في مواجهة خطر التعصب, والتعصب الديني

في مواجهة خطر التعصب, والتعصب الديني

 

 

في مواجهة خطر التعصب, والتعصب الديني

 

د.زكي الميلاد

رئيس تحرير مجلة الكلمة ـ السعودية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في معنى التعصب:

التعصب هو نمط من السلوك يتصف بالتحيز الظاهر, والميل الشديد الذي يتداخل فيه ويتمازج العامل النفسي مع العامل الذهني, ويتمحور حول شيء ما, إما تجاه فكرة أو مبدأ أو معتقد, وإما تجاه شخص أو عشيرة أو جماعة, وبشكل يكون ظاهراً ومنكشفاً عند الآخرين.

والتعصب له صورتان, صورة مع, وصورة ضد, فتارة يكون التعصب مع شيء ما, وتارة يكون ضد شيء ما, وهذا الشيء إما أن يكون فكرة أو شخصاً, مبدأ أو جماعة, معتقداً أو عشيرة.

ودائماً ما يكون التعصب ناظراً إلى طرف آخر, وبدون هذا الآخر لا يكون للتعصب من حاجة أو معنى, وبالتالي فإن التعصب هو موقف سلوكي تجاه الآخر المختلف أو المغاير, فالذي يتعصب لفكرة يكون ناظراً لفكرة أخرى عند طرف آخر, ومن يتعصب لمبدأ يكون ناظراً لمبدأ آخر عند طرف آخر, ومن يتعصب لمعتقد يكون ناظراً لمعتقد آخر عند طرف آخر, وهكذا من يتعصب لشخص أو عشيرة أو جماعة.

والآخر في مثل هذه الحالة يمثل حاجة وضرورة لاستثارة روح التعصب, وتحريك كوامنه, وإطلاق دفائنه, وإشعال حميته. وبدون الآخر والاحتكاك به, والتعرض له, والتراشق معه, يخبو روح التعصب, ويفقد فورته وحرارته, ويصاب بالخمول والانطفاء.

وهذا يعني أن الآخر هنا يجري استحضاره بطريقة منقوصة ومشوّهة, ولأغراض توظيفية, ويتحول فيها إلى صورة نمطية تكون مبسطة بقصد التداول والتعميم السهل والسريع.

وذهنية التعصب لا تحتمل إلا صورة منقوصة ومشوّهة عن الآخر, ولا تتعامل معها إلا بطريقة نمطية وتوظيفية, ولا تتقبل صورة نزيهة وموضوعية عن الآخر, فمثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية يمكن لها أن تنتقص من الذات, وتقلل من شأنها وشأن مكانتها ومنزلتها, أو تمس من هيبتها وشوكتها, أو هكذا يمكن أن تفسر عند أصحاب هذه الذهنيات. كما إن مثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية عن الآخر, يمكن لها أن تمتص روح التعصب وتذوبه, أو تحد منه ومن سطوته.

وإذا نظرنا إلى منطق التعصب نجده أنه قائم أساساً على تقابل متعارض, يرتكز من جهة على المبالغة والإفراط في مدح الذات وتمجيدها والتفاخر بها, ويرتكز من جهة أخرى على المبالغة والإفراط في ذم الآخر ومقته والاستنقاص منه.

وعند النظر في التعريفات التي أشار إليها الدكتور معتز سيد عبد الله, لمعنى التعصب في كتابه (الاتجاهات التعصبية), نجد أن معظمها أو جميعها كان ناظراً إلى الآخر ومعاداته أو التفاضل عليه, ومن هذه التعريفات: أن التعصب هو التفكير السيء عن الآخرين ودون وجود دلائل كافية. وفي تعريف البعض: أن التعصب هو اتجاه بعدم التفضيل يمثل استعداداً للتفكير والشعور والسلوك بأسلوب مضاد للأشخاص الآخرين بوصفهم أعضاء في جماعات معينة. وفي تعريف ثالث: أنه اتجاه سلبي يتبناه أعضاء جماعة معينة مستمدة من معاييرها القائمة ويوجه نحو جماعة أخرى. أو أنه نسق من الادراكات والمشاعر والتوجهات السلوكية السلبية المتصلة بأعضاء جماعة معينة. أو أنه اتجاه انفعالي متصلب نحو جماعة من الأشخاص([1])، إلى غير ذلك من تعريفات أخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن التعصب إنما ينشأ ويتشكل في أرضية ومناخ القطيعة والانغلاق عن الآخر, وعلى خلفية البناء والتكوين الأحادي والمنقطع عن معارف الآخرين وعلومهم وإنجازاتهم, والذي يخرج ذهنيات لا ترى الحق إلا عندها وما سواها إلا في ضلال, وتصوب نفسها دائماً وتخطئ غيرها.

التعصب وعلم النفس الاجتماعي

تقدم العلوم الاجتماعية الحديثة بصورة عامة, وعلم النفس الاجتماعي بصورة خاصة, خبرة معرفية ومنهجية ذات قيمة عالية في دراسة وتحليل وتفسير ظاهرة التعصب, خبرة لا يمكن الاستغناء عنها بأي وجه من الوجوه, بحيث يمكن القول إن كل حديث يتناول هذه الظاهرة, ولا يرجع لهذه الخبرة والاستفادة منها يعد ناقصاً ومبتوراً.

وهذا ما حاول التأكيد والبرهنة عليه الدكتور جون دكت أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا في كتابه القيم (علم النفس الاجتماعي والتعصب), الذي أوضح فيه كيف أن العلوم الاجتماعية بدأت في السبعين عاماً الأخيرة ببذل جهود محددة لفهم طبيعة التعصب وأسبابه, وحققت خلال هذه الفترة إنجازات هامة.

وفي نطاق علم النفس الاجتماعي يرى جون دكت أن مفهوم التعصب ظهر كمشكلة في هذا الحقل في عشرينات القرن العشرين, وظل تيار البحوث يتدرج ويتطور ببطء خلال الثلاثينات والأربعينات, ولم يشهد تاريخ البحث تطوراً كبيراً ومتصاعداً حول هذا الموضوع إلا بعد الحرب العالمية الثانية, وهذا ما كشف عنه جوردن ألبورت في دراسته الهامة حسب وصف جون دكت, والتي حملت عنوان (طبيعة التعصب) الصادرة عام 1954م, إذ أشار فيها إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث المتصلة بهذه القضية.

وباعتبار جون دكت من جنوب أفريقيا فهذا يضاعف من قيمة وأهمية دراسته لهذه القضية, وذلك لسبب واضح ومعروف وهو أن جنوب أفريقيا كانت من أشد وأكثر مجتمعات العالم تفشياً لظاهرة التعصب على أساس اللون, ومن ينتمي لهذا المجتمع يفترض أن تتكون لديه حساسية مفرطة في نقد وكراهية التعصب, أو حسب تقدير جون دكت وهو يفتتح مقدمة كتابه بالقول: تؤدي نشأة الشخص في جنوب أفريقيا وحياته في جو من الظلم والتعسف إلى أن يواجه نفسه بسؤال كيف يمكن لهذه الأخطاء تظهر وتستمر لمدة طويلة على هذا النحو؟

مع ذلك فإن كتاب جون دكت لا يتحدد ويتقيد في نماذجه وتطبيقاته, ولا حتى في معارفه وخبراته بمجتمع جنوب أفريقيا, فقد أراد منه مؤلفه أن يكون كتاباً علمياً ينتمي إلى علم النفس الاجتماعي الذي هو مجال تخصصه وتدريسه, إلى جانب أنه أراد أن ينبه باقي المجتمعات الأخرى إلى هذه الظاهرة البغيضة التي جرحت كرامة مجتمعه, وجعلته يعيش تاريخاً حزيناً وكئيباً, ولا يتمنى لمجتمع آخر أن تمر عليه مثل تلك التجربة, ولا حتى تذكرها.

وقد بذل جون دكت في هذا الكتاب جهداً علمياً واضحاً, عكس فيه ما تراكم في حقل علم النفس الاجتماعي من خبرات وتجريبات وتطبيقات, متحدثاً فيه عن الأطر النظرية المختلفة في دراسة وتحليل وتفسير ظاهرة التعصب, وشارحاً فيه الأسس السيكولوجية للتعصب, والديناميات الاجتماعية للتعصب إلى جانب نظريات أخرى.

وفي المجال العربي, تمثل محاولة أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة الدكتور معتز سيد عبد الله في كتابه (الاتجاهات التعصبية), محاولة مهمة في الاستفادة من خبرة علم النفس وعلم النفس الاجتماعي في دراسة وتحليل وتفسير الاتجاهات التعصبية, وبذل جهداً واضحاً في التعريف النظري والإجرائي لهذه الاتجاهات, وخصائصها وعلاقتها بغيرها من المفاهيم الأخرى, وشارحاً الإطارات النظرية التي قدمت لتفسير اكتساب هذه الاتجاهات ونموها وارتقائها, إلى كيفية مواجهتها أو الوقاية منها.

وما يميز هذه المحاولة هو ما أوضحه المؤلف نفسه, حين اعتبر أن معظم الدراسات غير العربية التي تناولت هذه القضية, ارتبطت دائماً بظروف اجتماعية وسياسية مرت بها المجتمعات التي أجريت فيها هذه الدراسات, ولهذا كان التعصب العنصري هو أكثر أشكال التعصب التي نالت اهتماماً نظرياً وتطبيقياً, في حين أن هناك أنماطا أخرى مهمة لم تلق عناية مثل التعصب الديني والسياسي والاجتماعي.

لهذا فنحن بأمس الحاجة في الاستفادة من خبرة علم النفس الاجتماعي في دراسة ظاهرة التعصب التي بدأت تظهر وتتوسع في مجتمعات العالم العربي والإسلامي.

هل الإنسان كائن متعصب؟

التعصب هو أحد أشكال السلوك الذي يصدر من الإنسان, لكنه سلوك لا يحبذه غالباً العقلاء والحكماء من الناس. وهذا الشكل من السلوك يصدر من الإنسان مهما كانت عقيدته وإنتماؤه الديني, وبغض النظر عن المستوى المدني والحضاري للإنسان, وبالتالي فإن التعصب لا ينبغي أن يتحدد وينحصر بدين معين, ولا بمستوى حضاري أو علمي أو إقتصادي محدد.

وهناك من المعاصرين من يرى أن الإنسان بطبيعته يميل إلى التعصب, كما لو أنه كائن متعصب, وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة آراء متقاربة فيما بينها إلى حد كبير, الرأي الأول أشار إليه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي يرى أن التعصب يعبر عن ميل طبيعي موجود لدى جميع البشر, وكل شخص في نظره وكل فئة وجماعة تحب أن تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين, وهي تفعل ذلك عادة إذا ما امتلكت القوة والسلطة الضرورية.

الرأي الثاني أشار إليه المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف الذي اعتبر أن التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان وليس التسامح, والتسامح في نظره شيء مكتسب ولا يحصل إلا بعد تثقيف وتعليم وجهد هائل تقوم بها الذات على ذاتها.

الرأي الثالث أشار إليه المؤرخ التونسي وعميد كلية الآداب سابقاً في تونس الدكتور محمد الطالبي, الذي يرى أن الإنسان بطبيعته كائن متعصب, وأنه حيوان عدواني في جوهره كما نبه إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته, ويضيف الطالبي ولكن الإنسان يصبح متسامحاً بالضرورة عن طريق الذكاء أولاً, وعن طريق العقل ثانياً, لأنه مضطر للعيش في المجتمع والتعامل مع الآخرين يومياً, وبالتالي فلابد من تدجين مشاعره العدوانية لأنه لا يستطيع أن يعيش في حالة حرب كل يوم.

وردت هذه الآراء في كتاب حول التعصب الديني, وجاء متأثراً بأحداث الحادي عشرة من سبتمبر 2001م, وراجعه هاشم صالح في صحيفة الشرق الأوسط.

هذه الآراء لا يمكن الجزم بها كلياً, فهي تنتمي إلى نسق اجتماعي وفلسفي يغلب النزعة العدوانية في النظر إلى الكائن الإنساني, ويقابلها نسق اجتماعي وفلسفي آخر يغلب النزعة غير العدوانية.

وخطورة التعصب حينما يتحول إلى اتجاه عند الإنسان وفي المجتمع, ومفهوم الاتجاه في تحليل علماء النفس, يتكون من ثلاثة أبعاد مترابطة هي: المكوّن المعرفي ويقصد به المفاهيم والتصورات والمعتقدات, والمكوّن الوجداني ويقصد به المشاعر الوجدانية الداخلية, والمكوّن السلوكي ويقصد به الميول والاستعدادات السلوكية.

وتحول التعصب إلى اتجاه يعني أن يتحول التعصب إلى توجه ثابت أو شبه ثابت, بحيث يوجه سلوك الإنسان, ويرسم على أساسه خطواته ومواقفه. وفي اصطلاح علماء النفس أن الاتجاه هو توجه ثابت أو تنظيم مستقر للعمليات المعرفية والانفعالية والسلوكية, أو أنه مفهوم يعبر عن نسق أو تنظيم لمشاعر الشخص ومعارفه وسلوكه, ويتمثل في درجات من القبول والرفض لموضوعات الاتجاه.

ويقسم علماء النفس التعصب إلى قسمين: التعصب السلبي والتعصب الإيجابي. ولعل هذا التقسيم يتوافق مع ما ورد في الروايات والأحاديث الدينية التي أشارت إلى تعصب مذموم وتعصب محمود, ففي كتاب نهج البلاغة للإمام علي ـ عليه السلام ـ يقول (فإذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال, ومحامد الأفعال, ومحاسن الأمور) ([2]).

وعندما سئل الإمام علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ عن العصبية, قال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين, وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه, ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) ([3]).

التعصب الديني.. وسياقات التحول

في كتابه (علم النفس الاجتماعي والتعصب), أشار أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا, الدكتور جون دكت أن هناك نوعين من التعصب أثارا إهتمام علماء الاجتماع عموماً, وعلماء النفس خصوصاً, هما التعصب ضد السامية الذي تشكل على خلفية ما تعرض إليه اليهود من مذابح في عهد النازيين الألمان, والتعصب العنصري إما في شكله الاجتماعي بالصورة التي ظهر عليها في الولايات المتحدة الأمريكية, أو في شكله العام.

وهذا يعني أن التعصب الديني لم يحض باهتمام واضح وكبير عند علماء الاجتماعيات ومنهم علماء النفس, لأن هذا النمط من التعصب لم يعد يمثل مورد ابتلاء واسع في المجتمعات الغربية آنذاك.

وحين تطرق جون دكت إلى هذا النمط من التعصب الديني في كتابه المذكور, لم يوله قدراً كبيراً من الاهتمام, ولم يخصص له فصلاً مستقلاً يتوسع في شرحه, وشرح النظريات المتصلة به والمفسرة له, مع ذلك فقد أشار إلى ملاحظات مفيدة, ولافتا النظر إلى تركيز الدراسات التي تناولت قضية الدين والتعصب على الديانة المسيحية, لسبب واضح في نظره لأن أغلب الدراسات أجريت في أمريكا الشمالية, إلى جانب دراسات شملت اليهود, غير أن القليل من هذه الدراسات المنهجية كما يضيف جون دكت أجريت على التعصب في إطار علاقته بمعتقدات أخرى كالبوذية والهندوسية والإسلام رغم انتشارها.

هذه الملاحظات التي أشار إليها في وقت سابق جون دكت, لا شك أنها قد تغيرت اليوم بصورة كبيرة, ولا يمكن القياس عليها. فالتعصب الديني الذي لم يكن في السابق يحضى باهتمام كبير بات اليوم موضع اهتمام العالم, ويتقدم على غيره من أنماط التعصب الأخرى.

كما أن الدراسات التي كانت تركز سابقاً على الديانة المسيحية بشكل أساسي, وبقدر ما على الديانة اليهودية في الحديث عن الدين والتعصب, تغيرت كذلك وبات الاهتمام يتركز وبشكل أساسي على الديانة الإسلامية, وبقدر ما على باقي الديانات الأخرى.

ويعد هذا التغير أمراً واضحاً ومدركاً عند الباحثين والمهتمين بهذا الشأن, وذلك لشدة وضوحه وإنكشافه, وتواتر الحديث عنه على مستوى العالم.

وجاء هذا التغير نتيجة التوترات الدينية المتزايدة في مجتمعات العالم العربي والإسلامي من جهة, وإرتفاع وتيرة هذه التوترات الدينية على مستوى العالم من جهة أخرى, بالإضافة إلى تزايد الأحداث والإضطرابات السياسية والاجتماعية التي ترجع إلى أسباب دينية, أو تتداخل مع هذه الأسباب بصورة من الصور القريبة أو البعيدة, المباشرة أو غير المباشرة.

أما الحدث الأبرز الذي مثل نقطة تحول في مسار الاهتمام بهذه القضية, فهو حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م, الذي يعد أعظم حدث هز العالم من بعد الحرب العالمية الثانية, وبعد حدث انهيار الإتحاد السوفيتي وتلاشي منظومته الشرقية وتصدع أيديولوجيته الماركسية.

فبعد أن نسبت جماعة دينية متطرفة لنفسها تنفيذ هذا العمل أخذ موضوع الدين والتعصب الديني يتصدر إهتمام العالم, بما في ذلك الأوساط الأكاديمية, والنخب الفكرية.

وفي هذا النطاق جاء الكتاب الذي تناول مسالة التعصب الديني, وشارك فيه ما لا يقل عن خمسين باحثاً ومفكراً من شتى أنحاء العالم, منهم روائيون ومفكرون ومؤرخون أوروبيون كبار مثل الروائي الإيطالي أمبيرتو إيكو, والفيلسوف الفرنسي بول ريكور, والمؤرخ الفرنسي جاك لوغوف إلى جانب آخرين, ومن العالم العربي شارك فيه المؤرخ التونسي محمد الطالبي, والمفكر الجزائري محمد أركون.

وما ينبغي التأكيد عليه أن التعصب الديني لا يظهر إلا في ظل تأزمات فكرية, ويكون هو من تجليات هذا التأزم, لأن التعصب لا ينشأ من الدين, وإنما من الفكر الذي يكون المعرفة بالدين, لهذا فإن معالجة التأزم الفكري هو مدخل لمعالجة التعصب الديني.

في نقد التعصب

التعصب يعمي العقل, ويحجب الإنسان عن إعمال الفكر, ويسلب منه قدرة التبصر في اختيار الموقف السليم, لهذا فإن التعصب هو موقف غير عقلاني, ومناقض للعقلانية, وينتهك قيم العقلانية ومعاييرها, لأنه موقف لا يستند على قوة البرهان, ومنطق الاستدلال, وليس من غايته البحث عن الحقيقة واكتشافها والتمسك بها, حتى لو كانت عند طرف آخر مغاير, ولأنه موقف يتسم بالتوتر والانفعال النفسي والذهني, ويغلب عليه منطق الغلبة والاحتجاج.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يغلق عليه منافذ المعرفة, والوصول إلى علوم الآخرين ومعارفهم, واكتساب الحكمة أنى كان مصدرها ومنبعها, والذي لا يستمع القول لا يتبع أحسنه, كما في قوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) ([4])، والتعصب يجعل الإنسان على قول واحد يتحيز إليه بشدة, وينافح عنه بغلظة, ولا يقبل الاستماع إلى قول آخر ينازعه, أو يتضايف معه, أو يتفاضل عليه.

وهذا بخلاف سلوك أهل الحكمة وأولي الألباب الذين يعرفون باستماع القول, وكل ما يفيد معنى القول, فيتبعون أحسنه, لأنهم من أهل الدراية والنظر, وفي غايتهم دائماً انتخاب وإتباع الأحسن, طلباً للرشد والحق وإصابة الواقع, أما الذي يستمع قولاً واحداً فإنه بالتأكيد لا يهتدي إلى أحسن الأقوال.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه لا يجعل من الحكمة ضالته أنى وجدها فهو أحق بها, كما جاء في الحديث النبوي الشريف (الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها فهو أحق بها) ([5]).

والحكمة يصل إليها من يبحث ويفتش عنها, ويطلبها وتكون ضالته, والمؤمن هو أحق بها حتى لو وجدها عند من يختلف معه في العقيدة أو المذهب أو الدين, لأنه يطلب الحق والعدل والفلاح, ولسان حاله ما ورد عن نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ في قوله: (خذوا الحق من أهل الباطل, ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق) ([6]).

أليس من الحكمة اليوم اكتساب العلوم والمعارف الطبيعية والتطبيقية والطبية, كعلوم الفيزياء والرياضيات والطب والبيولوجيا وغيرها, من اليابانيين والصينيين والغربيين وغيرهم, وهم الذين يختلفون معنا في العقيدة والدين.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يحجب عنه اكتشاف عيوبه, والتعرف على نواقصه, والالتفات إلى ثغراته, والتنبه إلى نقاط الضعف فيه, وذلك نتيجة الاعتزاز بالذات, والتفاخر على الآخر, والانشغال بأجواء السجال والاحتجاج, وما يصاحبها من توتر وأنفعال.

وفي هذه الحالة يضل الإنسان يحمل ضعفه وعيوبه, وتبقى معه نواقصه وثغراته إلى أن تتفشى وتتراكم وتصل إلى وضع تنكشف فيه بشكل خطير.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يجلب معه العداوة والبغضاء من الآخرين, ويورث الاحتقان والانقسام بين الناس, ويتسبب في خلق النزاعات والخصومات التي تهدر بدورها الطاقات والإمكانات بدون طائل وبلا ثمرة أو نتيجة, وهذا ما ينبه عليه ويحذر منه العقلاء والحكماء من الناس.

الهوامش:

([1]). معتز سيد عبد الله. الاتجاهات التعصبية, الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, 1989م, ص 49.

([2]). الإمام علي. نهج البلاغة, شرح الشيخ محمد عبده, بيروت: المكتبة العصرية, 2001م, خطبة رقم 192, ص 260.

([3]). محمدي الريشهري. ميزان الحكمة, قم: دار الحديث, 2000م, ج6, حرف العين, ص 2639.

([4]). سورة الزمر, آية 18.

([5]). محمد الريشهري. ميزان الحكمة, مصدر سابق, ج2, حرف الحاء, ص 888.

([6]). محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار, بيروت: مؤسسة الوفاء, 1983م, ج2, ص 96.