كليات الأحوال الشخصية التي اتّفقت عليها المذاهب الإسلاميّة

كليات الأحوال الشخصية التي اتّفقت عليها المذاهب الإسلاميّة

 

 

كليات الأحوال الشخصية التي اتّفقت عليها المذاهب الإسلاميّة

 

 

سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني

أستاذ في الحوزة العلميّة في مدينة قم المقدّسة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وآله الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنّ من دواعي الخير والشرف والفخر لي أنّ أقوم بإلقاء محاضرة فقهية في هذا المجتمع العلميّ المفخّم، والموضوع الذي اخترته للبحث والدراسة، أو عيّن لي هو بيان ما اتّفقت عليه المذاهب الإسلاميّة في الأحوال الشخصية وما اختلفت فيه؛ ومن المعلوم أنّ هذا المؤتمر ليس مؤتمراً فقهياً، وإنّما هو مؤتمر للتقريب، ومؤتمر الوحدة فما هي الصلة بين البحث والهدف الذي أُقيم لأجله هذا المؤتمر؟

الذي أتصوّره - ولعله واضح - أنّ الصلة بين المقال والهدف معلومة لأنّ التقريب يتوقّف على التعرّف على ما عند الطوائف الإسلاميّة من العلوم والأفكار والآراء في مجالي الشريعة والعقيدة، فكيف يمكن للمسلمين بطوائفهم أنّ يتّحدوا ولا يكون عندهم اطلاع على ما عند الطوائف الأخرى من المعارف والأحكام والآراء؟

رحم الله الأستاذ الكبير الشيخ محمّد تقي القمّي، فقد ألقى يوماً محاضرة في مدينة

 

ـ(66)ـ

 

قم المقدّسة قبل أكثر من أربعين سنة فقال: إنّما الهدف هو التقريب لا التذويب، لا نريد من التقريب أنّ تذوب طائفة في طائفة أُخرى وبتعريف أوضح أنّ لا نجعل الشيعي سنّياً ولا السنّي شيعيّا، فهذا ليس ما يهدف إليه التقريب، ولأجل ذلك اخترنا مكان التذويب كلمة التقريب هذا ما سمعته من الأستاذ في محاضرته القيّمة التي ألقاها في مدينة قم المقدسة.

فالهدف هو التقريب: تقريب الخُطى، فقاربوا الخطى أيّها المسلمون.

والتقريب يتوقّف على أُسس ومنها: تعرّف كلّ طائفة على ما عند الطائفة الأخرى في مجالي الشريعة والعقيدة، وليس معنى التعرف إثارة المشاعر، والحسّ الطائفي عند الطوائف الأخرى، وإنّما إلقاء محاضرة هادئة في موضوع فقهي أو عقيدي بشكل واضح وبصورة مبرهنة عن طريق الكتاب والسنّة.

ولأجل هذا الهدف اخترت موضوعي هذا وقد جمعت فيه ما اتفقت عليه المذاهب الإسلاميّة في موضوع فقهي باسم «الأحوال الشخصية»، حتّى يتعرّف المسلمون على ما لديهم من المتوافقات والمختلفات.

ـ(67)ـ

الزواج

العقد وشروطه:

اتّفقوا على أنّ الزواج بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول من المخطوبة والخاطب، أو من ينوب عنهما كالوكيل والولي، ولا يتمّ بمجرّد المراضاة من غير عقد.

اتّفقوا أيضاً على أنّ العقد يصحّ إذا وقع بلفظ زوّجت أو أنكحت من المخطوبة أو من ينوب عنها، وقبلت أو رضيت من الخطب، أو من ينوب عنه.

واتّفقوا أنّ العقد يتمّ بغير العربية مع العجز عنها.

 

شروط العاقدين:

اتّفقوا على شرط العقل والبلوغ في الزواج إلا مع الوليّ، وعلى خلوّ الزوجين من المحرّمات النسبية والسببية الدائمة والمؤقتة المانعة من الزواج.

واتّفقوا أيضاً على وجوب التعيين، فلا يصحّ زوّجتك إحدى هاتين البنتين، ولا زوّجت أحد هذين الرجلين.

ـ(68)ـ

البلوغ:

اتّفقوا على أنّ الحيض والحمل يدلاّن على بلوغ الأُُنثى، أمّا الحمل فلأنّ الولد يتكوّن من اختلاط ماء الرجل والمرأة معاً، وأمّا الحيض فلأنّه في النساء بمنزلة المني في الرجال.

المحرّمات:

يُشترط في صحّة العقد خلوّ المرأة من الموانع، أي تكون محلاً صالحاً للعقد. والموانع قسمان: نسب وسبب؛ الأول: سبعة أصناف، وتقتضي التحريم المؤبّد والثاني: عشرة منها ما يوجب التحريم المؤبّد، وبعضها التحريم المؤقت واليك التفصيل:

 

النسب:

اتّفقوا على أنّ النساء اللاتي يحرمن من النسب سبع:

1 - الأُم، وتشمل الجدّات لأب كنّ أو لاُم.

2 - البنات، وتشمل بنات الابن، وبنات البنت، وإن نزلن.

3 - الأخوات لأب أم لأُم أو لكليهما.

4 - العمّات، وتشمل عمّات الآباء والأجداد.

5 - الخالات، وتشمل خالات الآباء والأجداد.

6 - بنات الأخ، وإن نزلن.

7 - بنات الأُخت، وإن نزلن.

والأصل في ذلك الآية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ

ـ(69)ـ

وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فإنّ لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إنّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(1) فهذه أصناف المحرّمات بالنسب؛ أما أصناف المحرّمات بالسبب فهي:

الأول: المصاهرة: المصاهرة علاقة بين الرجل والمرأة تستلزم تحريم الزواج عينا أو جمعا، وتشمل الحالات التالية:

1 - اتّفقوا على أنّ زوجة الأب تحرم على الابن وإن نزل بمجرّد العقد، سواء أدخل الأب أم لم يدخل، والأصل فيه قولـه تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إنّه كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً﴾(2).

2 - اتّفقوا على أنّ زوجة الأبن تحرم على الأب وإن علا بمجرّد العقد، والأصل فيه قولـه تعالى: ﴿...وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ...﴾(3).

3 - اتّفقوا على أنّ أمّ الزوجة، وإن علت، تحرم بمجرّد العقد على البنت، وإن لم يدخل، لقوله تعالى ﴿...وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ...﴾(4).

4 - اتّفقوا على أنّ بنت الزوجة لا تحرم على العاقد بمجرد وقوع العقد، فيجوز لـه إذا طلّقها قبل أنّ يدخل وينظر ويلمس بشهوة أنّ يعقد على ابنته، لقوله سبحانه: ﴿... وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ...﴾(5). وقيد ﴿في حُجُوِركُمْ﴾ بيان للأغلب، واتّفقوا على تحريم البنت إذا عقد الرجل على الأُم ودخل.

واتّفقوا على أنّ حكم وطء الشبهة حكم الزواج الصحيح في ثبوت النسب، وحرمة المصاهرة. ومعنى وطء الشبهة أنّ تحصل المقاربة بين رجل وامرأة باعتقاد أنّهما زوجان شرعيّان، ثمّ يتبيّن أنّهما أجنبيّان، وأنّ المقاربة حصلت لمحض الاشتباه، ويفرق ينها حالاًَ، وتجب العدّة على المرأة، ومهر المِثل على الرجل، ويثبت بالشبهة النسب، و

___________________________

1 - سورة النساء: 23.

2 - سورة النساء: 22.

3 - سورة النساء: 23.

4 - سورة النساء: 23.

5 - سورة النساء: 23.

ـ(70)ـ

حرمة المصاهرة، ولا توارث بينهما، ولا نفقة للمرأة.

الثاني: الجمع بين المحارم:

اتّفقوا على تحريم الجمع بين الأُختين، لقوله تعالى: ﴿... وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ...﴾(1).

الثالث: الزنا.

الرابع: عدد الزوجات:

اتّفقوا على أنّ للرجل أنّ يجمع بين أربع نساء، ولا تجوز لـه الخامسة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَأنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فإنّ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾(2) وإذا خرجت إحداهن من عصمة الزوج بموت أو طلاق جاز لـه التزوّج من أخرى.

الخامس: اللعان:

اتّفقوا جميعاً على وجوب التفرقة بينهما بعد الملاعنة.

السادس: عدد الطلاق:

اتّفقوا على أنّ الرجل إذا طلّق زوجته ثلاثاً بينهما رجعتان حرمت عليه، ولا تحلّ لـه حتّى تنكح زوجاً غيره، وذلك أنّ تعتدّ بعد الطلاق الثالث، وعند انتهاء العدّة تتزوّج زواجاً شرعياً دائماً، ويدخل بها الزوج، فإذا فارقها الثاني بموت أو طلاق وانتهت عدّتها جاز للأول أنّ يعقد عليها ثانية، فإذا عاد وطلقها ثلاثاً حرمت عليه حتّى تنكح زوجاً غيره، وهكذا تحرم عليه بعد كلّ طلاق ثالث، وتحلّ لـه بمحلّل وإن طلّقت مائة مرة، وعلى هذا يكون الطلاق ثلاثا من أسباب التحريم المؤقّت لا المؤبّد.

السابع: اختلاف الدين:

اتّفقوا على أنّه لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة التزويج ممّن لا كتاب سماويّ لهم،

___________________________

1 - سورة النساء: 23.

2 - سورة النساء: 3.

ـ(71)ـ

ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان والنيران والشمس وسائر الكواكب وما يستحسنونه من الصور، وكلّ زنديق لا يؤمن بالله.

الثامن: الرضاع:

اتّفقوا جميعاً على صحّة الحديث: ,«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وعليه فكلّ امرأة حرمت من النسب تحرم مثلها من الرضاع، فأيّ امرأة تصير بسبب الرضاع أمّاً أو بنتاً أو أُختاً أو عمّة أو خالة أو بنت أخ أو بنت أخت يحرم الزواج منها بالاتفاق.

واتّفقوا على أنّ صاحب اللبن؛ وهو زوج المرضعة يصير أباً للرضيع، ويحرم بينهما ما يحرم بين الآباء والأبناء، فأُم صاحب اللبن جدّة للرضيع، وأخته عمّة لـه، كما تصبح المرضعة أُمّاً لـه، وأُمّها جدّة، وأختها خالة.

التاسع: العدّة:

اتّفقوا على أنّ المعتدّة لا يجوز العقد عليها، كالمتزوّجة تماماً، سواءً كانت معتدّة من وفاة، أو طلاق رجعي أو بائن، لقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾(1) وقوله ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(2) والتربّص معناه الصبر والانتظار.

الصغر والجنون والسفه:

اتّفقوا على أنّ للولي أنّ يزوّج الصغير والصغيرة، والمجنون والمجنونة.

واتّفقوا على أنّ للحاكم العادل أنّ يزوّج المجنون والمجنونة إذا لم يوجد الولي القريب، لحديث: «السلطان وليّ من لا وليّ لـه».

واتّفقوا على أنّ من شرط الولاية بلوغ الولي وإسلامه وذكوريّته.

___________________________

1 - سورة البقرة: 228.

2 - سورة البقرة: 234.

ـ(72)ـ

ـ(73)ـ

في العيوب

العنن:

اتّفقوا على أنّ المرأة إذا ادّعت العنّة على زوجها وأنكر، فعليها إقامة البينة على اعترافه بأنّه عنّين، فإنّ لم تكن بيّنة ينظر، فإنّ كانت بكراً عُرضت على النساء الخبيرات وعمل بقولهن، وإن كانت ثيّباً عرض عليه اليمين لأنّه منكر، إذ تدّعي هي وجود عيب فيه موجب للخيار، فإنّ حلف ردّت دعواها، وإن نكل حلفت هي، ثمّ يؤجّله القاضي سنة قمرية، فإنّ لم ينفعها طوال سنة خيّرها القاضي بعد انتهاء المدّة بين البقاء معه والفسخ، فإنّ اختارت البقاء فالأمر إليها، وإن اختارت الفسخ فسخت هي، أو فسخ الحاكم بطلبٍ منها.

المهر:

حقٌّ من حقوق الزوجة بحكم الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين؛ وهو نوعان:

الأول: المهر المسمّى: وهو ما تراضا عليه الزوجان، وسمّياه في متن العقد، ولا حدّ

ـ(74)ـ

لأكثره بالاتفاق، لقوله تعالى:﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾(1).

الثاني: مهر المثل، ويعتبر في حالات:

1ـ اتّفقوا على أنّ المهر ليس ركناً من أركان العقد، كما هي الحال في البيع، بل هو أثر من آثاره فيصحّ عقد الزواج بدونه، ويثبت مهر المثل بالدخول، وإذا طلّقها قبل الدخول فلا تستحقّ مهراً، ولها المتعة، وهي هديّة يقدّمها الرجل للمرأة بحسب حاله، كخاتم وثوب، وما إلى ذلك، فإنّ تراضيا عليها فبها، وإلاّ فرضها الحاكم.

2 - الوطء بشبهة يوجب مهر المثل بالاتفاق، والوطء بشبهة هو الوطء الذي ليس بمستحق في الواقع، مع جهل فاعله بعدم الاستحقاق، كمن تزوّج امرأة يجهل أنّها أُخته من الرضاعة ثمّ تبيّن ذلك، أو قاربها بمجرّد أنّ وكّلت وكيلا بزواجها منه، ووكّل هو بزواجه منها باعتقاد أنّ هذا التوكيل كاف لجواز المقاربة.

تعجيل المهر وتأجيله:

اتّفقوا على أنّ المهر يجوز تعجيله وتأجيله كُلاًّ وبعضاً، على شريطة أنّ يكون معلوماً بالتفصيل، كما لو قال: تزوّجتك بمائة، منها خمسون معجّلة، ومثلها مؤجّلة إلى سنة.

امتناع الزوجة حتّى تقبض المهر:

اتّفقوا على أنّ للزوجة أنّ تطالب الزوج بكامل مهرها المعجّل بمجرّد إنشاء العقد، وأنّ لها أنّ تمتنع منه حتّى تقبضه.

___________________________

1 - سورة النساء: 20.

ـ(75)ـ

نصف المهر:

اتّفقوا على أنّ العقد إذا جرى مع ذكر المهر، ثمّ طلّق الزوج قبل الدخول سقط نصف المهر، وإذا جرى العقد بدون ذكر المهر فلا شيء لها إلاّ المتعة، لقوله تعالى ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنّ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ $ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنّ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أنّ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1).

فإذا لم يكن الزوج قد دفع شيئاً لمن سمّى لها مهراً وطلّقها قبل الدخول فعليه أنّ يدفع لها نصف المهر، وإن كان دفعه كاملاً استعاد نصفه إنّ كان باقياً، ونصف بدله من المثل أو القيمة إنّ تلف.

النسب:

أقل مدّة الحمل: اتفقت كلمة المذاهب الإسلاميّة من السنّة والشيعة على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّ الآية 15 من سورة الأحقاف نصّت على أنّ حمل الولد ورضاعه ثلاثون شهراً ﴿... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا...﴾ والفصال هو الرضاع، ثمّ نصّت الآية 14 من سورة لقمان على أنّ الرضاع يكون في عامين ﴿... وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...﴾ ومتى أسقطنا العامين من الثلاثين شهراً يبقى ستة أشهر، وهي أقل مدّة الحمل، والطب الحديث أيضاً أيّد ذلك.

___________________________

سورة البقرة: 236 - 237.

ـ(76)ـ

الحضانة:

شروط الحاضنة: اتّفقوا على أنّه يشترط في الحاضنة أنّ تكون عاقلة أمينة عفيفة، لا فاجرة ولا راقصة، ولا تشرب الخمر ولاتهمل رعاية الطفل؛ والغاية من هذه الصفات الاحتفاظ بالطفل صحيّاً وخُلُقياً؛ وهذه الشروط معتبرة أيضاً في الحاضن.

استحقاق النفقة:

أجمع المسلمون على أنّ الزوجية سبب من أسباب وجوب النفقة، وكذلك القرابة، وقد نصّ الكتاب الكريم على نفقة الزوجة بقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أنّ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فإنّ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أنّ تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1). والمراد بهنّ الزوجات والمولود لـه الزوج. ومن الحديث: «حقّ المرأة على زوجها أنّ يشبع بطنها، ويكسو جنبها، وإن جهلت غفر لها» وأشار القرآن إلى نفقة الأقارب بقوله: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾(2). وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنت ومالك لأبيك».

نفقة الزوجة والمعتدّة:

اتّفقوا على وجوب الإنفاق على الزوجة بالشروط الآتية، وعلى المعتدّة من طلاق رجعي؛ واتّفقوا على أنّ المعتدّة من وطء الشبهة لا نفقة لها.

واتّفقوا على أنّ الزوجة الناشزة لا نفقة لها.

___________________________

1 - سورة البقرة: 233.

2 - سورة النساء: 36.

ـ(77)ـ

تقدير النفقة:

اتّفقوا على أنّ نفقة الزوجة تجب بأنواعها الثلاثة: المأكل والملبس والمسكن؛ واتّفقوا أيضاً على أنّ النفقة تقدّر بنفقة اليسار إذا كان الزوجان موسرين، وبنفقة الإعسار إذا كانا معسرين؛ والمراد بيسر الزوجة وعسرها يسر أهلها وعسرهم، ومستوى حياتهم ومعيشتهم.

ـ(78)ـ

ـ(79)ـ

 

الطلاق

طلاق الولي:

اتّفق الجميع على أنّ السفيه يصحّ طلاقه وخلعه.

المطلّقة:

يُشترط في المطلّقة أنّ تكون زوجة باتّفاق الجميع.

واتّفق السنّة والشيعة على أنّ الإسلام قد نهى عن طلاق الزوجة البالغة المدخول بها غير الحامل إذا كانت غير طاهر، أو في طهر واقعها فيه.

الطلاق رجعي وبائن:

ينقسم الطلاق إلى رجعي وبائن؛ واتّفقوا على أنّ الطلاق الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج الرجوع إلى المطلّقة ما دامت في العدّة سواء أرضيت أم لم ترضَ، ومن شرطه أنّ تكون المرأة مدخولاً بها، لأنّ المطلقة قبل الدخول لا عدّة لها، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا

ـ(80)ـ

الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثمّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنّ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(1) ومن شرط الطلاق الرجعي أيضاً أنّ لا يكون على بذل مال، وأن لا يكون مكمّلاً للثلاث.

والمطلّقة الرجعية بحكم الزوجة، وللمطلّق كلّ حقوق الزوج فيحصل التوارث بين الزوجين لو مات أحدهما قبل انتهاء العدَّة، ولا يحلّ المهر المؤجل لأقرب الأجلين إلا بعد مضي العدَّة دون أنّ يرجعها المطلّق إلى عصمته، وبالجملة فالطلاق الرجعي لا يحدث شيئاً سوى عدّة من الطلقات الثلاث.

أمّا الطلاق البائن فلا يملك فيه المطلّق الرجوع إلى المطلّقة، وهو يشمل عدداً من المطلّقات:

1 - غير المدخول بها بالاتّفاق.

2 - المطلّقة ثلاثاً بالاتّفاق.

المطلّقة ثلاثاً:

اتّفقوا على أنّ من طلّق زوجته ثلاثاً لا تحلّ لـه حتّى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً، ويدخل بها المحلّل حقيقةً، لقوله تعالى: ﴿فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنّ يَتَرَاجَعَا إنّ ظَنَّا أنّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(2).

 

الخلع:

اتّفقوا على أنّ الفدية يجب أنّ تكون ذات قيمة وأنّه يجوز أنّ تكون بمقدار المهر أو أقلّ أو أكثر.

___________________________

1 - سورة الأحزاب: 49.

2 - سورة البقرة: 230.

ـ(81)ـ

وكلّ ما يصحّ أنّ يكون مهراً يصحّ أنّ يكون فديةً في الخلع بالاتفاق، ولا يشترط أنّ يكون معلوماً بالتفصيل إذا آل أمره إلى العلم، مثل اخلعني على ما في البيت أو في الصندوق أو على ميراثي من أبي أو ثمرة بستاني وإذا خالعته على إرضاع ولده ونفقته مدّة معيّنة صحّ ولزمها القيام بالرضاع والنّفقة بالاتّفاق.

 

شروط الزوجة المخالعة:

اتّفقوا على أنّ الزوجة المخالعة يجب أنّ تكون بالغة عاقلة،واتّفقوا أيضاً على أنّ السفيهة لا يصحّ خلعها من غير إذن الوليّ.

شروط الزوج المخالع:

اتّفقوا على اشتراط العقل في الزوج؛ واتّفقوا على صحّة الخلع من السفيه، ولكن المال يسلّم إلى وليّه، ولا يصحّ تسليمه لـه. أمّا الخلع من المريض مرض الموت فيصحّ بلا ريب، لأنّه لو طلّق بغير عوض لصحّ، فالطلاق بعوض أولى.

 

العدّة:

أجمع المسلمون كافّة على وجوب العدّة في الجملة؛ والأصل فيه الكتاب والسنّة، فمن الكتاب قولـه تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾(1) ومن السنّة قولـه صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أمّ مكتوم».

ـ(82)ـ

عدّة المطلّقة:

اتّفقوا على أنّ المطلّقة قبل الدخول والخلوة لا عدّة عليها، واتّفقوا على وجوب العدّة على من طلّقت بعد الدخول، وأنّها تعتدّ بواحد من ثلاثة على التفصيل التالي:

1 - تعتدّ بوضع الحمل بالاتّفاق إذا كانت حاملاً لقوله تعالى ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنّ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أنّ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾(1) وإذا كان الحمل أكثر من واحد فلا تخرج من العدّة إلاّ بوضع الأخير بالإجماع.

2 - أنّ نعتدّ بثلاثة أشهر هلاليّة، وهي التي بلغت ولم ترَ الحيض أبداً.

3 - تعتدّ بثلاثة قروء، وهي من أكملت التسع ولم تكن حاملاً، ولا آيسة، وكانت من ذوات الحيض بالاتّفاق.

 

عدّة الوفاة:

اتّفقوا على عدّة المتوفّى عنها زوجها - وهي غير حامل - أربعة أشهر وعشرة أيّام كبيرة كانت أم صغيرة، آيسة أو غيرها، دخل بها أم لم يدخل، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(2).

واتّفقوا على وجوب الحداد على المتوفّى عنها زوجها؛ ومعنى الحداد أنّ تجتنب المرأة الحادة على زوجها كلّ ما يحسّنها، ويرغب في النظر إليها، ويدعو إلى اشتهائها وتشخيص ذلك يعود إلى أهل العرف.

اتّفقوا على أنّ المطلّقة طلاقاً رجعياً إذا توفّي زوجها، وهي في أثناء العدّة فعليها أنّ تستأنف عدّة الوفاة من حين موته، سواء كان الطلاق في حال مرض الموت، أو في حال

___________________________

1 - سورة الطلاق: 4.

2 - سورة البقرة: 234.

ـ(83)ـ

الصحّة، لأنّ العصمة بينها وبين المطلّق لم تنقطع بعد، أمّا لو كان الطلاق بائناً فينظر، فإنّ كان قد طلّقها في حال الصحّة أتمّت عدّة الطلاق، ولا عدّة عليها بسبب الموت بالاتفاق، حتّى لو كان الطلاق بدون رضاها، وكذلك الحال إذا طلّقها في مرض الموت.

 

عدّة الكتابية:

اتّفقوا على أنّ الكتابيّة إذا كانت زوجةً لمسلم فحكمها حكم المسلمة من حيث وجوب العدّة عليها، والحداد في عدّة الوفاة.

 

 

زوجة المفقود:

فإذا كان الغائب غيبة غير منقطعة بحيث يعرف موضعه، فهذا لا يحلّ لزوجته أنّ تتزوّج بالاتفاق.

 

التوارث بين المطلق والمطلقة:

اتّفقوا على أنّ الرجل إذا طلّق امرأته رجعياً لم يسقط التوارث بينهما مادامت في العدّة، سواءٌ كان الطلاق في مرض الموت أو في حال الصحّة، ويسقط التوارث بانقضاء العدّة؛ واتّفقوا أيضاً على عدم التوارث إنّ طلَّقها طلاقاً بائناً في حال الصحّة.

 

أين تعتدّ المطلَّقة ؟

اتّفقوا على أنّ المطلّقة رجعياً تعتدّ في بيت الزوج، فلا يجوز لـه إخراجها، كما لا يجوز لها أنّ تخرج منه.

ـ(84)ـ

زواج الأُخت في عدّة أختها:

إذا تزوّج الرجل امرأة حرم عليه أنّ يجمع بينها وبين أُختها، فإذا توفيت أو طلّقها، وانتهت العدة حلّ لـه العقد على أُختها؛ وهل يحلّ لـه أنّ يعقد على أُخت المطلّقة قبل أنّ تنتهي عدّتها ؟ اتّفقوا على تحريم العقد على أُخت المطلَّقة قبل انتهاء العدّة إذا كان الطلاق رجعياً.

 

الرجعة:

الجرعة في اصطلاح الفقهاء: ردّ المطلَّقة واستبقاء زواجها، وهي جائزة بالإجماع، ولا تفتقر إلى وليّ ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها لقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾(1) وقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾(2) أي إذا أشرفن على انتهاء أجل عدّتهن. وقد اتّفقوا على أنّه يشترط في المرتجعة أنّ تكون في عدّة الطلاق الرجعي فلا رجعة للبائن غير المدخول بها لأنّه لا عدّة لها، ولا للمطلَّقة ثلاثاً، لأنّها تفتقر إلى محلّل ولا للمطلّقة في الخلع بعوض، لانقطاع العصمة بينهما.

واتّفقوا على أنّ الرجوع يحصل بالقول، واشترطوا أنّ يكون اللفظ منجّزاً غير معلّق على شيء، فلو أنشأ الجرعة معلّقة، وقال: أرجعتك إنّ شئت فلا تصحّ الرجعة، وعلى ذلك فإذا لم يصدر منه بعد هذا القول فعل أو لفظ منجّز يدل على الرجعة حتّى انتهت العدّة تكون المطلّقة أجنبيّة عنه.

___________________________

1 - سورة البقرة: 228.

2 - سورة الطلاق: 2.

ـ(85)ـ

الظهار:

وهو أنّ يقول الرجل لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي؛ وقد اتّفقوا على أنّه إذا قال لها ذلك فلا يحلّ لـه وطؤها حتّى يكفّر بعتق رقبة، فإنّ عجز عنها صام شهرين متتابعين، فإنّ عجز عن الصيام أطعم ستين مسكيناً. واتّفقوا على أنّه إذا وطأ قبل أنّ يكفّر يعتبر عاصياً.

الإيلاء:

الإيلاء: أنّ يحلف الزوج بالله على ترك وطء زوجته، والأصل فيه قولـه تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فإنّ فَآؤُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ $ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فإنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1). واتّفقت المذاهب على أنّ الإيلاء يقع إذا حلف الزوج على ترك وطء الزوجة مدّة حياتها، أو مدّة تزيد على أربعةِ أشهر.

واتّفقوا على أنّه إذا وطأ في الأربعة أشهر يكفّر، ويزول المانع من استمرار الزواج.

واتّفقوا جميعاً على أنّ كفّارة اليمين أنّ يخيّر الحالف بين إطعام عَشَرَةِ مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإنّ لم يجد فصيام ثلاثة أيّام.

___________________________

1 - سورة البقرة: 226 - 227.

ـ(86)ـ

ـ(87)ـ

الوصايا

الوصايا

 

أجمعوا على صحّة الوصية، وجوازها في الشريعة الإسلاميّة، وهي تمليك عين أو منفعة مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرّع، وتصحّ في حالة الصحّة والسلامة من الأمراض، وفي مرض الموت وغيره، وحكمها في الحالين سواء عند الجميع.

أركان الوصية:

وهي أربعة: الصيغة، والمُوصي، والمُوصى لـه، والمُوصى به.

الصيغة:

ليس للوصيّة لفظ خاصّ، فتصحّ بكلّ لفظ يعبّر عن إنشاء التمليك بعد الموت تبرّعاً، فإذا قال الموصي: أوصيت لفلان بكذا دلّ اللفظ بنفسه على الوصيّة دون أنّ يقيد بما بعد الموت، أمّا إذا قال اعطوا أو ادفعوا أو جعلتُ، أو لفلان كذا، فلا بدّ من التقييد بما بعد

ـ(88)ـ

الموت، لأنّ اللفظ لا يدلّ على قصد الوصيّة بدونه.

 

المُوصي:

اتّفقوا جميعاً على أنّ وصيّة المجنون في حال جنونه، والصبيّ غير المميِّز لا تصحّ.

 

المُوصى لـه:

اتّفقوا جميعاً على أنّ للذّميّ أن يوصي لمثله، ولمسلم، وعلى أنّ للمسلم أنّ يوصي للذمي، لقوله تعالى ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أنّ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إنّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ $ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أنّ تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).

واتّفقوا على صحّة الوصية للحمل بشرط انفصاله حيّاً، لأنّ الوصيّة تجري مجرى الميراث، والحمل يرث بالإجماع، فيجب أنّ يملك المُوصى به أيضاً.

واتّفقوا على صحّة الوصيّة للجهات العامّة، كالفقراء والمساكين وطلبة العلم والمدارس.

 

المُوصى به:

اتّفقوا على أنّ الشيء الموصى به يجب أنّ يكون قابلاً للتمليك، كالمال والدار ومنافعها، فلا تصحّ الوصية بما لا يقبل التمليك عرفاً كالحشرات، أو شرعاً كالخمر إذا كان المُوصي مسلماً، لأنّ التمليك أُخِذَ في مفهوم الوصيّة فإذا انتفى لم يبقَ لها موضوع.

___________________________

1 - سورة الممتحنة: 8 - 9.

ـ(89)ـ

واتّفقوا على صحّة الوصية بثمرة البستان سنةً معيّنةً، أو دائماً.

 

مقدار الوصيّة:

تنفّذ الوصيّة التبرعيّة في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث، سواء أصدرت في المرض أم الصحّة، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة بالاتفاق. فإنّ أجازوا جميعاً جازت الوصيّة وإن رفضوا بطلت، وإن أجاز بعض دون بعض نفذت في حقّ المُجيز فيما زاد عن الثلث، ولا أثر لإجازة الوارث إلا إذا كانت من العاقل البالغ الراشد.

 

تزاحم الوصايا:

اتّفقوا على أنّ الوصية ليست لازمة من طرف الموصي، ولا من طرف الموصى لـه، فللأوّل الرجوع عن وصيّته، سواء كانت بعين أو بمنفعة أو بولاية، ويتحقَّق رجوع الموصي بالقول وبالفعل؛ مثل أنّ يوصي بطعام فيأكله، أو يهبه أو يبيعه.

 

الوصيّة بالمنفعة:

اتّفقوا على صحّة الوصيّة بالمنافع، كإجار الدار، وسكناها، وثمرة البستان، ولبن الشاة، وما إلى ذلك من المنافع التي ستحدث، سواء حصر المنفعة في مدّة معينة أو أطلقها في كلّ زمان.

ـ(90)ـ

الوصاية:

اتّفقوا على أنّ للميّت أنّ يجعل الوصاية لاثنين أو أكثر، فإنّ نصّ على أنّ لكلّ منهما الاستقلال في التصرُّف عُمِلَ بنصّه. وكذا إذا نصّ على العمل مجتمعين فليس لأحدهما الانفراد عن الآخر.

 

إثبات الوصيّة:

اتّفقوا على أنّ الوصيّة بالمال والمنفعة تثبت بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين من عدول المسلمين، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أنّ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحقّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فإنّ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحقّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنّ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فإنّ لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أنّ تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أنّ تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أنّ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1).

___________________________

1 - سورة البقرة: 282.

ـ(91)ـ

المواريث

الورثة وتركة الميت:

اتّفقوا على أنّ التركة تنتقل إلى ملك الورثة بمجرّد الموت إذا لم يكن هناك دين ولا وصية، كما اتّفقوا أيضاً على انتقال ما زاد على الدين والوصية إلى الورثة.

 

موانع الإرث:

اتّفقوا على أنّ موانع الإرث ثلاثة: اختلاف الدّين والقتل والرق.

ففي موضوع اختلاف الدّين اتّفقوا على أنّ غير المسلم لا يرث المسلم.

الغلاة:

اتّفق المسلمون كلمة واحدة على أنّ الغُلاة مشركون ليسوا من الإسلام والمسلمين في شيء.

ـ(92)ـ

منكر الضرورة:

اتّفقوا على كفر من أنكر شيئاً ثابتاً ومعلوماً من الدين بالضرورة، فقال للحرام: هذا حلال، وللحلال: هذا حرام، ودان بذلك فعندها يخرج من الإسلام، ويدخل في الكفر، ومن هذا الباب من كفّر مسلما.

 

القتل:

اتّفقوا على أنّ القتل عمداً بغير حقّ يمنع من الإرث، لحديث «لا ميراث لقاتل» ولأنّه تعجّل الميراث فعومل بخلاف قصده.

 

توزيع التركة:

لا خلاف في أنه يبدأ أول ما يبدأ في توزيع التركة بأصحاب الفروض المقدّرة في كتاب الله، وأنّ الفروض ستّة لا غير.

 

الحجب:

وهو منع بعض الأقارب عن الإرث.

اتّفقوا على أنّ الأبوين والأولاد والزوجين لا يحجبون حجب حرمان، وأنّهم متى وجدوا أخذوا حظّهم من الميراث، لا يمنعهم عنه مانع، لأنّهم أقرب الجميع إلى الميّت يمتّون إليه بلا واسطة، وغيرهم يتقرّب به بالواسطة.

واتّفقوا على أنّ الابن يمنع الإخوة والأخوات من الميراث، وبالأولى الأعمام والأخوال وابن الابن تماماً كالابن عند فقد الابن، يرث كما يرث، ويحجب كما يحجب

ـ(93)ـ

واتّفقوا على أنّ الأب يمنع الإخوة والأخوات من الميراث، ويمنع الجد لأب أيضاً.

واتّفقوا على أنّ كلاًّ من الجدّ والأخ يحجب الأعمام، وأنّ الولد ذكراً كان أو أنثى يحجب الزوج من النصف إلى الربع، والزوجة من الربع إلى الثمن واختلفوا في أقلّ ما يحجب الأُم من الثلث إلى السدس.

 

ولد الملاعنة:

واتّفقوا على أنّه لا توراث بين الزوجين المتلاعنين، ولا بين ولد الملاعنة وأبيه، ومن يتقرّب بالولد من جهة الأب، وعلى أنّ التوارث يتحقّق بين الولد وأُمّه، ومن يتقرّب بها، ويتساوى في ميراثه من يتقرّب بأبويه ومن يتقرّب بأُمّه فقط، فإخوته لأبيه وإخوته لأُمّه سواء.

 

زواج المريض وطلاقه:

اتّفقوا على أنّ المريض إذا طلّق زوجته، ومات قبل أنّ تنقضي العدّة فإنّها ترثه، سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً ولا ترث بالاتّفاق إذا مات بعد انقضاء عدّتها وزواجها من غيره.

ميراث الأب:

لميراث الأب حالات:

1 - اتّفقوا على أنّ الأب إذا انفرد عن الأُم والأولاد وأولادهم وعن الجدّات وأحد الزوجين حاز المال كلّه.

2 - إذا كان معه أحد الزوجين أخذ نصيبه الأعلى، والباقي للأب بالاتّفاق.

ـ(94)ـ

3 - إذا كان معه ابن أو بنون أو بنات، أو ابن ابن وإن نزل، يأخذ الأب السدس، والباقي للآخر أو للآخرين بالاتّفاق.

 

ميراث البنين:

الابن المنفرد عن الأبوين وأحد الزوجين يأخذ المال بكامله، وكذا الابنان والبنون، وإذا اجتمع البنات والبنون اقتسموا للذكر مثل حظّ الانثيين. والابن والابن يحجب أولاد الأولاد والاخوة والأخوات والأجداد والجدّات بالاتفاق، وابن الابن كالابن عند عدمه بدون خلاف.

 

ميراث الجدّات:

اتّفقوا على أنّ الأمّ تمنع من الميراث جميع الجدّات من أيّة جهة كانت.

 

ميراث الزوجين:

اتّفقوا على أنّ كلاً من الزوج والزوجة يشارك في الميراث جميع الورثة دون استثناء، وعلى أنّ للزوج النصف من تركة الزوجة إذا لم يكن لها ولد منه ولا من غيره، والربع إذا كان لها ولد منه أو من غيره، وعلى أنّ للزوجة الربع إذا لم يكن للزوج ولد منها أو من غيرها، والثمن إذا كان لـه ولد منها أو من غيرها.

 

أموال المفقود:

اتّفقوا على أنّه يجب التربُّص في تقسيم أمواله، حتّى تمضي مدّة لا يعيش في مثلها ويرجع ذلك إلى نظر القاضي واجتهاده، وتختلف هذه المدّة باختلاف الزمان والمكان

ـ(95)ـ

ومتى حكم القاضي بموته ورثه الأولى بميراثه عند الحكم، لا من مات من أقاربه قبل ذلك.

قد تعرّفت على الأحكام المشتركة التي اتَّفقت عليها المذاهب الإسلاميّة في باب الأحوال الشخصية. وهناك مسائل تضاربت فيها أقوالهم، وللتعرّف عليها نأتي بنماذج منها مشفوعة بالدليل. والرجاء من القارئ الكريم أنّ ينظر إليها نظرةً فاحصةً مجرّدةً عن كلّ رأي مسبق.

ـ(96)ـ

ـ(97)ـ

الإشهاد على الطلاق

 

وممّا انفردت به الإماميّة، القول:بأنّ شهادة عدلين شرط في الطلاق، ومتى فُقد لم يقع الطلاق وخالف باقي الفقهاء في ذلك(1).

وقال الشيخ الطوسي: كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط، فإنّه لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة(2).

لا تجد عنواناً للبحث في الكتب الفقهيّة لأهل السنّة وإنّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قولـه سبحانه: ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾(3).

وهم بين من يجعلونه قيدا للطلاق والرجعة، ومن يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قولـه: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾.

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قولـه سبحانه: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ

___________________________

1 - المرتضى، الانتصار 127 - 128.

2 - الطوسي، الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 5.

3 - سورة الطلاق: 2.

ـ(98)ـ

تارة بالرجعة وقال: أشهدوا على الإمساك إنّ أمسكتموهنّ وذلك هو الرجعة، وأُخرى بها وبالطلاق وقال: عند الطلاق وعند المراجعة.

 ونقل عن ابن عباس: أنّه فسّرها بالطلاق والرجعة(1).

وقال السيوطي: أخرج عبدالرزاق عن عطاء قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود.

وسئل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد، وراجع ولم يشهد ؟ قال: بئس ما صنع طلّق في بدعة وارتجع في غير سنّة فليشهد على طلاقه مراجعته وليستغفر الله(2).

قال القرطبي: قولـه تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ أمرنا بالإشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: ﴿... وَأشْهِدُوا إذاَ تَبَايَعْتُمْ...﴾(3) وعند الشافعي واجب في الرجعة(4).

وقال الآلوسي ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ عند الرجعة إنّ اخترتموها أو الفرقة إنّ اخترتموها تبرّياً عن الريبة(5).

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

وممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان: أحمد محمّد شاكر القاضي المصيري، والشيخ أبو زهرة. قال الأوّل بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق: والظاهر من سياق الآيتين أنّ قولـه ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ راجع إلى الطلاق إلى والرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنّ مدلوله حقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلاّ بقرينة ولا قرينة هنا

___________________________

1 - الطبري، جامع البيان 22: 88.

2 - السيوطي، الدر المنثور 6: 232، وعمران بن حصين من كبار أصحاب الإمام علي عليه السلام.

3 - سورة البقرة: 282.

4 - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 18: 157.

5 - الآلوسي، روح المعاني 28: 134.

ـ(99)ـ

تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب – إلى أنّ قال: فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدّى حدود الله الذي حدّه لـه فوقع عمله باطلاً، لا يترتّب عليه أي أثر في آثاره – إلى أنّ قال: - وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنّه ركن من أركانه، ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه (1).

وقال أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الإمامية الإثنا عشريّة والإسماعيليّة: إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين، لقوله تعالى في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا $ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً﴾ فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أنّ يكون راجعاً إليه، وإنّ تعليل الإشهاد بأنّه ﴿... يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾. يرشّح ذلك ويقوّيه، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.

وأنّه لو كان لنا أنّ نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين(2).

وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها، وبين من يقول برجوعه إليها وإلى الطلاق، ولم يقل أحد برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النصّ، التدّبر

_______________________________________

1 - أحمد محمّد شاكر، نظام الطلاق في الإسلام: 118 – 119.

2 - أبو زهرة، الأحوال الشخصيّة: 365 كما في الفقه على المذاهب الخمسة: 131 (والآية: 2 و 3 من سورة الطلاق).

ـ(100)ـ

والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه.

قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا $ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾(1).

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ: اقترابهنّ من آخر زمان العدَّة واشرافهنّ عليه. والمراد بإمساكهنّ: الرجوع على سبيل الاستعارة، كما إنّ المراد بمفارقتهنّ: تركهنّ ليخرجن من العدّة ويبنَّ.

لا شك أنّ قوله: ﴿... وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ...﴾ ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة:

1 - أنّ يكون قيد لقوله: ﴿... فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾.

2 - أنّ يكون قيداً لقوله: ﴿... فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾.

3 - أنّ يكون قيداً لقوله: ﴿... أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾.

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأوّل أو الثاني، فالظاهر رجوعه إلى الأوّل وذلك لأنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق وقد افتتحت بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء...﴾ فذكرت للطلاق عدّة أحكام:

1 - أنّ يكون الطلاق لعدّتهنّ.

_______________________________________

1 - سورة الطلاق: 1 – 2.

ـ(101)ـ

2 - إحصاء العدّة.

3 - عدم خروجهنّ من بيوتهنّ.

4 - خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند اقتران عدّتهنّ.

5 - إشهاد ذوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ.

6ـ عِدّة المسترابة.

7 - عدّة من لا تحيض وهي في سنن من تحيض.

8 - عِدّة أُولات الأحمال.

وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق لأنّه المقصود الأصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله:﴿فَأمْسِكُوهُنَّ﴾ وقد ذكر تبعاً.

وهذا هو المروي عن أئمّتنا عليهم السلام؛ روى محمّد بن مسلم قال: قَدِم رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة فقال: إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طَهُرت من محيضها قبل أن أُجامعها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أأشهدت رجلين ذوَي عدل كما أمرك الله ؟ فقال: لا، فقال: أذهب فإنّ طلاقك ليس بشيء(1).

وروى بكير بن أعين عن الصادقَين عليهما السلام أنّهما قالا: وإن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إيّاها بطلاق(2).

وروى محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال لأبي يوسف: إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إنّ الله أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم

_______________________________________

1 - الوسائل، ج 15، الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 7 و 3 و 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب.

2 - المصدر نفسه.

ـ(102)ـ

يرضَ بهما إلا عدلين، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد الله عزّوجل، وأجزتم طلاق المجنون والسكران، ثمّ ذكر حكم تظليل المحرم(1).

قال الطبرسي: قال المفسّرون: أُمروا أنّ يُشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتّى لا تجهد المرأة المراجعة بعد انقضاء العِدَّة ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمّتنا عليهم السلام وهذا أليق بالظاهر، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق ومن قال إنّ ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب(2).

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمّد شاكر، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الإسلام» وأهدى نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العلامة الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه: إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وأنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتدّ به، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل ويوافق مذهب أئمَّة أهل البيت والشيعة الإمامية.

وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد القولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة الإمامية، واستغربت (3) من قولهم أنّ يفرّقوا بينهما والدليل لـه: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ واحد فيها.

وأجاب العلامة كاشف الغطاء في رسالة إليه بيّن وجه التفريق بينهما وإليك نصّ ما يهمّنا من الرسالة:

_______________________________________

1 - الوسائل، ج 15، الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 7 و 3 و 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب.

2 - مجمع البيان 5: 306.

3 - مرّ نصّ كلامه حيث قال: والتفريق بينهما غريب.

ـ(103)ـ

قال بعد كلام: «وكأنّك – أنار الله برهانك – لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وإلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتّى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: ﴿... إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء...﴾ ثمّ ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العِدّة، وعدم إخراجهنّ من البيوت، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عزّ شأنه: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾ أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة، فلكم إمساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمّة أحكام الطلاق فقال: ﴿... وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ...﴾ أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً، ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنّك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا لـه ولخادمه ورفيقه، وإن تأخّرا عنه، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جليّ واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خرّيت العربية لولا الغفلة «والغفلات تعرض للأريب»، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة.

وهناك ما هو أدقّ وأحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلاميّة وشموخ مقامها وبُعد نظرها في أحكامها. وهو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق، ودين الإسلام – كما تعلمون – جمعي اجتماعي لا يرغب في أيّ نوع من أنواع الفُرقة لاسيمّا في العائلة والأُسرة، وعلى الأخصّ في الزيجة بعد ما أفضى كلّ منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفُرقة، فكثّر قيوده وشروطه

ـ(104)ـ

على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده، عزّ أو قلّ وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً وللتأخير والأناة ثانياً، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندها يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أُشير إليه بقوله تعالى: ﴿... لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لاشكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر، وهذا كلّه بعكس قضيّة الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به ولعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

وتصحّ عندنا – معشر الإماميّة – بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة، ولا يشترط فيها صيغة خاصّة كما يشترط في الطلاق؛ كلّ ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في أُلفتهم وعدم تفرّقهم، وكيف لا يكفي في الرّجعة حتّى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي – أي المطلّقة الرّجعيّة – عندنا معشر الإماميّة لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العِدّة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسّله ويغسّلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أنّ يتزوّج بأُختها، وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجيّة»(1).

 

الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد:

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وعنفاً في الحياة وانتهت إلى تمزيق الأُسرة وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق وأنّها تحسب ثلاث تطليقات حقيقية وتحرم المطلّقة على زوجها

_______________________________________

1 - أصل الشيعة وأُصولها: 163 – 165، الطبعة الثانية.

ـ(105)ـ

حتّى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروطٍ عائقة عن التسرّع إلى الطلاق، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج ويأخذه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت فيتطلّب الَمْخلَص عن أثره السيّء، ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً ولا يزيده السؤال والفحص إلا نفوراً عن الفقه والفتوى.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سَهْل وسَمِح، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية على وجوهم، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأُمم عن الإسلام، حتّى ينظروا إلى المسألة ويتطلّبوا حكمها من الكتاب والسنّة، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً، وربّما تفك العقدة ويجد المفتي مخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

وإليك نقل الأقوال:

قال ابن رشد: جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق الثلاث حكمه حكم المطلّقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك(1).

قال الشيخ الطوسي: إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شيء أصلاً وبه قال علي عليه السلام وأهل الظاهر، وحكى الطحاوي عن محمّد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، وروي أنّ

_______________________________________

1 - ابن رشد، بداية المجتهد 2: 62، ط بيروت.

ـ(106)ـ

ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإماميّة.

وقال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال من الصحابة عبدالرحمن بن عوف، ورووه عن الحسن بن علي عليه السلام، ومن التابعين ابن سيرين، ومن الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرّقة، فعل محرّماً وعصى وأثم، ذهب إليه من الصحابة علي عليه السلام، وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، و ابن عباس، ومن الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلا أنّ ذلك واقع (1).

قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلا أنّ يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأُولى فتلزمه واحدة، وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأُولى ولم يلزمها ما بعدها لأنّه ابتداء كلام.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: إنّه إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرّتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوى بها إفهامها أنّ الأُولى قد وقعت بها أو التأكّد لم تطلّق إلا مرّة واحدة، وإن لم تكن لـه نيّة وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر: تطلّق واحدة.

وقال الخرقي أيضاً في مختصره: «وقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثمّ طالق، ثمّ طالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق وطالق أو فطالق.

_______________________________________

1 - الشيخ الطوسي، الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلى ما ذكره، نقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.

ـ(107)ـ

وقال ابن قُدامة في شرحه: إذا أوقعه ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ معاً، فوقعن كلّهنّ كما لو قال: أنتِ طالق ثلاثاً (1).

وقال عبدالرحمن الجزيري: يملك الرجل الحرّ ثلاث طلقات، فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطلق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس – رضي الله عنهم – (2).

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما مسمع، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة، ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ به متعيّن.

 

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه:

﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ $ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أنّ تَأْخُذُواْ ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أنّ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فإنّ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا

_______________________________________

1 - ابن قدامة، المغني 7: 416.

2 - عبدالرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 4: 341.

ـ(108)ـ

فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).

﴿ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنّ يَتَرَاجَعَا إنّ ظَنَّا أنّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ $ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(2).

جئنا بمجموع الآيات الأربع – مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية – للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:

1 - قوله سبحانه: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ كلمة جامعة لا يؤدّي حقّها إلا بمقال مسهب، وهي تعطي أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما – في حقل المعاشرة – متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلا باحترام كلّ من الزوجين الآخر، وقيام كلّ بعمل الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيّدها الفطرة، وقد قسّم النبيّ الأُمور بين ابنته فاطمة وزوجها علي فجعل أُمور داخل البيت على ابنته وأُمور خارجه على زوجها عليهما السلام.

2 - «المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و«الإمساك» خلاف الإطلاق، و«التسريح» مأخوذ من السرح وهو الإطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدّتها في كلّ طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح، على اختلاف في معنى الجملة.

_______________________________________

1 - سورة البقرة: 228 – 229.

2 - سورة البقرة: 230 – 231.

ـ(109)ـ

3 - قيّد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعراً بأنّه يكفي في الإمساك قصد عدم الإضرار بالرجوع، وأمّا الإضرار فكما إذا طلّقها حتّى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك، يريد بها الإضرار والإيذاء، وعلى ذلك يجب أن يكون الإمساك مقروناً بالمعروف، وعندئذٍ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعدّ أمراً منكراً غير معروف، إذ ليس إضراراً.

وهذا بخلاف التسريح فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالإحسان إليها فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال، ولأجل ذلك يقول تعالى: ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أنّ تَأْخُذُواْ ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾ أي لا يحلّ في مطلق الطلاق استرداد ما آتيتموهنّ من المهر، إلا إذا كان الطلاق خلعاً فعندئذٍ لا جناح عليها فيما افتدت به نفسها من زوجها.

وقوله سبحانه: ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ دليل على وجود النفرة من الزوجة فتخاف أنّ لا تقيم حدود الله فتفتدي بالمهر وغيره لتخلّص نفسها.

4 – لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العِدّة حدّ ولا عدّ، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضارّوهنّ بالطلاق والرجوع ما شاوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدّد الطلاق بمرّتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتّى تنكح زوجاً غيره.

روى الترمذي: كان الناس، والرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أنّ يطلّقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العِدّة، وإن طلّقها مائة مرّة أو أكثر، حتّى قال رجل لامرأته: والله لا أطلّقك فتبيني منّي، ولا آويكِ أبداً قالت: وكيف ذلك ؟ قال أُطلّقك فكلّما همَّت عدّتك أنّ تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبيّ فسكت حتّى نزل القرآن ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ...﴾(1).

_______________________________________

1 - الترمذي، الصحيح: 3، كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.

ـ(110)ـ

5 – اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أنّ تَأْخُذُواْ ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أنّ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فإنّ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ إلى قولين:

ألف: إنّ الطلاق يكون مرّتين، وفي كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأُولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتّى تبلغ أجلها وتنقضي عدّتها.

وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدّي والضحاك فذهبا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرّتان فإمساك في كلّ واحدة منهما لهنّ بمعروف أو تسريح لهنّ بإحسان، وقال: هذا ممّا يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين(1).

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله ﴿مَرَّتَانِ﴾ وقوله ﴿فَإمسَاكٌ بَمعرُوفٍ﴾ فهو يفيد أنّ القيام بأحد الأمرين بعد تحقّق المرّتين، لا في أثنائهما. و عليه لابدّ أنّ يكون كلّ من الإمساك والتسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين، ومشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.

نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كلّ تطليقة، من آية أُخرى أعني قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(2).

ولأجل الحذر من تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله: ﴿... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ

_______________________________________

1 - الطبري، التفسير 2: 278 سيوافيك خبر أبي رزين.

2 - سورة البقرة: 231 وأيضاً في سورة الطلاق: 2 ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

ـ(111)ـ

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ بوجه آخر سيوافيك.

ب – إنّ الزوج بعد ما طلّق زوجته بعد ما طلّق زوجته مرّتين، يجب أن يتفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى، فيعرف أنّ ليس لـه بعد التطليقتين إلاّ أحد الأمرين: إمّا الإمساك بمعروف ومواصلة العيش معها، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبداً، إلاّ في ظرف خاص.

فيكون قوله تعالى: ﴿أَو تَسريحٌ بِإحسَانٍ﴾ إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحقّقاً به وهنا سؤالان أثارهما الجصّاص في تفسيره:

1 - كيف يفسّر قوله: ﴿أَو تَسريحٌ بِإحسَانٍ﴾ بالتطليق الثالث. مع أنّ المراد من قوله الآية المتأخرة ﴿أو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعرُوفٍ﴾ هو ترك الرجعة وهكذا المراد من قوله ﴿... فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾ هو تركها حتّى ينتهي أجلها، ومعلوم أنّه لم يرد من قوله ﴿أو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعرُوفٍ﴾ أو قوله: ﴿...أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...﴾ طلّقوهنّ واحدة أُخرى (1).

يلاحظ عليه: أنّ السؤال أو الإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في السرح والإطلاق، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعدّ تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين، ومصداقه في الآية 229 هو الطلاق، وفي الآية 231 هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

2 - إنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: ﴿ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ...﴾ المتقدّم عليه على فائدة مجدّدة وهي وقوع البينونة بالاثنين (2) بعد انقضاء

_______________________________________

1 - الجصاص، التفسير 1: 389.

2 - الأولى أن يقول: بكلّ طلاق.

ـ(112)ـ

العِدّة.

وأيضاً لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: ﴿فإنّ طَلَّقَهَا﴾ عقيب ذلك هي الرابعة : لأنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقاً مستقلاً بعد ما تقدم ذكره(1)

والإجابة عنه واضحة، لأنّه لا مانع من الإجمال أولاً ثمّ التفصيل ثانياً ، فقوله تعالى : ﴿فإنّ طَلَّقَهَا﴾ بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل على ما لم يشمل عليه الإجمال من تريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره.

فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود الله، فأين هذه التفاصيل من قوله: ﴿أَو تَسريحٌ بإِحسَانٍ﴾ فأين الثالثة ؟ قال رسول الله ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ هي الثالثة (2).

نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابياً بل تابعي.

لكن تظافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ المراد من قوله: ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ هي التطليقة الثالثة(3).

إلى هنا تمّ تفسير الآية، وظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ «الفاء» أظهر، بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث،

_______________________________________

1ـ الجصاص، التفسير 1: 389.

2 - الطبري، التفسير 2: 278.

3 - البحراني، البرهان 1: 221، وقد نقل روايات ستاً في ذيل الآية.

ـ(113)ـ

وأمّا وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول:

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً:

إذا تعرّفت على مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرةً واحدة، أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً، فهو وإن كان حقّاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً:

أوّلاً – الاستدلال عن طريق الكتاب:

1 - قوله سبحانه: ﴿... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾.

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله:﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ...﴾ ومن يجعلونها ناظرة إلى التطبيق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحقّ، فتلك الفقرة تدلّ على بطلان الطلاق الثلاث على كلّ التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل، فواضح لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتّى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها (1) وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين – الإمساك أو تركها حتّى ينقضي

_______________________________________

1 - ابن كثير، التفسير 1: 53.

ـ(114)ـ

أجلها – سواء طلّقها بلفظ: أنتِ طالق ثلاثاً، أو: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق.

وأمّا على التقدير الثاني، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثلاث، وساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين، لكن قلنا إنّ بعض الآيات، تدلّ على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فوق بين الأولين والثالث فالمطلّق يجب أنّ يُتبَعَ طلاقه بأحد أمرين:

ألف: الإمساك بمعروف.

ب: التسريح بإحسان.

فعدم دلالة الآية الأُولى على خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين (1). ولعلّهما تصلحان قرينة لإلغاء الخصوصيّة من ظاهر الفقرة ﴿... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم اتّباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين، وعلى أيّ حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها – كما ذكرنا – فالمحصل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله ﴿فَبَلَغنَ أَجَلَهُنَّ﴾ من القيود الغالبية، وإلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتّى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين، وإلاّ فطبيعة الحكم الشرعي ﴿... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

_______________________________________

1 - الآية 231 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الطلاق.

ـ(115)ـ

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

2 - قوله سبحانه: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾.

إنّ قوله سبحانه: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾: ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلا يصير مرّة ودفعة، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة، مثل المرّة، وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلّق: أنتِ طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرّة بعد أُخرى، ولم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره، وتشهد بذلك فروع فقهيّة لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضمّ عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعاً» وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وأردافها بقوله «مرّتين» ولو حلف في القسامة وقال: «أُقسم بالله خمسين يميناً إنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً.

ولو قال المقرّ بالزنا: «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

قال الجصّاص: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتّى يفرّق الدفع، فحينئذٍ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرّة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ

ـ(116)ـ

ذكر المرّتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرّتين، ونهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة(1).

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت، فربّما يغتر به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي:

إن الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع عُلقة الزوجيّة، فلا زوجيّة بعد الصيغة الأولى حتّى تقطع، ولا رابطة قانونية حتّى تصرم، وبعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج عُلقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك العُلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلّق، والمسرَّحة لا تسرح.

فلا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية أعني قوله سبحانه: ﴿ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ...﴾ وكيف لا يكون كذلك، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا طلاق إلاّ بعد نكاح» وقال: «ولا طلاق قبل نكاح»(2).

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك: إنّما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلّها، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد ؟ ! (3).

3 - قوله سبحانه: ﴿... فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾.

_______________________________________

1 - الجصاص، أحكام القرآن 1: 378.

2 - البيهقي، السنن الكبرى 7: 318 – 321، الحاكم، المستدرك 2: 24.

3 - المصدر نفسه 7: 321.

ـ(117)ـ

إنّ قوله سبحانه: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع(1)، ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه: ﴿... إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ...﴾(2).

على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العِدّة، من غير فوق بين أن نقول: إنّ «اللام» في «عدّتهنّ» للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية، والمراد لغاية أن يعتددن، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد وإحصاء العِدّة، وهو لا يتحقّق إلا بفصل الأوّل عن الثاني، وإلا يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء لو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبدالله عليه السلام: أنّ رجلاً قال لـه: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: ليس بشيء، ثمّ قال: أما تقرأ كتاب الله: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ ثمّ قال: كلّ ما خالف كتاب الله والسنّة فهو يردّ إلى كتاب الله والسنّة(2).

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى معنى لقوله سبحانه: ﴿... لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحلّ العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أنّ الظاهر المقصود هو حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

_______________________________________

1 - فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن و غيرهما.

2 - سورة الطلاق: 1.

3 - عبدالله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد: 30، ورواه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة ج 15 الباب 22، الحديث 25.

ـ(118)ـ

ثانياً - الاستدلال عن طريق السنّة:

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، وأمّا حكم السنّة، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ هذا الطلاق لعباً بالكتاب:

1 - أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضباناً ثمّ قال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ حتّى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله ؟ (1).

إنّ محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روى أحمد بإسناد صحيح عنه قال أتانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها...(2).

ولو سلمنا بعدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري(3) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجّة بلا كلام عند الفقهاء، أخذاً بِعدالِتهم أجمعين.

2 - روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله: كيف طلّقتها ؟ قال: طلقتها ثلاث في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها (4).

والسائل هو ركانه بن عبد يزيد؛ روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها

_______________________________________

1 - النسائي، السنن 6: 142، السيوطي، الدر المنثور 1: 283.

2 - أحمد بن حنبل، المسند 5: 427.

3 - ابن حجر، فتح الباري 9: 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام 224: رواته موثّقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار 7: 11، عن ابن كثير أنّه قال: إسناده جيد، انظر «نظام الطلاق في الإسلام» للقاضي أحمد محمّد شاكر: 37.

4 - ابن رشد، بداية المجتهد 2: 61، ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156 والسيوطي في الدر المنثور 1: 279 وغيرهم.

ـ(119)ـ

حزناً شديداً قال: فسأله رسول الله: كيف طلّقتها ؟ قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنّما تلك واحدة فارجعها إنّ شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر(1).

 

الاجتهاد تجاه النصّ:

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، وصراعان فكريّان؛ فعليّ ومن تبعه من أئمّة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلاً، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتّعرف على الحكم الشرعي من خلال التّعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث و النقاش؛ إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نصّ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النصّ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة، بل حتّى فيما كان هناك نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته (2).

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النصّ والعمل

_______________________________________

1 - أحمد بن حنبل المسند 1: 265.

2 - أحمد أمين، فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.

ـ(120)ـ

بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النصّ ويعملون بالرأي، وما روي عن الخلفاء في هذه المسألة، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1 - روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(1).

2 - وروى عن ابن طاووس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر ؟ فقال: نعم (2).

3 - وروى أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة ؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.

4 - روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم (3).

5 - أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه(4).

_______________________________________

1 - مسلم الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 – 3.

2 - مسلم الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 – 3. التتابع بمعنى الإكثار من الشر.

3 - البيهقي، السنن 7: 339، السيوطي، الدر المنثور، 1: 279.

4 - العيني، عمدة القارئ 9: 537، وقال: إسناده صحيح.

ـ(121)ـ

6 - عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (1).

7 - عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِمُ كلّ نفس ما ألزَم نفسه. من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنتِ بائنة، فهي بائنة، ومن قال: أنتِ طالق ثلاثاً، فهي ثلاث(2).

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك النصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النصّ ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا:

 

تبريرات لحكم الخليفة:

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يضادّ نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد تجاه النصّ بل يكون صادراً عن دليل شرعي، بيانها:

1 - نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النصّ:

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فإن قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر

_______________________________________

1 - المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943 (الحديث، 2 – 3 ) يراجع.

2 - المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.

ـ(122)ـ

لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك ولم يقع إنكار، صار إجماعاً، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنصّ فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فإنّ قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقّهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نصّ أوجب النسخ ولم ينقل إلينا (1).

يلاحظ عليه أولاً: إنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة.

ولأجل ذلك نرى بعضهم الآخر ينفي انعقاد الإجماع ألبتة ويقول: وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد، واحدة، ولم يُنقض هذا الإجماع بخلافه، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا (2).

وثانياً: إنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نصّ عند الخليفة، لكن التبرير به هو المتعيّن.

وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمّد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسيّة، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النص وتركه لعِلَّة ظهرت لـه، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، ونحو هذا ممّا

_______________________________________

1 - العيني، عمدة القاري 9: 537.

2 - تيسير الوصول 3: 162.

ـ(123)ـ

لهج لـه فرق من الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين (1).

2 - تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله.

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلا عقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله، فاستشار أُولي الأمر وقال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه (2).

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي الأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: «لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة...»(3) وهو يخبر عن عزمه وهمّه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيء بقوّة ومنعه، وكيف يصحّ مؤاخذتهم بما أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله (4).

يقول ابن قيّم: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى «عمر» أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم

_______________________________________

1 - العمري: أيقاظ همم أُولي الأبصار: 9.

2 - أحمد بن حنبل، المسند 1: 314، برقم 2877، وقد مرّ تخريج الحديث أيضاً، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمّد شاكر: 79.

3 - السيوطي، الدر المنثور 1: 283.

4 - السيوطي، الدر المنثور 1: 283.

ـ(124)ـ

بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملةً بانت منه المرأة، وحرّمت عليه، حتّى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصديق، وصدرا من خلافته كان الأليق بهم، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكلّ من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرع الطلاق مرّة بعد مرة، ولم يشرّعه كلّه مرة واحدة(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، فلو كانت المصالح المؤقّتة مبرّرة لتغير الحكم فما معنى «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ولو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام العوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على العمال لتقوية القوّة العاملة في المعامل.

وفي الختام نذكر تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور بما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها من سلطنة الدولة العثمانية.

ويالأسف أنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة مصرون على تنفيذ هذا النوع من الطلاق؛ لأجل ذلك يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: «ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله»(2).

_______________________________________

1 - ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين 3: 36.

2 - السيد محمّد رشيد رضا، المنار 2: 386، الطبعة الثالثة 1376 هـ.

ـ(125)ـ

3 - تغيّر الأحكام بالمصالح:

ولابن قيمّ كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق الثلاث نأتي بملخّصه، يعتمد على تغيّر الأحكام بالمصالح وهو يخلط الصحيح بالسقيم وإليك كلامه قال: الأحكام نوعان: نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدّرة بالشرع على الجرائم.

والنوع الثاني: ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة لـه زماناً ومكاناً وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها - ثمّ أتى بأمثلة كثيرة عن باب التعزيرات – وقال: ومن ذلك أنّه، يريد عمر بن الخطاب – لما رأى الناس قد أكثروا في الطلاق، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها وذلك:

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس.

وإمّا ظنّاً أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال.

وإمّا لقيام مانع قام في زمنه منع مع جعل الثلاث واحدة.

إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أنّ الله سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً، بأن حال بينه وبين زوجه وحرّمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم، وبغضه لـه، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. وقال:

فإن قيل: كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل: نعم لعمر الله كان يمكنه ذلك ولذا ندم في آخر أيامه وودَّ أنّه كان فعله، قال

ـ(126)ـ

الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرّمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.

وليس مراده من الطلاق الذي حرّمه، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه الله تعالى وعلم من دين رسول الله جوازه، ولا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث – إلى أن قال: – ورأى عمر أنّ المفسدة تندفع بإلزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدّة، أخبر أنّ الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وأوّل خلافة عمر (1).

 

تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان:

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من تقسّم الأحكام إلى نوعين، صحيح. لكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني، فأيّ فرق بين حكم الواجبات والمحرّمات وقوله سبحانه: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ وكيف يتغيّر حكم وصفَ رسول الله خلافه لعباً بالدين ؟

وما ذكره من الاحتمالات الثلاثة فالاحتمال الأوّل هو المتعيّن وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه، وأمّا الاحتمالان الأخيران من أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً

_______________________________________

1 - ابن قيّم الجوزيّة؛ اعلام الموقعين 3: 36، وأشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» 1: 336.

ـ(127)ـ

بشرط وقد زال، أو قام مانع على إمضائه، فلا يعتد بهما، والدافع إلى تصوير الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأيّ نحو كان.

إنّ الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان وتبدّل الظروف، عبارة عن الأحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح، وتركت خصوصياتها وأشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي، فهذا النوع من الأحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته، ولم يترك للحاكم الإسلامي أيّ تدخّل فيه، والأحكام الواردة في الأحوال الشخصيّة من هذا القبيل، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصادرة والرضاع والعدد، فليس لـه أنّ يحرّم ما أحلّ الله عقوبة للخاطئ، وبالعكس؛ وإنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره.

وأمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصيّاتها وأشكالها إلى الحاكم، يراعي فيها مصالح الإسلام والمسلمين، بما تقتضيه الظروف السائدة، وإليك نزراً يسيراً منها، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر:

1 - في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية: يجب على الدولة الإسلاميّة أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامّة، وأمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانيّة والمكانية، فتارة تقتضي المصلحة، السلام، المهادنة والصلح مع العدو، وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك.

وهكذا تختلف المقرّرات والأحكام الخاصّة في هذا المجال، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فإنّ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(1).

وقوله سبحانه: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن

_______________________________________

1 - سورة النساء: 141.

ـ(128)ـ

دِيَارِكُمْ أنّ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إنّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ$ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أنّ تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).

2 - العلاقات الدولية التجارية: فقد تقتضي المصلحة عقد اتّفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسّات صناعية، مشتركة بين المسلمين وغيرهم، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور لـه، الفقيد المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وإنجلترا، إذ كانت مجحفة بحقوق الأُمّة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لإنجلترا حقّ احتكار التبغ الإيراني.

3 - الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، قانون ثابت لا يتغيّر، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام، إنّما هو صيانة سيادته من خطر أعدائه واضرارهم ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضدّ الأعداء، وإعداد جيش عارم جرّار، ضدّ الأعداء كما يقول سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(2) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام ويؤيّده العقل والفطرة، أمّا كيفيّة الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان تتغيّر بتغيّره، ولكن في إطار القوانين العامّة فليس هناك في هذا المجال أصل ثابت، حتّى مسألة لزوم التجنيد الإجباري، الذي أصبح من الأمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق والرماية، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة، ونقل أحاديث في ذلك الباب، عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأئمّة الإسلام فليست أحكامها أصلية

_______________________________________

1 - سورة الممتحنة: 8 – 9.

2 - سورة الأنفال: 60.

ـ(129)ـ

ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسيّة ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، والغرض منه، تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور، وأمّا الأحكام التي ينبغي أنّ تطبّق في العصر الحاضر، فتفرضها مقتضيات العصر نفسه(1).

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلّحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور وجزئياتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليّات والأصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

4 - نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادّياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلاميّة، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة: فقد ألزم الإسلام، رعاة المسلمين، وولاة الأمر بنشر العلم بين الناس

_______________________________________

1 - قال المحقّق في الشرائع: 152: وفائدة السبق والرماية: بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني: في المسالك في شرح عبارة المحقّق: لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد، بل أمر به النبيّ في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهمّ الفوائد الدينية لما يحصل بها من الغلبة على أعداء الله في الجهاد الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهي عن المعاملة عليهما.

فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرّب للجهاد، فلا يفرق عندئذٍ بين الدارج في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره أخذاً بالملاك المتيقن.

ـ(130)ـ

واجتثاث مادّة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الأُميّة، وأمّا نوع العلم وخصوصيّاته، فكلّ ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.

فربّ علم، لم يكن لازماً، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي، فيها صلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.

5 - حفظ النظام وتأمين السبل والطرق، وتنظيم الأمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و... من الضروريات، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتّبع، بل الذي يتوخّاه الإسلام، هو الوصول إلى هذه الغايات، وتحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، وكلّها في ضوء القوانين العامّة.

6 - قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1) وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصحّ المعاملة ومن هنا حرّموا بيع «الدم» وشراءه.

إلا أنّ تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائيّة لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً لـه، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تدخل المعاملة في كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة (التي تدخل المعاملة في كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ...﴾.

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً عليه السلام سئل عن قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: غيّروا الشيب

_______________________________________

1 - سورة البقرة: 188.

ـ(131)ـ

ولا تشبّهوا باليهود ؟ فقال عليه السلام: إنّما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك والدين قُلٌّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار (1).

هذا، ولما كان الحكم الحكم بصحة الثلاث، مثيراً للفساد، عبر التاريخ، قام ابن قيم – مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر – ببيان ما ترتب عليه من شماتة أعداء الدين عليه، وها نحن ننقل نصّ كلامه:

 

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع:

إنّ ابن قيّم – كما عرفت – كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة، وقد برّر حكمه بأنّ المصلحة يومذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلّق على نفسه، وقد عرفت ضآلة دفاعه ووهن كلامه، ولكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة، وأنّ تصحيح التطليق الثلاث، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا وصار سبباً لاستهزاء الأعداء بالدين وأهله، وأنّه يجب في زماننا هذا الأخذ بمُر الكتاب والسنّة، وهو أنّه لا يقع منه إلا واحد.

ولكنّه غفل عمّا هو الحقّ في المقام وأنّ المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة، وأنّ ما حدّه سبحانه من الحدود هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم، وأنّ الشناعة والاستهزاء اللّتين يذكرهما ابن قيم إنّما نجمتا عن الانحراف عن الطريق المهيع والاجتهاد تجاه النصّ بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أنّ يكون هناك حرج أو كلفة، ولأجل ذلك نأتي بكلامه حتّى يكون عبرة لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة، وإليك نصّ كلامه:

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الأزمنة وأمّا في هذه الأزمان التي قد

_______________________________________

1 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 16، لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن 3: 265 – 275.

ـ(132)ـ

شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا هو رمد بل عمىً في عين الدين، وسجىً في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها، وتمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل، وقد زعم أنّه قد طيّبها للحليل، فيالله العجب ! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون؟ وأيّ مصلحة حصلت لها ولمطلَّقها بهذا الفعل الدون؟

أترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب، والتيس الملعون قد حلّ إزارها وكشف النقاب، وأخذ في ذلك المرتع، والزوج أو الولي يناديه: لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون، وربّ العالمين، أنّك لست معدوداً من الأزواج، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضاً ولا فرح ولا ابتهاج، وإنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يُظهرون النكاح ويُعلنونه فرحاً وسروراً، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال، ونجعله أمراً مستوراً بلا نثار ولا دفّ ولا خوان ولا إعلان، بل التواصي بهسّ ومسّ والإخفاء والكتمان، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها.

والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنّه لا يُمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، والله تعالى قد جعل كلّ واحد من الزوجين سكناً لصاحبه، وجعل بينهما مودّة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتمّ بذلك المصلحة التي شرّعه لأجلها العزيز الحكيم.

فسَلْ التيس المستعار: هل لـه من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب ؟ وسَله: هل اتّخذ هذه المصابة حليلة وفراشاً يأوي

ـ(133)ـ

إليه ؟ هل رضيت به قطّ زوجاً وبعلاً تعول في نوائبها عليه ؟ وسل أُولي التمييز والعقول: هل تزوّجت فلانة بفلان؟ وهل يعدّ هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلاً من أُمّتة نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً ؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار ؟ وكيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان ؟ وسل التيس المستعار: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق ؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدّثت نفسها به هنالك ؟ وهل طلب منها ولداً نجيباً واتّخذته عشيراً وحبيباً ؟

وسَل عقول العالمين وفطرهم: هل كان خير هذه الأُمّة أكثرهم تحليلاً، وكان المحلّل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً ؟ وسَلْ التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تحمّل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال ؟ وسل المرأة: هل تكره أنّ يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟ وسَل التيس المستعار: هل سأل قط عمّا يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت احمائه بالهدية والحمولة، والنقد الذي يتوسل به خاطب الملاح؟ وسله هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حطي ؟ وسله: هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟

وسله عن وليمة عرسه: هل أولم ولو بشاة ؟ وهل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه وأتاه ؟ وسله: هل تحمّل من كلفة هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون، أم جاءه – كما جرت به عادة الناس – الأصحاب والمهنئون ؟ وهل قيل لـه بارك الله لكما وعليكما

ـ(134)ـ

وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن الله المحلل والمحلَّل لـه لعنة تامة ووافية؟ (1).

يلاحظ عليه: أنّ العار الذي – على زعمه – دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً، وأنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً، وأمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرفة، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبداً، وذلك:

أوّلاً: إنّه يصدّ الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

وثانياً: إنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد، لأنّ التّجارب المتكرّرة، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق والرّوحيات فلا يُقدِِم على الطّلاق إلا إذا كان آيساً من الزواج المجدّد وقلّما يتفق تجدّد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً – فعند ذاك تقلّ الحاجة إلى المحلِّل جداً، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد، ثلاثاً، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق ويريد إعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق – وهو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما ويترتّب عليه ما ذكره ابن قيم في كلامه المسهب.

وفي كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الأجير للتحليل، ويتزّوج لتلك الغاية وهو تصور خاطئ جداً بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوج لأجلها، سائر النساء، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق وأين ذلك ممّا جاء في كلامه.

_______________________________________

1 - ابن قيّم (المتوفى 751)، أعلام الموقّعين 3: 41 – 43، ولاحظ إغاثة اللهفان لـه أيضاً 1: 312.

 

ـ(135)ـ

الحلف بالطّلاق

إعلم إنّ الطّلاق غير المنجّز ينقسم إلى قسمين:

1 - الطلاق المعلّق.

2 - الحلف بالطلاق.

وكلاهما من أقسام غير المنجّز، والفرق بينهما أنّه لو قصد من التعليق الحثّ على الفعل، أو المنع عنه، يسمّى حلفاً بالطّلاق كقوله: إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق، أو إن لم تدخلي الدار فأنت طالق، أو قصد منه تصديق المخبر، كقوله: أنتِ طالق إن لم يقدم زيد، أو زوجتي طالق لو كان في حقيبتي بضاعة ممنوعة.

وأمّا إذا علّق ولم يكن منه لا الحثّ على الفعل ولا المنع منه، ولا التنبيه على تصديق المخبر، يسمّى طلاقاً معلّقاً، كقوله: أنتِ طالق إن طلعت الشمس، أَو أنتِ طالق إن قدم الحاج، أو أنتِ طالق إن لم يقدم السلطان، فهو شرط محض ليس بحلف، لأنّ حقيقة الحلف القسم.

وإنّما سمّي تعلق الطلاق على شرط حلفاً تجوّزاً، لمشاركته الحلف في المعنى المشهور

ـ(136)ـ

وهو الحثّ أو المنع أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلنّ، أو لا والله لا أفعل، أو والله فعلت أو والله أفعل، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصحّ تسميته حلفاً(1).

وقال السبكي: إنّ الطّلاق المعلّق، منه ما يعلّق على وجه اليمين، ومنه ما يعلّق على غير وجه اليمين، فالطّلاق المعلَّق على غير وجه اليمين كقوله: إذا جاء رأس الشهر فأنتِ طالق، أو إن أعطيتني ألفاً فأنتِ طالق.

والذي على وجه اليمين كقوله: إن كلّمتِ فلاناً فأنتِ طالق، أو إن دخلت الدار فأنتِ طالق، وهو الذي يقصد به الحثّ أو المنع أو التصديق، فإذا علّق الطلاق على هذا الوجه، ثمّ وجد المعلّق عليه وقع الطلاق(2).

هذا هو مذهب أكثر أهل السنّة إلاّ من شذّ وسنشير إليه، فقد أجازت هذه المذاهب الطلاق بغير الحلف، بكلّ ما دلّ عليه لفظاً وكتابة وصراحة وكناية، مثل: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ بريّة، أو اذهبي فتزوّجي، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، إلى غير ذلك من الصيغ.

والجدير بالذكر أنّهم سوّدوا الصفحات الطوال العراض حول أقسام الطلاق المعلّق خصوصاً النوع الخاص به، أعني: الحلف به، وجاؤوا بآراء وفتاوى لم يبرهنوا عليها بشيء من الكتاب والسنّة، والراجع إليها يقطع بأنّ الطلاق عند هؤلاء أُلعوبة، يتلاعب به الرجل بصور شتّى.

وإن كنت في شكّ ممّا ذكرت فلاحظ الكتابين المعروفين:

1 - المغني: تأليف محمّد بن عبدالله بن أحمد بن محمّد بن قدامة (المتوفّى عام 620) وهو أظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الأقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خصّ 445 صفحة

_______________________________________

1 - ابن قدامة، المغني 7: 365.

2 - السبكي، تقي الدين علي بن عبدالكافي (المتوفى 756)، الدرّة المضيئة: 155.

ـ(137)ـ

في كتابه بهذا النوع من الصيغ(1).

2 - الفقه على المذاهب الأربعة الشيخ عبد الجزيري، فقد ألّفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الناس مع ذلك فقد خصّ من كتابه هذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة(2) وإليك نماذج من هذه الصور حتّى تقف على صدق ما قلناه؛ ننقله من الكتاب الأوّل:

1 - إن قال لامرأتيه: كلّما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثمّ أعاد ذلك ثلاثاً، طلّقت كلّ واحدة منهما ثلاثاً.

2 - وإن كان لـه ثلاث نسوة فقال: إن حلفت بطلاق زينب، فعمرة طالق، ثمّ قال: وإن حلفت بطلاق عمرة، فحفصة طالق، ثمّ قال: إنّ حلفت بطلان حفصة، فزينب طالق، طلقت عمرة، وإن جعل مكان زينب عمرة طلّقت حفصة، ثمّ متى أعاده بعد ذلك طلّقت منهنّ واحدة...

4 - ومتى علّق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكلّ صفة ما علّق عليها كما لو وجدت متفرّقة وكذلك العتاق، فلو قال لامرأته: إن كلّمت رجلاً فأنت طالق، وإن كلّمت طويلاً فأنت طالق، وإن كلّمت أسود فأنت طالق، فكلّمت رجلاً أسوداً طويلاً، طلّقت ثلاثاً (3).

إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتّب على نقلها سوى إضاعة الوقت والورق.

وفي مقابل هؤلاء، أئمّة أهل البيت لا يذكرون للطلاق إلاّ صيغة واحدة، روى

_______________________________________

1 - يلاحظ الجزء السابع: 369 – 414 بتصحيح الدكتور محمّد خليل هراس.

2 - الفقه على المذاهب الأربعة الجزء الرابع.

3 - المغني 7: 369 -376.

ـ(138)ـ

بكير بن أعين أحدهما: الباقر والصادق عليهما السلام قال: ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرّجل لها – وهي طاهر في غير جماع -: أنت طالق ويشهد شاهدي عدل، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى (1).

ومع أنّ المشهور عند أهل السنّة وقوع الطلاق بالحلف به، فنجد بين الصحابة والتابعين من ينكر ذلك ويراه باطلاً، ووافقه بعض المتأخّرين من الظاهريين كابن حزم، وابن تيمية من الحنابلة.

قال ابن حزم: وصحّ خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف.

1 - روينا من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: إنّ رجلاً تزوّج امرأة وأراد سفراً فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقاً إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث بشيء، فلمّا قدم خاصموه إلى عليّ، فقال عليّ عليه السلام: اضطهدتموه حتّى جعلها طالقاً، فردّها عليه(2).

2 - روينا من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء: في رجل قال لامرأته:

أنتِ طالق إنّ لم أتزوّّج عليك. قال: إن لم يتزوّج عليها حتّى تموت أو يموت، توارثا. والحكم بالتوارث آية بقاء العلقة.

3 - ومن طريق عبدالرزاق عن سفيان الثوري عن غيلان بن جامع عن الحكم بن عتيبة قال: في الرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق إن لم أفعل كذا ثمّ مات أحدهما قبل أن يفعل، فإنّهما يتوارثان.

إنّ في عدم اعتداد الإمام عليّ بالطلاق – بلا إكراه – والحكم بالتوارث في الروايتين

_______________________________________

1 - وسائل الشيعة 15، الباب 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، الحديث 1.

2 - ظاهر الحديث: أنّ الإمام ردّ المرأة لوقوع الطلاق مكرهاً، وبما أنّه لم تكن هناك كراهة ولم يطلب أهل المرأة سوى النفقة، يحمل على خلاف ظاهره، من بطلان الطلاق لأجل الحلف به.

ـ(139)ـ

الأخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق.

4 - ومن طريق عبدالرزاق عن ابن جريج: أخبرني ابن طاووس عن أبيه أنّه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئاً. قلت: أكان يراه يميناً ؟ قال: لا أدري.

قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات: فهؤلاء علي بن أبي طالب وشريح(1) وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة – رضي الله عنهم - ثمّ يقول: من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة، والرجعة بصفة كمن قال: إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلّقة، أو قال: فقد تزوّجتك وقالت هي مثل ذلك، وقال الولي مثل ذلك ولا سبيل إلى فرق (2).

فقد سئل ابن تيميّة عن مسألة الحلف بالطلاق، فأفتى بعدم وقوع الطلاق بنفس الحلف ولكن قال: تجب الكفّارة إذا لم يطلّق بعد، فقال: إنّ في المسألة بين السلف والخلف أقوالاً ثلاثة:

1 - إنّه يقع به الطلاق إذا حنث في يمينه، وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخّرين حتّى اعتقد طائفة منهم أنّ ذلك إجماع، ولهذا لم يذكر عامّتهم عليه حجة، وحجتهم عليه ضعيفة، وهي أنّه التزم أمراً عند وجوب شيء فلزمه ما التزمه (3).

2 - إنّه لا يقع به طلاق ولا تلزمه كفّارة، وهذا مذهب داود وأصحابه، وطوائف من الشيعة، ويذكر ما يدلّ عليه عن طائفة من السلف (4)، بل هو مأثور عن طائفة صريحاً كأبي جعفر الباقر عليه السلام رواية جعفر بن محمّد، وأصل هؤلاء أنّ الحلف بالطلاق والعتاق والظهار لغو كالحلف بالمخلوقات.

_______________________________________

1 - نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. وكان عليه عطف عطاء عليه أيضاً.

2 - ابن حزم الأندلسي، المحلّى 10: 212 – 213.

3 - سيوافيك ضعف هذا الدليل بعد الفراغ من نقل كلامه.

4 - قد تعرفت على القائلين بعد كفاية الحلف في تحقق الطلاق في كلام ابن حزم الظاهري.

ـ(140)ـ

3 - وهو أصح الأقوال، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنّة، والاعتبار أنّ هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما يجري في أيمان المسلمين، وهو الكفّارة عند الحنث إلاّ أنّ يختار الحالف إيقاع الطلاق، فله أنّ يوقعه، ولا كفّارة، وهذا قول طائفة من السّلف والخلف كطاووس وغيره، وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا الباب، وبه يفتي كثير من المالكية وغيرهم، حتّى يقال: إنّ في كثير من بلاد المغرب من يفتي بذلك من أئمّة المالكية، وهو مقتضى نصوص أحمد ابن حنبل، وأُصول في غير هذا الموضوع(1).

إنّ هنا أُموراً:

الأوّل: في وقوع الطلاق بنفس هذا الإنشاء.

الثاني: لزوم الكفّارة عند الحنث أي عدم إيقاع الطلاق.

الثالث: ما هو حكم الزوجة في الفترة التي لم يقع المعلّق عليه.

أمّا الأوّل: فالدليل الذي نقله ابن تيمية عن القائل كان عبارة أنّه التزم أمراً عند وجوب شرط فلزمه ما التزمه، مثلاً التزم بأنّه إذا كلّمت الزوجة فلاناً فهي طالق.

يلاحظ عليه: أنّه ليس لنا دليل مطلق يعمّ نفوذ كلّ ما التزم به الإنسان حتّى فيما يحتمل أنّ الشارع جعل لـه سبباً خاصّاً كالطّلاق والنّكاح، إذ عند الشكّ يكون المرجع هو بقاء العلقة الزوجية إلى أن يدلّ دليل على خروجها عن عصمته، أخذاً بالقاعدة المأثورة عن أئمّة أهل البيت بأنّه لا ينقض اليقين بالشكّ، المعبّر عنه في مصطلح الأُصوليين بالاستصحاب.

قال السّبكي: «قد أجمعت الأُمّة على وقوع المعلّق كوقوع المنجَّز، فإنّ الطلاق ممّا يقبل التّعليق، ولا يظهر الخلاف في ذلك إلاّ عن طوائف من الروافض، ولمّا حدث مذهب

_______________________________________

1 - ابن تيمية، الفتاوى الكبرى 3: 12 – 13.

ـ(141)ـ

الظاهريين، المخالفين لإجماع الأُمّة، المنكرين للقياس، خالفوا في ذلك – إلى أن قال -: ولكنّهم قد سبقهم الإجماع(1).

ثمّ قال: وقد لبَّس ابن تيمية بوجود خلاف في هذا المسالة وهو كذب وافتراء وجرأة منه على الإسلام، وقد نقل إجماع الأُمّة على ذلك أئمّة لا يرتاب في قولهم ولا يتوقّف في صحّة نقلهم.

كيف يحكم بسبق الإجماع مع خلاف الإمام علي عليه السلام ولفيف من التابعين وأئمّة أهل البيت، وليس ابن تيميّة ناقلاً للخلاف بل نقله ابن حزم الأندلسي ونقله هو عنه كما صرّح في رسائله.

وهناك كلمة لبعض مشايخ الإماميّة نأتي بنصّها وفيه بيان وبلاغ، قال: إنّ الإماميّة يضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود، ويفرضون القيود الصارمة على المطلِّق والمطلَّقة، وصيغة الطلاق وشهوده. كلّ ذلك لأنّ الزواج عصمة ومودّة رحمة وميثاق من الله. قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾(2).

وقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أنّ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(3). إذن لا يجوز بحال أنّ ننقض هذه العصمة والمودّة والرحمة، وهذا العهد والميثاق إلا بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكل شكّ بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ونقض بعد أن أثبته وأبرمه(4).

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت على بطلان هذا الطلاق، بل وعدم الاعتداد بهذا اليمين مطلقاً، ومن أخذ دينه عن أئمّة أهل البيت، فقد أخذ عن عين صافية.

نكتفي ببعض ما ورد عنهم:

_______________________________________

1 - ألسبكي، الدرّة المضيئة: 155 – 156.

2 - سورة النساء: 21.

3 - سورة الروم: 21.

4 - الفقه على المذاهب الخمسة: 414.

ـ(142)ـ

1 - روى الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كلّ يمين لا يراد به وجه الله في طلاق أو عتق فليس بشيء (1).

2 - جاء رجل باسم «طارق» إلى أبي جعفر الباقر وهو يقول: يا أبا جعفر إنّي هالك، إنّي حلفت بالطلاق والعتاق والنذر، فقال: يا طارق إنّ هذا من خطوات الشيطان(2).

3 - عن أبي أُسامة الشّحّام، قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إنّ لي قريباً لي أو صهراً حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثاً، فخرجت وقد دخل صاحبها منها ماشاء الله من المشقة فأمرني أن أسالك فأصغى إليّ، فقال: مره فليُمسكها فليس بشيء، ثمّ التفت إلى القوم فقال: سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج ولها زوج(3).

وقد عرفت الشيعة بإنكارها الأمور الثلاثة في باب الطلاق.

1 - طلاق المرأة وهي حائض.

2 - الطلاق بلا إشهاد عدلين.

3 - الحلف على الطلاق.

هذا كلّه حول وقوع الطلاق وإليك الكلام في المقامين الثاني والثالث:

وأمّا الثاني وهو ترتّب الكفارة أو لا، فيحتاج إلى تنقيح ما هو الموضوع للكفّارة، فلو دلّ الدليل على أنّ الكفّارة من آثار الحلف بلفظ الجلالة أو ما يعادله أو يقاربه، كالربّ وغيره فلا تترتّب على الحلف بالطلاق والعتاق، وبما أنّ المسألة خارجة عن موضوع

_______________________________________

1ـ وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 1 و 4، ولاحظ سائر أحاديث الباب.

2ـ وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 1 و 4، ولاحظ سائر أحاديث الباب.

3 - الوسائل: الجزء 15، الباب 18 من أبواب مقدّمات الطلاق الحديث 3.

ـ(143)ـ

البحث لذا نحيل تحقيقها إلى محلّه.

وأمّا الثالث: فقد نقل ابن حزم عن الشافعي: الطلاق يقع عليه والحنث في آخر أوقات الحياة فلو قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضرب زيداً، فإنّما يتحقّق الحنث – إذا لم يضرب – عند موته، ومعنى هذا أنّها زوجته إلى ذلك الآن، ونقل عن مالك: يوقف عن امرأته وهو على حنث حتّى يبر، ثمّ استشكل على الإمامين(1).

وجملة الكلام فيه – على القول بانعقاد الطلاق به – أنّ المعلّق عليه تارة يكون أمراً وجودياً – كالخروج عن الدار – وأُخرى عدميّاً – مثل إن لم أفعل – وعلى التقديرين تارة يكون محدّداً مؤقتاً بزمان وأُخرى مطلقاً مرسلاً عنه، فلو كان أمراً وجودياً فهي زوجته ما لم يتحقّق، فإذا تحقّق في ظرفه المعيّن، أو مطلقاً – حسب ما علّق – تكون مطلّقة. ولو كان أمراً عدمياً، فلو كان محدّداً ومؤقتاً بزمان، فلو لم يفعل في ذلك الزمان تكون مطلّقة، بخلاف ما لو لم يكن كذلك، فلا تكون مطلّقة إلا في آخر الوقت الذي لا يستطيع القيام به.

ولكنّها فروض على أساس منهار.

الكلام في الطلاق المعلّق:

قد عرفت أنّ الطلاق المعلّق ينقسم إلى قسمين: منه ما يوصف بالحلف بالطلاق ومنه ما يوصف بالمعلّق فقط، وقد عرفت حكم الأوّل وإليك الكلام في التالي:

فنقول: إنّ للشروط تقسيمات:

1 - ما يتوقّف عليه صحّة الطلاق لكونها زوجة، وما لا يتوقف عليه كقدوم زيد.

2 - ما يعلم المطلّق بوجوده عند الطلاق كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة وأُخرى ما يشك في وجوده.

_______________________________________

1 - ابن حزم الأندلسي، المحلّى 9: 213.

ـ(144)ـ

3 - ما يذكر في الصيغة تبرّكاً، لا شرطاً وتعليقاً كمشيئته سبحانه (إن شاء الله)، وما يذكر تعليقاً حقيقة.

ومورد البحث هو القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة وقد اتّفقت كلمة الإمامية(1). على بطلان المعلّق والدليل المهم هو النصّ والإجماع وإليك البيان.

 

الطلاق المعلّق باطل نصّاً وإجماعاً:

دلّ النصّ عن أئمّة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلّق، ويكفي في ذلك ما رواه بكير بن أعين عنهم عليه السلام أنّهم قالوا: ليس الطلاق إلاّ أن يقول الزوج لزوجته وهي طاهرة من غير جماع: أنت طالق، ويشهد شاهدي عدل، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى(2).

فأيّ تصريح أولى من قولـه: «وكل ما سوى ذلك فهو ملغى» مع شيوع الطلاق المعلّق خصوصاً قسم الحلف في أعصارهم.

وإذا أُضيف إلى ذلك ما روي عنهم عليهم السلام في بطلان الحلف بالطلاق لاتّضح الحكم بأجلى وضوح لأنّ الحلف به قسم من أقسام المعلّق، فليس بطلانه إلاّ لبطلان المعلّق غاية الأمر يتضمّن حلفاً ويميناً، وقد عرفت أنّ الإمام قال: سبحان الله يأمرونها أن تتزوج ولها زوج(3).

وأمّا الإجماع قال المرتضى: وممّا انفردت به الإمامية أنّ تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أيّ جزء كان لا يقع فيه الطلاق (4).

___________________________

1 - الطوسي، الخلاف: 2:، كتاب الطلاق، المسألة 40.

2 - الوسائل: الجزء 15، الباب 16، الحديث 1.

3 - المصدر نفسه: الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 4.

4 - السيد المرتضى، الانتصار: 14.

ـ(145)ـ

وقال الشيخ في الخلاف: إذا قال لها: أنتِ طالق إذا قدم فلان، فقدم فلان لا يقع طلاقه(1).

وقال ابن إدريس: واشترطا إطلاق اللفظ احترازاً من مقارنة الشرط(2).

ومن تفحّص فقه الإمامية يجد كون البطلان أمراً متّفقاً عليه.

ويؤيّد ذلك: أنّ عناية الإسلام بنظام الأُسرة التي أُسها النكاح والطلاق، يقتضي أن يكون الأمر فيها منجّزاً لا معلّقاً، فإنّ التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح والطلاق، فالمرء يقدم على النكاح والطلاق أو لا، فعلى الأوّل فينكح أو يطلّق بتاتاً، وعلى الثاني يسكت حتّى يحدث بعد ذلك أمراً، فالتعليق في النكاح والطلاق لا يناسب ذلك الأمر المهم، فقد قال سبحانه: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أنّ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فإنّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(3).

والله سبحانه يشبّه المرأة التي يترك الزوج أداء الواجب لها بالمعلّقة التي هي لا ذات زوج ولا أيّم، فالمنكوحة معلّقاً، أو المطلّقة كذلك، أشبه شيء بالمعلّقة الواردة في الآية، فهي لا ذات زوج ولا أيّم.

نعم ربّما استدلّ ببعض الوجوه العقلية على البطلان وهي ليست تامّة عندنا نظير:

أ – إنّ الطلاق المعلّق من قبيل تفكيك المنشأ عن الإنشاء، لأنّ المفروض عدم وقوعه قبل الشرط، فيلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء.

وأنت خبير بعدم استقامة الدليل، فإنّ المنشأ بعد الإنشاء محقّق من غير فرق بين المنجّز والمعلّق، غير أنّ المنشأ تارة يكون منجّزاً وأُخرى معلّقاً، وفائدة الإنشاء أنّه لو

___________________________

1 - الطوسي: الخلاف، كتاب الطلاق، المسألة 13.

2 - ابن إدريس الحلي، السرائر، كتاب الطلاق: 322.

3 - سورة النساء: 129.

ـ(146)ـ

وقع المعلّق عليه لا يحتاج إلى إنشاء جديد.

ب – ظاهر الأدلّة ترتّب الأثر على السبب فوراً، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه، خلاف ظاهر الأدلّة.

يلاحظ عليه: أنّه ليس في الأدلّة ما يثبت ذلك، فالوارد في الأدلّة هو لزوم الوفاء بالإنشاء غير أنّ الوفاء يختلف حسب اختلاف مصنمون فالأولى الاستدلال بالنصّ والإجماع.

ـ(147)ـ

الطّلاق في الحيض والنّفاس

اتّفقت كلمتهم على أنّه يجب أن تكون المطلّقة في حال الطلاق طاهرة من الحيض والنفاس بلا خلاف، ولكن اختلفوا في أنّ الطهارة هل هي شرط الصحّة والإجزاء، أو شرط الكمال والتمام، وبعبارة أُخرى: هل هي حكم تكليفي متوجّه إلى المطلِّق، وهو أنّه يجب أن يحلَّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس، فلو تخلّف أثم وصحَّ الطلاق، أو حكم وضعي قيد لصحّة الطلاق، ولولاه كان الطلاق باطلاً ؟ فالإماميّة وقليل من سائر المذاهب الفقهيّة على الثاني وأكثر المذاهب على الأوّل وإليك بعض كلماتهم:

قال الشيّخ الطوسي في الخلاف: «الطلاق المحرّم، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه، فما هذا حكمه فإنّه لا يقع عندنا، والعقد ثابت بحاله، وبه قال ابن عليّة وقال جميع الفقهاء: إنّه يقع وإن كان محظوراً.

ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثّوري والشافعي – دليلنا –

ـ(148)ـ

إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل بقاء العقد، ووقوع الطّلاق يحتاج إلى دليل شرعي، وأيضاً قولـه تعالى ﴿... فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾ وقد روي لقبل عدّتهنّ، ولا خلاف أنّه أراد ذلك، وإن لم تصحّ القراءة به، فإذا ثبت ذلك دلّ على أنّ الطلاق إذا كان من غير الطهر محرّماً منهياً عنه، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه»(1).

وستوافيك دلالة الآية على اشتراط الطهارة من الحيض والنفاس.

وقال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض: «فإنّ الناس اختلفوا من ذلك في مواضع منها أنّ الجمهور قالوا: يُمضي طلاقه، وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع، والذين قالوا: ينفذ، قالوا: يؤمر بالجرعة، وهؤلاء افترقوا فرقتين، فقوم رأوا أنّ ذلك واجب، وأنّه يجبر على ذلك، وبه قال مالك، وأصحابه، وقالت فرقة: بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد»(2).

وقد فصّل الجزيري وبيّن آراء الفقهاء في كتابه (3).

هذه هي الأقوال، غير أنّ البحث الحرّ يقتضي نبذ التقليد والنهج على الطريقة المألوفة بين السلف حيث كانوا يصدعون بالحقّ ولا يخافون لومة المخالف، وكانوا لا يخشون إلا الله، فلو وجدنا في الكتاب والسنّة ما يرفض آراءهم فهما أولى بالاتّباع.

 

الاستدلال بالكتاب:

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النبيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا

___________________________

1 - الشيخ الطوسي، الخلاف: 2، كتاب الطلاق، المسألة 2.

وما ذكره من تقدير (قبل) إنّما يتمّ على القول بكون العبرة في العدَّة بالحيض فيكون قبلهما بين طهرها من الحيض والنفاس فتتمّ الدلالة.

2 - ابن رشد، بداية المجتهد 2: 65 – 66.

3 - الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 4: 297 – 302.

ـ(149)ـ

اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(1).

توضيح دلالة الآية يتوقّف على تبيين معنى العدَّة في الآية، فهل المراد منها، الأطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث؟ وهذا الخلاف يتفرّع على خلاف آخر هو تفسير «قروء» بالأطهار او الحيضات.

توضيحه: أنّ الفقهاء اختلفوا في معنى قوله سبحانه: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾(2).

فذهبت الشيعة الإمامية إلى أنّ المراد من القروء هو الأطهار الثلاثة، وقد تبعوا في ذلك ما روي عن علي عليه السلام: «روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: فقلت: أصلحك الله أكان عليّ عليه السلام يقول: إنّ الإقراء التي سمّى الله في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليست بالحيض ؟ قال: نعم، كان يقول: إنّما القرء الطهر، تقرأ فيها الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض، قذفته»(3).

وذهب أصحاب سائر المذاهب – إلا قليلاً – كربيعة الرأي إلى أنّ المراد منها هي الحيضات. ولسنا في مقام تحقيق ذلك إنّما الكلام في بيان دلالة الآية على كلا المذهبين على اشتراط الطهارة في حال الطلاق، بعد الوقوف على أنّ من جوّز الطلاق في الحيض قال بعدم احتساب تلك الحيضة من «القروء» فنقول:

إن قلنا بأنّ العِدّة عبارة عن الأطهار فيكون اللام في قوله: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ بمعنى (في) ويكون المراد: فطلقوهنّ في عدّتهنّ، نظير قوله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أنّ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾(4) أي طلقوهنّ في عدّتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدّتهن(5)، أو هي بمعنى الغاية، فيكون المعنى: طلّقوهنّ لأن يعتددن بعد

_______________________________________

1 - سورة الطلاق: 1.

2 - سورة البقرة: 228.

3 - الحر العاملي، الوسائل، الجزء 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 4.

4 - سورة الحشر: 2.

5 - الرازي، مفاتيح الغيب 3: 30.

ـ(150)ـ

الطلاق بلا فصل، وعلى كلا الوجهين تدلّ الآية بالملازمة على شرطية الطهارة في الطلاق.

«وإن قلنا بأنّ العِدة عبارة عن الحيضات الثلاث يكون المراد ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ مستقبلات لِعِدَّتِهِنَّ كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلاًً الثلاث (1). فيما أنّ العدة على هذا الفرض هي الحيض، فيكون قُبيله هو ضدّها أعني الطهارة.

وعلى كلّ تقدير فالآية ظاهرة في شرطية الطهارة في صحّة الطلاق.

ثمّ إنّ بعض الباحثين ذكر الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض: «إنّ ذلك يطيل على المرأة العِدّة، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عِدّتها، فلتنتظر حتّى تطهر من حيضها وتتّم مدّة طهرها ثمّ تبدأ العِدّة من الحيضة التالية»(2).

هذا على مذاهب أهل السنّة من تفسير «القروء» ومن ثمّ العِدّة بالحيضات، وأمّا على مذهب الإمامية من تفسيرها بالأطهار، فيجب أن يقال:... فإنّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عِدتها فتنتظر حتّى تطهر من حيضها وتبدأ العِدّة من يوم طهرت.

وعلى كلّ تقدير، فبما أنّهم اتّفقوا على أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من العدّة إمّا لاشتراط الطهارة أو لعدم الاعتداد بتلك الحيضة، تطيل على المرأة العِدّة سواء كان مبدؤها هو الطهر أو الحيضة التالية.

 

الاستدلال بالسنَّة:

إنّ الروايات تظافرت عن أئمّة أهل البيت على اشتراط الطهارة. روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كلّ طلاق لغير العدّة (السنّة) فليس بطلاق:

_______________________________________

1 - الزمخشري، الكشاف 1: 137، ط بيروت، وهذا ما أشار إليه الشيخ الطوسي في الخلاف من أنّ المعنى:

قبيل عدتهن، ولاحظ: المصباح المنير مادة «عدّ» وقد عقد الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل باباً في أنّ الإقراء في العِدة هي الأطهار (لاحظ الوسائل، الجزء 15، الباب 14 من أبواب العدد).

2 - أحمد محمّد شاكر، نظام الطلاق في الإسلام: 27.

ـ(151)ـ

أن يطلّقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعدما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق»(1).

هذا ما لدى الشيعة وأمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبدالله بن عمر، حيث طلّق زوجته وهي حائض، وقد ثقلت بصور مختلفة نأتي بها (2).

الأُولى: ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة وإليك البيان:

1 - سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً قال: طلّق عبدالله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ عبدالله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليراجعها، فردّها عليّ وقال: إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك، قال ابن عمر: وقرأ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ أي في عِدَّتِهِنَّ.

2 - روى أبو الزبير قال: سألت جابراً عن الرجل يطلّق امرأته وهي حائض؟ فقال: طلّق عبدالله بن عمر امرأته وهي حائض، فأتى عمر رسول الله فأخبره بذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليراجعها فإنّها امرأته.

3 - روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتدّ بها.

الثانية: ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً وإن لزمت إعادة الطلاق وإليك ما نقل بهذا المضمون:

1 - يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلّق امرأته وهي حائض؟

_______________________________________

1 - الحر العاملي، الوسائل، الجزء 15، الباب 8 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 9، وغيره.

2 - راجع في الوقوف على تلك الصور، السنن الكبرى للبيهقي 7: 324، 325.

ـ(152)ـ

فقال: تعرف عبدالله بن عمر ؟ قلت: نعم، قال: فإنّ عبدالله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها.

قال، قلت: فيعتدّ بها ؟ قال: نعم، قال: أرأيت إن عجز واستحمق.

2 - يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلّق امرأته، وهي حائض؟

قال: تعرف ابن عمر؟ إنّه طلّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمره أن يراجعها، قلت: فيعتدّ بتلك التطليقة؟ قال: مه ؟ أرأيت إنّعجز واستحمق.

3 - يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر قال: طلّقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك لـه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليراجعها، فإذا طهرت فليطلّقها، قال: فقلت لابن عمر: فاحتسبت بها ؟ قال: فما يمنعه ؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

4 - أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول: طلَّقت امرأتي وهي حائض، قال:

فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال، فقال: ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال: فقلت لـه – يعني لابن عمر – يحتسب بها ؟ قال: مه؟

5 - أنس بن سيرين: ذكر نحوه غير أنّه قال: فيطلّقها إن شاء. قال: قال عمر يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم.

6 - أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق ؟ فقال: طلّقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر فذكره للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: مره فيراجعها فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها. قال: فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها. قلت: واعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت وهي حائض ؟ قال: مالي لا أعتدّ بها، وإن كنت عجزت واستحمقت.

7 - عامر قال: طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة، فانطلق عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.

ـ(153)ـ

8 - نافع عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته، وهي حائض، فأتى عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك لـه فجعلها واحدة.

9 - سعيد بن جبير عن ابن عمر قال حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة الثالثة: ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين:

1 - ابن طاووس عن أبيه: أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال: أتعرف عبدالله بن عمر ؟ قال: نعم. قال: فإنّه طلّق امرأته حائضاً، فذهب عمر إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره الخبر، فأمره أن يراجعها. قال: لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه.

2 - منصور بن أبي وائل إنّ ابن عمر طلّق امرأته، وهي حائض، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يراجعها حتّى تطهر، فإذا طهرت طلّقها.

3 - ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته في حيضها، قال: فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يرتجعها حتّى تطهر فإذا طهرت فإن شاء أمسك قبل أن يجامع.

وهناك رواية واحدة تتميّز بمضمون خاص بها، وهي رواية نافع قال: إنّ عبدالله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك ؟ فقال رسول الله: فليراجعها، فليمسك حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر، إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العِدّة التي أمر الله أن يطلّق لها النساء .

وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الإشكالات التي تواجه كلاًّ منها ومعالجتها.

معالجة الصور المتعارضة:

لا شكّ أنّ الروايات كانت تدور حول قصّة واحدة، لكن بصور مختلفة، فالحّجة

ـ(154)ـ

بينها مردّدة بين تلك الصور والترجيح مع الأولى لموافقتها الكتاب وهي الحجّة القطعية، وما خالف الكتاب لا يحتج به، فالعمل على الأولى.

وأمّا الصورة الثالثة، فيمكن إرجاعها إلى الأولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحّة، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه الرجوع إلى الطلاق الملازم لصحّته، لكن ليس بشيء.

فإنّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية، ويؤيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الإمساك، فيقول: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنّ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنّ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنّ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾(1).

وقال سبحانه: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أنّ تَأْخُذُواْ ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أنّ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فإنّ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(2) وقال سبحانه:﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(3). وقال تعالى: ﴿... بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا...﴾(4).

نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها، قال سبحانه: ﴿فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فإنّ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنّ يَتَرَاجَعَا إنّ ظَنَّا أنّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(5).

بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب أعني الصورة الثانية، فيلاحظ عليه بأُمور:

1 - مخالفتها للكتاب، وما دلّ على عدم الاحتساب.

2 - إنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّما إلى رأي ابن عمر وقناعته، فلو كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أمر باحتسابها، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى

_______________________________________

1 - سورة البقرة: 228.

2 - سورة البقرة: 229.

3 - سورة البقرة: 231.

4 - سورة البقرة: 231.

5 - سورة البقرة: 230.

ـ(155)ـ

ذلك في جواب السائل، فعدم استناده إلى حكم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دليل على عدم صدور ما يدّل على الاحتساب من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب، لأنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم باحتساب التطليقة، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه، وهو ليس حجّة لإثبات الحكم الشرعي.

نعم روايتا نافع رويتا بصيغتين، نسب الحكم بالاحتساب في إحدى الصيغتين إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني)، بينما رويت الثانية بصيغة أخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 3 من القسم الأوّل).

وأمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن على أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرّواية 5 من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لإثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه.

3 - انّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بإرجاعها وتطليقها في الطهر هذه، لأنّ القائلين بصحّة الطلاق في الحيض لا يصحّحون إجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين وإجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالأمر من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بإرجاعها وتطليقها في الطهر الثاني ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.

4 - اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعيّر ولده بالعجز عن الطلاق، وظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعاً.

وبعد ملاحظة كلّ ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذي يبدو أنّ النصّ – على فرض صدوره – لم يتضمّن احتساب التطليقة من قِبَل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

ـ(156)ـ

وإنّما هي إضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.

وأمّا رواية نافع المذكورة فيلاحظ أنّها لا تدلّ على صحّة التطليقة الأُولى إلا بادّعاء ظهور «الرجوع» في صحّة الطلاق وقد علمت ما فيه، وأمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال: «مره فليراجعها، فليمسك حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر. إن شاء أمسكها وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ فتلك العدّة التي أمره أن يطلّق لها النساء» فلعلّ أمره بمضي طهرٍ وحيض، لأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأُرغم عليه أن يصبر طهراً وحيضاً، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.

وبعد كلّ هذا يمكننا ترجيح الحكم ببطلان الطلاق في الحيض، لاضطراب النقل عن ابن عمر، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدالّ على وقوع الطلاق في العِدّة.

ـ(157)ـ

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية(1).

وأمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيّته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي، ومن غير فرق في الأقرب، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصيّة للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصيّة لـه سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر، إلا بإجازة الورثة.

قال السيّد المرتضى: «وممّا ظنّ انفراد الإمامية به، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة، وليس للوارث (غير الموصى لـه ) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء(2)، وإن كان الجمهور والغالب، على خلافه»(3).

_______________________________________

1 - ابن قدامة، المغني 6: 78.

2 - سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.

3 - السيد المرتضى، الانتصار: 308.

ـ(158)ـ

وقال الشيخ الطوسي: تصحّ الوصيّة للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث(1).

وقال الخرقي في متن المغني: « ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك». وقال ابن قدامة في شرحه:  إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة، لم تصحّ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فروى أبو أُمامة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث» رواه أبو داود و ابن ماجة والترمذي، «ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة وقوّة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم باعطاء الذي لم يطعه فيما بعد ذلك، لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلّق الحقوق به وتعذّر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء»(2).

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث، إلا إذا أجاز الورثة، حتّى انّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلا أن يعطوه عطية مبتدأة(3) – ومع هذا التصريح – ينقل الشيخ محمّد جواد مغنية: إنّ عمل المحاكم في مصر على المذاهب الأربعة، ثمّ عدلت عنها إلى مذهب الإمامية، ومازال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه (4).

يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة: إنّها لا تقاوم الذكر الحكيم، واتّفاق أئمّة

_______________________________________

1 - الطوسي، الخلاف: 2، كتاب الوصية 1.

2 - المغني 6: 79 – 80.

3 - المصدر نفسه.

4 - الفقه على المذاهب الخمسة: 465.

ـ(159)ـ

أهل البيت، ولو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في الحياة في البّر والإحسان، لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه، وما نقل عن النبيّ من النهي، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. والعجب استدلال من ينكر التحسين والتقبيح العقليين، بهذه الحكم والمصالح التي لا يدركها إلا العقل، مع أنّه بمعزل عندهم عن إدراكهما عند أصحاب المذاهب الأربعة، وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.

والأولى عرض المسألة على الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(1).

المراد من حضور الموت، ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره، ولم يرد إذا عاين ملك الموت، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصيّة والموصى لـه، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف، فإنّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصيّة للوالدين، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصيّة ثمّ عمّم الموضوع وقال: (والأقْربين) ليعمّ كلّ قريب، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصحّ رفع اليد عنه إلا بدليل قاطع مثله، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين:

_______________________________________

1 - سورة البقرة: 180.

ـ(160)ـ

1 - آية الوصيّة منسوخة بآية المواريث:

قالوا: إنّها منسوخة بآية المواريث، فعن ابن عباس والحسن: نسخت الوصيّة للوالدين بالفرض في سورة النساء(1)، و تثبت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين، وجماعة من أهل العلم.

ومنهم من يأبى عن كونها منسوخة، وقال: بأنّها محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الورثة(2).

ومرجع الوجه الأوّل: إلى النسخ في الوالدين وأنّه لا يوصى لهما وارثين كانا أو ممنوعين، والتخصيص في الأقربين فيصح الإيصاء لهم إذا لم يكونوا وارثين.

ومرجع الوجه الثاني: إلى التخصيص في كلا الموردين.

وقال الجصاص في تفسير الآية: نسختها آية الفرائض.

1 - قال ابن جريج عن مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين. فهي منسوخة(3).

2 - وقال طائفة أُخرى: قد كانت الوصيّة واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن يرث، وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون(4).

وعلى الوجه الأوّل فآية الوصيّة منسوخة بالمعنى الحقيقي، وعلى الثاني مخصّصة حيث أخرج الوارث منهما وأبقى غير الوارث، لكن لازم كون الوصية واجبة وبقاء الأقربين تحت العموم، وجوب الوصية لغير الوارث منهما وهو كما ترى نظير هذه

_______________________________________

1ـ ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فإنّ كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ممّا تَرَكَ إنّ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فإنّ لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فإنّ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا﴾ سورة النساء: 11.

2 - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 262 - 263.

3 - رواه الدارمي في سننه، مرسلا عن قتادة، السنن 2: 419.

4 - أحكام القرآن، الجصاص 1: 164.

ـ(161)ـ

الكلمات في كتب التفسير والفقه لأهل السنّة، ونعلّق عليها بوجهين:

الأوّل: إنّ السابر في كتب القوم يقف على أنّ الذي حملهم على ادّعاء النّسخ والتخصيص في الآية هو رواية أبي أُمامة أو عمر بن خارجة وأنّه سمع رسول الله يقول في خطبته – عام حجّة الوداع -:«ألا إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث»(1). ولولا هذه الرواية لما خطر في بال أحدٍ بأن آية المواريث ناسخة لآية الوصية، إذ لاتنافي بينهما قيد شعرة حتّى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة، إذ لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان فرضاً أو ندباً أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء، لا يتجاوز الثلث، وفي الوقت نفسه يُورِّث الوالدين والأقربين على النّظام المعروف في الفقه.

والذي يوضح ذلك: هو أنّ الميراث، في طول الوصيّة، ولا يصحّ للمتأخّر أن يطارد المتقدّم وأن يرثون بعد إخراج الدين والوصية، قال سبحانه: ﴿... مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ...﴾(2).

وفي موردين آخرين: ﴿... مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ...﴾(3) فلا موضوع للنّسخ ولا للتّخصيص.

وقد تفطّن القرطبي لبعض ما ذكرنا وقال: «ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورِّث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع»(4).

أقول: أمّا الإجماع، فغير متحقّق، وكيف يكون كذلك مع أنّ أئمة أهل البيت – كما سيوافيك – اتّفقوا على جوازه وكذلك فقهاء الإماميّة طوال القرون وهم ثلث المسلمين، وبعض السلف كما يحدّث عنه صاحب المنار، وأمّا الحديث فسيوافيك ضعفه، وأنّه على فرض الصحّة سنداً، قابل للتأويل والحمل على ما زاد عن الإيصاء والثلث.

_______________________________________

1 - سيوافيك نصّه وسنده.

2 - سورة النساء: 11.

3 - سورة النساء: 12.

4 - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1: 263.

ـ(162)ـ

الثاني: إنّ ادّعاء النسخ أو التّخصيص في الآية بآية المواريث، متوقّف على تأخّر الثانية عن الأولى وأنّى للقائل بهما إثباته؟ بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لأجل الإتيان بلفظ «كُتِبَ» وتوصيفه بكونه حقّاً على المؤمنين يأبى عن كونه حكماً مؤقتاً لا يدوم إلا شهراً أو شهوراً.

قال الإمام عبده: «إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فإنّ السياق ينافي النسخ، فإنّ الله تعالى إذا شرّع للناس حكماً وعلم أنّه مؤقت وأنّه سينسخه بعد زمن قريب فإنّه لا يؤكده و لا يوثقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيدٍ لمن بدّله».

ثمّ قال: «وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران، فله أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما»(1).

ولا يخفى ما في صدر كلامه من الإتقان لولا ما تنازل في آخره وحاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لايرثان من الوالدين لسببٍ كالقتل والكفر والسرقة، إذ لقائلٍ أن يسأل الإمام أنّه إذا كان المراد من الوالدين والأقربين في آية الوصية هم الممنوعون من الوراثة، فما معنى هذا التأكيد والعناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلّته بالنسبة إلى غير الممنوعين ؟ أوَليس هذا أشبه بالتّخصيص المستهجن؟

فلا محيص عن القول بعموم الآية، لكلّ والد ووالدة وأقرب ممنوعين كانوا أم غيره.

وأمّا ما يثيرون حول الإيصاء للوالدين من كونه سبباً لظهور العداء، فقد مرّ جوابه في صدر البحث وهنا نزيد ما ذكره الإمام بقوله:

وجوّز بعض السلف الوصيّة للوارث نفسه بأن يخصّ بها من يراه أحوج من

_______________________________________

1 - المنار 2: 136 – 137.

ـ(163)ـ

الورثة كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً مثال ذلك أن يطلّق أبوه أُمّه وهو غنيّ، ولا عائل لها إلا ولدها، ويرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته – إن لم يكن له ولد – عاجزاً عن الكسب فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه، لا يحكم أن يساوي الغني الفقير. والقادر على الكسب من يعجز عنه، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة كما أنّهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الإرث... ويجعل الوالدين والأقربين في آية أُخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً، فقد قال في آيات الإرث في (سورة النساء: 11) ﴿...مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ...﴾ فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك.

لقد بان الحقّ ممّا ذكرنا وأنّ الذكر الحكيم أعطى للإنسان حقّ الايصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها، على حدّ لا يتجاوز الثلث، وليكون ايصاؤه أيضاً على حدّ المعروف.

ويؤيده إطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه: ﴿النبيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أنّ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾(1). ويريد من الذيل الإحسان في الحياة والوصية عند الموت فإنّه جائز (2) وإطلاقه يعمّ الوارث وغيره.

والله سبحانه هو العالم بمصالح العباد، فتارة يخصّ بعض الوارث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث، وأخرى يوصي لغير الوارث بشيء منها، يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ

_______________________________________

1 - سورة الأحزاب: 6.

2 - الجامع لأحكام القرآن 14: 126.

ـ(164)ـ

قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾(1).

والمراد من ذوي القربى الأخ للميت الشقيق وهو لا يرث، وكذلك العمّ والخال والعمّة والخالة ويعدّون من ذوي القربى للوارث، الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودّد إليهم، واستمالتهم بإعطائهم شيئاً من ذلك الموروث، بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية...

 

2 - آية الوصيّة منسوخة بالسنّة:

قد عرفت مدى صحّة نسخ الآية بآية المواريث فهلمّ معي ندرس منسوخيّة الآية بالسنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإليك ما نقل سنداً أو متناً:

روى الترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث:

1 - حدثنا علي بن حجر وهنّاد قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أُمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في خطبته عام حجة الوداع: إنّ الله قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر...

2 - حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب على ناقته وأنا تحت جِرانها وهي تقصع بجرّتها(2) وإنّ لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ

_______________________________________

1 - سورة النساء: 8.

2 - الجران: هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر. «تقصح بجرّتها»: أراد شدة المضغ وضمّ بعض الأسنان على بعض، وقيل: قصع الجرّة: خروجها من الجوف إلى الشدق. النهاية.

ـ(165)ـ

حقّه، ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر... (1).

وفي الإسناد: من لا يحتجّ به.

 

1 - إسماعيل بن عياش:

قال الخطيب: عن يحيى بن معين يقول: أمّا روايته عن أهل الحجاز فإنّ كتابه ضاع، فخلط في حفظه عنهم.

وقال محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأمّا من روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف.

وقال عمر بن علي: كان عبد الرحمن بن المهدي: لا يحدّث عن إسماعيل بن عياش(2).

وقال ابن منظور: وقال مضر بن محمّد الأسدي، عن يحيى: إذا حدّث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم، فإذا حدّث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شاء (3).

وقال الحافظ جمال الدين المزّي: قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال: نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث صحاح، وفي «المصنف» أحاديث مضطربة.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم: إسماعيل بن عياش في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين.

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت وكيعاً يقول: قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ من أطراف لإسماعيل بن أبي خالد، فرأيته يخلط في أخذه.

_______________________________________

1 الترمذي: السنن: 4: 433، باب ما جاء لا وصية لوارث، الحديث 2120 – 2121.

2 - الخطيب، تاريخ بغداد 6: 226 – 227.

3 - ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق 4: 376.

ـ(166)ـ

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ما أشبه حديثه بثياب سابور يُرقّم على الثوب المائة، وأقل شرائه دون عشرة. قال: كان من أروى الناس عن الكذابين. وقال أبو إسحاق الفزاري في حقّه: ذلك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه(1).

ونقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدّث عن الثقات ولا عن غير الثقات.

2 - شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي:

قال ابن معين: ضعيف واختُتِنَ في ولاية عبد الملك بن مروان(2) ووثّقه الآخرون.

3 - شهر بن حوشب:

تابعي توفّي في حدود عام 100.

قال النسائي: «ليس بالقوي»(3).

وقال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه: كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم فقال القائل:

لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهرُ (4).

وقال جمال الدين المزّي: قال شباية بن سوّار عن شعبة: ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به. وقال عمرو بن علي: كان يحيى لا يُحدِّث عن شهر بن حوشب. وقال أيضاً: سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر... فقال: ما يُصنع بشهر؟ إنّ شعبة نزك

_______________________________________

1 - جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 3: 175 – 178.

2 - الترمذي، السنن 4: 433، الحديث 220.

3 - النسائي، الضعفاء والمتروكين: 134 برقم 310.

4 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 4: 286، برقم 570.

ـ(167)ـ

شهراً. فقال النضر: نزكوه. أي طعنوا فيه.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أحاديثه لا تشبه حديث الناس. وقال موسى بن هارون: ضعيف. وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد لا يحّدث عن شهر، وقال يعقوب بن شيبة:... على أنّ بعضهم قد طعن فيه(1).

3 - روى أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم: سمعت أبا أُمامة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث»(2).

والإسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد عرفت حالهما. فلاحظ.

4 - روى النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ولا وصيّة لوارث.

5 - أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، قال: حدّثنا شعبة، قال: حدّثنا قتادة عن شهر بن حوشب، إنّ ابن غنم ذكر أنّ ابن خارجة ذكر له أنّه شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخطب الناس على راحلته، وإنّها لتقصع بجرّتها وانّ لعابها ليسيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبته: إنّ الله قد قسّم لكلّ إنسان قسمة من الميراث، فلا تجوز لوارث وصيّة.

فالإسنادان اشتملا على شهر بن حوشب، وقد تعرّفت عليه.

6 - أخبرنا عتبة بن عبدالله المروزي قال: انبأنا عبدالله بن المبارك، قال: أنبأنا

_______________________________________

1 - جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 12: 581.

2 - أبو داود، السنن 3: 114، باب ما جاء في الوصية للوارث، برقم 2870.

ـ(168)ـ

إسماعيل بن أبي خالد، عن قتادة عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ الله عزّ اسمه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ولا وصيّة لوارث»(1).

وقد اشتمل الإسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة: أبو الخطاب البصري (61 – 117 هـ) الذي ورد في حقّه عن حنظلة بن أبي سفيان: كنت أرى طاووساً إذا أتاه قتادة يسأله يفرّ منه، قال: وكان قتادة يتهم بالقدر.

وقال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: إنّ عبد الرحمن يقول: اترك كلّ من كان رأساً في بدعة يدعو إليها قال: كيف تصنع بقتادة...؟ ثمّ قال يحيى: إنّ ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً.

وقال الحاكم في علوم الحديث: لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس. وقال أبو داود: حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم (2).

7 - روى ابن ماجة: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون: أنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أنّ النبيّ خطبهم وهو على راحلته، وأنّ راحلته، وأن راحلته، لتقصع بجرّتها، وأنّ لُعابها ليسيل بين كتفيَّ، قال: إنّ الله قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصيّة، والولد للفراش...

كذلك فالإسناد مشتمل على شهر بن حوشب.

8 - حدثنا هشام بن عمّار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني: سمعت أبا أُمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في خطبته، عام حجّة الوداع:

_______________________________________

1 - النسائي، السنن 6: 207، كتاب الوصايا باب إبطال الوصية للوارث، الحديث بإسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزار في حقّه: إنّه لا نعلم له عن النبيّ إلا هذا الحديث.

2 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 8: 319، جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 23: 509.

ـ(169)ـ

إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث.

وفي الإسناد إسماعيل بن عياش، وقد عرفت حاله.

9 - حدثنا هشام بن عمّار، ثنا محمّد بن شعيب بن شابور، ثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد، أنّه حدّثه عن أنس بن مالك قال: إنّي لتحت ناقة رسول الله، يسيل عليَّ لعابها فسمعته يقول: إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ألا لا وصيّة لوارث(1).

وفي السند، من لا يحتج به:

1 - عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي أبو عتبة الشامي (المتوفى عام 143).

قال الفلاس: ضعيف الحديث... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير(2).

2 - سعيد بن أبي سعيد، واسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفى عام 125).

قال يعقوب بن شيبة: قد كان تغيّر واختلط قبل موته يقال بأربع سنين، وقال الواقدي: اختلط قبل موته بأربع سنين، وقال ابن حبّان في الثقات: اختلط قبل موته بأربع سنين(3).

10 - روى الدارقطني: نا أبو بكر النيسابوري، نا يوسف بن سعيد، نا حجاج، عن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة.

وفي الإسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 هـ - 135 هـ).

قال الدار قطني: لم يلقَ ابن عباس.

_______________________________________

1 - سنن ابن ماجة 2: 905، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، الأحاديث 2712 – 2714.

2 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 6: 266 برقم 581.

3 - المصدر نفسه 4: 34 برقم 61.

ـ(170)ـ

وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس ولم يره.

البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء... والبخاري لم يخرج له شيئاً.

وقال ابن حبّان: كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به (1).

وقال البيهقي: عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود السجستاني وغيره وقد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس (2).

11 - نا علي بن إبراهيم بن عيسى، نا أحمد بن محمّد الماسرجسي، نا عمرو بن زرارة، نا زياد بن عبدالله، نا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول الله: لا وصيّة لوارث إلا أنّ يجيز الورثة.

ولو صحّ الإسناد، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله.

12 - نا عبيد الله بن عبد الصمد بن المتهدي، نا محمّد بن عمرو بن خالد، نا أبي عن يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله: «لا يجوز لوارث وصيّة الاّ أنّ يشاء الورثة»(3).

ولا أظنّ أنّ فقيهاً يحتجّ بحديث في سنده:

عكرمة البربري: أبو عبدالله المدني مولى ابن عباس: وقد عرّفه أهل الرجال بما يلي:

قال ابن لهيعة: عن أبي الأسود: كان عكرمة قليل العقل خفيفاً، كان قد سمع الحديث من رجلين، وكان إذا سئل حدّث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك، فيحدّث به عن الآخر، فكانوا يقولون: ما أكذبه.

وقال يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأنّ عكرمة كان ينتحل

_______________________________________

1 - المصدر نفسه 7: 190 برقم 395.

2 - البيهقي، السنن الكبرى 6: 264.

3 - الدارقطني، السنن 4: 152، «الوصايا» الحديث 10 – 11.

ـ(171)ـ

رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) وقال عطاء: كان اباضياً.

وقال أبو خلف الخزاز، عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتّق الله ويحك يا نافع ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

وعن سعيد بن المسيّب أنّه كان يقول لغلامه: لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.

وعن عطاء الخراساني: قلت لسعيد بن المسيّب: إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوّج ميمونة وهو محرم، فقال: كذب مخبثان.

وقال سعيد بن جبير: كذب عكرمة.

وكان وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري: كان كذّاباً.

وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه.

وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل:... وعكرمة مضطرب الحديث يختلف

وقال ابن عليه ذكره أيوب فقال: قليل العقل.

وقال الحاكم أبو أحمد: احتجّ بحديثه الأئمّة القدماء لكن بعض المتأخرين أخرج حديث من حيّز الصحاح(1).

14 - نا أحمد بن كامل، نا عبيد بن كثير، نا عباد بن يعقوب، نا نوح بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: قال رسول الله: لا وصية لوارث ولا إقرار بدين.

وفي الإسناد من لا يحتجّ به أهل السنّة وهو نوح بن دراج (المتوفى عام 182)

والحديث نقل محرّفاً.

_______________________________________

1 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 7: 234 رقم 476.

ـ(172)ـ

فقد تظافر عن جعفر بن محمّد صحّة الوصية للوارث إلا إذا تجاوز عن الثلث، فإنّه إضرار بالورثة و يؤيّده ذيل الحديث «ولا إقرار بدين» والإقرار بالدين، والايصاء فوق الثلث مظنّة الإضرار بالورثة.

15 - نا أحمد بن زياد، نا عبد الرحمن بن مرزوق، نا عبد الوهاب، نا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله بمنى فقال: إنّ الله عزوجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارثٍ وصيّة إلا من الثلث، قال: ونا سعيد بن مطر عن شهر، عن عمرو بن خارجة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مثله(1).

والسند مشتمل على شهر بن حوشب، والمتن يؤيد مقالة الإماميّة حيث قال: فلا يجوز له إرث إلاّ من الثلث.

16 - روى الدارمي: حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام الدستوائي، ثنا قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة، قال: كنت تحت ناقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي تقصع بجرّتها و لعابها ينوص بين كتفي، سمعته يقول: ألا إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا يجوز وصيّة لوارث(2).

وفي الإسناد شهر بن حوشب و كفى به ضعفاً.

17 - روى البيهقي بأسانيد مختلفة، لا تخلو من ضعف.

فالأوّل مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس وقد عرفت عدم إدراكه له وعطاء هذا هو عطاء الخراساني.

والثاني مشتمل على رواية: عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، وقد عرفت حال

_______________________________________

1 - الدار قطني، السنن 4: 152 «الوصايا» الحديث 12 و 13.

2 - الدارمي 2: 419، باب الوصية للوارث.

ـ(173)ـ

الرجلين.

والثالث أيضاً مثل الثاني.

والرابع مشتمل على الربيع بين سليمان، الذي كان يوصف بغفلة شديدة، وعن الشافعي أنّه ليس بثبت وإنّما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي(1).

وعلى سفيان بن عيينة (المتوفى عام 198) قال محمّد بن عبدالله بن عمّار: «سمعت يحيى بن سعيد يقول: اشهدوا أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 97، فمن سمع في هذه السنّة وبعدها، سماعه لا شيء»(1).

وعلى مجاهد بن جبر المكّي المولود في خلافة عمر (المتوفى عام 100) فمضافاً إلى أنّ الرواية مقطوعة فقد ورد في حقّه: مجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل(3).

والخامس مشتمل على ابن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد تعرّفت عليهما.

والسادس مشتمل على شهر بن حوشب.

والسابع مشتمل على حماد بن سلمه عن قتادة، والسند إمّا مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة.

والثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم وهو مردّد بين العبدي (أبو محمّد البصري) والمكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعّفه جمال الدين المزّي بقوله: قال: عمرو بن علي: كان يحيى و عبد الرحمن لا يحدّثان عن إسماعيل المكي.

وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث.

وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي وأبو يعلى الموصلي عن يحيى.

_______________________________________

1 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 3: 213 برقم 473.

2 - جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال 11: 196،

3 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 10: 40 برقم 68.

ـ(174)ـ

وعن علي بن المديني: إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه... وكان ضعيفاً في الحديث... يكثر الخلط.

وقال أبو زرعة: هو بصري سكن مكة، ضعيف الحديث.

وقال النسائي:... متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ليس بثقة(1).

والتاسع مشتمل على عبدالرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، وسعيد بن أبي سعيد وقد تعرّفت عليهما.

والعاشر مشتمل على سفيان بن عيينة وقد تعرّفت عليه وعلى طاووس بن كيسان اليماني وهو تابعي لم يدرك النبيّ وإنّما ينقل ما ينقل عن ابن عباس (2).

18 - روى الحافظ سعيد بن منصور المكي (المتوفى 227) في سننه هذا الحديث بأسانيد مختلفة.

فالأوّل – مضافاً إلى أنّه مقطوع بمجاهد - مشتمل على سفيان بن عيينة.

والثاني: مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفّى حدود عام 125) ومشتمل على سفيان بن عيينة.

والثالث: مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم.

والرابع: مشتمل على شهر بن حوشب.

والخامس: مشتمل على سفيان بن عيينة وهشام بن حجر المكي الذي ضعّفه يحيى بن معين، وعن غيره أنّه يضرب على حديثه، وعن أبي داود أنّه ضرب الحدّ بمكة(3).

19 - روى الصنعاني بسند ينتهي إلى شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة،

_______________________________________

1 - جمال الدين المزّي، تهذيب الكمال 3: 198 برقم 483.

2 - البيهقي، السنن 6: 264 - 265.

3 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 11: 32 برقم 74.

ـ(175)ـ

قال: سمعت رسول الله يقول: لا وصيّة لوارث (1) وقد تعرفت على حال «شهر».

 

ملاحظات على نسخ الآية بالسنّة:

ويلاحظ على هذه الإجابة، أي نسخ الكتاب بهذه الروايات، بوجوه:

1 - الكتاب العزيز، قطعي السند، وصريح الدلالة في المقام. وظاهر الآية كون الحكم أمراً أبدياً وأنّه مكتوب على المؤمنين، وهو حقّ على المتّقين، أفيصحّ نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل ونقاش فرواتها مخلّط، من أروى الناس عن الكذابين، لا يرى ما يخرج من رأسه، إلى ضعيف أُختُتِنَ في كبر سنِّه، إلى بائع دينه بخريطة، إلى مسنِد ولم ير المسند إليه، إلى محدود أُجري عليه الحدّ في مكة، إلى خارجيّ يُضرب به المثل، إلى، إلى، إلى (2).

ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فإنّما نقول به إذا كان الناسخ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2 - كيف يمكن الاعتماد على رواية تدّعي أنّ النبيّ الأكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبيّ إلا في وقعة الغدير، وقال: إنّه لا وصيّة لوارث، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلا أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول الله سوى هذه (3) أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3 - لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج، لكنّه لا يعادله و لا يقاوم ما تواتر عن

_______________________________________

1 - الصنعاني، عبدالرزاق بن همام (176 - 211)، المصنف 9: 70 برقم 16376.

2 - لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث ونقلته.

3 - ابن احجر، الإصابة 2: 527، المزّي، تهذيب الكمال 21: 599؛ وابن حبّان، الثقات 3: 271.

ـ(176)ـ

أئمّة أهل البيت من جواز الوصيّة للوارث. فهذا هو محمّد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني، من تلاميذ أبي جعفر الباقر عليه السلام يقول: سألت أبا جعفر عن الوصيّة للوارث ؟ فقال: تجوز، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إنّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.

وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق عليه السلام يروي عنه أنّه سأله عن الوصيّة للوارث ؟ فقال: تجوز(1).

4 - انّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث، إذ من المحتمل جداً أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر قيداً لكلامه، ولم يسمعه الراوي أو سمعه، وغفل عن نقله، أو نقله ولم يصل إلينا وهو أنّه من قال: «ولا تجوز وصيّة للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه، كما ورد كذلك من طرقنا، وطرق أهل السنّة. وقد عرفت: انّ الدارقطني نقله عن الرسول الأكرم بهذا القيد (2) وقد ورد من طرقنا عن النبيّ الأكرم أنّه قال في خطبة الوداع: «أيّها الناس إنّ الله قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصيّة لوارث بأكثر من الثلث»(3).

وبعد هذه الملاحظات لا يبقى أيّ وثوق للرواية بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك: أنّ الإسلام دين الفطرة، ورسالته خاتمة الرسالات فكيف يصحّ أن يسدّ باب الإيصاء للوارث، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الإيصاء للوارث، بعيداً عن الجور والحيف، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً، أو مريضاً، أو معوّقاً أو طالب علم، لا يتسنّى له التحصيل إلا بعون آخرين.

_______________________________________

1 - وسائل الشيعة، الجزء 13، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا الحديث، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرح جواز الوصية للوارث.

2 - لاحظ الرقم 15 ممّا سلف وفيه: فلا يجوز لوارث وصيّة إلا من الثلث.

3 - الحسن بن علي بن شعبة (من محدّثي القرن الرابع) تحف العقول: 34.

ـ(177)ـ

كلّ ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار، إلى دراسة المسألة من الأصل عسى أن يتبدّل المختلف إلى المؤتلف والخلاف إلى الوفاق بفضله وكرمه سبحانه.

ـ(178)ـ

ـ(179)ـ

إرث المسلم من الكافر

لا خلاف بين المسلمين أنّ الكافر لا يرث المسلم، وإنّما الخلاف في أنّ المسلم يرث الكافر أو لا، فأئمّة أهل البيت على الأوّل، قائلين بأنّ الإسلام لا يزيد إلاّ عزّاً، لا بؤساً وشقاءً، فلا وجه معقول لمنع المسلم عن إرث ما ترك آباؤه أو أبناؤه، نعم الكفر يزيد بؤساً وشقاءً وحرماناً، فلا يرث الكافر المسلم لكرامة المورّث ودناءة الوارث إلا إذا أسلم.

وقد تظافرت رواياتهم على الإرث، إذا كان الوارث مسلماً سواء كان المورّث مسلماً أو كافراً.

وأمّا الصحابة فقد ذهب كثير منهم إلى هذا القول وهو مروي عن علي عليه السلام ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين مسروق وسعيد وعبدالله بن معقل، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي الباقر عليهما السلام وإسحاق ابن راهويه.

وقال الشافعي: لا يرث المسلم الكافر، وحكوا ذلك عن علي عليه السلام وعمر، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وزيد بن ثابت والفقهاء كلّهم(1).

_______________________________________

1 - الطوسي، الخلاف 2: كتاب الفرائض، المسألة 16.

ـ(180)ـ

وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أنّ الكافر لا يرث المسلم. وقال جمهور الصحابة والفقهاء لا يرث المسلم الكافر يُروَى هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأُسامة بن زيد وجابر بن عبدالله، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة، والزهري وعطاء وطاووس والحسن، وعمر بن عبدالعزيز وعمروبن دينار، والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامة الفقهاء وعليه العمل.

وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية، أنّه ورّثوا المسلم، من الكافر ولم يورّثوا الكافر من المسلم، وحكي ذلك عن محمّد بن الحنفية، وعلي بن الحسين، وسعيد ابن المسيّب، ومسروق، وعبدالله بن معقل، والشعبي، والنخعي، ويحيى بن يعمر، وإسحاق وليس بموثوق به عنهم، فإنّ أحمد قال: ليس بين الناس اختلاف في أنّ المسلم لا يرث الكافر(1).

دليلنا: إطلاقات الكتاب وعموماته مثل قوله سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾(2) وقوله سبحانه: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...﴾(3) وقوله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ ممّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ...﴾(4) فإنّها تعمّ ما إذا كان المورِّث كافراً والوارث مسلماً وأمّا عكس المسألة فقد خرج بالدليل.

أضف إلى ذلك، ما تظافر من الروايات من أئمّة أهل البيت الصريحة في التوريث.

منها: صحيحة أبي ولاّد قال: سمعت أبا عبدالله يقول: المسلم يرث امرأته الذميّة، وهي لا ترثه(5).

منها موثقة سماعة: عن أبي عبدالله قال: سألته عن المسلم هل يرث المشرك ؟ قال:

_______________________________________

1 - ابن قدامة، المغني 6: 340.

2 - سورة النساء: 11.

3 - سورة النساء: 12.

4 - سورة النساء: 7.

5 - الوسائل، الجزء 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث الحديث 1 و 5 ولاحظ الحديث 6 و 7 و 8 و 14 و17 و19 من ذلك الباب.

ـ(181)ـ

نعم فأمّا المشرك فلا يرث المسلم(1).

وقد علّل في بعض الروايات حكم التوريث بقولهم «نحن نرثهم ولا يرثونا إنّ الله عزّ وجلّ لم يزدنا بالإسلام إلا عزّا (2). وفي رواية أُخرى قال أبو عبدالله: نرثهم ولا يرثونا، إنّ الإسلام لم يزده في ميراثه إلاّ شدّة(3).

وقد فهم معاذ بن جبل من قول النبيّ: «الإسلام كايزيد ولا ينقص» حكم المسألة فورث المسلم، من أخيه اليهودي(4).

نعم استدلّ المخالف بأُمور:

1 - رواية أُسامة بن زيد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر. وقال ابن قدامة: متّفق عليه (5).

يلاحظ عليه: أنّها رواية واحدة لا تقابل إطلاق الكتاب وعمومه، وقد قلنا في البحوث الأُصوليّة إنّه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وإنّ موقف الكتاب أرقى من أن يخصّص بالظّن وقد قال به أيضاً المحقّق الحلّي في المعارج.

2 - روي عن عمر أنّه قال: لا نرث أهل الملل ولا يرثوننا (6). لكنّه خبر موقوف لم يسنده إلى النبيّ فهو كسائر موقوفات الصحابة ليس حجّة كما حقّقناه في «أُصول الحديث وأحكامه».

3 - ما رواه الفريقان عن النبيّ الأكرم أنّه قال: «لا يتوارث أهل ملّتين» لكنّه غير دال على المدّعى إذ الحديث بصدد نفي التوارث، حتّى يتوارث كلّ من الآخر، بل لا يرث الكافر من المسلم، ويرث المسلم من الكافر.

_______________________________________

1 - الوسائل، الجزء 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث الحديث 1 و 5، ولاحظ 6 و 7 و 8 و 14 و 17 و 19 من ذلك الباب.

2 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب.

3 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب.

4 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب.

5 - ابن قدامة: المغني: 6 / 341.

ـ(182)ـ

وقد تظافرت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام على هذا التفسير، روى عبد الرحمن بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا يتوارث أهل ملّتين نحن نرثهم ولا يرثونا إنّ الله – عزّ وجلّ - لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً (1).

وفي صحيحة جميل وهشام عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: فيما روى الناس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لا يتوارث أهل ملّتين»، قال: نرثهم ولا يرثونا إنّ الإسلام لم يزده في حقّه إلا شدّة (2).

وروى أبو العباس، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: لا يتوارث أهل ملّتين يرث هذا هذا، ويرث هذا هذا إلاّ أنّ المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم (3)، إلى غير ذلك من الروايات المفسرة الحديث النبوي والرادّة على فتوى الفقهاء المشهورة في عصرهم عليهم السلام.

وبذلك تظهر حال مسائل أُخرى مذكورة في الفرائض.

_______________________________________

1 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15.

2 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15.

3 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15.

ـ(183)ـ

التوريث بالعصبة

اتّفقت الإماميّة على أنّ ما فضُلَ عن السهام يردُّ على صاحب السهام بخلاف سائر الفقهاء. ولأجل إيضاح محلّ الخلاف بين الإماميّة وسائر الفقهاء نذكر أُموراً:

الأوّل: إذا بقي من سهام التَّركَة شيء بعد إخراج الفريضة - فله صور:

الصورة الأُولى: «إنّ الميّتَ إذا لم يخلُف وارثاً إلا ذوي فروض ولا تستوعب المال كالبنات وليس معهنّ أحد، أو الأخوات كذلك، فإنّ الفاضل عن ذوي الفروض يردّ عليهم على قدر فروضهم إلا الزوج والزوجة»(1).

الصورة الثانية: أن يكون بين أصحاب الفروض مساوٍ لا فرض له، وبعبارة أُخرى أن يجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض، ففيها يردّ الفاضل على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب وإليك بعض الأمثلة:

1 - إذا مات عن أبوين وزوج.

2 - إذا مات عن أبوين وزوجة.

_______________________________________

1 - المغني 6: 256 ونقل عن ابن سراقة أنّه قال: إنّ عليه العمل في الأمصار.

ـ(184)ـ

فالزوج في الأوّل، والزوجة في الثاني، والأُم في كليهما من أصحاب الفروض دون الأب فما فضل بعد أخذهم، فهو لمن لا فرض له، أي الأب، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللأم الثلث، والباقي للأب لأنّه لا فرض له، نعم الأب من أصحاب الفروض إذا كان للميّت ولد قال سبحانه: ﴿... وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ممّا تَرَكَ إنّ كَانَ لَهُ وَلَدٌ...﴾(1) بخلاف الأُمّ فهي مطلقاً من ذوات الفروض.

قال الخرقي في متن المغني: «وإذا كان زوج وأبوان، أُعطي الزوج النصف والأُم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وإذا كانت زوجة أُعطيت الزوجة الربع، والأُمّ ثلث ما بقي، وما بقي للأب.

قال ابن قدامة هاتان المسألتان تسمّيان العمريتين لأنّ عمر قضى فيهما بهذا القضاء، فتبعه على ذلك عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود، وروي ذلك عن علي، وبه قال الحسن والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وجعل ابن عباس ثلث المال كلّه للأُمّ في المسألتين، ويروى ذلك عن علي (2).

3 - ذلك الفرض ولكن كان للأُم حاجب، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللأُم السدس، والكلّ من أصحاب الفرض، والباقي للأب الذي لا فرض له.

4 - إذا مات عن أبوين وابن وزوج أو زوجة، فلهما نصيبهما الأدنى - لأجل الولد - وللوالدين السدسان والباقي للابن الذي لا فرض له.

5 - إذا مات عن زوج أو زوجة وإخوة من الأُمّ، وإخوة من الأبوين أو من الأب،

_______________________________________

1 - سورة النساء: 11.

2 - المغني: 6: 236 - 237. وهذا ونظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدّد في الفرائض في متناول الصحابة، ومع أنّهم يروون عن النبيّ أنّ أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أفرضهم زيد، وأقرأهم أٌبي». لكنّه تبع قضاء عمر ولم يكن عنده شيء في المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

ـ(185)ـ

فللزوج النصف أو للزوجة الربع، وللإخوة من الأُم الثلث، والباقي لمن لا فرض له أي الإخوة من الأبوين الذين يتقرّبون بالأب.

ففي هذه الصورة فالزائد بعد إخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. ولعلّ هذه الصورة موضع اتّفاق بين الفقهاء: السنّة والشيعة.

الصورة الثالثة: إذا لم يكن هناك قريب مساوٍ لا فرض له وزادت سهام التركة عن الفروض فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء: الشيعة والسنّة.

1 - الشيعة كلّهم على أنّ الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج والزوجة (1). بنسبة سهامهم، فإذا مات عن أبوين وبنت وليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميّت بلا واسطة سواهم، يرّد الفاضل - أي السدس - عليهم بنسبة سهامهم، فللأبوين: السدسان من السدس، وللبنت أربعة أسداس منه، ولا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبداً.

2 - أهل السنّة يرون أنّه يرد إلى أقرباء الميّت من جانب الأب والابن وهم العصبة.

الأمر الثاني: ما هو المراد من العصبة لغةَ واصطلاحاً ؟

قال ابن منظور: العصبة والعصابة جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين. وفي التنزيل: ﴿...وَنَحنُ عُصْبةٌ...﴾(2).

قال الأخفش: والعصبة والعصابة: جماعة ليس لها واحد.

وقال الراغب: العصَب: أطناب المفاصل، ثمّ يقال: لكلّ شدٍّ عصب، والعصبة:

_______________________________________

1 - اتّفقت عليه المذاهب كلّها قال ابن قدامة: «فأمّا الزوجان فلا يرّد عليهما، باتّفاق أهل العلم»المغنى 6: 257.

2 - سورة يوسف: الآية 8.

ـ(186)ـ

جماعة متعصّبة متعاضدة. قال تعالى ﴿... لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ...﴾(1). والعصابة: ما يعصب بها الرأس والعمامة.

وقال في النهاية: العصبة: الأقارب من جهة الأب لأنّهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتدّ بهم.

وقال الطريحي: «عَصَبة الرجل، جمع«عاصب» ككفرة جمع كافر، وهم بنوه وقرابته، والجمع: العصاب» قال الجوهري: «وإنّما سمُّوا عصبة، لأنّهم عصبوا به أي: أحاطوا به فالأب طرف، والابن طرف، والأخ طرف، والعمّ طرف...» وكلامه توضيح لما أجمله ابن الأثير.

وقد سبق الطريحي ابن فارس في مقاييسه فقال: له أصل واحد يدلّ على ربط شيء بشيء ثمّ يفرّع ذلك فروعاً وتطلق على أطناب المفاصل التي تلائم معها، وعلى المعشرة لأنّه قد عصبت كأنّها ربط بعضها ببعض.

وعلى كلّ تقدير فهو في الأصل بمعنى الربط والإحاطة وكأنّ الإنسان يحاط بالعصبة ويرتبط بها مع غيرهم.

وأمّا في اصطلاح الفقهاء فهو لا يتجاوز عمّا ذكره الطريحي في كلامه، وأحسن التعاريف ما ذكره صاحب الجواهر حيث قال: العصبة: «الابن والأب ومن تدلّى بهما، وهو يشمل الأخ والعمّ وغيرهما».

وقال ابن قدامة: «هو الوارث بغير تقدير، وإذا كان معه ذو فرض أخذ ما فضل عنه قلّ، أو كثر، وإن انفرد أخذ الكلّ،وإن استغرقت الفروض المال سقط»(2).

وما ذكره أشبه ببيان حكم العصبة من حيث الحكم الشرعي وليس تفسيراً لمادة العصبة.

_______________________________________

1 - سورة القصص: 76.

2 - المغني 6: 226.

ـ(187)ـ

ثمّ إنّ العصبة عندهم تنقسم إلى العصبة بالنفس، وإلى العصبة بالغير والأوّل أقرب العصبات، كالابن، ابن الابن، الأب، الجدّ لأب وإن علا، الأخ لأبوين، ابن الأخ لأبوين، أو أب، العمّ لأبوين أو لأب، ابن العمّ لأبوين أو لأب.

وأمّا الثاني فينحصر في الإناث كالبنت، وبنت ابن وأُُخت لأبوين، أو لأب.

لأنّ العصبة من تدلىّ إلى الميّت من جانب الأب وهو يعمّ الجميع ولا يختصّ بالذكور، نعم توارثهم بالعصبة على نظام خاص مذكور في كتبهم (1).

قال الخرفي: «وابن الأخ للأب والأم، أولى من ابن الأخ للأب. وابن الأخ للأب، أولى من ابن ابن الأخ للأب والأُم. وابن الأخ وإن سفل إذا كان للأب (2)، أولى من العمّ وابن العمّ للأب، أولى من ابن ابن العمّ للأب والأُم. وابن العمّ وإن سفل، أولى من عمّ الأب»(3).

 

الأمر الثالث: في تبيين ملاك الوراثة عند الطائفتين:

إنّ الضابط لتقديم بعض الأقرباء السببيين على بعضهم الآخر عندنا أحد الأمرين:

1 - كونه صاحب فريضة في الكتاب قال سبحانه: ﴿... آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا﴾(4).

2 - القربى إذا لم يكن صاحب فريضة فالأقرب إلى الميّت، هو الوارث للكلّ أو لما فضل عن التركة قال سبحانه: ﴿... وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(5).

_______________________________________

1 - لاحظ المغني 6: 236 عند قول الماتن: وابن الأخ للأب أولى من ابن ابن الأخ للأب.

2 - في المصدر: «الأب» والصحيح ما أثبتناه.

3 - المغني 6: 236.

4 - سورة النساء: 11.

5 - سورة الأنفال: 75.

ـ(188)ـ

وأمّا عند أهل السنّة فالملاك بعد الفرض، هو التعصيب - بالمعنى الذي عرفت - بعد أصحاب الفرض - وإن بعد عنهم، كالأخ عندما مات، عن أُخت أو أُختين فيرث الأخ، أو العمّ، الفاضل من التركة، بما أنّهما عصبة ويردّ عندنا إلى أصحاب الفروض وربّما لا يترتّب على الخلاف ثمرة كما في الموردين التاليين:

كما لو اجتمع الأب مع الابن، فالأب يأخذ فرضه وهو السدس، وما بقي يأخذه الابن بالاتّفاق لكن عندنا بالقرابة وعند أهل السنّة بالعصبة.

ومثله لو اجتمع الأب مع ابن الابن فيما أنّ الأولاد تنزّل منزلة الآباء فللأب السدس والباقي لابن الابن عندنا بالقرابة وعندهم بالتعصيب. لكن تظهر الثمرة في موارد أُخر. كما إذا كانت العصبة بعيداً عن ذي فرض كالأخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات، ولم يكن له ولد ذكر، أو العمّ فيما إذا ترك أُختاً أو أخوات ولم يكن له أخ، فعلى مذهب الإمامية لا يردّ إلى البعيد أبداً، سواء كان أخاً أو عمّاً، لأنّ الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض والقرابة والأخ والعمّ بعيدان عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت، فيردّ عليهما الفاضل، فالبنت ترث النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة، وهكذا الصور الأُخرى.

وأمّا على مذاهب أهل السنّة، فبما أنّهم حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب يردون الفاضل إلى الأخ في الأوّل، والعمّ في الثاني.

قال الشيخ الطوسي: القول بالعصبة باطل عندنا ولا يورث بها في موضع من المواضع، وإنّما يورث بالفرض المسمّى أو القربى، أو الأسباب التي يورث بها من الزوجية والولاء. وروي ذلك عن ابن عباس لأنّه قال فيمن خلف بنتاً وأُختاً: إنّ المال كلّه للبنت دون الأُخت، ووافقه جابر بن عبدالله في ذلك.

وروى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي، وروى عنه الأعمش ولم يجعل داود الأخوات مع البنات عصبة، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأثبتوا العصبات من جهة

ـ(189)ـ

الأب والابن (1).

إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدراسة أدلّة نفاة العصبة فنقول:

دراسة أدلّة نفاة العصبة:

احتجّت الإماميّة على نفي التعصيب وأنّه مع وجود الأقرب وإن كان ذا فرض لا يردّ الباقي إلى البعيد وإن كان ذكراً، بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴾(2).

وجه الاستدلال: أنّه أوجب توريث جميع النساء والأقربين ودلّت على المساواة بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث، لأنّها حكمت بأنّ للنساء نصيباً كما حكمت بأنّ للرجال نصيباً، مع أنّ القائل بالتعصيب يورث الرجال دون النساء مع كونهما في رتبة واحدة وذلك في الصور التالية:

1 - لو مات وترك بنتاً، وأخاً وأُختاً، فالفاضل عن فريضة البنت يردّ إلى الأخ، ويحكم على الأُخت بالحرمان.

2 - لو مات وترك بنتاً، وابن أخ، وابن أُخت، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت، والنصف الآخر لابن الأخ، ولا شيء لابن أُخته مع أنّهما في درجة واحدة.

3 - لو مات وترك أُختاً، وعمّاً، فالفاضل عن فريضة الأُخت يرد إلى العم لا العمّة.

4 - لو مات وترك بنتاً، وابن أخ، وبنت أخ، فإنّهم يعطون النصف للبنت،

_______________________________________

1 - الطوسي، الخلاف 2: كتاب الفرائض المسألة 80.

2 - سورة النساء: 7.

ـ(190)ـ

والنصف الآخر لابن الأخ، ولا يعطون شيئاً لبنت الأخ مع كونهما في درجة واحدة.

فالآية تحكم على وراثة الرجال والنساء معاً وبوراثة الجميع، والقائل بالتعصيب يورّث الرجال دون النساء والحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبنيّة على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه.

وحمل الآية في مشاركة الرجال والنساء، على خصوص الميراث المفروض، لا الميراث لأجل التعصيب كما ترى، والحاصل أنّ نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال وإهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه.

قال السيد المرتضى: توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة، من أحكام الجاهلية، وقد نسخ الله بشريعة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أحكام الجاهلية، وذمّ من أقام عليها واستمرّ على العمل بها بقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(1) وليس لهم أن يقولوا: إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنّة، وذلك أنّ السنّة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يخصَّص بها القرآن، كما لم ينسخه بها ، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصَّص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم واليقين، ولا خلاف في أنّ الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علماً، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظن، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة، وأنّه بالقربى والرحم، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب(2).

الثاني قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(3).

_______________________________________

1 - سورة المائدة: 50.

2 - الانتصار: 278.

3 - سورة الأنفال: 75.

ـ(191)ـ

وجه الاستدلال: أنّ المراد من الأوليّة هو الأقربيّة أي الأقرب فالأقرب، وعلى ذلك فكيف يرث الأخ أو العمّ مع وجود الأقرب أعني البنت أو الأُخت، وهما أقرب إلى الميّت مع الأخ والعمّ، لأنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها، والأخ يتقرّب إليه بالأب، والأُخت تتقرّب إلى الميّت بالأب، والعمّ يتقرّب إليه بواسطة الجد، والأُخت تتقرّب بواسطة، والعمّ يتقرّب بواسطتين، وأولاده بوسائط.

والعجب أنّهم يراعون هذا الملاك في ميراث العصبة حيث يقدّمون الأخ لأبوين، على الأخ لأب، وابن الأخ لأبوين، على ابن الأخ لأب، كما أنّ العمّ لأبوين يقدّمونه على العمّ لأب، وابن العمّ لأبوين على ابن العمّ لأب. هذا في العصبة بالنفس ومثلها العصبة بالغير.

وممّا يدل على أنّ الآية في بيان تقديم الأقرب - مضافاً إلى ما ورد من أنّها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الايمان والتوارث بالمهاجرة اللّذين كانا ثابتين في صدر الإسلام (1) أنّ عليّاً كان لا يعطي الموالي شيئاً مع ذي رحم، سمّيت له فريضة أم لم تسمّ له فريضة وكان يقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أُولي الأرحام(2).

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله الله: ﴿...وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ...﴾: أنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به، ثمّ قال أبو جعفر: أيّهم أولى بالميت وأقربهم إليه ؟ أُمّه ؟ أو أخوه ؟ أليس الأُمّ أقرب إلى الميّت

_______________________________________

1 - مجمع البيان 2: 563 طبع صيدا.

2 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 , 12.

ـ(192)ـ

من إخوته وأخواته؟(1).

وروي عن زيد بن ثابت أنّه قال: من قضايا الجاهلية أن يورّث الرجال دون النساء (2).

قال العلاّمة الصافي في تفسير قوله سبحانه ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾ قد أبطل الله بهذه الآية النظام الجاهلي المبنيّ على توريث الرجال دون النساء، مثل توريث الابن دون البنت، وتوريث الأخ دون الأخت، وتوريث العمّ دون العمّة، وابن العمّ دون بنته، فقرّر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث، إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة، كالابن والبنت، والأخ والأُخت، وابن الابن وبنته، والعمّ والعمّة وغيرهم، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجةٍ واحدةٍ إلاّ وهي تورث من الميت بحكم الآية... فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً... ومثل هذا النظام – الذي تجلّى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها - يقتضي أن يكون عامّاً لا يقبل التخصيص والاستثناء(3).

ويظهر من السيد في الانتصار أنّ القائلين بالتعصيب ربّما يعترضون على الإمامية بأنّ الحرمان موجود في فقههم، كما إذا مات الرجل عن بنت وعم أو ابن عم، فإنّ التركة كلّها للبنت عندهم ولا حظّ لهما. وهو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب، ويشتركان في الحرمان ومخالفة الذكر الحكيم.

والجواب: «أنّ الحرمان في المثال لأجل عدم الاستواء في القرابة ألا ترى أنّ ولد

_______________________________________

1 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 و 12.

2 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 و 12.

3 - مع الشيخ جاد الحقّ، شيخ الأزهر: 15، 16.

ـ(193)ـ

الولد (ذكوراً كانوا أو أُناثاً) لا يرث مع الولد، لعدم التساوي في الدرجة والقرابة، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء، وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاة بين العمّ وابنه، فلا يساوي - العمّ - البنت في القربى والدرجة وهو أبعد منها كثيراً.

وليس كذلك العمومة والعمّات وبنات العمّ وبنو العمّ، لأنّ درجة هؤلاء واحدة وقرابتهم متساوية والمخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الآية حجّة عليه وفعله مخالف لها، وليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الإشارة إليها وهذا واضح فليتأمل(1).

الثالث: قوله سبحانه: ﴿... إنّ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ...﴾(2) والآية ظاهرة في أنّ توريث الأُخت عن الأخ مشروط بعدم وجود الولد له مع أنّه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الأُخت مع وجود الولد (البنت) للميّت وذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأُخت أو أخوات لأبوين، أو أُخت وأخوات لأب، فإنّهنّ عصبة بالغير من جانب الأب فلو مات عن بنت وأُخت لأبوين أو لأب، فالنصف للبنت، والنصف الآخر للعصبة وهي الأُخت أو الأخوات مع أنّ وراثة الأُخت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي: والأخوات مع البنات عصبة، لهنّ ما فضل، وليس لهنّ معهنّ فريضة مسماة.

وقال ابن قدامة في شرحه: والمراد بالأخوات ها هنا، الأخوات من الأبوين، أو من الأب وإليه ذهب عامّة الفقهاء إلاّ ابن عباس ومن تابعه، فإنّه يروى عنه أنّه كان لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة فقال في بنت وأخت: للبنت النصف ولا شيء للأخت. فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله، يريد قول الله سبحانه ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إنّ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إنّ لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فإنّ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ ممّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أنّ تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فإنّما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد.

_______________________________________

1 - الانتصار: 283.

2 - سورة النساء: 176.

ـ(194)ـ

ثمّ إنّ ابن قدامة ردّ على الاستدلال بقوله: إنّ الآية تدل على أنّ الأُخت لا يفرض لها النصف مع الولد، ونحن نقول به، فإنّ ما تأخذه مع البنت ليس بفرض، وإنّما هو بالتعصيب كميراث الأخ، وقد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الأخ مع الولد مع قول الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إنّ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إنّ لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فإنّ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ ممّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أنّ تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1) وعلى قياس قوله «ينبغي أن يسقط الأخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها»(2).

حاصل كلامه: أنّ الأُخت ترث مع الأخ النصف في حالتي وجود الولد وعدمه، غاية الأمر عند عدم الولد ترث فرضاً، وعند وجوده ترثه عصبة.

يلاحظ عليه: أنّ المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة، لا التسمية فإذا كان الولد وعدمه غير مؤثّر فيها، كان التقييد لغواً، وما ذكره من أنّها ترث النصف عند الولد تعصيباً لا فرضاً أشبه بالتلاعب بالألفاظ، والمخاطب بالآية هو العرف العام وهو لا يفهم من الآية سوى حرمان الأخت عند الولد وتوريثها معه باسم آخر، يراه مناقضاً.

وما نسبه إلى ابن عباس من أنّه كان يرى ميراث الأخ مع الولد، غير ثابت وعلى فرض تسليمه فهو ليس بحجّة.

الرابع: الروايات المروية في الصحاح والمسانيد وفي جوامعنا، ننقل منها ما يلي:

1 - روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال مرضت بمكّة مرضاً فأشفيت(3) منه على الموت فأتاني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يعودني فقلت: يا رسول الله: إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي ؟ قال: لا، قلت: فالشّطرُ ؟ قال: لا، قلت: الثلث ؟ قال: الثلث كبير، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكفّفون

_______________________________________

1 - سورة النساء: 176.

2 - ابن قدامة، المغني 6: 227.

3 - أي فأشرفت وقاربت.

ـ(195)ـ

الناس(1).

وفي لفظ مسلم في باب الوصيّة بالثلث: «ولا يرثني إلاّ ابنة لي واحدة» والرواية صريحة في أنّه كان يدور في خلد سعد، أنّها الوارثة المتفرّدة والنبيّ سمع كلامه وأقرّه عليه ولم يرد عليه بشيء وقد كان السؤال والجواب بعد نزول آيات الفرائض.

2 - روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال: كان علي عليه السلام يعطي الابنة النصف والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة(2).

3 - روى: من ترك مالاً فلأهله(3).

4 - وربما يستدل بما روي عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والمرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي تلاعن عليه (4).

وجه الاستدلال: أنّ سهم الأُم هو السدس أو الثلث وقد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلا أنّ يقال: إنّ عدم الرد لعدم وجود العصبة (بحكم اللعان) فلا يصحّ الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة.

الخامس: إنّ القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطاً بوجود وارث آخر وهو مخالف لما علم الاتّفاق عليه لأنّه إمّا أن يتساوى الوارث الآخر فيرثان، وإلاّ فيمنع وذلك في المثال الآتي:

إذا خلف الميّت بنتين، وابنة ابن، وعم فيما أنّ العمّ من العصبة بالنفس والابنة

_______________________________________

1 - صحيح البخاري 8: 150، كتاب الفرائض، باب ميراث البنات.

2 - السنن الكبرى 6: 246 باب الميراث بالولاء.

3 - صحيح البخاري 8: 150 كتاب الفرائض باب قول النبيّ: من ترك مالاً فلأهله، وكنز العمال 11: 7 الحديث 30388، وجامع الأُصول 9: 631 قال: رواه الترمذي.

4 - المسند 3: 490، سنن ابن ماجة: 2: 916 باب ما تحوزه المرأة، ثلاث مواريث رقم 2742، وفي جامع الأُصول 9: 614، برقم 7410... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود والترمذي.

ـ(196)ـ

عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العمّ. ولا شيء لبنت الابن. ولكنّه لو كان معها أخ أي ابن الابن، فهي تتعصّب به، وبما أنّه أولى ذكر بالميّت يكون مقدماً على العم ويكون الفاضل بينهما أثلاثاً، للإجماع على المشاركة، لقوله سبحانه: ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾(1) وهذا هو ما قلناه من أنّه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطاً بالأخ وإلاّ فيرث العم.

قال الخرقي في متن المغني: «فإن كنّ بنات، وبنات ابن، فللبنات الثلثان وليس لبنات الابن شيء إلا أن يكون معهنّ فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظّ الأُنثيين».

وقال ابن قدامة: «فإن كان مع بنات الابن، ابن في درجتهنّ كأخيهنّ أو ابن عمّهنّ، أو أنزل منهنّ كابن أخيهنّ أو ابن ابن عمّهنّ أو ابن ابن عمّتهن، عصبهنّ في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظّ الأُنثيين»(2).

السادس: لقد تظافر عن أئمّة أهل البيت أنّ الفاضل عن الفروض للأقرب، وهي متظافرة لو لم نقل أنّها متواترة ولعل الشهيد الثاني لم يتفحّص في أبواب الإرث فقال: يرجع الإماميّة إلى خبر واحد(3) ويظهر من الروايات أنّه كان مكتوباً في كتاب الفرائض لعليّ عليه السلام.

1 - روى حماد بن عثمان قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل ترك أُمّه وأخاه؟

قال: يا شيخ تريد على الكتاب ؟ قال: قلت: نعم. قال: كان علي عليه السلام يعطي المال للأقرب، فالأقرب. قال: قلت: فالأخ لا يرث شيئاً ؟ قال: قد أخبرتك أنّ علياً عليه السلام كان يعطي

_______________________________________

1 - سورة النساء: 11.

2 - المغني 6: 229.

3 - المسالك، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق: ولا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب.

ـ(197)ـ

المال الأقرب فالأقرب(1).

2 - روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل مات وترك ابنته وأُخته لأبيه وأُمّة؟ فقال: المال كلّه للابنة وليس للأُخت من الأب والأُمّ شيء(2).

3 - روى عبدالله بن خداش المنقري أنّه سأل أبا الحسن عن رجل مات وترك ابنته وأخاه ؟ فقال: المال للابنة(3).

4 - عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل مات وترك ابنة وعمّه؟ فقال: المال للابنة وليس للعمّ شيء، أو فقال: ليس للعمّ مع الابنة شيء(4).

ويظهر من مناظرة الرشيد مع الإمام أبي الحسن الأوّل، أنّ توريث العمّ مع الأبناء كان مؤامرة سرّية لإقصاء عليّ عن حقّه، بتقديم العمّ على ابنة رسول الله (5).

5 - ما رواه حسين الرزاز قال: أمرت من يسأل أبا عبدالله عليه السلام المال لمن هو ؟ للأقرب أو العصبة ؟ فقال: المال للأقرب والعصبة في فيه التراب(6).

6 - ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان عن أبي عبدالله قال: اختلف علي بن

_______________________________________

1 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 6 و 1.

2 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 6 و 1.

3 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و7 - 13. من ذلك الباب.

4 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 - 13. من ذلك الباب.

5 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و7 - 13. من ذلك الباب.

6 - وفي السند «صالح بن السعدي وهو ممدوح، والحسين الرزاز مجهول، وفي التهذيب 9: 267 رقم 927 «البزاز» وهو أيضاً مجهول.

ـ(198)ـ

أبي طالب وعثمان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذوو قرابة لا يرثونه، ليس لهم سهم مفروض، فقال عليّ: ميراثه لذوي قرابته لأنّ الله تعالى يقول: ﴿...وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...﴾ وقال عثمان: اجعل ماله في بيت مال المسلمين(1).

دراسة أدلّة المخالف:

لقد اتّضح الحقّ وتجلّى بأجلى مظاهره، بقي الكلام في دراسة أدلّة المخالف فقد استدلّ بوجوه:

الأول: لو أراد سبحانه توريث البنات ونحوهنّ أكثر ما فرض لهنّ لفعل ذلك والتالي باطل، فإنّه تعالى نصّ على توريثهنّ مفصّلاً ولم يذكر زيادة على النصيب.

بيان الملازمة أنّه تعالى لما ورّث الابن الجميع لم يفرض له فرضاً، وكذا الأخ للأب والعمّ وأشباههم، فلولا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة.

وحاصله: أنّ كلّ من له فرض لا يزاد عنه وكلّ من لم يفرض له يعطى الجميع.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنّة إذا عالت الفرائض على السهام، كما سيوافيك شرحه فإنّهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون، فربّما يكون سهم البنت والأُخت أقل من النصف، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة، بل الأمر في النقصان أولى لأنّ النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر، فإنّ فيه إعمال الدليلين والأخذ بمفادهما.

_______________________________________

1 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 1 و 9.

ـ(199)ـ

وثانياً: بالحلّ إنّ تحديد الفرض بالنصف إنّما يكون لغواً إذا لم تترتّب عليه فائدة مطلقاً، ولكنّه ليس كذلك لترتّب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو فرض كالأُم، فإنّ كيفية الردّ على الوارثين لا تعلم إلا بملاحظة فرضهما ثم الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت والبنتين منصوصاً في الذكر الحكيم لما علمت كيفيّة الرد.

وبالجملة: أنّه وإن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الأُخت وحدها، ولكنّه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر وهو ذو فرض مثلها كالأُم، فإنّ الردّ عليهما يتوقّف على ملاحظة فرضهما ثمّ الرد بتلك النسبة.

وثالثاً: أنّ التصريح بالفرض لأجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلا النصف أو الثلثين، بخلاف الأخ وإنّما تأخذ الزائد بعنوان آخر وهو أنّه ليس معه وارث مساوٍ بخلاف الابن أو الأخ، فإنّ كلا يستحق المال كلّه بالذات.

ورابعاً: أنّ المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب وهو ليس بحجّة فيه.

الثاني: قوله سبحانه: ﴿... إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ...﴾.

وجه الاستدلال: أنّه سبحانه حكم بتوريث الأُخت، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد وحكم بتوريث الأخ ميراثها أجمع بدليل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَرِثُها﴾ فلو ورثت الأُخت الجميع كما هو مذهبكم لن تبقى للفرق بين الأخ والأُخت ثمرة أصلاً.

الجواب: إنّ التقييد بالنصف مع أنّها ربّما ترث الكلّ لأجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلا النصف وأنّ الأصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الأُنثى وهو النصف، وأنّها إن ورثت المال كله فإنّما هو لأجل طارئة خاصة، على أنّ التصريح بالفرض لأجل تبيين ما يتوقّف عليه تقسيم الفاضل بينها وبين من يشاركه في الطبقة كالإخوة أو الأخوات من الأُمّ، فإنّ الباقي يردّ عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك

ـ(200)ـ

تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفيّة الرد.

الثالث: قوله تعالى:: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا $ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾(1).

وجه الاستدلال: أنّ زكريا عليه السلام لمّا خاف أن ترثه العصبة، سأل الله سبحانه أن يهبه وليّاً حتى يرث المال كلّه، لا وليّةً حتى ترث المال نصفه ويرث الموالي الفاضل، ولولا ذلك لما أكّد على كون الولد الموهوب من الله ذكراً، في قوله سبحانه: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا $ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾.

يلاحظ عليه: أنّ المقصود من «وليّاً» هو مطلق الأولاد ذكراً كان أو أُنثى، وذلك على مساق إطلاق المذكّر وإرادة الجنس وهو شائع في القرآن الكريم.

مثل قوله سبحانه: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(2) بشهادة قوله تعالى في آية أُخرى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾(3).

بل يمكن أن يقال: إنّه طلب ذريّة مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية: ﴿...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ $ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾(4) أي في هذه الحال التي رأى فيها في مريم من الكرامة سأل الله سبحانه أن يرزقه ذريّة طيّبة (مثل مريم) فلو لم نقل أنّه سأل أنثى مثل مريم، ليس لنا أن نقول إنّه طلب الذكر.

ولو سلمنا أنّه طلب الذكر لكنّه لم يطلب لأجل أنّه لو رزق الأُنثى ترثه العصبة

_______________________________________

1 - سورة مريم: 5 - 6.

2 - سورة العصر: 3.

3 - سورة آل عمران: 38.

4 - سورة آل عمران: 37 - 38.

 

ـ(201)ـ

وإنّما سأله الذكر لمحبّة كثيرة له، أو لأنّه أولى بالإدارة من الأُنثى كما لا يخفى.

الرابع: الروايات والآثار الواردة في هذا المجال ولعلّها أهم المدارك والمصادر لهذه الفتيا.

 

الرواية الأُولى:

رواية عبدالله بن طاووس بن كيسان اليماني (المتوفّى عام 132) رواها الشيخان في غير مورد.

روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب عن ابن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: الروايات تنتهي إلى عبدالله بن طاووس بن كيسان اليماني وقد وثّقه علماء الرجال(2) لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الأنباري (3) في حقّ هذه

_______________________________________

1 - صحيح البخاري 8: 151 باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، و 152، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة، ورواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) ورجال السند في غيرهما، واحد وبابنَي عم أحدهما أخ والآخر زوج ص 153، رواها عن أُمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبدالله بن طاووس.

وصحيح مسلم 5: 59 باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاووس عن ابن عباس رقم 1615.

وصحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2099.

وسنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2898.

ولاحظ السنن الكبرى 6: 238 باب العصبة، وجامع الأُصول 9: 6104 رقم 7421.

2 - تهذيب التهذيب: 5: 268 رقم 458 سير أعلام النبلاء، حوادث عام 132 وغيرهما.

3 - هو عبيدالله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري: قال النجاشي: شيخ من أصحابنا «أبو طالب» ثقة في الحديث، عالم به، كان قديماً من الواقفة توفّي عام 356 (رجال النجاشي برقم 615 طبع بيروت).

وأمّا رجال السند ففي تعلية الخلاف أنّه لم يتعرّف على البربريّ، وأمّا بشر بن هارون لعلّه تصحيف بشر بن موسى إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي: 86، والحميدي هو عبدالله بن الزبير القرشي توفّي بمكة 219 كما في تذكرة الحفّاظ 2: 413، وسفيان هو سفيان بن عيينة وأبو إسحاق هو: عمر وبن عبدالله بن عبيد السبيعي.

ـ(202)ـ

الرواية قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميري، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن قاربة بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة، فقلت: يا بن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: إنّ ما أبقت الفرائض فلأوْلى عصبة ذكر ؟ قال: أمن أهل العراق أنت ؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أنّي أقول: إنّ قول الله عزّوجلّ ﴿...آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا﴾(1) وقوله: ﴿... وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...﴾ وهل هذه إلاّ فريضتان وهل أبقتا شيئاً، ما قلت هذا، ولا طاووس يرويه عليّ، قال قاربة بن مضرب: فلقيت طاووساً فقال: لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال سفيان: أراه من قبل ابنه عبدالله بن طاووس فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبدالملك(2) وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً - أي بني هاشم – (2).

إنّ سليمان بن عبدالملك الأموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبدالله بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلماً وخداعاً، فكيف يكون حال من يواليهم.

وثانياً: أنّ نسبة الآيات المتقدمة إلى هذه الرواية وإن كان نسبة الإطلاق إلى التقييد، ولكن الاعتماد على هذه الرواية في تقييد الذكر الحكيم، ممّا لا يجترى عليه الفقيه الواعي.

إنّ وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها، بل هي ممّا تعمّ البلوى بها في عصر النبيّ وعصور الخلفاء، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية

_______________________________________

1 - سورة النساء: 11.

2ـ سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أُمية بويع سنة 96 وتوفّي سنة 98 وهو ابن خمس وأربعين سنة وكان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة من التزوير.

3 - التهذيب، لشيخ الطائفة 9: 262. الخلاف: 2، المسألة 80.

ـ(203)ـ

لما خفي على غيره ونقله الآخرون، وقد عرفت أنّ الأسناد تنتهي إلى عبدالله بن عطاء.

وثالثاً: أنّ فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر، وقد أشار إليها فقيه الطائفة الطوسي، نذكر قسماً منها.

1 - لو مات وخلّف بنتاً وأخاً وأُختاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ للبنت النصف والنصف الآخر للأخ والأُخت ﴿... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾ مع أنّ مقتضى خبر أبي عطاء أنّ النصف للبنت أخذاً بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها والنصف الآخر للأخ لأنّه أولى رجل ذكر».

2 - لو أنّ رجلاً مات وترك بنتاً، وابنة ابن، وعمّاًَ، فقد ذهبوا إلى أنّ النصف للبنت والنصف الآخر لابنة الابن والعم، مع أنّ مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لأنّه أولى ذكر(1).

قال السيد المرتضى: وفيهم من يذهب فيها إلى أنّ المراد بها قرابة المّيت من الرجال الذين اتّصلت قرابتهم به من جهة الرجال كالأخ والعم، دون الأُخت والعمّة، ولا يجعل للرجال الذين اتّصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة كإخوة الميّت لأُمه، وفيهم من جعل العصبة مأخوذة من التعصّب والرايات والديوان والنصرة. ومع هذا الاختلاف لا إجماع يستقرّ على معناها، على أنّهم يخالفون لفظ هذا الحديث الذي يروونه لأنّهم يعطون الأُخت مع البنت بالتعصيب وليست برجل ولا ذكر كما تضمّنه لفظ الحديث (2).

إلى غير ذلك من الأحكام التي اتّفقوا عليها وهي على طرف النقيض من الخبر.

_______________________________________

1 - الخلاف 2: 278، المسألة 80 والتهذيب للشيخ الطوسي 9: 262.

2 - الانتصار: 279.

ـ(204)ـ

فإنّ قلت: فماذا تصنع بالخبر، مع أنّ الشيخين نقلاه بل نقله غيرهما على ما عرفت؟

قلت: يمكن حمل الخبر على ما لا يخالف إطلاق الكتاب ولا ما أطبق المسلمون عليه وهو أنّه وارد في مجالات خاصّة: مثلاً:

1 - رجل مات وخلّف أُختين من قبل الأُمّ، وابن أخ، وابنة أخ لأب وأُمّ، وأخاً لأب، فالأُختان من أصحاب الفرائض، كلالة الأُمّ، يعطى لهما الثلث والباقي لأولى ذكر، وهو الأخ لأب.

2 - رجل مات وخلّف زوجة وخالاً وخالة، وعمّاً وعمّة، وابن أخ، فالزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي يدفع إلى أولى ذكر، وهو ابن الأخ.

3 - رجل مات وخلّف زوجة، وأُختاً لأب، وأخاً لأب وأُمّ، فإنّ الزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي للأخ للأب والأُم، ولا ترث الأُخت لأب معه.

4 - امرأة ماتت وخلّفت زوجاً، وعمّاً من قبل الأب والأُم، وعمّة من قبل الأب، فللزوج النصف سهمه المسمّى وما بقي للعمّ للأب والأُمّ، ولا يكون للعمّة من قبل الأب شيء.

إلى غير ذلك من الصور التي يمكن أن ينطبق عليها الخبر.

قال السيد المرتضى: ولا عتب إذا قلنا: إنّ الرواية وردت في من خلّف أُختين لأُمّ، وابن أخ، وبنت أخ لأب وأُمّ، وأخاً لأب فإنّ الأُختين من الأُمّ فرضهنّ الثلث وما بقي فلأولى ذكر أقرب وهو الأخ من الأب وسقط ابن الأخ وبنت الأخ، لأنّ الأخ أقرب منهما. وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميّت امرأة وعمّاً وعمّة، وخالاً وخالة، وابن أخ، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو ابن الأخ وسقط الباقون. والعجب أنّهم ورثوا

ـ(205 )ـ

الأُخت مع البنت عصبة، فإنّ قالوا: من حيث عصَّبها أخوها، قلنا: فألا جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصبها ؟

وكذلك يلزمهم أن يجعلوا العمّة عند عدم العمّ عصبة في ما توجّه لإنجازه وفعله، فإنّ قالوا: البنت لا تعقل عن أبيها، قلنا: والأُخت أيضاً لا تعقل عن أخيها فلا تجعلوها عصبة مع البنات»(1).

 

الرواية الثانية:

ما أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأبو داود، وأحمد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبدالله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع، بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يَدعْ لهما مالاً، ولا تُنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى عمّهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أُمّهما الثمن وما بقي فهو لك (2).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ جابر بن عبدالله نقل نزول الآية في واقعة أُخرى قال السيوطي: أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه، من طرق عن جابر بن عبدالله قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضّأ منه ثم رشّ عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي

_______________________________________

1 - الانتصار: 280.

2 - سنن الترمذي 4: باب ما جاء في ميراث البنات رقم 2092، سنن ابن ماجة 2: 908 باب فرائض الصلب رقم 272، سنن أبي داود 3: 121، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2891.

ـ(206)ـ

يا رسول الله ؟ فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾(1) واحتمال نزول الآية مرّتين، أو كون سبب النزول متعدّداً كما ترى.

وثانياً: أنّ الرواية نقلت بصورة أُخرى وهي أنّ الوافدة إلى النبيّ كانت زوجة ثابت بن قيس بن شماس لا زوجة سعد بن الربيع (2).

وثالثاً: أنّ في سند الرواية من لا يصحّ الاحتجاج به وإليك البيان:

1 - عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، والأسانيد في سنن الترمذي وابن ماجة وابن داود، تنتهي إليه.

ذكره ابن سعد في الطلبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: كان منكر الحديث، لا يحتجّون بحديثه وكان كثير العلم، وقال بشر بن عمر: كان مالك لا يروي عنه، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن ابن المديني: لم يدخله مالك في كتبه، قال يعقوب: وابن عقيل صدوق وفي حديثه ضعف شديد جداً، وكان ابن عيينه يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم فذكره فيهم، وقال ابن المديني عن ابن عيينة: رايته يحدّث نفسه فحملته على أنّه قد تغيّر، إلى غير ذلك من الكلمات الجارحة التي تسلب ثقة الفقيه بحديثه(3).

2 - الراوي عنه في سنن الترمذي هو عبيد بن عمرو البصري الذي ضعّفه الأزدي وأورد له ابن عدي حديثين منكرين وضعّفه الدارقطني ووثّقه

_______________________________________

1 - الدر المنثور 2: 142.

2 - البيهقي: السنن الكبرى ص 69 باب فرض الابنتين وقد خطأ البيهقي كون الابنتين لقيس وقال: إنّهما كانتا بنتي سعد، وقال أبو داود 3: 121 رقم 2891: أخطأ بشر فيه إنّما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.

3 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 6: 140 لاحظ بقيّة كلامه.

ـ(207)ـ

ابن حبَّان(1).

3 - الراوي عنه في سنن أبي داود: بشر بن المفضّل، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عثمانياً(2).

إلى غير ذلك من رجال في الأسانيد، مرميين بأُمور لا يحتج معها.

 

الرواية الثالثة:

روى الأسود بن يزيد قال: «أتانا معاذ بن جبل باليمن معلّماً وأميراً، فسألناه عن رجل توفّي وترك ابنة وأُختاً ؟ فقضى: أنّ للابنة النصف، وللأُخت النصف. ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حي (3).

 وفي لفظ أبي داود: أنّ معاذ بن جبل ورث أُختاً وابنة، جعل لكلّ واحدة منهما النصف، وهو باليمن، ونبيّ الله يومئذ حي (4).

والأثر يتضمّن عمل الصحابة وهو ليس بحجّة إلا إذا أُسند إلى المعصوم. والرجوع إلى الآثار الواردة عن الصحابة في مجال الفرائض يعرب عن أنّه لم يكن عندهم إحاطة بأحكام الفرائض، بل كل كان يفتي كسب معايير ومقاييس يتخيّلها صحيحة.

ويكفي في ذلك اختلاف أبي موسى الأشعري مع ابن مسعود في رجل ترك بنتاً وأُختاً وابنة ابن.

روى البخاري: سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن، وأُخت؟ فقال: للابنة النصف، وللأُخت النصف وأن ابن مسعود فسيتابعني، قال: سئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي

_______________________________________

1 - المصدر نفسه 4: 121.

2 - ابن حجر، تهذيب التهذيب 1: 459.

3 - البخاري، الصحيح 8: 150 في الفرائض باب ميراث البنات، وباب ميراث الأخوات مع البنات عصبة.

4 - صحيح أبي داود في الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2893. ولاحظ جامع الأُصول 9: 610 رقم 7394.

ـ(208)ـ

موسى فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأُخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم(1).

 

مضاعفات القول بالتعصيب:

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب أٌمور يأباها الطبع ولا تصدّقها روح الشريعة نأتي بنموذج واحد:

لو كان للميّت عشر بنات وابن، يأخذ الابن السدس، وتأخذ البنات خمسة أسداس، وذلك أخذاً بقوله سبحانه: ﴿... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾(2).

لو كان له مكان الابن، ابن عم للميّت، فللبنات فريضتها وهي الثلثان، والباقي أي الثلث لابن العمّ، فيكون الابن أسوأ من ابن العمّ.

قال السيد المرتضى: فإذا تبيّن بطلان القول بالتعصيب يظهر حكم كثير من المسائل، منها: فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتاً وعمّاًَ فعند المخالف أنّ للبنت النصف والباقي للعم بالعصبة، وعندنا أنّه لاحظّ للعم والمال كلّه للبنت بالفرض والرد، وكذلك لو كان مكان العم ابن عمّ، وكذلك لو كان مكان البنت ابنتان، ولو خلف الميت عمومة وعمّات أو بني عم وبنات عم فمخالفنا يورّث الذكور من هؤلاء دون الإناث لأجل التعصيب، ونحن نورث الذكور والإناث. ومسائل التعصيب لا تحصى كثرة (3).

يقول المحقّق محمد جواد مغنية: إنّ الإنسان أرأف بولده منه بإخوته، وهو يرى أنّ

_______________________________________

1ـ البخاري، الصحيح 8: 151 باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، وسنن الترمذي 4: 415 باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب رقم 2093، وسنن أبي داود 3: 120، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2890.

2 - سورة النساء: 176.

3 - الانتصار: 282.

ـ(209)ـ

وجود ولده ذكراً وأُنثى امتداد لوجوده، ومن هنا رأينا الكثير من أفراد الأُسر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنّن إلى التشيّع، لا لشيء إلا خوفاً أن يشترك مع أولادهم الإخوان أو الأعمام.

ويفكر الآن، الكثير من رجال السنّة بالعدول عن القول بالتعصيب، والأخذ بقول الإمامية من ميراث البنت تماماً كما عدلوا عن القول بعدم صحّة الوصيّة للوارث، وقالوا بصحّتها كما تقول الإمامية، على الرغم من اتّفاق المذاهب على عدم الصحّة(1).

_______________________________________

1 - الفقه على المذاهب الخمسة: 517 - 518.

ـ(210)ـ

ـ(211)ـ

حكم الفرائض إذا عالت

إذا كانت الوراثة بالتعصيب، رمزاً إلى نقص الفروض عن استيعاب التركة، فالعول آية زيادة الفروض عليها وهو مأخوذ من «عال يعول عولاً»: إذا زاد، أو من العول بمعنى الميل، ومنه قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فإنّ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾(1).

وكأنَّ الفريضة عائلة لميلها بالجور على أهل السهام بإيراد النقص عليهم، أو من العول بمعنى الارتفاع يقال: عالت الناقة ذنبها: إذا رفعته، لارتفاع الفريضة بزيادة السهام. وعلى كل تقدير فمورد العول على طرف النقيض من مورد التعصيب.

إنّ مسألة العول أي زياد الفرائض على سهام التركة، من المسائل المستحدثة التي لم يرد فيها نصّ عن رسول الله، وقد ابتلي بها عمر بن الخطاب عندما ماتت امرأة في عهده وكان لها زوج وأُختان فجمع الصحابة فقال لهم: فرض الله تعالى للزوج النصف، وللأُختين الثلثين، فإنّ بدأتُ للزوج لم يبق للأُختين حقّهما، وإن بدأتُ للأُختين لم يبق

_______________________________________

1 - سورة النساء: 3.

ـ(212)ـ

للزوج حقُّه فأشيروا عليَّ، فاتّفق رأي أكثرهم (1) على العول أي إيراد النقص على الجميع من دون تقديم ذي فرض على آخر، وخالف ابن عباس وقال: إنّ الزوجين يأخذان تمام حقّهما ويدخل النقص على البنات.

ومن ذلك العصر صار الفقهاء على فرقتين، فالمذاهب الأربعة وما تقدّمها من سائر المذاهب الفقهية قالوا بالعول، والشيعة الإمامية، تبعاً للإمام علي وتلميذه ابن عباس على خلافه، فهم على إيراد النقص على بعض دون بعض من دون أن يكون عملهم ترجيحاً بلا مرجّح.

خلاصة مذهب الشيعة الإمامية: أنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قُدِّم ذوو السهام المؤكدة المذكورة من الأبوين والزوجين على البنات، والأخوات من الأُم على الأخوات من الأب والأم أو من الأب، وجعل الفاضل عن سهامهم لهنّ، وذهب ابن عباس t إلى مثل ذلك، وقال به أيضاً عطاء بن أبي رياح.

وحكى فقهاء السنّة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر عليهما السلام ومحمد بن الحنفية t وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني، وقال باقي الفقهاء: إنّ المقال إذا ضاق عن سهام الورثة قُسّم بينهم على قدر سهامهم، كما يفعل ذلك في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها، والذي يدل على صحّة ما نذهب إليه إجماع الطائفة عليه، فإنّهم لا يختلفون فيه، وقد بيّنا أنّ إجماعهم حجّة (2).

قال الشيخ الطوسي: «العول عندنا باطل فكلّ مسألة تعول على مذهب المخالفين فالقول عندنا فيها بخلاف ما قالوه».

_______________________________________

1 - وعلى ما نقله أبو طالب الأنباري اتّفق عليه اثنان: عمر، وثانيهما عبدالله بن مسعود، وكانت الصحابة وفي مقدمهم الإمام علي عليه السلام على خلاف هذا القول ولكن القوّة التنفيذية حالت بينهم وبين رأيهم.

2 - الانتصار: 284.

ـ(213)ـ

وبه قال ابن عباس وأُدخل النقص على البنات، وبنات الابن، والأخوات للأب والأُم، أو للأب.

وبه قال محمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وداود بن علي وأعالها جميع الفقهاء»(1).

ولأجل إيضاح مذهب العول، لا بأس بالإشارة إلى مسألة من مسائل العول المعروفة بأُمّ الفروخ (2) ونكتفي بعناوين الوراثين روماً للاختصار:

1 - زوج وأُختان: للزوج النصف أي الثلاثة من ستّة، وللأُختين الثلثان أي الأربعة منها. ومن المعلوم أنّ المال ليس فيه نصف وثلثان فلو أُخذ من الست، النصف، لا يفي الباقي بالثلثين وهكذا العكس فتعول السهام إلى السبعة ( 7 = 3 + 4).

فالقائل بالعول يقسّم التركة إلى سبعة سهام، مكان الستّة فيعطي للزوج ثلاثة سهام، وللأُختين أربعة سهام لكن من السبعة، وبذلك يُدخل النقص على الجميع، فلا الزوج ورث النصف الحقيقي ولا الأُختان، الثلثين، بل أخذ كل أقل من سهامهما.

2 - تلك الصورة ومعهما أُخت واحدة من الأُم فريضتها السدس، ومن المعلوم أنّ التركة لا تفي بالنصف والثلثين والسدس، فتعول التركة إلى ثمانية سهام وذلك (8 = 1 + 3 + 4).

فالقائل بالعول يورد النقص على الجميع، فيقسّم المال إلى ثمانية سهام، فيعطي للزوج ثلاثة. وللأُختين أربعة، وللأُخت من الأُم واحداً، ولكن الكل من ثمانية أجزاء، فلا الزوج نال النصف، ولا الأُختان الثلثين، ولا الأُخت من الأُم السدس.

3 - تلك الصور ومعهم أخ من أُم وفريضتها أيضاً السدس فتعول الفريضة إلى

_______________________________________

1 - الخلاف: 2، كتاب الفرائض، المسألة 81.

2 - وما ذكرناه قريب من أُم الفروخ المذكورة في الخلاف فلاحظ.

ـ(214)ـ

تسعة وذلك (9=1+1+3+4).

فيعطى للزوج ثلاثة، وللأُختين أربعة، ولكلّ من الأُخت والأخ من الأُم واحد لكن من تسعة أسهم، لا من ستة سهام، ولا يُمتَّع الزوج بالنصف، ولا الأُختان بالثلثين، ولا الأُخت والأخ من الأُم بالثلث إلا لفظاً.

وإنّما سمّيت أُمّ الفروخ لأنّها تعول بوتر، وتعول بالشفع أيضاً.

وهناك مسألة أُخرى معروفة باسم المسألة المنبرية، وهي التي سُئل عنها الإمام عليّ عليه السلام وهو على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة؟ فقال الإمام عليه السلام: صار ثمن المرأة تسعاً، ومراده: أنّه على الرأي الرائج، صار سهمها تسعاً.

وذلك لأنّ المخرج المشترك للثلثين والسدس والثمن هو عدد (24) فثلثاه (16) وسدساه (8) وثمنه (3) وعند ذلك تعول الفريضة إلى (27) سهماً، وذلك مثل (27 = 3 + 8 + 16).

فالقائل بالعول، يورد النقص على جميع أصحاب الفروض، فيعطي لأصحاب الثلثين (16) سهماً وللأبوين (8) سهام، وللزوجة (3) سهام، من (27)، بدل أعطائهم بهذا المقدار من (24) سهماً، والزوجة وإن أخذت (3) سهام، لكن لا من (24) سهماً حتى يكون ثمناً واقعياً، بل من (27) وهو تسع التركة (24) سهماً (1).

هذه هي نظرية العول وبيانها بوجه سهل غير مبتن على المحاسبات الدقيقة وإن كان بيانه على ضوئها أتقن وأدق، فلنذكر أدّلة (2) القائلين به.

ويظهر من السيد المرتضى أنّ القائلين بالعول ربّما يوافقون الإمامية في بعض

_______________________________________

1 - سهم الزوجة =  مجموع السهام 27 = 3 + 8 + 16.

2 - أخذنا الدلائل الثلاثة الأُول من المغني 6: 242 مع تفصيل منّا.

ـ(215)ـ

الصور، كامرأة ماتت وخلّفت بنتين وأبوين وزوجاً، والمال يضيق عن الثلثين والسدسين والربع فنحن بين أُمور: إمّا أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها، وقد أجمعت الأُمّة على أنّ البنتين ها هنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن نعطي الأبوين السدس والزوج الربع، ويجعل ما بقي للابنتين، ونخصّهما بالنقص لأنّهما منقوصتان بالإجماع (1).

يسقط من لم يسعه الثلث، لأنّه أوصى بشيء لم يملكه فتكون وصيّته باطلة.

نعم لو ذكر جماعة ثمّ سمّى، كما إذا قال: زيد وعمر وبكر لكلّ واحد ألف، فعجز عنه مقدار ما ترك، فلا شك أنّه يدخل النقص على الجميع والفارق بينه وبين المقام هو تصريح الموصي بالعول، ولو ورد التصريح به في الشريعة – وأغضينا عمّا سيوافيك – يجب اتّباعه فكيف يقاس، ما لم يرد بما ورد فيه التصريح؟

3 - إنّ النقص لابدّ من دخوله على الورثة على تقدير زيادة السهام أمّا عند العائل فعلى الجميع وأمّا عند غيره فعلى بعضهم لكن هذا ترجيح من دون مرجّح.

يلاحظ عليه: أنّ رفع الأمر المحال بإيراد النقص على الجميع فرع إحراز صحّة أصل تشريعه، لا تصل النوبة إلى احتمال ورود النقص على الجميع، وتصويره بصورة العول، وإيراد النقص على الجميع رجوع عن الفرض، واعتراف بأنّه ليس فيه نصفان وثلث. كما سيظهر عند بيان أدلّة القائلين ببطلانه.

أضف إلى ذلك وجود المرجّح الذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين وتلميذه ابن عباس وسيأتي كلامهما. وكلام عترته الطاهرة.

4 - ما رواه أبو طالب الأنباري (2) بإسناده عن سماك عن عبيدة السلماني، قال: كان

_______________________________________

1 - الانتصار: 284.

2 - هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري شيخ من أصحابنا، ثقة في الحديث عالم به، كان قديماً من الواقفة توفي عام 356، اقرأ ترجمته في رجال النجاشي 2: 41 رقم 615، وتنقيح المقال وغيره وهو الذي روى خبر تكذيب ابن عباس رواية التعصيب. وقد تقدّم الإيعاز إليه أيضاً.

ـ(216)ـ

علي عليه السلام على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنته، وأبويه وزوجة ؟ فقال علي عليه السلام صار ثمن المرأة تسعاً. قالوا: إنّ هذا صريح في العول لأنّكم قد قلتم إنّها لا تنقص عن الثمن وقد جعل عليه السلام ثمنها تسعاً (1).

وذيله دالّ على أنّ الإمام ذكره مجاراةً للرأي السائد ذلك العصر وإلا فمن يجهل بأنّ الإمام وعترته الطاهرة وخريجي منهجهم ينكرون العول بحماس. وإليك الذيل:

قلت لعبيدة: وكيف ذلك ؟ قال: إنّ عمر بن الخطاب وقعت في أمارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع وقال: للبنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وللزوجة الثمن. قال: هذا الثمن باق بعد الأبوين والبنتين، فقال له أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم. أعط هؤلاء فريضتهم، للأبوين السدس، وللزوجة الثمن، وللبنتين ما يبقى، فقال: فأين فريضتهما الثلثان؟ فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: لهما ما يبقى. فأبى ذلك عمر وابن مسعود فقال علي عليه السلام: على ما رأى عمر. قال عبيدة: وأخبرني جماعة من أصحاب علي عليه السلام بعد ذلك في مثلها أنّه أعطى للزوج الربع، مع الابنتين، وللأبوين السدسين والباقي ردّ البنتين وذلك هو الحقّ وإن أباه قومنا (2).

ويستفاد من الحديث أوّلاً: أنّ عليّاً وأصحاب النبيّ إلا شخصين كانوا يرون خلاف العول، وأنّ سيادته لأجل كون الخليفة يدعم ذلك آنذاك.

وثانياً: أنّ الإمام عمل في واقعة برأيه وأورد النقص على البنتين فقط، وعلى ذلك يكون المراد من قوله، فقال علي عليه السلام: على ما رأى عمر، هو المجاراة والمماشاة، وإلا يصير

_______________________________________

1 - سهم الزوجة  =  مجموع السهام 27 = 3 + 8 + 16.

2 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7، من أبواب موجبات الإرث، الحديث 14 ولاحظ التهذيب لشيخ الطائفة 9: 259 رقم 971.

ـ(217)ـ

ذيل الحديث مناقضاً له.

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالعول. فلنذكر أدلّة المنكرين.

 

أدلّة القائلين ببطلان العول:

1 - يستحيل أن يجعل الله تعالى في المال نصفين وثلثاً، أو ثلثين ونصفاً ونحو ذلك ممّا لا يفي به وإلا كان جاهلاً أو عابثاً تعالى الله عن ذلك.

2 - إنّ القول بالعول يؤدّي إلى التناقض والإغراء بالجهل، أمّا التناقض فقد بيّنا عند تفصيل القول بالعول أنّه إذا مات وترك أبوين وبنتين وزوجاً، وقلنا: إنّ فريضتهم من اثني عشر، فمعنى ذلك أنّ للأوّلين أربعة من اثني عشر، وللثانيتين، ثمانية من اثني عشر، وللزوج ثلاثة من اثني عشر، فإذا أعلناها إلى خمسة عشر فأعطينا الأبوين أربعة من خمسة عشر وللبنتين ثمانية من خمسة عشر، وللأبوين أربعة من خمسة عشر فقط دفعنا للأبوين (مكان الثلث) خمساً وثُلثه، وإلى الزوج (مكان الربع) خُمساً، وإلى الابنتين (مكان الثلثين) ثلثاً وخمساً وذلك نفس التناقض.

وأمّا الإغراء بالجهل، فقد سمّى الله سبحانه، الخمس وثلثه باسم الثلث، والخُمس باسم الربع، وثلثاً وخمساً باسم الثلثين(1).

والأولى أن يقرّر الدليلان بصورة دليل واحد، مؤلّف من قضية حقيقية بأن يقال: إذا جعل الله سبحانه في المال نصفين وثلثاً، فأمّا أن يجعلها بلا ضم حلولٍ – مثل العول – إليه، يلزم كونه سبحانه جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك، وأمّا أن يجعل مع النظر إلى حلول مثل العول، يلزم التناقض بين القول والعمل، والإغراء مع كونه قبيحاً.

_______________________________________

1 - سهام الأبوين  ×  +  =  + =  مجموع السهام 15 = 8 + 3 + 2 + 2. للبنتين + = +  =سهم الزوج   = .

ـ(218)ـ

3 - أنّه يلزم على القول بالعول تفضيل النساء على الرجال في موارد ومن المعلوم أنّه يخالف الشريعة الإسلامية، منها ما يلي:

1 - إذا خلّفت زوجاً وأبوين وابنا.

2 - إذا خلّفت زوجاً وأُختين لأُم، وأخاً لأب.

بيان الملازمة: أنّه لو خلّفت المرأة زوجاً وأبوين، فعلى ظاهر النصوص، يدفع إلى الزوج النصف أي ثلاثة من ستة، وللأُم اثنان من ستة، والباقي وهو الواحد للأب، ولكن المذاهب لم تعمل بظاهر النصوص لاستلزامه تفضيل النساء على الرجال. ولكنّه يلزمهم التفضيل في الموردين المتقدّمين على القول بالعول بالبيان الثاني.

إنّهم التزموا في المورد الأوّل بدفع النصف إلى الزوج والسدسين للأبوين والباقي (وهو الواحد) للابن.

وفي المرود الثاني يعمل كذلك، يدفع إلى الزوج النصف وإلى الأُختين الثلث، والباقي وهو الواحد إلى الأخ لأب بلا عول.

ولكن: لو كان بدل الابن بنتاً وبدل الأخ أُختاً لأب فهما تأخذان أكثر من الذكر، وذلك لاستلزامها العول في كلتا الصورتين وورود النقص على الجميع، وإن شئت التوضيح فلاحظ التعليقة(1).

 

ما هي الحلول لهذه المشكلة؟

كان الإمام عليّ يُندِّد بالعول ويقول: «إنّ الذي أحصى رمل عالج يعلم أنّ السهام

_______________________________________

1 - لو كان ابناً 5 = 7 – 12. 7 = 2 + 2 + 3.

فلو كان مكان الابن بنتاً يلزم لها سهماً أكثر من الابن  لبنت = لو كان الوارث أخاً لأب 1 = 5 – 56 = 2 + 3 ولو كان مكان الأخ، أُخت لأب فسهمهما   وسهم الأخ  8 = 3+ 2+3  .

ـ(219)ـ

لا تعول على ستة لو يبصرون وجهها لم تجز ستّة»(1). وقد تظافر قولهم «السهام لا تعول» عن أئمّة أهل البيت(2).

وقد جاء تفصيل تاريخ العول في رواية ابن عباس وبيان الحلول التي لجأ إليها تلميذ الإمام في رواية عبيدالله بن عبدالله وإليك نصَّها:

«جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض في المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم أترون أنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟

فقال له زفر بن أوس البصري: فمن أوّل من أعال الفرائض؟

فقال: عمر بن الخطاب لما التَفَّتْ الفرائض عنده ودفع بعضها بعضاً فقال: والله ما أدري أيّكم قدّم الله وأيّكم أخّر وما أجد شيئاً هو أوسع مع أن أُقسِّم عليكم هذا المال بالحصص، فأدخل على كلّ ذي سهم ما دخل عليه من عول الفرائض، وأيم الله لو قدّم مَن قدّم الله وأخّر من أخّر الله ما عالت فريضة.

فقال له زفر: وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟

فقال: كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله. وأمّا ما أخّر: فلكّل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلا ما بقي فتلك التي أخّر. فأمّا الذي قدَّم: فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، والأُم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض

_______________________________________

1 - الوسائل، الجزء 17، الباب 6 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 7 و 9 و 14.

2ـ الوسائل، الجزء 17، الباب 6 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 1 و 2 و 3 و 5 و 7 و 8 و 10 و 11 و 12 و 15 و 16.

ـ(220)ـ

التي قدّم الله. وأمّا التي أخّر: ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلا ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدّم الله وما أخّر بدئ بما قدّم الله فأُعطي حقّه كاملاً، فإنّ بقي شيء كان لمن أخّر، وإن لم يبق شيء فلا شيء له»(1).

فقد جاء في كلام ابن عباس الطوائف الذين لا يدخل بهم النقص وهم عبارة عن:

1 - الزوج 2 - الزوجة 3 – الأُم. وهؤلاء يشاركون في أنّهم لا يهبطون عن فريضة إلا إلى فريضة أُخرى وهذا آية أنّ سهامهم محدودة لا تنقص.

وكان عليه أن يذكر الأخ والأُخت من أُمّ، لأنّهم أيضاً لا يهبطون من سهم (الثلث) إلا إلى سهم آخر وقد جاء الجميع في كلام الإمام أمير المؤمنين. روى أبو عمر العبدي عن علي بن أبي طالب أنّه كان يقول: الفرائض من ستة أسهم: الثلثان أربعة أسهم، والنصف ثلاثة أسهم، والثلث سهمان، والربع سهم ونصف، والثمن ثلاثة أرباع سهم، ولا يرث مع الولد إلا الأبوان والزوج والمرأة، ولا يحجب الأُم عن الثلث إلا الولد والإخوة، ولا يزاد الزوج عن النصف ولا ينقص من الربع، ولا تزاد المرأة على الربع ولا تنقص عن الثمن، وإن كنّ أربعاً أو دون ذلك فهنّ فيه سواء ولا تزاد الإخوة من الأُم على الثلث ولا ينقصون من السدس وهم فيه سواء الذكر والأثنى، ولا يحجبهم عن الثلث إلا الولد، والوالد، والدّية تقسم على من أحرز الميراث(2).

نعم روى أبو بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث: الوالدان، والزوج، والمرأة (3). وبما أنّ المراد من المرأة هي الزوجة فلابدّ من تقييد

_______________________________________

1 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 6، لاحظ المستدرك للحاكم 4: 340 كتاب الفرائض والحديث صحيح على شرط مسلم، وأورده الذهبي في تلخيصه إذعاناً بصحته.

2 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 12، 3 و 17 و 15.

3 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 12، 3 و 17 و 15.

ـ(221)ـ

الرواية بكلالة الأُم. فإذا كان هؤلاء من قدّمهم الله ولا يزيد عليهم النقص، فيكون من أخّره الله عبارة عن البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأب من الأُخت أو الأخوات.

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: ما تقول في امرأة تركت زوجها وإخوتها لأمّها وإخوة وأخوات لأبيها ؟ قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، ولإخوتها من أُمّها الثلث سهمان الذكر والأُنثى فيه سواء، وما بقي سهم للإخوة والأخوات من الأب: ﴿... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾ لأن السهام لا تعول ولأنّ الزوج لا ينقص من النصف ولا الإخوة من الأُم من ثلثهم فإنّ كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث(1).

وورد تعبير لطيف في رواية الصدوق في عيون الأخبار: عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون وهو أنّه «وذو السهم أحقّ ممّن لا سهم له»(2).

 

ما الفرق بين البنت وكلالة الأُمّ:

بقي الكلام في عدّ البنت والبنات والأخت والأخوات، ممّن يدخل عليهم النقص دون الأُخت والأخ من الأُم، مع أنّ الطوائف الثلاث على وتيرة واحدة.

فللبنت: الثلثان والنصف، وللأخت: الثلثان والنصف، ولكلالة الأُم: الثلث والسدس. فما هو الفارق بين الطائفة الثالثة والأُوليين؟

يتّضح الجواب ببيان أمر: وهو دخول الأخ في كلالة الأم، لا يخرجها عن كونها وارثة بالفرض، فالواحد منها سواء كان ذكراً أم أُنثى له السدس، وغير الواحد، سواء

_______________________________________

1 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 12، 3 و 17 و 15.

2 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 12، 3 و 17 و 15.

ـ(222)ـ

كانوا ذكراً أو أُنثى، أو ذكراً وأنثى، لهم الثلث يقتسمون بالمناصفة.

وهذا بخلاف الطائفتين الأُوليين فللبنت والأُخت الواحدتين النصف، ولأزيد من الواحد الثلثان، ولو انضّم إليهما الأخ فللذكر مثل حظّ الأُنثيين في الطائفتين، أي لا يرثن بالفرض بل بالقرابة.

وعلى ذلك وكلالة الأُم مطلقاً وارثة بالفرض لا ترث إلا به، بخلاف البنت وأزيد، أو الأُخت وأزيد، فربّما يرثن بالقرابة وذلك فيما إذا انضمّ إليهنّ الأخ.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:

إنّ كلالة الأُم، ترث بالفرض مطلقاً كان معهم ذكر أو لا، تفرّدت من الطبقة بالإرث أولا، فلو لم يكن وارث سواها ترث الثلث فرضاً والباقي ردّاً. ولا ينقص حظّهم في صورة من الصور لو لم يزد عند الرد، وهذا آية عدم ورود النقص عند التزاحم.

وبالجملة: لا نرى فيهم أيّ إزالة من الفرض في حال من الحالات ولا ورود نقص عليهم عند تطوّر الأحوال. وهذا بخلاف البنت والأُخت فلو دخل فيهم: الأخ، يتغيّر الفرض من النصف أو الثلثين، إلى مجموع ما ترك بعد دفع سهام الآخرين كالوالدين، أو كلالة الأُم، ثم يقتسمون بالتثليث وتنقص حظوظ البنت أو الأُخت والأخوات عن النصف والثلثين بكثير، وهذا آية جواز دخول النقص عليهم عند التزاحم.

وبعبارة أُخرى: أنّ كلالة الأُم ترث دائماً بالفرض حتى فيما إذا تفرّدت، وأمّا الطائفتان الأُوليتان فإنّما ترثان بالفرض تارة كما إذا لم يكن بينهم أخ، وأُخرى بالقرابة فقط كما إذا انضمّ الأخ إليهنّ. وأيضاً: كلالة الأُم لا يرد عليها النقص ولا ينقص حظهم عن الثلث والسدس، بخلاف الأخيرتين فينقص حظّهما عن النصف والثلثين.

ولعلّه إلى ما ذكرنا من التوضيح يشير صاحب الجواهر بقوله: «دون من يتقرّب بالأُم الذي لا يرث إلا بفرض، بخلاف غيره فإنّه يرث به تارة وبالقرابة أُخرى كالبنت

ـ(223)ـ

والبنتين، اللّتين ينقص إذا اجتمعن مع البنين عن النصف أو الثلثين بنصّ الآية لأنّ للذكر حينئذ مثل حظّ الأُنثيين»(1).

وقال العاملي: «ويدخل النقص على البنت والبنات لأنّهنّ إذا اجتمعن مع البنين ربّما نقص عن العشر أو نصفه لنصّ الآية ﴿... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...﴾ وكذا الحال في الإخوة والأخوات من قبل الأب أو من قبلهما» (2).

قال المحقّق: «يكون النقص داخلاً على الأب أو البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأُم أو بالأب من الأُخت والأخوات دون من يتقرّب بالأُم، ولم يذكر العلاّمة في القواعد(3) «الأب» وهو الصحيح لأنّ الكلام في المقام هو زيادة الفروض على التركة، فيقع الكلام في تقديم بعض أصحاب الفروض على بعض، وأمّا الوارث الذي ليس بصاحب فرض وإن كان في جنب ذيّه فهو خارج عن محل البحث، والأب كذلك لأنّه مع الولد للميّت لا ينقص فرضه عن السدس(4)، ومع عدمه ليس ذا فرض بخلاف الأُم فإنّها من ذوات الفروض مطلقاً.

وليعلم أنّ عامل العول هو الزوج أو الزوجة إذا اجتمع أحدهما مع البنت أو البنات، أو مع الأُخت أو الأخوات من قبل الأبوين أو لأب، وإلا لما يلزم العول.

وعلى ذلك:

1 - فلو خلفت زوجاً وأبوين وبنتاً، يختصّ النقص بالبنت بعد الربع والسدس.

2 - لو خلفت زوجاً وأحد الأبوين وبنتين، يختصّ النقص بهما - بعد الربع والسدس.

_______________________________________

1 - الجواهر 39: 110. وحاشية جمال الدين على الروضة البهية 2: 297 في هامش الكتاب.

2 - مفاتح الكرامة 8: 120.

3 - المصدر نفسه.

4 - الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 2 و 4 و 10.

ـ(224)ـ

3 - لو خلفت زوجة وأبوين وبنتين، يختصّ النقص بهما بعد الثمن والسدسين.

4 - لو خلفت زوجاً مع كلالة الأُم وأُختاً أو أخوات لأب وأُم أو لأب، يدخل النقص بالأُخت أو الأخوات بعد النصف والسدس إن كانت الكلالة واحدة أو الثلث إن كانت متعدّدة.

بقيت هنا نكات نذكرها:

1 - إنّ الآثار المروية عن ابن عباس تشهد على أنّ حبر الأُمة كان مذعناً ببطلان العول على حدّ كان مستعدّاً للمباهلة: قال ابن قدامة: روي عن ابن عباس أنّه قال في زوج وأُخت وأُم: من شاء باهلته أنّ المسائل لا تعول، إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فسُمِّيت هذه المسألة، مسألة المباهلة لذلك(1).

2 - إنّ فقيه المدينة: الزهري كان يستحسن فتوى ابن عباس ويقول: إنّها الحجّة لولا أنّه تقدّم عليه عمر بن الخطاب.

روى الشيخ في الخلاف عن عبيدالله بن عبدالله وزفر بن أوس البصري أنّهما سألا ابن عباس: من أوّل من أعال الفرائض ؟ قال: عمر بن الخطاب، قيل له: هلا أشرت به عليه ؟ قال هبته وكان أمره مهيباً، قال الزهري: لولا أنّه تقدّم ابن عباس، إمام عدل وحكم به وأمضاه وتابعه الناس على ذلك لما اختلف على ابن عباس اثنان(2).

3 - إنّ موسى جار الله قد أطنب الكلام في مسألة «العول» إلى حدّ مملّ جداً وأخذ يجترّ كلاماً واحداً، وحصيلة كلامه: يغلب على ظنّي أنّ القول بأنّ لا عول عند الشيعة،

_______________________________________

1 - المغني 6: 241 ونقله عن ابن عباس أكثر من تعرّض للمسألة.

2 - الخلاف 2: 282، المسألة 81 وغيره.

ـ(225)ـ

قول ظاهري فإنّ العول هو النقص فإنّ كان النقص في جميع السهام بنسبة متناسبة، فهو العول العادل أخذت به الأُمة وقد حافظت على نصوص الكتاب، وإن كان النقص في سهم المؤخّر، فهو العول الجائر أخذت به الشيعة وخالفت به نصوص الكتاب (1).

يلاحظ عليه:

1 - إنّ المعنى المناسب للعول في المقام هو الارتفاع أو الميل إلى الجور، وتفسيره بالنقص – لو افترضنا صحّة استعماله فيه - غير مناسب جداً، لظهور ارتفاع الفرائض عن سهام التركة، وارتفاعها وإن كان ملازماً لنقص التركة عن الإجابة لجميع الفروض، لكن ينظر إلى المسألة من زاوية ارتفاع الفرائض دون نقصان سهام التركة ولأجل ذلك يقول ابن عباس: «وأيم الله لو قدّموا من قدّم الله، وأخّروا من أخّر الله ما عالت فريضة» ومن المعلوم عدم صحّة تفسيره بـ«وما نقصت الفريضة».

2 - سلّمنا أنّ العول بمعنى النقص لكن رمي الشيعة بأنّهم يقولون به حيث إنّهم يوردون النقص على المؤخّر، غفلة من نظرهم، فإنّ النقص إنّما يتصوّر إذا كان المؤخّر ذا فرض، ولكنّه عندهم ليس بذي فرض بل يرث بالقرابة كسائر من يرثون بها وعندئذ لا يصدق النقص أبداً في هذه الحالة.

يشهد بذلك كلام ابن عباس حيث يفسّر المقدّم بأنّه ممن له فرضان، والمؤخّر بأنّه ممّن ليس له إلا فرض واحد وهو في غير هذا المورد: حيث قال في جواب «زفر» الذي سأله عمّن قدّمه ومن أخّره؟ فقال: والذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدّمه، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي فذلك الذي أخّره الله (2) وبعبارة أُخرى: إنّ الذي أخّره

_______________________________________

1 - الوشيعة في نقض عقائد الشيعة، وقد نقلنا كلامه مجرّداً من الطعن بأئمّة أهل البيت عليهم السلام.

2 - يلاحظ الوسائل، الجزء 17، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 6.

ـ(226)ـ

الله لم يجعل له حقّاً مفروضاً في حالة التزاحم والاجتماع فيرث ما بقي، وليس هو بذي فرض في هذا الفرض لكونه وارثاً بالقرابة. وبذلك تبيّن أنّه لا عول عند الشيعة بالمعنى المصطلح عند الفقهاء.

5 - ما ذكره من أنّ السنّة حافظت على نصوص الكتاب ولكن الشيعة بإدخال النقص على المؤخّر خالفت نصوصه، من أعاجيب الكلام، فإذا كان في دخول النقص على المؤخّر (على وجه المسامحة) مخالفة لظاهر الكتاب ففي دخولها على الجميع مخالفة مضاعفة، فقد عرفت في ما سبق أنّ من فرض الله له النصف أعطوه أقلّ منه، ومن فرض له الثلثان أعطوه أقلّ منهما فكيف لا يكون فيه مخالفة(1).

_______________________________________

1 - وقد كفانا في نقد ما اختلقه من الشبهات أو أخذها ممّن تقدم عليه العلمان الجليلان: السيد عبدالحسين العاملي قدس سره في كتابه «أجوبة موسى جار الله». والسيد محسن العاملي قدس سره في «نقض الوشيعة».