دار الإسلام بين الواقعية والمثالية الجغرافية السياسية للعالم من منظار الإسلام

دار الإسلام بين الواقعية والمثالية الجغرافية السياسية للعالم من منظار الإسلام

 

 

دار الإسلام بين الواقعية والمثالية الجغرافية السياسية للعالم من منظار الإسلام

 

الأستاذ عميد الزنجاني

عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد نشأت في الحركة الإسلامية في مسيرتها التاريخية ظاهرتان بارزتان أولاهما انتشار الإسلام وحمل المسلمين لرأية الإسلام إلى أقصى المعمورة وكان هذا الانتشار العجيب طوعا بين شعوب العالم قد أوجد مجالا لتكوين وانتشار الثقافة المجددة للحياة والحضارة العلمية والإنسانية وكان لانتشار المسلمين وعلاقتهم بالهجرة وصلتهم بالأرض(بوحي من السماء ) دور كبير في توسيع آفاق تلك الحضارة الرائعة البشرية.

اما الظاهرة الثانية التي نهتم بإيضاحها في هذا المقال وهي ظاهرة دار الإسلام وما رافقها من توسيع الحدود الجغرافية السياسية التي كانت تعتبر قلب الحضارة الإسلامية وموطنا لتطور تلك الحضارة وغناها السياسي بينما رسخت تلك الحضارة البشرية الإسلامية حيث سادت دار الإسلام بنطاقها الواسع.

ان البحث عن دار الإسلام بما لها من المفاهيم السياسية والحضارية يعطي مادة علمية دقيقة عن موضوع هذا المؤتمر ويصف الإسلام بخصيصه تتميز

ـ(62)ـ

بالحيوية والاعتدال والعلمية وليس الهدف منه الدعاية لشعب أو بلد أو تيار خاص أو تعصب لطائفة ولكن يغلب على البحث أحيانا اعتزاز الأمة الإسلامية بإسلامها الثوري وبالإسلام كحركة عالمية تحررية لجميع الشعوب في نطاق النظام الدولي.

فنبدأ في توضيح بعض جوانب هذا البحث الرائع بذكر مقدمة مختصرة:

ان الخصائص الفكرية والعقيدية تمثل أهم عنصر في تكوين الشعب.

ولا تحقق الوحدة الوطنية إلا عن طريق الاشتراك في النظرة الكونية، والهدف، والنظام الاجتماعي، ولهذا السبب نجد ان لهذا اللون من الخصائص تأثيراً ملحوظاً في التمييز بين الدول.إذ يعين الحدود فيما بينها.

ان الدول والبلدان المختلفة. قبل ان تتخذ لها اسماً من حيث الظروف الإقليمية والجغرافية، أو من حيث السلالة التي تنحدر منها شعوبها، تكتسب سمتها الأصلية من العقيدة والتفكير السياسي لشعوبها. وكذلك الشعوب فانها قبل ان تنتمي إلى الزايا الشكلية والصفات العرضية كالعنصر. والتاريخ، والعادات والتقاليد، والحضارة والمدنية، والأرض، تنشد إلى عقيدتها ونظامها الفكري، وميزتها الأصلية البارزة تنبثق عن هذا المبدأ.

من هذا المنطق، قسم الفقهاء الدول التي أطلقوا عليها عنوان: «الدار» من وحي موقفها حيال الإسلام عقيديا وسياسيا. وجعلوا المعلم لكل دار ما عليه أهلها من الوجهة العقيدية والسياسية. ومع ان كلمة «دار» في هذا التقسيم تمثل مفهوم الدولة، إلا ان طرحها هنا يأتي من الدور الذي تساهم به الأرض في تبلور المفهوم للدار أو الدولة.

ان دار الإسلام هي الدولة والأرض التي تعيش فيها الأمة الإسلامية. وتلك

ـ(63)ـ

الرقعة من العالم التي تدخل في نطاق الإسلام، وتستظل الحياة فيها بظلال الأحكام الإسلامية.

وقد قدم الفقهاء آراء متنوعة في تعريف دار الإسلام، ومن هذا المنطلق وصفها الكتاب وعلماء القانون باشكال مختلفة. جاء في دائرة المعارف الإسلامية ان دار الإسلام هي الأرض التي اعتنق أهلها الإسلام(1). وجاء في الموسوعة العربية الميسرة أن دار الإسلام هي البلاد التي يحكمها مسلم وتؤدي فيها أحكام الإسلام دون قيد، وتكون أكثريتها مسلمة(2).

وقد البعض هذا التعريف بشكل آخر، فقال: دار الإسلام هي البلاد التي تكون في نطاق السيادة الإسلامية، واحكام الإسلام فيها نافذة وشعائر الدين مقامة(3) وقيل أيضاً: ان دار الإسلام هي نطاق الحكومة الإسلامية التي كانوا يعبرون عنها في عصر صدر الإسلام: دار البحرة(4). ومن بين فقهاء الشيعة، يعتبر العلامة الحلي دار الإسلام تلك البلاد التي تطبق فيها أحكام الإسلام، وهي تشمل ثلاثة أقسام:

1 ـ ما انشأه المسلمون وأحدثوه كالبصرة والكوفة.

2 ـ ما فتحه المسلمون عنوة.

3 ـ ما افتح صلحاً على ان الأرض لأصحابها ويؤخذ منهم خراجها(5).

يقول محمد بن الحسن الشيباني: المعتبر والملاك في صدق(الدار) هو

_____________________________________

1 ـ يرجع إلى دائر المعارف الإسلامية 9: 77 فما بعدها.

2 ـ يرجع إلى «الموسوعة العربية الميسرة» 2: 77.

3 ـ آثار الحرب: 169.

4 ـ «ترمينولژى حقوق»(علم المصطلحات القانونية) 281، الدكتور جعفري لنكرودي.

5 ـ يرجع إلى «تذكرة الفقهاء» 1: 455 ـ 446.

ـ(64)ـ

الحكومة والقدرة على تنفيذ الأحكام(1).

ويعتبر ابن حزم دار الإسلام دار البحرة فيقول: كل البلاد ما عدا المدينة هي حد الجهاد ودار الحرب(2).

ان ايضاح مصطلح دار الإسلام لا يؤثر في تعريف أنواع(الدار) الأخرى فحسب، بل وتظهر آثاره الفقهية والقانونية في كثير من المباحث الأخرى كالسياسة الخارجية، والخلافات المالية بين الذين يعيشون في دار الحرب، والذين يعيشون في دار الإسلام، واللقطاء في كلا الدارين، من هذا المنطلق فان أهمية هذا البحث تستدعي ان تطرح الآراء الفقهية الرئيسة وتقوم لكي نحصل على نتيجة صحيحة في الحالات المذكورة.

نناقش فيما يأتي النظريات المختلفة المطروحة حول دار الإسلام، وذلك من أجل توضيح مفهوما.

1 ـ تعتبر الدولة التي هي في نطاق الحكومة الإسلامية، وتطبق فيها أحكام الإسلام وتقام فيها الشعائر والمظاهر الدينية «دار الإسلام». وعندما يتعرض جزء من أجزائها إلى اعتداء يقوم به أعداء الإسلام، فعلى المسلمين ان ينهضوا للدفاع بمقدار الحاجة كواجب كفائي عليهم. وعندما تكون هناك حاجة إلى قدرة أكثر فان ضرورة الدفاع تكون اشمل. ويكون الدفاع حتمياً على جميع المسلمين بوصفه واجباً عينياً، وتقع المسؤولية على الجميع عند التخلف عن القيام بهذه المهمة.

ان البلاد التي تعتبر جزءا من دار الإسلام وفقا للنمط المتقدم لا تخرج عن

_____________________________________

1 ـ يرجع إلى شرح السير الكبير 4: 8 فيما بعدها.

2 ـ المحلي 7: 353.

ـ(65)ـ

عنوان بلاد الإسلام ودار الإسلام وأحكامها باستيلاء الأعداء والأجانب وسيطرتهم، ومهما تأخر زمنياً فان مسألة وجوب الدفاع أمام الانتهاكات السابقة والحالية تبقى نافذة(1).

اذن، سيشمل العالم الإسلامي شبه الجزيرة العربية والبلاد المفتوحة من قبل المسلمين. وكذلك البلاد التي خضعت لسيادة الإسلام وقوانينه، وطبقت فيها النظم الإسلامية.

وفي ضوء هذه النظرية فان(دار الحرب) هي البلاد التي لم تطبق فيها الأحكام الدينية والسياسية للإسلام، وهي خارجة عن نطاق النفوذ الإسلامي.

2 ـ وفقاً لهذه النظرية، فان الفارق الجوهري بين العالمين المذكورين هو وجود الحكومة ونفوذ الأحكام. فعندما تكون الحكومة والأحكام النافذة الإسلامية، فإن العالم المذكور يعرف على انه دار الإسلام، وعندما تكون غير إسلامية، فانه يعتبر(دار الحرب).

وهكذا فان البلد الواحد يمكن جزءاً من دار الإسلام في يوم من الأيام، ويمكن ان ينضم إلى دار الحرب في يوم آخر بسبب سيطرة النظم غير الإسلامية، وزوال الشعائر والأحكام الإسلامية.

يزعم أنصار هذه النظرية ان ظهور الإسلام يتحقق بظهور أحكامه وشعائره، فإذا مازالت هذه الأحكام والشعائر في بلد، فلا يعد يعرف بدار الإسلام، وسيفقد عنوانه الأصلي(2).

3 ـ ترى هذه النظرية ان أساس الاختلاف بين العالمين(الدارين) في وجود

_____________________________________

1 ـ راجع تفسير المنار 10: 316، ومقدمة ابن خلدون 165.

2 ـ آثار الحرب 171.

ـ(66)ـ

(الأمان) وانعدامه. يعني متى ما كان هناك أمان من قبل المسلمين في بلد ما، فان هذا البلد يحسب على الوطن الإسلامي، ومتى فقد هذا الأمان فان ذلك البلد يحسب على دار الحرب. وفي ضوء هذه النظرية فان أي بقعة من الوطن الإسلامي(دار الإسلام) سوف لا تتبدل إلى دار الحرب إلا إذا توفرت الشروط الثلاثة الآتية:

1 ـ أحكام الكفر مطبّقة ونافذة في تلك البقعة.

2 ـ البقعة المذكورة مجاورة(1) لدار الحرب وملاصقة لها.

3 ـ لا يبقى في تلك البقعة ولا ذمي يعيش في أمان المسلمين(2).

4 ـ بالنظر إلى العلاقات التي تنبثق عن عقد معاهدات السلام بين المسلمين وغيرهم، فقد قسم عدد من الفقهاء العالم إلى ثلاثة أقسام هي: دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد. ودار الحرب، في ضوء هذا التقسيم، تخص البلد الذي لم يعقد أهله معاهدة وصلحا مع المسلمين.

والقصد من دار العهد: الدولة التي لم يسيطر عليها المسلمون، وإنّما اكتفوا بتوقيع معاهدة الذمة والهدنة مع أهلها، وظل أهلها على عقائدهم وآدابهم وقوانينهم واكتفوا في علاقاتهم مع المسلمين بعقد معاهدة الذمة معهم. وتتوكأ هذه النظرية على المعاهدات التي كانت تعقد في عصر صدر الإسلام، نحو المعاهدات المعقودة مع أهالي نجران، والنوبة، وارمينية. وقد احتفظت تلك المناطق باستقلالها وظل أهلها على عقائدهم وآدابهم على الرغم من العلاقات

_____________________________________

1 ـ القصد من الجوار هنا عدم وجود بلد إسلامي بين ذلك البلد ودار الحرب.

2 ـ آثار الحرب 172.

ـ(67)ـ

الخاصة التي كانت تربطهم بالمسلمين في ضوء عقد الذمة(1).

بيد ان دار العهد وفقا لنظريات أخرى وطبقا للعقد الرسمي بين الطرفين تعتبر جزءا من دار الإسلام ومما يدعم هذه النظرية الشروط الواردة في عقد الذمة(2).

5 ـ يمكن ان نبين النظرية الخامسة في هذا البحث استضاءة بالشرح الذي قدمه بعض الكتاب الإسلاميين المتأخرين حول نظرية(تقسيم العالم ) على النحو الآتي:

«لما كان تقسيم العالم من قبل فقهاء المسلمين إلى جبهتين باسم دار الإسلام ودار الحرب قائما على أساس العلاقات الموجودة بين المسلمين وغيرهم، ولا علاقة لـه بالتشريع الإسلامي والاختلاف الديني، وكانت حالة الحرب أو السلم هي الباعث المهم على هذا التقسيم، لذا ينبغي ان نقول: ان دار الحرب هي مجرد منطقة حرب ومسرح معركة. ولما كانت الحرب ينتهي بانطفاء شعلتها، ولن يبقى لها أثر.

وفي ضوء ذلك، ينبغى ألا نتصور ان في قانون الإسلام دولتين أو كتلتين سياسيتين، وان الإسلام يعترف بهذا الاختلاف والتقسيم، بل ان التقسيم المذكور هو بحسب توفر الأمن والسلام للمسلمين في دارهم، ووجود الخوف والعداء في غير دارهم وان دار الحرب اصطلاح يطلق على البلاد التي لا تعيش مع المسلمين في حالة سلام وتوادد»(3).

_____________________________________

1 ـ «الشرع الدولي» 50 نقلا عن «آثار الحرب» 175، 176. و«العلاقات الدولية في الإسلام»: 53.

2 ـ غلط هنا بين دار الإسلام ودار السلام، إذ من الصحيح ان دار العهد تعتبر جزاً من دار السلام ودار السلم، بيدا انها غير مشمولة بدار الإسلام. ومن هذا المنطلق يتعذر علينا ان نجعل التقسيم المذكور أساس لنظرية مستقلة.

3 ـ السياسة الشرعية: نظام الدولة الإسلامية: 69 ـ 76، «آثار الحرب»: 194 ـ 196.

ـ(68)ـ

على الرغم من أن هذه النظرية في مبناها تماثل النظرية الثانية تماماً، إلا ان ميزتها لافتة للنظر أكثر من حيث ان أنصار هذه النظرية اقروا بقانون الجهاد في الإسلام في بعده الدفاعي فحسب، وهكذا حاولوا التوفيق بين نظرية الفقهاء ونظرية المتخصصين في القانون الدولي المتوكئة على وحدة العالم، على ان الحرب حالة عرضية ومؤقتة في المجتمع البشري الكبير، وان المجتمع البشري يتوحد بإزالة الحرب.

يحلل مؤلف كتاب «آثار الحرب» وهو من أنصار هذه النظرية،(دار الإسلام ) والوطن الإسلامي كالآتي:

«تضم دار الإسلام جميع الأقاليم الإسلامية الفسيحة والبعيدة. فلا ينطبق الوطن بالحدود الجغرافية والسياسية المتداولة بين دول العالم هذا اليوم على الوطن الإسلامي، إذ ان الوطن الإسلامي يتسع باتساع رقعة العقيدة الإسلامية ومن هذا المنطلق، فهو يشبه أكثر أمرا معنونا كالإيمان، والعقيدة. ورعايا دار الإسلام هم المسلمون وغير المسلمين من الذميين والمستأمنين، وهكذا فالمسلمون والذميون كشعب واحد لدار الإسلام، إلا ان الذميين لا يعتبرون جزءا من الأمة الإسلامية. فالإسلام من حيث كونه عقيدة يعتبر المسلمين جميعاً اخوة في العقيدة، ومن حيث العقد الثنائي يعتبر المسلمين وحلفاءهم شعبا سياسيا واحدا»(1).

6 ـ ثمة نقطة كان الاهتمام بها قليلاً في النظريات المتقدمة وهي اننا ينبغي ان لا نعتبر مفهوم دار الإسلام أو الوطن الإسلامي في هذه الدراسة مفهوماً ثابتاً

_____________________________________

1 ـ «آثار الحرب»: 177 ـ 180.

ـ(69)ـ

وواحداً، ونتغافل عن التبدلات التي قد تطرأ عليه بسبب تبدل وتنوع الأحكام وآثارها.

حاول أصحاب النظريات السالفة من خلا إبداء الآراء المذكورة ان يجدوا علاجاً للمسائل التي تحوم حول عنوان دار الإسلام، وبينوا الآثار والأحكام القانونية والسياسية للعنوان المذكور جملة. بينما نجد ان عنوان دار الإسلام إذا كان موضوعه الأحكام القانونية، فهو يختلف عن عنوان دار الإسلام الذي استل بسبب الآثار السياسية للموضوع.

نأخذ في حسابنا المسألتين الآتيتين وذلك لكي يستبين الموضوع:

أ ـ يعتبر الطفل اللقيط الذي يعثر عليه في دار الإسلام لا يعرف دين أبويه، مسلماً من منظار القانون.

ب ـ يحظر دخول الشخص غير المسلم إلى دار الإسلام بدون إحراز عنوان(الذمي) أو(المستأمن).

لاريب ان مفهوم دار الإسلام في المسألة الأولى يختلف تماما عن مفهومه في المسألة الثانية، لأن الحكم المترتب على العنوان الأول يصدق على المناطق الإسلامية في البلدان غير الإسلامية كالهند، ولبنان: بينما لا يصدق العنوان الثاني باعتبار الحكم السياسي في المناطق المذكورة.

يقول مؤلف كتاب «الفقه ـ السياسة » في تعيين نطاق بلاد الإسلام وحدودها وبلاد الكفر:

«ما كان الكفار سيطروا عليه وهو في بلاد الإسلام كروسيا المسيطرة على الجمهوريات الإسلامية، وكاليهود المسيطرين على فلسطين، وكذلك المناطق التي سيطر عليها الاستعمار سيطرة سياسية. ولا حدود بين هذه المناطق الإسلامية

ـ(70)ـ

وبين بلاد الإسلام، وللمسلم حق التردد فيها.

وما كان الكفار سيطروا عليه من البداية كالقسم الأعظم من أوروبا، فله حكمان:

1 ـ باعتبار ارض الكفر التي لها أحكام خاصة نحو أحكام اللقطة وأحكام الأموات، وأحكام اللحوم.

2 ـ باعتبار أرض الله الفسيحة التي منحها لعباده، فلم التمتع بما يشاؤون منها، ولا احترام لقوانين الكفار فيها.

ويستثنى من ذلك ما لو كانت بين الكفار وبين المسلمين معاهدة، فاللازم على المسلمين احترام تلك المعاهدة، والوفاء بالعهد، مع قيد ان تكون المعاهدة من قبل الدولة الإسلامية المشروعة. وتحقق الدولة الإسلامية بشرطين:

1 ـ كون قانون الدولة قانون الإسلام.

2 ـ وكون رئيس الدولة رجلا يرضاه الإسلام، وترضاه أكثرية الأمة.

وبدون هذين الشرطين، فكل أعمال الدولة غير نافذة ـ وان ادعت انها إسلامية ـ والمسلمون أحرار فيما يفعلونه، لا يقيدون بمقررات الدولة. وأموال هذه الدولة من قسم مجهول المالك المرتبط بالحكم الشرعي»(1).

لا تحدد هذه النظرية نطاق دار الإسلام ودار الكفر بشكل واضح، ولا يمكن قبول ما ذكرته في مجال حياة المسلمين في البلاد الإسلامية التي لا تخضع الحكومة إسلامية، وكذلك حياة المسلم في بلاد الكفر، والحرية التي سمحت بها للمسلم بشكلها اللامحدود، لأن احترام العهود الفردية وقيمتها القانونية يستدعي

_____________________________________

1 ـ فقه السياسة: 153 ـ 154.

 

 

ـ(71)ـ

انه متى ما تقبل المسلم ـ في هاتين الحالتين ـ الامتيازات والإمكانيات التي أتاحتها الحكومة الكافرة أو الحكومة غير الإسلامية بشروط والتزامات خاصة، فلا مناص لـه من العمل وفقاً لاتلزاماته(1).

ينبغي دراسة الفرضين الآتيين لكي يستبين هذا الموضوع:

1 ـ الوطن الإسلامي أو دار الإسلام عبارة عن ذلك القسم من بلاد وتوابعها التي تخضع للحكومة الإسلامية وتدار من قبل المسلمين. وتشمل هذه البلاد كل ما وقع في أيدي المسلمين من مناطق رحبت بالدعوة الإسلامية أو استجابت لها في أعقاب الجهاد والفتوحات العسكرية(2).

2 ـ البلاد التي يسود فيها قانون الإسلام ويكون نافذاً فيها بكل حرية، والمسلمون يعملون وفقاً لما يريده الشرع بكامل حريتهم، والشعائر الدينية تمارس بحرية تامة، والمسلمون يتمتعون بأمن تام.

في ضوء الفرض الأخير فان البلاد الخاضعة لسيطرة الكفار، التي تدار من قبل حكومة غير إسلامية، ممكن ان تأخذ طابع البلاد الإسلامية فيما إذا كانت محلا لسكن جمع من المسلمين، ويتحقق هذا الموضوع عندما يكون المسلمون أحرارا في إقامة الشعائر وتطبيق الأحكام الدينية والقوانين الإسلامية. بينما تعتبر هذه البلاد خارجة عن دائرة النفوذ الإسلامي بناء على النظرية الأولى.

وهكذا فان تحقق الوطن الإسلامي(دار الإسلام) وفقاً للنظرية الثانية منوط

_____________________________________

1 ـ يمكن دراسة دار الإسلام من حيث أبعادها المختلفة كالبعد العقيدي، والقانوني، والسياسي. انظر في هذا المجال كتابنا «وطن وسرزمين وآثار حقوقي آن » 19 فما بعدها.

2 ـ يعرف محمد أبو زهرة مؤلف كتاب «العلاقات الدولية في الإسلام» دار الإسلام كالآتي:

«دار الإسلام هي الدولة التي تحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين».

ـ(72)ـ

بتحقق أحد الأمرين الآتيين:

1 ـ ان تخضع البلاد للحكومة الإسلامية وتدار من قبلها.

2 ـ الأشخاص الذين يعيشون في تلك البلاد يستطيعون تطبيق القانون الإسلامي بحرية، ويكون الإسلام سائدا وساري المفعول، وبناء على النظرية الثانية أيضاً فان وطن الإنسان المسلم لا ينحصر في الحدود الجغرافية لنطاق الحكومة الإسلامية وإنّما يتخذ مفهوما ابرز وأكثر معنوية.

وسيشمل الوطن الإسلامي البلاد التي يستطيع الإنسان المسلم ان يعيش فيها حر العقيدة، ويكيف منهجه في الحياة مع القانون الإسلامي.

ان اللافت النظر أكثر في النظرية الثانية هو تقسيم العالم ـ في ضوئها ـ إلى جبهتين مفتوحتين ومحددتين وذلك استعاضة عن تقسيمه إلى منطقتين مستقلتين من الوجهة الجغرافية. والمؤشر البارز لهاتين الجبهتين المفتوحتين هو نفوذ الإسلام وسيادة القانون الإسلامي.

ولو أردنا ان نكيف هذه النظرية مع الأوضاع المعاصرة للمسلمين. فلابد ان نعتبر المناطق التي يقطنها المسلمون في الهند أو لبنان مثلا، جزاءاً من دار الإسلام، ووسطاً إسلامياً. وكذلك يمكن ان يتحقق الوسط الإسلامي في معظم البلدان نحو: تركيا حيث الحرية الدينية موجودة، ويستطيع المسلمون ان يمارسوا شعائرهم الدينية ويقوموا بواجباتهم الإسلامية بحرية، اللهم إلا ان تصادر القوانين الموجودة في الأقطار المذكورة وأجهزتها الحكومية من المسلمين إمكانية الحياة في ضوء المنهج الإسلامي.

يقال في دعم النظرية الثانية: 1 ـ لما ركز الإسلام على الأشخاص الذين اسلموا وانضووا تحت لواء الأمة والمجتمع الإسلامي على انهم مكلفون بتطبيق

ـ(73)ـ

التعاليم الإسلامية، ولم يركز على الأرض التي يعيش عليها المسلمون، فلابد لـه ان يعترف بكل منطقة، يراعى أهلها قوانين الإسلام، على انها دار الإسلام.

وبكلمة بديلة: فان القانون يحدد وضع البيئة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، لا وضع المسلمين بالنسبة إلى البيئة. والوضع القانوني لمنطقة معينة سيتوكأ على رغبة أهلها في الإسلام، ومن ثم فان إطلاق عنوان دار الإسلام أو دار الحرب على منطقة معينة منوط بالاعتبار الذي يتمتع به القانون الإسلامي على نحو واسع أو محدود. وعندما يراعى القانون الإسلامي في منطقة ما، حتى من قبل ثلة معدودة من المؤمنين، فان تلك المنطقة سوف تعتبر وسطا إسلاميا من الناحية النظرية.

2 ـ لو صدق عنوان دار الإسلام على البلاد الخاضعة لحكومة إسلامية فحسب. فينبغي ان لا يتحقق عنوان دار الإسلام خارجياً في الحالات التي تنحل فيها الحكومة الإسلامية أو لا تشكل أساسا لأسباب معينة، أو انها لا تملك القدرة على المحافظة على البلاد المذكورة. وما يلاحظ من صدق عنوان دار الإسلام في جميع الظروف والأحوال المشار إليها دليل على ان المعلم الوحيد هو تطبيق الأحكام والتعاليم الإسلامية وليس تشكيل الحكومة الإسلامية.

3 ـ ان البلاد التي يمارس فيها جماعة من المسلمين شعائرهم الإسلامية بحرية ـ حتى مع سيادة قانون الكفار فيها ـ يمكن ان تعتبر من مناطق دار الإسلام، من حيث ان اتساع نطاق الحكومة الإسلامية قد يشملها أو ان سكانها المسلمين ربما استطاعوا اقناع الكفار في فرصة مناسبة لكسب استقلالهم وحقهم في السيادة على شؤونهم.

يصدق هذا الموضوع بشكل أوضح على المناطق التي انتزعتها حكومة غير إسلامية من المسلمين قسرا، والحقتها بنطاق نفوذها.

ثمة أدلة في مصادر الفقه الإسلامي وكلام الفقهاء تدعم النظرية الأولى، وفيما يلي عدد من هذه الأدلة:

1 ـ طرحت القضية المتعلقة بسكن المسلمين في المناطق التي يستطيعون فيها ممارسة الشعائر الإسلامية(1). في الفقه الإسلامي بشكل اعتبرت فيه تلك المناطق المذكورة دار الحرب، لأنه من الواضح عندما يقال في الفقه الإسلامي:

«إذا كان المسلمون الذين يعيشون في بلاده الكفر أحرارا في ممارسة شعائرهم الدينية فلا ضرورة من هجرتهم إلى دار الإسلام، فالقصد من البلاد المشار إليها: دار الحرب. والمناطق المذكورة خارجة عن دار الإسلام ».

2 ـ يقول الفقه الإسلامي عن الأطفال اللقطاء الذين يحكم عليهم بالتابعية الإسلامية من منظار القانون الإسلامي:(الأطفال الذين يعثر عليهم في دار الإسلام، وكذلك الذين يعثر عليهم في دار الحرب، محكومون بالإسلام إذا كان في المحل المذكور مسلمون، واحتملت ولادته بينهم وانتماؤه إليهم).

هذا الموضوع يشعر ان سكن المسلمين وحده خارج نطاق الحكومة الإسلامية لا يمكن ان يفضي إلى صدق دار الإسلام، بل ان دار الإسلام تصدق على النطاق الذي يحكمه المسلمون فقط.

3 ـ ان المجال الآخر الذي استعمل فيه عنوان دار الإسلام في مدارك الفقه الإسلامي وكلام الفقهاء هو السماح لدخول الأجانب إلى دار الإسلام، فيما سنتعرض إلى تفصيله في البحوث القادمة. ومن الواضح ان دار الإسلام التي تناقش فيها مسألة السماح للأجانب بالدخول عبارة عن نطاق الحكومة الإسلامية

_____________________________________

1 ـ القصد من هذه المناطق هو الأجزاء الخارجة عن نطاق الحكومة الإسلامية.

ـ(75)ـ

نفسه، وإلا فلا جدوى من الخوض في دخول الأجانب إلى البلاد التي هي موضع لسكنهم.

ان مناقشة الحالات المشار إليها وكذلك الحالات الأخرى التي استعمل فيها الفقهاء عنوان دار الإسلام يفيد جيداً ان القصد من هذا العنوان هو البلاد التي تدار من قبل حكومة إسلامية فقط.

ولاريب ان عنوان دار الإسلام قد أطلق صريحاً في الحالات المذكورة، بيد اننا ينبغي ان نلتفت إلى هذه النقطة وهي: هل ان الحالات التي يطلق عليها ذلك العنوان مقصورة على البلاد الخاضعة للحكومة الإسلامية أو يمكن ان نتصور لها مفهوماً اشمل ؟

ان الذي يبدو هو ان إطلاق عنوان دار الإسلام يتباين في مجالات البحث المتنوعة، لأن المسألة تطرح أحياناً بهذا الشكل، وهو: في أي أرض يحق للمسلمين السكن بحرية ؟ لا محالة ان البلاد الإسلامية أو دار الإسلام في هذه الحالة ستنطبق على النظرية الثانية،(1) وكذلك فاننا لو نظرنا إلى دار الإسلام من زاوية دراسة العلاقة الموجودة بين الإسلام والبلاد، فلا مناص لنا من دعم النظرية الثانية.

بيد اننا إذا درسنا مسألة دار الإسلام من زاوية العلاقات الخارجية، وأردنا ان نطرح المسألة وتعرف كيف نستنتج عقد الذمة والاستثئمان وحقوق الأجانب منها، فلا شك اننا سنضطر إلى قبول النظرية الأولى، كما ان إطلاق دار الإسلام في بعض الحالات السالفة الذكر كان أيضاً يتوكا على هذا القصد، لأنه ما لم يفرض

_____________________________________

 1 ـ يرجع إلى البحث السابق فيما يخص الموضوع من منظار القانون الداخلي.

ـ(76)ـ

الاستقلال في الحكومة وتشكيلها، فلا جدوى للمجتمع الإسلامي من طرح المسائل المشار إليها. ومن الضروري هنا التذكير بهذه النقطة وهي: على الرغم من ان فصل الحكومة عن دار الإسلام يبدو امراً غير معقول من حيث تحقق الواضح في القضايا السياسية والعلاقات الخارجية في الإسلام، إلا ان صدق العنوان المذكور من حيث القضايا المتعلقة بالعلاقات الخارجية في الحالات الثالث الآتية قابل للمناقشة وليس فيه اشكال:

1 ـ في المناطق التي يعيش فيها جمع من المسلمين بحرية وليس لهم استقلال سياسي وحكومة قانونية مستقلة، ويعيشون منفصلين خارج النطاق السياسي للحكومة الإسلامية لأسباب معينة، وليس هناك أي حكومة غير إسلامية تسيطر عليها وتمارس نفوذها السياسي بحقهم.

2 ـ المناطق التي انفصلت عن الدولة الإسلامية بشكل عدائي، وأصبحت خاضعة لحكومة غير إسلامية.

3 ـ المناطق التي تدار أجهزتها القضائية والإدارية وسائر مؤسساتها تدريجاً وفقاً لمناهج وبرامج إسلامية، وذلك في أعقاب تغلغل الإسلام فيها واعتناق الاغلبية من أهلها الدين الإسلامي. وليس فيها شخص غير مسلم إلا رئيس الدولة العميل لحكومة الكافر الأجنبي، أو السلطة الحاكمة فيها.

في هذه الحالات الثلاث المشار إليها، لا نلحظ اشكالا في طرح بعض المسائل نحو: عقد الذمة، والاستئمان، وسائر المسائل المرتبطة بالعلاقات الخارجية التي هي من الآثار والأحكام المترتبة على عنوان دار الإسلام. وفي هذه الحالات فان الذي ينبغي ان يطرح أكثر من غيره هو تشكيل قدرة سياسية إسلامية وقوة دفاعية لكي يتسنى تطبيق المسائل المذكورة في ظلها لا محالة.

ـ(77)ـ

يمكن تلخيص النتيجة المقتطفة من الكلام المتقدم بما يأتي:

على الرغم من ان مفهوم دار الإسلام والوطن الإسلامي لا يقبل الانفصال عن مسألة الحكومة من منظار القضايا السياسية،بيد ان اشتراط تحقق الحكومة في الحالات الثلاث السالفة يواجه إشكالاً أيضاً.

ان السبيل الوحيد الذي يبدو ناجعاً لعلاج هذا الأشكال هو ان نعلم بأن الأشكال المذكورة يتأتي من أن الموضوع الذي يحوم حوله البحث هو ان تحقق الحكومة في صدق دار الإسلام يتم بصورة فعلية من منظار التحقق الخارجي، بينما نجد ان إمكان تحقق ذلك، وان لم يكن عملياً لاسباب ما يفي بالغرض. وهكذا في الحالة الأولى، وان لم يفرض التحقق الخارجي للحكومة الإسلامية، عندما يعيش المسلمون على أرض معينة خارج نفوذ حكومة غير إسلامية، فسوف يطرح إمكان تحقق الحكومة والجهة المسؤولة بالنسبة لأي المسائل السياسية، وهذا المقدار يكفي لصدق عنوان دار الإسلام على الأرض المعينة.

أما الافتراض الثاني الذي يتعلق بالمناطق الإسلامية السابقة أو الحالية لبلدان مثل: أسبانيا، وروسيا، والهند، والصين، وإسرائيل، ولبنان، ينبغي القول ان هذه المناطق لما كانت خاضعة يوما لحكومة المسلمين، وكانت تعتبر جزاء من دار الإسلام، وما دام المسلمون أحرارا في إقامة شعائر هم الدينية، ويتمتعون بأمن ديني، فان عنوان دار الإسلام يظل ساري المفعول. وبعبارة أخرى، مادام المسلمون يحظون بالاعتراف الرسمي من قبل الحكومات غير الإسلامية للبلدان المذكورة، وما دام الإسلام ديناً رسمياً معترفاً به لهم، فان عنوان دار الإسلام سيبقى نافذاً.

بيد انه عندما تلغى الحكومات الصفة الإسلامية رسمياً، وتحرم المسلمين من

ـ(78)ـ

إقامة شعائرهم الدينية وتصادر حريتهم الدينية، وتسلب الأمن من نفوسهم، فان عنوان دار الإسلام في مثل هذه الظروف سوف يرفع عن المنطقة المعينة، لا محالة.

ويستبين هذا الموضوع من خلال الموازنة بين أوضاع بعض البلدان من قبيل روسيا المعاصرة، واسبانيا الأمس، وأوضاع بلدان أخرى كالهند ولبنان.

وأما الحالة الثالثة أيضاً فلاريب في صدق عنوان دار الإسلام والوطن الإسلامي عليها. وبالنظر إلى ماقيل في الحالة الأولى، فلا حاجة إلى التوضيح هنا. وبناء على ما مر بنا من حديث، يستبين جيدا وضع بعض الدول مثل: تركيا التي نكبت عن الصراط بتركها الإسلام، أو بعض الأقطار الإسلامية المعاصرة التي لا تتمسك حكوماتها بالقوانين الإسلامية عملياً.

يشمل نطاق الوطن الإسلامي من حيث النفوذ السياسي ممتلكات الحكومة الإسلامية لكها، والمناطق التي يستقل المسلمون في تملكها وهي خارجة عن هيمنة السياسة الأجنبية. وتتولى الحكومة الإسلامية المحافظة على المناطق المذكورة وحراستها في مقابل التدخلات والاعتداءات الخارجية. ولابد ان تتحدد الممتلكات سواء بالوسائل الاصطناعية أو الطبيعية.

من الضروري ان نستعرض الحقول التالية وذلك لكي يستبين الموضوع أكثر:

1 ـ طبيعة الممتلكات العائدة للحكومة الإسلامية.

2 ـ حدود الممتلكات العائدة للحكومة الإسلامية(الأراضي الأصلية ـ والمحلقة ـ والأراضي التي تحت الوصاية).

3 ـ الحدود والمرابطة من منظار القانون الإسلامي.

لاريب ان الأرض تعتبر من الضروريات الأولية لحياة الإنسان. وهذا

ـ(79)ـ

الموضوع في غاية الوضوح من منظار القرآن والمصادر الإسلامية الأخرى.

ويعتبر حرمان الإنسان من الأراضي (استثمارا أو سكنا) مدانا ومرفوضنا من منظار العقل والقانون الإسلامي(1).

بيد ان هذا الموضوع لاغبار عليه أيضاً، وهو: ان كل إنسان يستطيع ان يضيف إلى مقدار حقه في استثمار الأرض وتملكها عن طريق مشروع، وله ان يستأثر بقسم من الأرض وفوائدها عن هذا الطريق.

يعترف الإسلام بهذا الاستثمار المشروع الذي نعبر عنه بالملكية الفردية، وينظر إليه باحترام.

ومع ان الكون كله لله(2) من منظار الفكر الإسلامي، بيد ان الملكية الفردية حق الهي منح للناس في التشريع الإسلامي، وفقا لنظام خاص تم تحديده لممارسة هذا الحق. وقد جعل احترام الملكية الفردية من منظار التشريع الإسلامي كاحترام الدم على حد سواء(3).

من هذا المنطق، فان الأراضي التي يتملكها المسلمون أو الذين يعيشون في كنفهم عن طريق مشروع لا تنتزع منهم أبدا، حتى ان الحكومة نفسها لا تستطيع ان تتملك الأراضي المملكة.

والآن يثار هذا السؤال وهو: كيف يتم استيلاء الحكومة الإسلامية على الأرض ويكون لها حق فيها ؟ وما هي الطريقة التي يصادق فيها القانون الإسلامي

_____________________________________

1 ـ يمكن ان نستشف هذا الموضوع من الآيات التي نقلناها سلفا تحت عنوان (الأرض، والسكن ومحل استراحة الإنسان).

2 ـ ﴿ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ ـ البقرة 284 ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ـ الشورى 49.

3 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «... لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة من نفسه منه» ـ الوسائل ج 1، باب 3 من الأبواب الخاصة بمكان المصلى.

ـ(80)ـ

على ذلك ؟

وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي ان نقول: اننا يمكن ان نتصور حقوق الحكومة الإسلامية في الأرض من منظار القانون الإسلامي بشكلين هما:

1 ـ التملك: تتحقق ملكية الحكومة للأراضي في عدد بمن الحقول، يمكن أن نذكر منها ما يلي:

أ ـ تنتقل الأراضي إلى الحكومة عن طريق تحويلها إليها من قبل أصحابها، أو عن طريق الشراء والوسائل القانونية الأخرى التي تفضي إلى الملكية وانتقال الملك إلى الحكومة.

ب ـ الأراضي التي استولى عليها المسلمون بلا قتال.

ج ـ الأراضي البائرة اليباب التي تعتبر للإمام (رئيس الحكومة)، بسبب الفتوحات الإسلامية.

د ـ الأراضي البائرة الموجودة في دار الإسلام، وكذلك الأراضي اليباب في نطاق الحكومة الإسلامية، تعود للإمام وتصرف عائداتها في الشؤون الاجتماعية والمصالح العامة.

هـ ـ المناطق الساحلية للبحار، وقمم الجبال، والغابات، والمعادن، والبحار، هذه كلها تعتبر من الأنفال.

2 ـ الوقف: الأراضي الموقوفة وقفا عاما، وتم تخويل أمرها إلى الإمام ورئيس الحكومة.

3 ـ الوكالة العامة: الأراضي العامرة التي تقع في أيدي المسلمين عند الجهاد والدفاع بوصفها من الفتوحات، تعود إلى عامة المسلمين. والأجيال القادمة لها حق في الأراضي المشار إليها. وتستثمر هذه الأراضي تحت اشراف الإمام

ـ(81)ـ

(رئيس الدولة الإسلامية) وتصرف عائداتها في المصالح العامة للمسلمين.

4 ـ الحق السياسي: الأراضي العامرة أو البائرة التي تظل في حيازة المسلمين الشخصية تخرج عن مملتكات الحكومة. ويمكن ان نتصور حق الحكومة في هذا اللون من الأراضي على انه حق سياسي وحق من حقوق الحاكمية.

ينبع هذا لاحق من سيادة الحكومة وسلطنتها ونفوذها السياسي، وهو يختلف تماماً من حيث طبيعته وانبثاقه عن الملكية الفردية والحقوق الشخصية لأصحاب الأراضي. ولا خلل في اجتماع الحقين المتباينين المذكورين حين لا يمكن ان نتصور اجتماع الحقين الملكيين في شيء واحد، ويتعذر أيضاً من منظار القانون الإسلامي.

5 ـ المحميات: ان القسم الآخر من الأراضي العائدة إلى الحكومة الإسلامية عبارة عن الممتلكات الأجنبية التي أصبحت تحت وصاية الحكومة الإسلامية بسبب عقد الذمة والمهمة التي تأخذها الحكومة الإسلامية على عاتقها حيال الأقليات الدينية في ضوء عقد الذمة تشتدعي ان يكون هناك حق للحكومة بالنسبة إلى الممتلكات المشار إليها، ويمكن ان نعبر عن هذا الحق بحق الوصاية.

تتألف ممتلكات الحكومة الإسلامية ونطاقها السياسي من الأراضي المشار إليها. وهذه الأراضي وان كانت متباينة من حيث تعلقها بالحكومة، بيدان الحكومة الإسلامية تحتفظ بحقها السياسي في الأراضي المذكورة جميعها.

ان الأراضي التي تعتبر جزءا من نطاق الحكومة الإسلامية يمكن ان تضم العناوين الآتية:

1 ـ الأراضي الأصلية: وتشمل الأراضي التي كانت تحت تصرف المسلمين والحكومة الإسلامية، بكلمة بديلة، فان مبدأ(اليد) والتصرف الفعلي يعين

ـ(82)ـ

اختصاص الأراضي المذكورة للمسلمين.

2 ـ الأراضي المحلقة: وهي الأراضي التي استولى عليها المسلمون بالجهاد والدفاع.

3 ـ المحميات: وهي الأراضي العائدة إلى أهل الذمة والاقليات الدينية بعد انعقاد عهد الذمة. ويمكن ان نتصور الأراضي المذكورة داخل النطاق الإسلامي (دار الإسلام) أو خارجه، على شكل بلد مستقل يتمتع بدعم الحكومة الإسلامية وحمايتها.

كما المحنا في المباحث المتقدمة فان الدين الإسلامي لا يقبل التحديد والتجزئة، وكذلك حدود الدولة الإسلامية فانها من الوجهة الفكرية والهدفية لا تقبل ذلك بالموازنة مع الحدود المادية بيد، انه لابد من التمييز سياسياً بين الأراضي الواقعة في النطاق السياسي للحكومة والأراضي العائدة إلى الأجانب والبلدان الأخرى بعلامات معينة.

ان العلامات المذكورة التي تعرف كحدود يمكن ان تتعين بواسطة العادات والتقاليد، كما يمكن تعيين حدود الدولة الإسلامية(دار الإسلام) من خلال العلامات الطبيعية كالجبال والانهار، وكذلك من خلال العلامات المصطنعة كالعلامات المستعملة اليوم في التمييز بين حدود البلدان المختلفة.

لقد وضع قانون المرابطة في الإسلام لحراسة ثغور الدولة الإسلامية، وفسر الفقهاء الثغور بالاشكال الثلاثة الآتية:(1)

1 ـ الحد المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام

_____________________________________

1 ـ «جواهر الكلام» ج 5 كتاب الجهاد، بحث المرابطة.

ـ(83)ـ

2 ـ مواضع في أطراف الأراضي الإسلامية معرضة لخطر الهجوم الأجنبي.

3 ـ كل منطقة تهدد من قبل القوى الأجنبية.

ان عنوان المرابطة في الفقه الإسلامي لا يرتبط بقضية الحرب والمناوشات، فالقصد منه هو حراسة الحدود ومراقبة ما يجري عليها(1) فحسب. وان أهمية المرابطة في القانون الإسلامي وقيمتها لا فتة للنظر كثيراً. وقد أثرت أحاديث جمة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حول القيمة المعنوية لها(2). وينظر الإسلام إلى المرابطة على إنها عبادة مهمة وقيمة، والحد الأدنى لها ثلاثة أيام.

ولا تقع مهمة المرابطة على عاتق الحكومة فقط، وإنّما جعلها الإسلام عملا عباديا فرديا، وحثّ المسلمين كافة على القيام بهذه المهمة الوطنية الخطيرة.

ان مبدأ حرية السكن لكل شخص مسلم. كما يعتبر حقا شرعيا في أرجاء الدولة الإسلامية من منظار القانون الإسلامي، فكذلك هو خارج الدول الإسلامية حق مشروع ومبدأ مقطوع به.

ولم يضع القانون الإسلامي أي حاجز ومانع لسكن إتباعه على أرض الأجانب، وقد منحهم حرية تامة للسكن في اير بقعة يختارونها.

إلا انه في حالة واحدة، اعتبر سكن المسلمين على أرض الأجانب غير قانوني، والهجرة إلى بلد إسلامي واجبة وضرورية، وتلك الحالة ترتبط بالبلاد التي لا تراعى فيها الحرية الدينية ولا يستطيع الإنسان المسلم ان يقيم شعائره الدينية وفقاً لعقيدته.

_____________________________________

1 ـ نفسه.

2 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرباط ليلة خير من صيام شهر وقيامه. فان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل واجرى عليه رزقه وامن التفان».

ـ(84)ـ

ولا يرى الإسلام جو الرعب والإرهاب الذي يكم الأفواه صالحاً للسكن والحياة فيه، ويعتبر مصادرة الحرية الدينية ـ وهي حق طبيعي للإنسان ـ إهانة لا تطاق من منظار القيم والمثل الإنسانية، ولا يسمح لاتباعه أبداً ان يتحملوا مثل هذه الإهانة، وكما يعتبر الحرية الدينية حقا طبيعيا ومشروعا لا يقبل الخرق بالنسبة إلى الأجانب، فانه يرى ان مراعاة ذلك ضروري بالنسبة إلى إتباعه، وان خرقه لا يطاق.

ان على المسلم الذي يعيش في مثل هذا الوسط الإرهابي ان يتركه ويهاجر إلى بلد إسلامي في أول فرصة متاحة وكذلك الأشخاص الذين يعتنقون الإسلام في مثل هذا الوسط، فانهم مكلفون بالالتحاق بصفوف المسلمين في البلد الإسلامي. ويبين القرآن الكريم الواجب الشرعي بالنحو الآتي:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا _ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً _ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾(1).

بين الفقهاء قانون الهجرة بالنسبة إلى المسلمين الذين يعيشون في البلاد غير الإسلامية في الأشكال الثلاثة الآتية(2):

1 ـ الذين يعيشون في البلاد غير الإسلامية وليس لهم حق في إظهار عقائدهم واداء فرائضهم وإقامة شعائرهم الدينية، فهؤلاء يجب عليهم الهجرة إلى

_____________________________________

1 ـ سورة النساء: 97 ـ 98.

2 ـ جواهر الكلام ج 21 كتاب الجهاد، ص 35 ـ 36.

ـ(85)ـ

بلد إسلامي.

2 ـ الذين يعيشون في بلاد الأجانب ويتمتعون بحرية دينية ولهم حق الجهر بعقائدهم، ولا يصطدمون بعقبة تحول دون أداء فرائضهم الدينية. فهؤلاء وان لم يجدوا ضرورة من الهجرة، بيد انهم حقيق بهم ان يلتحقوا بصفوف المسلمين.

3 ـ المسلمون الذين لا قبل لهم بالهجرة، أو أن هناك عقبات من رمض وغيره تفقدهم القدرة على الهجرة، فهؤلاء يستطيعون مواصلة حياتهم في البلد الأجنبي مع وجود الظروف العصيبة.

ينبغي للمسلم الذي يختار السكن في بلد غير إسلامي، بعد استئذانه أهله بدخوله، وتقديم التعهدات القانونية اللازمة، ان يعمل وفقا للتعهدات المقدمة، وهو غير مأذون ابد ان يتصرف تصرفاً معاكساً لما تهده، ويخون أهل البلد الذين آمنوه وآوه، ويتعامل معهم تعاملاً ما كراً وغادراً، كما ليس لـه أي حق ان يرتكب جرائم القتل والسرقة وغيرها من الجرائم الأخرى، أو ينكر ما في ذمته من حقوق الآخرين(1).

وما دام يتمتع بالأمان في ذلك البلد، فانه يتعهد ـ مبدئيا ـ ان لا يقوم بكل ما من شانه الأضرار بغير المسلمين.

وكما انه مكلف بأداء الفرائض والعمل بالأحكام الدينية في البلد غير الإسلامي، فهو مكلف أيضاً أن يحترم مواثيقه وتهداته أمام الأجانب حكومة وشعباً إلى درجة لا تصطدم فيها مع القانون الإسلامي، ويفي بوعوده. وان لا يبعث انتقاله إلى البلد الإسلامي على خرق المواثيق والتعهدات المذكورة أبدا، وينبغي

_____________________________________

1 ـ يرجع إلى كتاب الجهاد من جواهر الكلام: ص 644 ـ 645 الطبعة الحجرية.

ـ(86)ـ

ان يؤدي ما عليه من حقوق بعد عودته إلى الوطن الإسلامي، وينفذ كل ما قام به من عقد(1).

وفي الوقت ذاته ليس لأي مسلم ان يتواطأ مع الأجانب ضد المسلمين من خلال عقد يعقده معهم أو تهدات يأخذها على عاتقه امامهم. وان يتفادى مثل هذه التعهدات المحظورة والملغاة من منظار القانون الإسلامي، وبعامة، التعهدات التي ليس لها أي اعتبار وشأن، وليس لـه أي مسوغ لاحترامها وتطبيقها.

ان قانون الهجرة من الفساد والاثم لتطهير الوسط الحياتي والمحافظ على الإيمان، وضمان الامكانيات للقيام بالواجبات المعهودة لا يقتصر على الهجرة من البلد الأجنبي وغير الإسلامي، بل ينبغي على المسلم ان يراعي هذا المبدأ في ظروفه الحياتية كلها، وان يغادر كل سكن ووطن يرى فيه ضررا عليه وعلى اسرته يهدد ايمانهم واخلاقهم وواجباتهم، وان يولي وجهه نحو الله من خلال اختيار وسط جديد لحياته يعينه على أداء واجباته. ويسمى القرآن هذا اللون من الهجرة:(مهاجرة في سبيل الله ) قال عز من قائل:

﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ _ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(2).

ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هؤلاء الأشخاص الذين سادرون إلى الهجرة من الوسط الموبوء حفظاً لدينهم وظفرا بتوفيق لممارسة أعمالهم وشعائرهم:

«من فر بدينه من ارض إلى ارض وان كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة

_____________________________________

1 ـ جواهر الكلام 21: 197.

2 ـ سورة النحل: 41 ـ 42.

ـ(87)ـ

وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وجاء في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قولـه: «لا هجرة بعد الفتح»(2).

وفي ضوء هذا الحديث الغى بعض الفقهاء وجوب الهجرة في الحالات المشار إليها. في حين ان التوكؤ على هذا الحديث يستدعي ان موضوع الآيتين المتقدمتين قد انتفى تماماً وانهما قد نسختا علمياً.

واستدل اغلب الفقهاء بحديث نبوي آخر، ما عدا الأدلة المتقدمة، وهذا الحديث ينص على استمرار حكم الهجرة وديمومته، يقول صلى الله عليه وآله وسلم «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»(3).

وفي ضوء هذا الحديث الصريح قيل بأن الحديث الأول يخص الهجرة من مكة وبعد فتحها فان الهجرة منها هي ليست هجرة من بلاد الكفر(4).

تستطيع الأقليات الدينية بعد عقد الذمة واكتساب المواطنة في ضوئه أن تعيش كسائر المسلمين في أي بقعة من بقاع الوطن الإسلامي تراها مناسبة لها، وتتخذها سكناً دائمياً أو مؤقتاً وكذلك تستطيع ان تغادر الوطن الإسلام وتخرج من حدوده. بيد ان عقد الذمة في هذه الحالة يفقد أثره تلقائياً، وتلغى الآثار المترتبة على المواطنة المكتسبة على أساس عقد الذمة(5).

_____________________________________

1 ـ جواهر الكلام 21: 35.

2 ـ وسائل الشيعة 13: 238.

3 ـ جواهر الكلام 21: 36.

4 ـ جواهر الكلام 31: 36.

5 ـ يمكن ان تطالعوا دراسة للقضايا المتنوعة المتعلقة بالاقليات الدينية في كتابي: «حقوق الأقليات».

ـ(88)ـ

ان المبادئ الثلاثة التي أشير إليها في مجال سكن المسلمين وأقامتهم في الوطن الإسلامي تنطبق كلها على الأقليات الدينية أيضاً على النحو الآتي:

1 ـ لا ضرورة من امتلاك أهل الكتاب والذمة سكناً دائمياً بالمعنى المتقدم. وان تعيين السكن تابع لرغبة الأقليات الدينية واختيارها الشخصي، ولا قسر ولا إلزام في هذا المجال إلا في الحالات الاستثنائية التي يتطلب فهيا عقد الذمة أو مصالح الطرفين تحديد سكن معين لهم.

2 ـ يمكن ان تتعدد مساكن أهل الذمة.

3 ـ ان سكن أهل الذمة ليس دائمياً، فهم يستطيعون تغيير مساكنهم باختيارهم ان يشاءوا.

وقصارى القول، انهم عندما ينقلون سكنهم إلى خارج الدولة الإسلامية، فان الأثر القانوني لعقد الذمة يفقد مفعوله لا محالة، دون ان يولد هذا النقل خرقا لعقد الذمة، كما نوهنا بذلك آنفاً. ومن الجدير ذكره ان الحرية المشار إليها في التنقل للأقليات الدينية تعتبر حقا قانونياً مسلماً فيها إذا لم ترد شروط خاصة للسكن في نص العقد.

ينبغي استثناء المساجد مما قيل في حرية أهل الذمة لاختيار السكن. فال يحق للأقليات الدينية السكن وحتى العبور من المعابد الإسلامية ولا سيما المسجد الحرام. ولا يمكن ان يكون الاذن من المسلمين أيضاً مسوغا لدخولهم في المساجد.

والوسط الآخر الذي يعتبر من المناطق المحرمة للأقليات الدينية هو منطقة(الحرم) التي تشمل مكة وقسماً من أطرافها.

يحظر على أهل الذمة السكن في منطقة الحرم والدخول إليها، وليس لهم ان

ـ(89)ـ

تطأ اقدامهم حدودها تحت عنوان الاجتياز أو الأعمال التجارية.

وحظر كثير من الفقهاء على أهل الذمة السكن في الحجاز. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المجال يطلب فيها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بصراحة وفي اللحظات الأخيرة من حياته إخراج المشركين واليهود والنصارى من الجزيرة العربية(1).

وقد فسر الفقهاء الجزيرة العربية على أنها أرض الحجاز، ورأوا انها تشمل مكة والمدينة واليمامة وينبع وخبير وفدك وضواحيها. وقصرها بعضهم على مكة والمدينة.

كما ان بعض الفقهاء حرم المرور عبر الحجاز للسفر أو لأهداف تجارية أيضاً وأجاز بعضهم الآخر ذلك على أن يكون الحد الأعلى للإقامة فيه ثلاثة أيام لأهل الذمة(2).

يدعى الأجنبي الذي لا يشمله عقد الذمة(حربياً ) في الفقه الإسلامي نظرا إلى موقفه الخاص حيال المجتمع الإسلامي. ويشمل هذا العنوان شرحتين متميزتين من الأجانب هما:

1 ـ الأجانب الذين لا يدينون بأحد الأديان السماوية الثلاثة، وهي اليهودية والنصرانية والمجرسية فهؤلاء ـ كما المحنا سابقاً ـ لا يستطيعون التمتع بحق

_____________________________________

1 ـ يقول ابن الجراح: كان آخر كلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ك اخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من الجزيرة. وجاء في حديث آخر: لا يجتمع ذميان في الحجاز. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ساطرد اليهود والنصارى من الحجاز.

ذكر المرحوم «صاحب الجواهر» هذه الأحاديث في أحكام الذمة من كتاب الجهاد، وادعى ـ وفقا لها ـ إجماع الفقهاء على ذلك.

2 ـ الشرائع ـ أحكام الذمة من كتاب الجهاد.

ـ(90)ـ

الذمة.

2 ـ الأجانب من أهل الكتاب الذين يدينون بأحد الأديان الثلاثة المذكورة، بيد انهم لم يقروا بعقد الذمة.

ان الحربي محروم من امتيازات أهل الذمة جميعها، ومن ثم لا يحق لـه الدخول إلى دار الإسلام والإقامة فيها.

انه يستطيع الدخول أو العبور أو السكن في الدولة الإسلامية بلا تعرض عندما يشمله قانون خاص في الفقه الإسلامي تحت عنوان(الأمان) و(الذمام فحسب)(1).

ان(الأمان) أو(الذمام) هو في الحقيقة نوع من العقد بين أحد المسلمين وبين الحربي، وفي ضوئه يستطيع الحربي ان يحصل على أذن رسمي لدخول دار الإسلام. ويمكن ان نعتبر العقد المذكور بمنزلة جواز السفر لأحكام السيطرة على الحدود ومراقبتها.

وقد يتحقق عقد الأمان بناء على طلب سابق يتقدم به الشخص الأجنبي(الحربي). وقد يتحقق أيضاً بلا طلب سابق، بل على شكل تعهد أولي من قبل الشخص المسلم. كما ان انعقاده أيضاً بسيط تماما: إذا ان كل مسلم مؤهل، عندما يعتزم منح الأمان للحربي، ويعبر عن قصده واعتزامه بشكل شفوي أو خطي أو تلميحي، فان أمانة متحقق قانونياً وبه يتمتع الحربي بحصانة قانونية، ويعتبر مستأمنا(2).

_____________________________________

1 ـ سنتحدث بالتفصيل في فصل مستقل عن مواصفات قانون الأمان وآثاره القانونية. وجا طرحه مجملا في هذا البحث من زاوية سكن الأجانب.

2 ـ جواهر الكلام 21 ـ 21 ـ كتاب الجهاد، الطرف الثالث.

ـ(91)ـ

وجاء التعليم القرآني في هذا الصدد كالآتي:

(وان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه).

واثر عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قولـه في مواصفات الإنسان المسلم وشخصيته الاجتماعية والقانونية: «... يسعى بذمتهم أدناهم»(1).

ويوضح الإمام الصادق عليه السلام هذا الكلام قائلاً: لو ان جيشاً من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فاشرف رجل، فقال: أعطوني حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به(2).

ونقل عن الإمام علي عليه السلام في إحدى حروبه، عندما حاصر جيشه إحدى القلاع، وسمع ان عبدا مملوكا من المسلمين آمن أهل تلك القلعة، أجاز أماته، وفك الحصار عن تلك القلعة(3).

ونقل الإمام الصادق عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله: فان تبعكم، فأخوكم في الدين. وان أبى، فابلغوه ما منه، واستعينوا بالله عليه(4).

وفي ضوء ما ذكرته المصادر المشار إليها، تستبين هذه النقطة أيضاً، وهي ان إعطاء الأمان لا يقتصر على أمام المسلمين أو أحد أمرائهم بل هو حق محفوظ

_____________________________________

1 ـ نفسه.

2 ـ نفسه.

3 ـ نفسه.

4 ـ جواهر الكلام 21: 21 كتاب الجهاد، الطرف الثالث.

ـ(92)ـ

لعامة المسلمين بوصفه حقا قانونياً.

بيد انه لما كان كلام المجنون، والصبي فاقد الاعتبار من منظار القانون الإسلامي، لذلك يعتبر فيمن يعطي الأمان ان يكون عاقلا وبالغا. كما ان إعطاء الأمان من قبل شخص غير مسلم ـ حتى لو كان مملوكاً للمسلمين ويقاتل معهم أو كان ذمياً ـ لا عبرة فيه، وهو غير مقبول. ولكن يتساوى الذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين في هذا الحق القانوني(1).

يستطيع كل مسلم أن يجير شخصا واحد أو عدة أشخاص من الأجانب. وبناء على رأى عدد من الفقهاء، فان الأمان الصادر عن أحد المسلمين يمكن ان يشمل فئة أو اله قرية أو قافلة(2). ويمكن ان نستثف هذا الحكم أيضاً من المصادر السابقة.

وفي الختام أود ان أضيف نقطة وهي أن كل محاولة للفصل بين قضية دار الإسلام وواقعية العالم الإسلامي اليوم محاولة تعسفية لو لم تكن مؤامرة استعمارية تناقض مع ابسط أسس المنهجية في دراسة المشاكل الحاسمة للعالم الإسلامي وتحصيل أجوبتها السلمية والواقعية لصالح الأمة الإسلامية ويبدو في نظرية العلاقة بينهما هي أذن علاقة استجوابية تشبه علاقة جدلية تكاملية.

_____________________________________

1 ـ جيز أبو الصلاح، وهو من فقهاء الشيعة، لعامة المسلمين الإجازة بدون إذن الإمام. ولكن المرحوم صاحب الجواهر يعد راية هذا واضح الفساد. وان فقهاء الحنيفة أيضاً يجيزون أجازه المملوك والأُمة استئذان مولاهما. ويجيز بعض فقهاء العامة الإجازة حتى للأطفال الذين تبلغ أعمارهم عشر سنين أيضاً.

2 ـ جواهر الكلام 21: 21 ـ كتاب الجهاد، الطرف الثالث.