قضايا الأمة الإسلامية نظرة عامة نحو المستقبل

قضايا الأمة الإسلامية نظرة عامة نحو المستقبل

 

قضايا الأمة الإسلامية نظرة عامة نحو المستقبل

 

 

 آية الله السيد محمد باقر الحكيم                              

رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية    

 

بسم الله الر حمن الر حيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

في نظرة عامة على أعتاب القرن الواحد والعشرين الى قضايا امّتنا الإسلامية نجد أمامنا عدة قضايا رئيسية تفرض نفسها على جميع أبعاد الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لها.

القضية الأولى: قضية الصراع الحضاري والاستكبار العالمي ولاسيما بعد ان تحول الإسلام في العقدين الأخيرين من هذا القرن الى حقيقة سياسية تقاوم الاستكبار والطغيان واصبحت الامة في جميع اطرافها تدعو الى الرجوع الى الله تعالى وتحكيم الإسلام والتمحور حوله وأصبح العالم الإسلامي يتجه الى التوحد حول المصالح المشتركة وفي مواجهة العدوان الخارجي.

القضية الثانية: قضية و حدة الأمة في شخصيتها وثقافتها وتكاملها في طاقاتها وامكاناتها ونهوضها للقضاء على معالم التخلف في الصراعات التي شهدتها طيلة تاريخها الماضي.

القضية الثالثة: قضية الحرية السياسية في العمل الاجتماعي ومشاركة الأمة في الادارة والحكم والقرار وتحقيق العدل والرفاه والاخذ بالوسائل المدنية الحديثة.

وقد اصبحت هذه القضايا ذات اهمية خاصة بحيث تكاد تتفرع عنها جميع القضايا الاخرى او تقل عنها اهمية لسبب واحد مهم وهو التحول والتطور الجديد المعاصر في عالمنا اليوم على مستوى الاتصالات والمعلومات والعلاقات وتشابك المصالح والمنافع الامر الذي جعل العالم يتحول الى ما يشبه المدينة او البلد الواحد ويتجه الى الوحدة وبروز فكرة النظام العالمي الجديد.

 

الصراع الحضاري:

أمّا القضية الاولى فاننا نواجه ـ منذ البداية ـ فيها مشكلة التعرّف على معالم الحضارة الإسلامية التي هي مجموعة العقائد والاخلاق والمفاهيم والنظريات والتشريعات التي جاء بها ونزل بها الوحي الالهي في القرآن الكريم او السنّة النبوية.، والمنهج الصحيح لعرضها والدعوة إليها وهذا مايمكن ان نعتبره في هذا العصر من اهم التحديات التي نواجهها على أعتاب القرن الواحد والعشرين حيث يتطلع الانسان الى التعرف  على معالم الحضارة الإسلامية ولاسيما الانسان الغربي الذي جرّب الحضارة المادية وفشلها كما لايمكن ان تخوض امتنا الإسلامية الصراع الحضاري وهي متفرقة في فهمها لحضارتها الإسلامية او متفرقة في منهجها في ادارة الصراع الحضاري ولذلك فلابد من تبيّن المنهج المناسب لايجاد فهم مشترك بصورة اساسية للاسلام وطريقة عرضه والدعوة إليه.

ولاشك انّ ندوات التقريب ووجود المراكز العلمية المشتركة للبحث والحوار العلمي الهادىء وإزالة عوامل التعصب واشاعة ثقافة التقريب سوف تساهم الى حد كبير في الوصول الى ذلك ولكن مع ذلك يحتاج الى بحث مكثّف حول هذا الموضوع بالذات.([1])

وفي موضوع صراع الحضارات اود أن اشير الى عدة امور رئيسية في فهم هذا الصراع وطبيعته لئلا يلتبس موضوعه:

الأول: انّ جذور واسباب الصراع الحضاري ـ في نظر الإسلام ـ موجودة منذ بداية خلق البشرية، ولذا فهو امر قائم ومستمر ولا هوادة فيه وقد تطور هذا الصراع تدريجيا في التاريخ الانساني حتى بلغ أوجه في هذا العصر بعد ان تحول الهوى الى مضار انسانية لها كياناتها السياسية التي نلتزم بها، ومن المتوقع استمرار هذا الصراع حتى يتحقق النصر الكامل لامة التوحيد فيه فيتحد العالم تحت لواء الايمان والإسلام عند تحقق اليوم الموعود الذي بشرت به الرسالات الالهية وبشّر به النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وهو اليوم الذي تمتلأ الأرض فيه بالقسط والعدل بعد أن امتلأت بالظلم والجور.

الثاني: انّ الصراع الحضاري في محتواه هو صراع عقائدي وفكري وقيمي وكذلك هو صراع على التطهير والتزكية وتحقيق الكمالات الالهية للانسان ومقاومة الضلال والهوى، فانّ الدعوة الى الله تعالى و الى الحق والعدل والاخلاق والكمالات الالهية في السلوك الانساني واقامة علاقات العدل والاحسان بين الناس واجب الهي وهدف رسالي وحركة تاريخية لايمكن أن تتوقف او يتنازل عنها الانسان.([2])

ونواجه في العصر الحاضر وهو في اوج شدته وضراوته بعد ان اصبحت الحضارة المادية المعاصرة تعتمد كل الوسائل في تعبئة الشهوات والغرائز والمنافع المادية الشخصية والميول وتحول الهوى ليصبح الإله الذي يُعبد  من دون الله وتقيم انظمتها وسياساتها على أساس المصالح والمنافع المادية قيم اللذة الجسدية والمصلحة الشخصية والحياة الدنيوية.

ولكن هذا الصراع في الوقت نفسه ليس ـ بالضرورة ـ صراعاً وحشياً ودموياً وعسكرياً إلاّ بقدر ما يفرضه واجب الفطرة الإلهية في الدفاع عن النفس.

كما انه ليس بالضرورة ان يكون صراعا سياسيا في كل الاحوال والمجالات بعد أن فتح الإسلام باب التعايش السياسي مع الكفار والمجتمعات غير الإسلامية من خلال الهدنة والمعاهدات على اساس المصالح المشتركة او تقدير  المصلحة الإسلامية وتبادل الخبرات والتعاون ضد الاخطار وقد مارس النبي «ص» ذلك في صدر الإسلام.

ولذا فمن الممكن العمل على ادارة الصراع الحضاري على اساس الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالمنطق ومخاطبة العقل والوجدان والفطرة الانسانية، بل واستخدام المصالح الإنسانية المادية والروحية في ادارته حسبما تفرضه مقتضيات هذا الصراع.([3])

الثالث: انّ هذا الصراع وان كان حتمياً مستقطباً ـ كما ذكرت ـ بين الحضارة المادية الوثنية وقيمها والحضارة الايمانية  التوحيدية وقيمها، ولكن ليس مستقطباً بين الاديان الالهية التي تصدر عن منبع واحد وهو الوحي الالهي بالرغم مما تعرضت له هذه الأديان من تحريف وتزييف ولكنها في عموم رؤيتها الحضارية للكون والإنسان تعبر عن حضارة الهية اذا صح هذا التعبير تشترك بينها في الايمان بالله والوحي والدار الآخرة والقيم الاخلاقية والشريعة الالهية والحق والباطل وغلبة الحق على الباطل في نهاية المطاف المطلق واقامة حكومة العدل. ولهذا السبب اعترف الإسلام بها وأقرّها ولم يعمل على الغاءها وازاحتها من حياة الانسان.

وهذا الرؤية الإسلامية لطبيعة العلاقة  الحاضرية مع الأديان الالهية تفتح الباب واسعا في موضوع الحوار بين الاديان على أسس تختلف بصورة جذرية عن اسس الحوار بين الحضارات.

كما ان هذه الرؤية الإسلامية للحوار بين الاديان تنير لنا الطريق بصورة أوضح في موضوع التقريب والحوار بين المذاهب الإسلامية التي تشترك في اركان الإسلام الخمسة والكثير من التفاصيل العقائدية والثقافية والسلوكية والشعائرية والفقهية الشرعية فضلا عن اشتراكها في الهوية والمصالح والأهداف العامة.

الرابع: انّ هذا الصراع بين الحضارات لا يعني بأي حال من الأحوال صراعا حول نتائج التجارب الانسانية العلمية لمجرد انها نتاج لجماعة من الناس تتبنى حضارة اخرى فهذه النتائج هي ثمار العقل والجهود الانسانية في اعمار الارض وتسخيرها وهي جهود مشتركة ذات قيمة مستقلة عن المضمون الحضاري.

ويمكن ان نقول الشيء نفسه ولكن على مستوى اقل بالنسبة الى الآثار الانسانية ذات العلاقة بالآداب والتقاليد والمشاعر والعواطف والاحاسيس الانسانية والفطرية كالشعر والقصة نستثني منها ما كان ذا مضمون حضاري مضاد.

وبهذه الرؤية للصراع يمكن ان نحدد هدفه ومنهجه العام ووسائله المطلوبة.

 

وحدة الأمة الاسلامية:

وأما القضية الثانية وهي قضية وحدة الامة في قضية ذات اهمية خاصة ليست على مستوى تكامل هذه الأمة وقدرتها على اداء دورها في الحياة وتحملها لمسؤولية الرسالة الخاتمة فحسب، بل على مستوى قدرتها على مواجهة الاخطار التي تحيق بها من كل جانب بعد هذا التحول العالمي في هذا العصر.

وكذلك على مستوى ادارتها للصراع الحضاري حتى لو لم يكن صراعاً وحشياً ودموياً.

ويمكن أن نتبين قضية وحدة هذه الأمة من زاوية العناصر المهمة والاساسية المشتركة فيما بينها ـ كما أشرت آنفا ـ ولكننا بحاجة الى معرفة الطريق الى تحقيق هذه الوحدة بمعناها الصحيح وهو ما يمكن ان نتبينه من خلال زاوية اسباب الاختلاف والتفرق والعمل الجاد على معالجتها.

ويمكن تلخيص هذه الاسباب على كثرتها في الامور التالية:

اولا: الاختلاف في فهم الإسلام، وهذا السبب من الاسباب الرئيسية التي أشار اليها القرآن الكريم في مواضع عندما تحدث عن أسباب الاختلاف بين الناس.

وقد أشرت الى أهمية معالجة هذا الموضوع في الحديث عن القضية الاولى وتصبح حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية من اهم الوسائل لمعالجة هذا السبب كما ذكرت.

ثانياً: التخلف الروحي والأخلاقي والمعنوي في أوساط الامة ولاسيما عندما يمتد هذا المرض الحضاري الى اوساط العلماء والامراء فتظهر آثاره في التعصب والحقد والبغضاء والعداوة وطلب الدنيا والشهوات والانشغال بالجزئيات عن الكليات وبالهموم الصغيرة عن الهموم الكبيرة ثم يتطور الى الظلم والجور والعدوان الى غير ذلك مما نشاهده في ثنايا عالمنا الإسلامي الحاضر أو في تاريخه.

ولمعالجة هذا السبب نحتاج الى حركة سياسية وحركة روحية وأخلاقية وقيمية واسعة يمكن أن نسميها بحركة التزكية والتطهير وذلك باحياء القيم الإسلامية والاخلاق الالهية عن طريق الوعظ والارشاد وعن طريق التربية والتزكية وعن طريق القدوة الصالحة وعن طريق احياء العواطف والمشاعر النبيلة فى حب الله تعالى والنبي وأهل بيته الكرام واصحابه الابرار والتابعين لهم باحسان([4])، وعن طريق إقامة الشعائر الإسلامية.

ثالثاً: العامل الخارجي والتآمر الاستكباري وهيمنة الكفر العالمي على بلادنا ومقدراتنا حيث كان يرى بأنّ أحد أهم الوسائل الاساسية للتسلط هي اشاعة التفرق والاختلاف واثارة النعرات العرقية والتعصب المذهبي والقبلي والجغرافي وايجاد فتائل الإشتعال وصواعق الإنفجارات المحلية وتسليط الطغاة والظالمين واستخدام وسائل القهر والقمع لفرض الفساد والضلال والتشتت على الامة.

ولاشك انّ هذا السبب للاختلاف هو من أشد وأقوى الاسباب تأثيرا في عامل التفرقة والتمزق والضعف الذي تواجهه الامة في هذا العصر.

وقد اصبح هذا السبب الآن من أعظم الاسباب بعد ظهور نظام القطب الواحد وما يملكه من امكانات مادية وتكنولوجية هائلة.

ولايمكن للامة أن تعالج هذا العامل الاّ بالتزام خطين رئيسيين من العمل:

احداهما: ممارسة دورها في الصراع الحضاري على اساس الحوار ومخاطبة العقل والوجدان كما اشرت الى ذلك والعمل على خلق المجابهة الحضارية في داخل جبهة الاستكبار من خلال فرض الحرية الفكرية والسياسية والتركيز على نقاط ضعف الحضارة المادية واخطارها المستقبلية والاستفادة من مشاعر اليأس والقنوط والاشباع للغرائز الانسانية.

كما انّ من المهم هو تجنّب خلق المجابهة العسكرية إلاّ في حالات الدفاع عن النفس، والتركيز في هذه المجابهة ان وجدت على محاور المصالح المادية ونقلها الى مجتمعاتهم.

ثانيهما: تعبئة الامة روحياً وسياسياً على أساس قيم الايمان بالله والاستعانة به والتوكل عليه كقوة غيبية بيدها القوة، والقدرة المطلقة، وروح التضحية والفداء، والجهاد في سبيل الله والصبر والعزم والارادة القوية المستقلة، والاحساس بالمسؤولية والتركيز على الهموم الكبيرة والرئيسية لهذه الامة ومبادىء الولاء والتناصر بين المسلمين.

وهذا ما قام به القرآن الكريم والنبي العظيم صلى الله عليه وآله في الصدر الاول للاسلام حيث تمكن من خلال ذلك ان يقف في وجه قوى الاستكبار العالمي في ذلك العصر فيعالج تمزق الامة من ناحية فيحقق وحدتها ويصد عدوان الاستكبار ويحبط مخططاته من ناحية اخرى بعد ان استنفذ وسائل الحوار والطرح الفكري والعقائدي للدعوة الإسلامية ونقل الصراع الى داخل القوى الاستكبارية نفسها.

الحرية السياسية:

وأما القضية الثالثة وهي قضية الحرية السياسية في العمل الاجتماعي ومشاركة الامة في ادارة شؤونها الحياتية وفي إختيار الحاكم وتشخيص العلاقة بين الحاكم والرعية والإمام والامة وفي القرارات المصيرية ومساهمتها بصورة حقيقية في اقامة العدل والقسط بين الناس وفي التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية... انّ هذه القضية تعتبر الآن من اهم القضايا المعاصرة التي تواجهها الامة.

لقد كانت هذه القضية ولازالت من القضايا التي اولاها الإسلام اهمية خاصة سواء على مستوى النظرية او مستوى التطبيق، وهو بحث لايسعه مثل هذا  المقال، وقد تناولت جانبا منه في كتابي الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، وجانبا اخر منه في كتاب الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين.([5])

ولكن اود ان اشير هنا الى عدة نقاط اساسية عامة ذات علاقة بهذا الموضوع:

أولاً: إنّ الله تعالى خلق الإنسان حراً مختاراً ومسؤولاً أمام سلوكه وعمله والحرية الحقيقية للانسان التي اعتبرها الإسلام قيمة وكالا في شخصيته هي حرية  الارادة الانسانية التي عبّر عنها القرآن الكريم بالعبودية المطلقة لله تعالى دون غيره من الإله في مقابل عبودية الشهوات والهوى او عبودية الطغاة والقوة او العبودية والتسليم للضغوط الخارجية كالخوف من الطغاة والمستبدين.

وأمّا الحرية السياسية بمعنى  التعددية السياسية لمجرد الانسجام مع المصالح الشخصية فليست قيمة حقيقية في نظر الإسلام أو مصالح الفئة والجماعة الخاصة إلاّ في حدود رفض الظلم والطغيان والإستبداد والإنسان في اختياره مقيّد بالنظام العام الذي يمثل الحق والعدل وبمصالح الجماعة وتكاملها عندما تتعارض مع مصلحة الفرد ولكن مع ذلك نجد الإسلام قد منح الانسان المسلم هذه الحرية السياسية في المواقف بصورة عملية حتى في الموارد التي يستخدم الانسان حريته بغير حق ومارس الإسلام سياسة غض الطرف عن اتخاذ الاجراءات القهرية وجعل حدّها هو عدم الخروج على اجماع الجماعة او النظام القائم واستخدام القوة ضده او تهديده.

وهذا الموقف الإسلامي في الحرية يعبّر عن حكمة الهية في النظام الإسلامي تنسجم مع الحكمة الالهية في سنن خلق الانسان وتكامله التي تفترض انّ الانسان لا يتكامل الاّ من خلال حريته في اختياره لسلوكه وعمله وممارسته لهذه الحرية في التزام الحق والصواب وطريق العقل والهدى، أو طريق الشهوات والباطل والهوى. مع انّ الله سبحانه ـ كمايشير القرآن الكريم ـ قادر على أن يلزم الانسان بالقهر بسلوك طريق الشريعة، كما ألزم الكثير من امكانيات الكائنات بذلك.

ثانياً: انّ الحرية السياسية في عصرنا الحاضر اصبحت قيمة من القيم الانسانية وجزءا من الثقافة العامة للبشرية والتزمت بها العهود والمواثيق الدولية في النظام العالمي، وقد بدأت هذه الحرية من منطق صحيح وهو مقاومة الظلم والطغيان والاستبداد وهو قيمة إسلامية اصيلة ولكنها تحولت في الثقافة العامة السائدة للحضارة المادية الى معنى أوسع من ذلك وهو الحرية بمعنى التعددية السياسية والليبرالية في الفكر والمعتقد والسلوك بحيث اصبحت قيمة انسانية وليست مجرد سياسة وموقف يختبر به سلوك الانسان ويتكامل من خلاله بل هي التي تزن الحق والعدل لا انّ الحق والعدل هو الذي يزن هذه الحرية ويحددها في سلوك الانسان، وبذلك اصبحت إحدى القضايا المهمة التي تواجهها امتنا الإسلامية في العصر حيث تحتاج امتنا الإسلامية الى تجسيد هذه الحرية بمضمونها الأخلاقي والروحي الأصيل في مقابل الظلم والطغيان النفسي والاجتماعي السياسي من ناحية، والى ممارسة الحرية السياسية كأسلوب في ادارة الحياة السياسية كما أقرّها الإسلام وفرصة لاختبار ارادته الحقيقية للحق والعدل والتكامل من خلال ذلك من ناحية اخرى والمحافظة على القيم الدينية والحق والعدل في الوقت نفسه من ناحية ثالثة، وعلى مصالح الجماعة والنظام من ناحية رابعة.

ثالثاً: انّ المحافظة على الموازنة في تنظيم علاقة الإمام بالأمة والحاكم بالرعية على أساس مبدأ هذه الحرية بمضمونها الإسلامي بعيدا عن الظلم والاستبداد من قبل الحاكم ومنح الأمة فرص ممارسة حريتها في ادارة شؤون حياتها مع المحافظة على النظام الإسلامي والقيم والاخلاق من الاخطار التي قد تهددها هذه الحرية، انّ المحافظة على هذه الموازنة تحتاج الى ضمانات قوية يمكن ان نجدها في تأكيد المواصفات المطلوبة في الحاكم من العلم والعدالة والخبرة وكفاءته الشخصية وفي التربية والتزكية العامة لأبناء الامة في عملية اختبار وممارسة الحرية.

وهذه المسألة من القضايا المعقدة التي شهدها تاريخنا الإسلامي سواء في الصدر الأول للإسلام أو في عهود الامويين والعباسيين([6])، واصبحت الان احدى المسائل المعاصرة الحساسة التي تواجهها الامة ويرتبط مصير وحدتها وتكاملها بها.

رابعا: انّ حدود الحرية التي منحها الإسلام للفرد المسلم هي النظام ومصالح الجماعة ـ كما ذكرنا ـ والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو من الذي يشخّص هذا الحد ومخالفة هذه الحرية للنظام أي للحق والعدل أو مخالفتها لمصالح الجماعة هل هو الحاكم أو الامة، ولو من خلال المؤسسات الدستورية التي نقيمها؟

وبهذا الصدد يمكن ان نقول انّ الإسلام يرى بأنّ الحاكم هو المسؤول عن تشخيص المخالفة للنظام الإسلامي ولهذا السبب تشترط أكثر المذاهب الإسلامية العلم بالإسلام في الحاكم الإسلامي حيث يصبح قادر على تشخيص ما يخالف الإسلام من السلوك السياسي والشخصي العام ولكن تشخيص الحد الثاني وهو مخالفة الحرية والسلوك السياسي والشخصي للمصالح العامة أمر منوط بالامة نفسها وذلك من خلال خبراتها وتجاربها والحاكم له دور الاشراف والشهادة على مسيرة هذه الامة، وذلك في غياب الامام المعصوم، بل يمكن أن يقال في ذلك في القيادة المعصومة ايضا، كما قد تشير اليه (آيتا) الشورى في القرآن الكريم والمدخل للطغيان والاستبداد السياسي، او للعدل والحق السياسي يرتبط بصورة اساسية في أحد ابعاده المهمة بهذا الجانب من التشخيص والحرية.

كما إنّ المدخل الى مشاركة الامة ومنحها دورها الطبيعي في ادارة شؤون حياتها في نظر الإسلام هو هذا الجانب من الحرية والمساهمة في تشخيص مصالحها.

 

الإستبداد وآثاره:

خامساً: إنّ حرمان الأمة من الحرية السياسية ومن دورها في تشخيص المصالح والمفاسد ضمن النظام الإسلامي العام وكذلك من دورها في انتخاب الحاكم وتشخيص الأصلح من المرشحين للحكم الذي تتوفر فيه المواصفات المطلوبة في ظروف غياب الحاكم المعصوم المنصوب من قبل الله تعالى للإمامة، إنّ حرمان الامة من ذلك سوف يؤدي بطبيعة الحال الى نتائج سيئة للغاية:

الاولى: الطغيان والاستبداد ـ كما ذكرنا ـ واشاعة الظلم والفساد ومن ثمّ الحرمان من بركات الارض والسماء كما يشير الى ذلك القرآن الكريم (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا).

الثانية: القضاء على روح الابداع والابتكار والشعور بالمسؤولية والدوافع الذاتية في المبادرة وتحمّل المصاعب وتعطيل طاقات الامة بل هدرها وتبديدها ولاسيما عندما يبدأ الصراع بين الظالم والمظـلوم والطغاة والمستضعفين.

الثالثة: القضاء على روح الاستقلال والعزّة والكرامة الانسانية عندما تستسلم الامة للظلم والطغيان وتتعوّد عليه أو تعم الفوضى والاضطراب وروح الغضب والحقد والانتقام والتفرق والاختلاف وتكون النتيجة الكلية لذلك هو سقوط الامة تحت هيمنة الكفر والاستكبار والاعداء أمّا عسكرياً أو ثقافياً وسياسياً، وذلك عندما تشعر بالدونية او التبعية وتهتز أمام عينها صورة الإسلام الذي تراه في الطاغية المسلم الذي يحرم الانسان من كل حقوقه وتتمثل أمامها صورة الانسان الكافر الذي يلجأ اليه المسلم ليجد عنده الأمن والسلامة والحرية.

كما نشاهده في  عصرنا الحاضر كظاهرة سياسية عامة.

إنّ الأمثلة في تاريخنا الإسلامي والمعاصر على هذه الحقيقة كثيرة، ولكن يمكن أن نذكر في تاريخنا المعاصر ـ ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين ـ مثلين يعبران بصورة جيدة عن هذه الحقيقة ببعديها السلبي والايجابي:

الأول: ما يجري في العراق الجريح البلد العربي المسلم الذي منحه الله تعالى من الخيرات والبركات ما شاء الله فهو بلد الرافدين العظيمين والنفط والكبريت... وبلد التراث الانساني والتاريخ الإسلامي والامكانات المادية والبشرية العظيمة فالنعمة الالهية يكاد لا يماثلها بلد آخر من بلاد المسلمين.

فقد تحوّل هذا البلد الى دمار وتدمير وفقر وفاقة وقتل ومطاردة وإخراج للناس من الديار والأبناء، وعدوان على الأهل والجيران والقيم والإسلام مع استباحة لحرمات البلد وكرامته وسيادته وأمواله من الأجانب. والسبب الأساس في كل ذلك هو الطغيان والاستبداد والحرمان من أبسط الحقوق الانسانية والسياسية للامة والشعب، مع ذلّ وهوان للطاغية أمام الاجانب والكفار وتهديد بالأخطار المروعة للبلد والمنطقة كلها، والناس فيه يتمنون الخلاص مهما كان الثمن وهم يبذلون الغالي والرخيص من أجل ذلك، ثم كيف يمكن للفرد المسلم الذي يتعرض للإذلال والقمع ويراد منه الاستسلام لذلك من قبل الطغاة المحليين أن يكون قادراً على الاحساس بالعزة والكرامة في مقابل الكفر العالمي والهيمنة الاجنبية!!!

الثاني: البلد  الكريم ايران الذي تحققت لامته حريته السياسية ببركة الإسلام وسقوط الطغيان الشاهنشاهي ومشاركة الامة في ادارة شؤونه منذ الايام الاولى لانتصار ثورته الإسلامية واقامة مؤسساتها  الدستورية على أساس الانتخاب والشورى والمشاركة في القرار فكان أن تمكن من الصمود والاستقامة على الدرب أمام كل الضغوط الخارجية والداخلية حتى اذن الله تعالى له بالنصر والاستقرار والأمن وأخذ يتكامل يوما بعد آخر حتى اصبح محط أنظار العالم الإسلامي ومهوى قلوبهم والقدوة التي يتأسّون بها، وكان للقيم الالهية العالية والتعبئة الروحية والتوجه الى الله في العمل والاستمداد من الغيب والتمسك بالإسلام وهذه الحرية والمشاركة الدور الأساس في تحقيق ذلك.

قال تعالى (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه انّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شيء قدراً).

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 


 

 

 

[1]) تناولنا منهج التقريب في فصل مستقل من كتابنا الوحدة الاسلامية في منظور الثقلين وهو الفصل الأخير منه، كما تناولت موضوع (فهم الاسلام وعرضه والدعوة اليه) في بحث مستقل قدّمته الى المؤتمر.

[2]) يحتاج هذا الموضوع الى تفصيل وبيان الفرق بين خطي العقيدة والتزكية لايسعه هذا المقال.

[3]) وكلما تمكن المسلمون من أن يهيئوا الغرض لهذا النوع من ادارة الصراع كانت الغلبة لهم.

[4]) ان هذه الحركة تشبه رسالة عيسى «ع» التي كان محورها ذلك، وأما رسالة النبي «ص» كان أحد محاورها ذلك والمهم في حركة النبي الجانب السياسي وتمكنه من تعبئة المشاعر من خلال الجهاد والتضحية والشعائر الدينية والعمل السياسي.

[5]) راجع الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق ص123 - 128 و197 والوحدة الاسلامية من منظور الثقلين فصل هامش الاختلاف والتعدد ص 188-162.

[6]) هذا الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل لا تسعه هذه المقالة.