دور دساتير العالم الإسلامي في تركيز وحدة الهوية

دور دساتير العالم الإسلامي في تركيز وحدة الهوية

 

  دور دساتير العالم الإسلامي في تركيز وحدة الهوية

 
 
 
أ.د. جعفر عبد السلام
الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية
 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

دور دساتير العالم الإسلامي في تركيز وحدة الهوية
دستور جمهورية مصر العربية
الصادر في: 16 محرم 1434 هـ/30 نوفمبر 2012 م نموذجاً
 أخيراً، تم خروج دستور جمهورية مصر العربية الصادر بعد ثورة يناير 2010 بعد ولادة متعثرة, إذ أعلنته الجمعية التأسيسية في 30 نوفمبر, وبعد أن اختلفت مختلف القوى السياسية حول مدى شرعية الجمعية التأسيسية التي اختارها مجلس الشعب المصري, وهاجمتها بعض القوى بضراوة على أساس أنها لا تمثل مختلف قوى الشعب، وبعد أن هاجمت العديد من القوى السياسية الدستور الذي وضعته قبل الاستفتاء عليه وبعده، ولكنه ومنذ أن فاز بأغلبية أصوات الناخبين في استفتاء تم في يومي 15 ، 22 ديسمبر 2012م، أصبح نافذاً.
 والواقع أن هذا الدستور ركَّز على وحدة الهوية لشعوب العالم الإسلامي أكثر من أي دستور آخر، بما في ذلك دستور عام 1971م الذي أُلغي بعد نجاح ثورة يناير.
 يهمنا في هذه الورقة أن نبين كيف ركَّز هذا الدستور على وحدة وهوية الأمة الإسلامية, وأعتقد أنه سيكون نبراساً يهتدى به من دول إسلامية أخرى في هذه القضية المهمة، قضية تركيز وحدة هوية الشعوب الإسلامية، وتركيز الهوية يتجلّى في ديباجة وثيقة الدستور، وفي العديد من النصوص التي وردت بالدستور على النحو الآتي:
 
أولاً: ديباجة الدستور:
 ورد بديباجة الدستور بعض العبارات التي توضح هوية الشعب المصري الإسلامية وعلاقته بالشعوب الإسلامية الأخرى. واستعدنا أجزاء حضارتنا العظيمة وعبق تاريخنا الزاهر فأقمنا أعرق دولة على ضفاف النيل الخالد عرفت معنى المواطنة والمساواة وعدم التمييز, وقدمت للعالم أول أبجديات الكتابة ((وأطلقت عقيدة التوحيد ومعرفة الخالق، واحتضنت أنبياء الله ورسالاته السماوية))، وجاء فيها أيضاً(( أن الوحدة أمل الأمة العربية, نداء تاريخ ودعوة مستقبل وضرورة مصير يعضدها التكامل بالتآخي مع دول حوض النيل, والعالم الإسلامي الامتداد الطبيعي لعبقرية موضع مصر ومكانتها على خريطة الكون)).
  كما أن ريادة مصر الفكرية والثقافية تجسيداً لقواها الناعمة ونموذج عطاء بحرية مبدعيها ومفكريها وجامعاتها ومجامعها العلمية واللغوية ومراكزها البحثية وصحافتها وفنونها وآدابها وإعلامها وكنيستها الوطنية, وأزهرها الشريف الذي كان على امتداد تاريخه قواماً على هوية الوطن راعياً للغة العربية الخالدة والشريعة الإسلامية الغراء, ومنارة للفكر الوسطي المستنير..)) ثم أختتمت الديباجة بالقول:
 نحن جماهير شعب مصر إيماناً بالله ورسالاته وعرفاناً بحق الوطن والأمة علينا واستشعاراً لمسؤوليتنا الوطنية والإنسانية, وهكذا تؤكد هذه الديباجة هوية الشعب المصري في العديد من النواحي:
1-    الإشارة إلى البعد التاريخي الذي يبدأ من التاريخ الفرعوني والذي عرف فضلاً عن أبجدية الكتابة، عقيدة التوحيد ومعرفة الخالق، حيث اهتدى أخناتون منذ الزمن القديم إلى وحدة الإله الخالق، وألغى الآلهة المتعددة التي كانت تسود في الديانات المختلفة، بما في ذلك آلهة مصر القديمة.
2-    الإشارة إلى احتضان مصر لكثير من الأنبياء، حيث عاش على أرضها يوسف عليه السلام ومرَّ بها الخليل إبراهيم عليه السلام، ثم عرفت بشكل أو بآخر الأنبياء إدريس وأيوب ويعقوب والأسباط، فضلاً عن يونس عليهم السلام، فهي بحق أرض الأنبياء والمرسلين.
3-   أشارت الديباجة بوضوح إلى الهوية الإسلامية للشعب المصري بعد ذلك. فرغم أن الوحدة العربية هي أمل للأمة العربية ومستقبلها؛ إلا أن هذه الوحدة يعضدها التكامل والتآخي مع دول حوض النيل والعالم الإسلامي باعتبارها الامتداد الطبيعي لعبقرية موقع مصر ومكانتها على خريطة الكون, وهذه الإشارة تنم عن ذكاء وفطنة لمن قرر وصار يتنقل بالدوائر الثلاث التي ذكرها عبد الناصر في كتابه القديم عن فلسفة ثورة مصر 1952م.
ولا نجد نصوصا مماثلة في الدساتير المصرية السابقة إلا في النص على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة وأقر دستور 1971م هذا النص وزاد عليه عبارة أخرى تقول: إن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع(1).
ثانياً: تأكيد الهوية في نصوص الدستور
نجد دستور 2012 قد أكد على الهوية الإسلامية في العديد من نصوصه, وخالف في ذلك نصوص الدساتير السابقة عليه على ما يبين من الآتي:
أولاً: نصت المادة الأولى, الفقرة الثانية على أن الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية كما أضافت المادة عبارات أخرى تؤكد على اعتزاز الشعب المصري بالانتماء إلى حوض النيل والقارة الإفريقية والامتداد الآسيوي، كما أضافت أنهم يشاركوا بإيجابية في الحضارة الإنسانية . وهو بذلك يعتبر أول نص دستوري يعتبر مصر جزء من الأمة الإسلامية, ويشير إلى الامتداد الآسيوي, وهو الباب الذي دخل الإسلام منه إلى مصر ولا زال يربطها بالدول التي انبثق منها الإسلام وساهمت في إدخاله إلى مصر.
            وهو لا يتوقف بهذا النص على الدوائر الثلاث الآسيوية, والإفريقية والعربية؛ بل يذكر الدائرة الأوسع، أي الدولية والتي تتصل بمساهمة الشعب المصري في الحضارة الإنسانية بشكل عام، كما يضيف عبارة الاعتزاز بحوض النيل مصدر الحياة على أرض مصر, ومن ثم يشيد بالعلاقات القديمة القائمة بين مصر ودول حوض النيل.
ثالثاً: المادة الثانية :
            وهي مادة تقليدية تكررت في معظم الدساتير المصرية تضمنها دستور 1971 وهى الإشارة إلى أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع ولا بد من فهم هذا النص على ضوء ما ورد في الدستور من نصوص أخرى, خاصة               نص المادة الرابعة والمادة 219، والواقع أن المادة الثانية تؤكد حقيقة أن مصر دينها الإسلام, وهى بعبارة أخرى تقرر حقيقة أن غالبية المصريين يدينون بدين الإسلام وهي قضية مهمة أثارت العديد من اللغط والمشكلات عندما أعيد صياغتها في الدستور الجديد.
 فالبعض أثار أن مصر كشخصية معنوية لا دين لها, وهذا في الواقع ليس صحيحاً؛ لأن النص لا يعني سوى الإشارة إلى دين الغالبية, وقد رد عليها الرئيس السادات في إحدى المناسبات بقوله: إنه رئيس مسلم لدولة مسلمة ومهما قيل بأن الدساتير التقليدية لا تشير إلى ديانة للدولة, بأن هذا شأن مصري خاص بدولة عرفت الأديان قبل غيرها من الدول, ويعتز شعبها المصري بإسلامه وكذا بلغته؛ لذا أوردت الفقرة الثانية تلك الإضافة المهمة "واللغة العربية لغتها الرسمية", والدولة كشخص معنوي ليس لها لغة وإنما تعني هذه الفقرة بدورها أن المقصود اللغة التي يتحدث بها الناس, فهذه المادة تؤكد هوية الدولة المركبة وهي الإسلام والعروبة, فهذه الهوية تميزها عن غيرها من الدول, وتضيفها إلى كيان أوسع, وهو العالم الإسلامي, وكذا بمركزها في العالم العربي.
 ونجد العديد من النصوص في الدستور تؤكد على الهوية الإسلامية, من ذلك نص المادة العاشرة التي تتحدث عن الأسرة المصرية, فالأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية, وقد جاءت هذه المادة تحت عنوان رئيس هو الفصل الثاني من الدستور الذي يتحدث عن المقومات الاجتماعية والأخلاقية, وهو نفسه ورد في دستور 1971م.
 ويؤكد هذا النص على هوية الأسرة المصرية المركبة من الإسلام والعروبة والمواطنة, وهذه المادة تحمي الأسرة المصرية من التيارات الوافدة التي حاولت تمزيق الأسرة المصرية والتي قادتها وثيقة الأمم المتحدة للسكان, وحضرت بها إلى مصر لجنة واسعة عام 1994 كادت أن نمررها تحت ضغوط نسائية دولية وداخلية واسعة؛ ولكن الأزهر الشريف برئاسة شيخه في ذلك الوقت الشيخ جاد الحق علي جاد الحق تصدى لها وأصدر وثيقة مناوئة فندت هذه الوثيقة واعتمدت على أحكام الشريعة, ومن ثم أجهضت رفضها وثيقة الأمم المتحدة, والتي كانت تريد أن تدخل الزواج المثلي وتقر الإجهاض والحرية الجنسية الواسعة وغيرها من المبادئ العلمانية التي تخالف شرائع الله, ولذا وقفت الكنيسة إلى جانب الأزهر في وثيقة الأمم المتحدة التي أقرت بعد ذلك في بكين.
 لذا فإن الفقرة الثانية من هذه المادة قد قامت بحماية ما ورد في الفقرة الأولى, حيث ذكرت أنه: وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية وعلى تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها الأخلاقية وحمايتها وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.
 كذلك أوردت المادة (11) من الدستور إلزام الدولة برعاية الأخلاق والآداب والنظام العام والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية, والثقافة العربية والتراث التاريخي والحضاري للشعب..
 والواقع أن هذه الحماية من الآثار المترتبة على الحماية التي توليها الدولة لدينها الرسمي, الذي يحض على الأخلاق الرفيعة والآداب السامية, وكذلك ضرورة التمسك بتراث الأمة الثقافي وحضارتها والتي تعتمد في مصدرها على الشريعة الإسلامية السمحاء, وهو ما يؤكده الدستور في المادة الثانية عشرة, والتي أوردت التزاماً آخر لم ينص عليه أي دستور آخر وهو الالتزام بتعريب التعليم والعلوم والمعارف.
مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع:
 سبق أن أوردنا نص الفقرة الثانية من المادة الثانية من الدستور التي ذكرت أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
 والواقع أن هذه المادة هي المادة الأكثر جدلاً بين مواد الدستور, وأول الاعتراضات التي نسمعها هي اعتراض أحد أعضاء لجنة نظام الحكم في دستور 1971 وكان قسيساً وأذكر أنه قال إن هذا الدستور يحكم دولة مدنية ونحن كمجتمع سياسي لا يمكن أن نعين ديناً بذاته ليحكم الدولة وإلا فمن حقي كمسيحي أن أقول مبادئ الشريعة المسيحية هي مصدر التشريع .. وتم الرد عليه من منطلقين:
المنطلق الأول: أنه لا يوجد في المسيحية قواعد تنظم المجتمع وإذا كانت موجودة فهي أولى بالقبول من المسلمين؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا, إلا إذا نص على خلاف ذلك في الشريعة الإسلامية.
المنطلق الثاني: هو أن هذا النص يجب أن يفهم على أساس أنه يعلن إنتماء مصر إلى أحد الأنظمة القانونية الرئيسية في العالم والتي اعترفت بها لجنة المتشرعين التي حددتها الدول عند تفسير المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والتي اعترفت بخمسة أنظمة قانونية رئيسية يرجع إليها تطبيق الفقرة (3) منها التي اعتبرت الأنظمة القانونية الرئيسية في العالم مصدراً ثالثاً للقانون الدولي, وتطبقه المحكمة إذا لم يوجد نص يحكم المسألة المعروضة أمامها في معاهدة أو عرف دولي, فالذي يطبق هنا الشريعة الإسلامية باعتبارها تنطوي على مبادئ تنظيمية حاكمة للعلاقات الاجتماعية الدولية وليست استغراقاً في مسائل تتصل بالعقيدة التي قد تكون محل خلاف بين عقيدة وأخرى, إنها بعبارة أخرى مبادئ قانونية مشابهة لمبادئ واردة في النظام اللاتيني أو الأنجلوسكسوني أو الجرماني, قد يكون لها طبيعة خاصة باعتبار أصلها الديني أو الأخلاقي, ولكنها في النهاية تنظم العلاقات الاجتماعية الدولية أو الداخلية, ومن ثم اشترطت المادة التاسعة من النظام الأساسي للمحكمة أن يكفل تشكيل المحكمة تمثيل هذه الأنظمة القانونية الرئيسية ومن بينها الشريعة الإسلامية حتى يسهل تطبيق هذه المبادئ عند الحاجة.
 والهجوم الثاني على المادة جاء من ناحية أن المجتمع المصري يتشكل من أديان مختلفة وليس الدين الإسلامي وحده, فكيف ستطبق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين؟
 والرد على هذه الحجة جاء من واقع أن المشرع المصري حرص دائماً على تطبيق التشريعات التي تحكم المصريين غير المسلمين, بل وكل الأجانب في مسائل الأحوال الشخصية وهي المسائل التي قد تعطى لتنظيمات مختلفة خاصة في النواحي الخاصة بالزواج والطلاق.
 وقد احترم الدستور الجديد هذه المسألة وأورد نصاً خاصاً بها هو نص المادة الثالثة من الدستور والتي جاءت تقول إن مبادئ وشرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية, وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية.
  والاعتراض الثالث على هذه المادة جاء من قبل بعض فئات التيار الإسلامي, وهي تتمثل في أن مبادئ الشريعة الإسلامية لا تختلف عن مبادئ أية شريعة أخرى, فهي تتمثل في العدالة والمساواة بين المواطنين ورفع الحرج, فضلاً عن العمومية والتجريد, وبالتالي فلن تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في الوقائع التي تعرض على المحاكم, والرد على تلك الحجة يأتي من عدة اعتبارات هي:
 أن الخطاب في هذه المادة إنما هو موجه إلى المشرع لكي يختار النصوص القانونية من مبادئ الشريعة, ومن ثم فإن القضية تحتاج إلى تفصيل, ومن ناحية أخرى يجب تفسير المبادئ تفسيراً واسعاً لا يقصرها على هذه المبادئ العامة وإنما يتعداها إلى تناول أحكام الشريعة الكلية؛ لذا جاء في المادة 219 من الدستور أن مبادئ الشريعة تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة.           
وبالتالي فهذا النص يفسر فكرة المبادئ تفسيراً واسعا ويجعل المشرع يستعين بمصادر الشريعة وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها وبالتالي يمكنه إلى أن يعود إليها إذا لم يجد حكما مباشرا في القواعد الفقهية، وعليه كذلك أن يستعين بالمذاهب المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة، وهى المذاهب الأربعة السنية، وإن كنا لا نعرف هل تدخل المذاهب الشيعية كالإثنى عشرية والزيدية فيها أم لا؟ وإن كان الأزهر يعترف بها كمذاهب فقهية معتبرة ، منذ اللقاءات الحديثة التي تمت بين فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر والشيخ محمد على القمي الفقيه الشيعي المعروف، كما أن المشرع المصري استعان بمذاهب شيعية عند وضع بعض قوانين الأحوال الشخصية التي جرى بعضها على خلاف المذاهب الأربعة, مثل: ميراث الجدة واستحداث الوصية الواجبة وغيرها.
الأنظمة الإسلامية في الدستور:
 مما لا شك فيه أن الوقف نظام إسلامي طُبق في الدول الإسلامية ومنها مصر، وساهم في بناء نهضتها وتقدمها. ومنذ قامت ثورة 1952م ونظام الوقف في مصر قد هُمش إلى حد كبير، فقد صدرت قوانين بإلغاء الوقف على غير الخيرات، كما جعل وزير الأوقاف ناظراً على كافة الأوقاف الخيرية مما حدَّ من انتشار الوقف.
 وقد استحدث الدستور الجديد نص المادة 212 والذي أنشاء الهيئة العليا لشئون الوقف وجعل مهمتها تنظيم مؤسساته العامة والخاصة والإشراف عليها ومراقبتها وتضمن التزامها بأنماط إدارية واقتصادية رشيدة.
ثقافة الوقف في المجتمع:
 وهكذا اهتم الدستور بإحياء نظام الوقف بعد أن أوشك على الاندثار في المجتمع المصري والمجتمعات العربية التي حذت حذو مصر للأسف.
 وهذا النظام ونشر ثقافته أصبح ضرورة بعد أن تقلص الدور الاجتماعي للدولة إلى حد كبير, وأصبحت الحاجة ماسة إلى دعم المجتمع المدني للدولة في هذا المجال إلى حد كبير؛ لذا فإن هذا الدور مهما الآن، وينبغي أن تقترح هذه الهيئة تعديل القوانين، وأن تشجع على إنشاء الأوقاف, وأن تضع الأنظمة التي تكفل حسن أداء وظائف الوقف.
 ولاشك أن من شأن هذه المنظمة نشر هوية الأمة واسترجاع أنظمتها التي أدت دورا مهما على مدى التاريخ الإسلامي في إعانة الفقراء والمساكين وإقامة مؤسسات العلاج والرعاية الاجتماعية لكل أفراد الدولة.
 ويوجد نص آخر في الدستور يُلزم الدولة بإحياء نظام الوقف الخيري وطريقة إنشائه وإدارة أمواله واستثمارها وتوزيع عوائده على مستحقيها وفقا لشروط الواقف (مادة 25) .
حرية العقيدة في الدستور: 
             وردت حرية العقيدة في أول الفصل الثاني الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فقد جاء نص المادة (43) يقول (حرية الاعتقاد مصونة وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية)، كما نصت المادة (44) على حظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة, وأعتقد أن هذين النصين غير كافيين لتحقيق حرية العقيدة فكان يجب النص على تحريم مصادرة هذا الحق أو الإساءة للأنبياء والرسل، كما يجب على الدولة أن تحترم حق أصحاب كافة الأديان في إقامة دور العبادة الخاصة بهم لا أن تكفل بنفسها إقامة هذا الدور. 
وضع الأزهر في الدستور:
 استحدث الدستور نص المادة (4) في باب المقومات السياسية حيث جاءت تقول: (الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه) ومنحه كذلك اختصاص: (نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم) .
 كما أعطاه اختصاص آخر أثار جدلا واسعاً في الأوساط السياسية المصرية هو أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية.
 وهذا النص معيب من أكثر من وجه:
1-    النص على أنه هيئة جامعة، فليس الواضحا معنى أنه هيئة جامعة ، ولا اختصاصه وحده بالقيام على كافة شئونه، وهل يمتنع على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة إصدار أية قرار بشأنه بما في ذلك تعيين العاملين فيه أو إصدار لوائحه؟.
2-    حصر مهمة في نشر الدعوة وعلوم الدين واللغة، فالمهمة الأساسية للأزهر هو تدريس وتعليم علوم الدين واللغة، وهى مهام أكثر أهمية من النشر.
3-   ولا شك أن استقلال شيخ الأزهر مسألة مهمة, وكذا عدم قابليته للعزل, ولكن لابد أن ينظم القانون نظام تعيينه وإنهاء خدمته. ولا يكفى أن يُختار من هيئة كبار العلماء التي يختارها هو أساسا أو يختار أغلب أعضائها.
4-    أما أخذ رأيه في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية فالواقع أن هذه الفقرة في غاية الغموض. من الذي سيأخذ رأيه وما هى الشئون المتعلقة بالشريعة، هل يقصد بذلك التشريعات أم يشمل مسائل أخرى، المسألة غامضة ، وننتظر أن يصدر تشريع يحددها وينظمها بوضوح.
تحقيق الهوية بالتعليم: 
 استحدث الدستور نصوصاً تهتم بالتربية الدينية وباللغة العربية.
فيجب تدريس اللغة العربية في كافة مراحل التعليم فقد جعلتها المادة (60) من الدستور مادة أساسية في مراحل التعليم المختلفة بكل المؤسسات التعليمية, كما أن التربية الدينية والتاريخ الوطني مادتان أساسيتان في التعليم قبل الجامعي بكل أنواعه, وأنا أفهم من هذا النص أن المدارس الأجنبية في مصر تخضع لهذا النص ويجب أن تدرس اللغة العربية والتربية الدينية فيها, كما يشمل ذلك المدارس الخاصة بكافة أنواعها ومراحلها.
 أما الجامعات فيكفي أن تدرس القيم والأخلاق اللازمة للتخصصات العلمية المختلفة ، ويعنى هذا النص البعد عن أسلمة العلوم وحصر عمليات تدريس القيم والأخلاق التي يحض عليها الدين في مجال كل تخصص، كالأخلاق الطبية في علوم الطب والصيدلة، والفنون والعمارة الإسلامية في مجال التخصصات الهندسية وهكذا.
 وتدرس جامعة الأزهر علوم إسلامية فقهية وتاريخية وعقائدية توزعها على مختلف السنوات الدراسية ويتم جمع بين الفكرتين في تقرير المواد الشرعية، وبالطبع مجال هذه التفاصيل القوانين واللوائح.
الهوية المصرية في الدستور المصري
اكتسبت الهوية المصرية بعد ثورة 25 يناير أهمية خاصة ، حيث عاش المصريون قبل الثورة لسنوات عديدة يشعرون بالمهانة وكأنهم ليسوا مواطنين في بلدهم، يصعب على الشخص العادي أن يلتحق بالوظائف العامة، خاصة ذات الأهمية الخاصة، ولأنها في الغالب كوادر خاصة كوظائف القضاء والنيابة والسلك الدبلوماسي؛ بل ووظائف الجيش والشرطة، فقد أصبح شغل هذه الوظائف يتم فقط بالوراثة، وكأنما كان النظام القديم والذي قاد البلاد نحو التوريث يجهز لنفسه لكي يورث أعلى وظيفة في الدولة – وهى وظيفة الرئيس – عن طريق التوريث.
 تم ذلك رغم وجود نصوص المواطنة أساس الرابطة بين أبناء مصر بعد تعديلات أدخلت على الدستور عام 2007م ووجود عبارات رائعة في ديباجة الدستور تؤكد وحدة الشعب وكرامته في وطنه ، ومن هنا ننبه إلى أنه مهما كانت الأساليب اللغوية بلاغية ورائعة، فإن المهم في أي دستور هو نصيبه من التطبيق، حيث إن الدساتير من أقل القوانين من حيث التطبيق رغم أنه أروع الوثائق القانونية, ورغم الاهتمام بمراقبة التطبيق في مصر عن طريق إنشاء المحكمة الدستورية في دستور 1971م, ومع ذلك يهمنا أن نعرض في هذه الورقة كيفية تأكيد الهوية المصرية في دستور 2012م.
يبدو تأكيد هذه الهوية في ديباجة الدستور ، وفي العديد من نصوصه بعد ذلك.
أولاً: تأكيد الهوية في ديباجة الدستور :
 نظراً للظروف الصعبة التي أحاطت بمصر طوال العصر السابق التي استمرت منذ قيام ثورة يوليو عام 1952م وحتى الآن، فقد انطلقت صيحات مصر في ديباجة الدستور تعبر عن ذلك.من ذلك
 ولما كانت مصر تعيش ثورة أخرى بعد انطلاقة 25 يناير تحاول أن تقضي على الفساد الذي ذاقت منه ويلات كثيرة انطلقت منها بمبادئ ثورة 25 يناير، ووصفتها في ديباجة الدستور؛ لذا يهمنا أن نستعرضها كما جاءت في ديباجة الدستور:
هذا هو دستورنا وثيقة ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي فجرها شبابنا، والتف حولها شعبنا، وانحازت إليها قواتنا المسلحة 
بعد أن رفضنا في ميدان التحرير وفى طول البلاد وعرضها كل صور الظلم والقهر والطغيان والاستبداد والإقصاء والنهب والفساد والاحتكار. 
وجاهرنا بحقوقنا الكاملة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، مشفوعة بدماء شهدائنا وآلام مصابينا وأحلام أطفالنا وجهاد رجالنا ونسائنا. 
واستعدنا أجواء حضارتنا العظيمة وعبق تاريخنا الزاهر؛ فأقمنا أعرق دولة على ضفاف النيل الخالد، عرفت معاني المواطنة والمساواة وعدم التمييز، وقدمت للعالم أول أبجديات الكتابة، وأطلقت عقيدة التوحيد ومعرفة الخالق، واحتضنت أنبياء الله ورسالاته السماوية، وزينت صفحات التاريخ الإنساني بمواكب الإبداع.
وفضلا عن ذلك عبرت ديباجة الدستور عن المبادئ الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الدولة ونظام الحكم فيها بعد هذه الثورة.
واستمرارا لثورتنا الطاهرة التى وحدت المصريين على كلمة سواء، لبناء دولة ديمقراطية حديثة؛ نعلن تمسكنا بالمبادئ التالية:
أولاً: الشعب مصدر السلطات؛ يؤسسها، وتستمد منه شرعيتها، وتخضع لإرادته   ومسئولياتها وصلاحياتها أمانة تحملها، لا امتيازات تتحصن خلفها 
ثانياً: نظام حكم ديمقراطي؛ يرسخ التداول السلمي للسلطة، ويعمق التعددية السياسية والحزبية، ويضمن نزاهة الانتخابات، وإسهام الشعب في صنع القرارات الوطنية. 
ثالثاً: كرامة الفرد من كرامة الوطن   ولا كرامة لوطن لا تكرم فيه المرأة؛ فالنساء شقائق الرجال، وشريكات في المكتسبات والمسئوليات الوطنية. 
رابعاً: الحرية حق، فكرا وإبداعا ورأيا، وسكنا وأملاكا وحلاً وترحالاً، وضع الخالق أصولها في حركة الكون وفطرة البشر 
خامساً: المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع: مواطنين ومواطنات؛ فلا تمييز، ولا وساطة، ولا محاباة، في الحقوق والواجبات. 
سادساً: سيادة القانون أساس حرية الفرد، ومشروعية السلطة، وخضوع الدولة للقانون؛ فلا يعلو صوت على قوة الحق، والقضاء مستقل شامخ, صاحب رسالة سامية في حماية الدستور وإقامة موازين العدالة وصون الحقوق والحريات. 
سابعاً: الوحدة الوطنية فريضة، وركيزة بناء الدولة المصرية الحديثة وانطلاقتها نحو التقدم والتنمية؛ ترسخها قيم التسامح والاعتدال والوسطية وكفالة الحقوق والحريات لجميع المواطنين دون تفرقة بين أبناء الجماعة الوطنية. 
ثامناً: الدفاع عن الوطن شرف وواجب؛ وقواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي، وهى درع البلاد الواقي. 
تاسعاً: الأمن نعمة كبرى؛ تسهر عليه شرطة تعمل في خدمة الشعب وحمايته, وفرض موازين العدالة، فلا عدل بلا حماية، ولا حماية بغير مؤسسات أمنية تحترم كرامة الإنسان وسيادة القانون. 
- ريادة مصر الفكرية والثقافية، تجسيد لقواها الناعمة ونموذج عطاء بحرية مبدعيها ومفكريها، وجامعاتها، ومجامعها العلمية واللغوية ومراكزها البحثية، وصحافتها وفنونها وآدابها وإعلامها، وكنيستها الوطنية، وأزهرها الشريف الذي كان على امتداد تاريخه قوّاما على هوية الوطن، راعيا للغة العربية الخالدة، والشريعة الإسلامية الغراء، ومنارة للفكر الوسطى المستنير 
نحن جماهير شعب مصر،
إيـمانـا بالله ورسـالاتـه،
وعرفانا بحق الوطن والأمة علينا،
واستشعارًا لمسئوليتنا الوطنية والإنسانية،
نقتدي ونلتزم بالثوابت الواردة بهذا الدستور، الذي نقبله ونمنحه لأنفسنا، مؤكدين عزمنا الأكيد على العمل به والدفاع عنه، وعلى حمايته واحترامه من قبل جميع سلطات الدولة والكافة.
 وجدير بالذكر أن الهوية المصرية تقتضي الدفاع عن الوطن وقد اعتبرته الديباجة شرفا وواجبا، كما أن الوحدة الوطنية فريضة وركيزة لبناء الدولة المصرية الحديثة فكيف يجب أن تقوم على التسامح والاعتدال والحرية وكفالة مختلف الحقوق والحريات العامة.
 كما أن الوحدة الإسلامية والوحدة العربية آمال لأمتنا وهى بالتالي تكمل الهوية المصرية.
 وما جاء في البند (11) يهمنا في تأكيد الهوية المصرية, فما أحلى ما يعبر عنه هذا البند الذي يشير إلى ريادة مصر الفكرية والثقافية وقال في ذلك : (ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية، والحقائق العلمية، والثقافة العربية، والتراث التاريخي والحضاري للشعب؛ وذلك وفقا لمـا ينظمه القانون) .
ثانياً: الهوية المصرية في نصوص الدستور:
مقومات الهوية المصرية في الدستور
-السيادة للشعب يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات؛ وذلك على النحو المبين فى الدستور .
-ويصون الشعب وحدته الوطنية.
-الحفاظ على الأمن القومي، والدفاع عن الوطن وحماية أرضه، شرف وواجب مقدس.
-تلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين، دون تمييز .
-ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية، والحقائق العلمية، والثقافة العربية، والتراث التاريخي والحضاري للشعب؛ وذلك وفقا لما ينظمه القانون .
-تحمى الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع.
-الثروات الطبيعية للدولة ملك الشعب، وعوائدها حق له، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحسن استغلالها، ومراعاة حقوق الأجيال فيه.
-وكل مال لا صاحب له هو ملك الدولة.
-نهر النيل وموارد المياه ثروة وطنية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها وتنميتها، ومنع الاعتداء عليها وينظم القانون وسائل الانتفاع بها.
-تلتزم الدولة بحماية شواطئها وبحارها وممراتها المائية وبحيراتها، وصيانة الآثار والمحميات الطبيعية، وإزالة ما يقع عليها من تعديات .
-تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف، وتحميها؛ وفقا لما
      ينظمه القانون.
-للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب وطني على الدولة والمجتمع.
-ترعى الدولة التعاونيات بكل صورها، وتدعمها، وتكفل استقلالها.
-الكرامة حق لكل إنسان, يكفل المجتمع والدولة احترامها وحمايتها المادة (31) ولا يجوز بحال إهانة أي إنسان أو ازدراؤه.
-الجنسية المصرية حق, وينظمه القانون, المادة (32).
-         المواطنون لدى القانون سواء؛ وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم, المادة (33).


(1) قدم ثلاثة من أعضاء لجنة نظام الحكم في دستور 1971 نصا يقول بأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع منهم كاتب هذه الورقة وأخذ به بعد تعديل الصياغة في لجنة أخرى.