؟ كلّ منها على طرفي نقيض، هذا من عمل العقل. الرأسماليّة ضدّ الشّيوعيّة وهي ردّ فعل لها، واقتربت الشيوعيّة نوعاً ما من أن تنظر إلى الأفراد، واقترب الرأسماليّون إلى الجماعة، ولكنّ كلّ هذا لم يُجدِ لأنه خلاف الفطرة، والمقام هنا لا يتّسع لتقرير النظريّة العامّة للشريعة حتّى ترى أن لا تساويها ولا تناظرها أيّة نظريّة أُخرى في العالم قامت على أساسها التشريعات، لأن شرح هذا المطلب يحتاج إلى وقت طويل. نكتفي بهذا القدر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.