مد الجسور وتوثيق الصلات بين الدراسات التقليدية والدراسات الجامعية الحديثة

مد الجسور وتوثيق الصلات بين الدراسات التقليدية والدراسات الجامعية الحديثة

 

 

مد الجسور وتوثيق الصلات بين الدراسات التقليدية والدراسات الجامعية الحديثة

 

الدكتور إبراهيم العاتي

مدير الدراسات العليا والبحوث الجامعية

العالمية للعلوم الإسلامية (لندن)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

1- بين عصرين:

لقد درجت الجامعات الإسلامية القديمة على تقاليد ومناهج علمية امتدت لقرون بعيدة، ورثها الخلف عن السلف حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر. ولاشك أن تلك التقاليد والمناهج قد واكبت نشأة العلوم الإسلامية وما تفرع عنها من علوم مختلفة منذ القرن الأول والثاني للهجرة وحتى نضوجها واكتمالها فيما بعد. يظهر ذلك جلياً في علم أُصول الفقه، وعلم الكلام، وعلوم الحديث والرجال، وعلوم اللغة العربية وآدابها، وغيرها مما اكتمل هيكله وتحددت مضامينه ومشكلاته في حقبة زمنية لا تتعدى القرن السادس الهجري.

 

وعلى الجانب الآخر في الغرب الأوروبي كانت الجامعات والمعاهد العلمية تسير وفق الأنماط القديمة السائدة في العصر الوسيط، والتي تغلب عليها الفلسفة المدرسية Scholastic Philosophy المستندة إلى منطق أرسطو والتراث العلمي اليوناني القديم، مضافاً إليها التعاليم الكنسية الصارمة التي تحرم أي نقاش في المسائل التي تخالف منظورها للعلم والحياة والكون بوجه عام، حتى في المسائل العلمية التجريبية البحتة التي لا تدخل في مجال اختصاصها كمسألة دوران الأرض، التي خيّر العلماء بين إنكارها أو التعرض للسجن والتعذيب أو القتل بتهمة (الهرطقة)!! ولذا طبعت الحركة العلمية في تلك الفترة بطابع الخوف وافتقاد الحرية، وهي شرط أساس من شروط الإبداع.

وحينما بدأت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية لأهم نصوص الفلاسفة والعلماء المسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم والرازي وابن رشد وغيرهم، وتركت آثارها الإيجابية على عدد من العلماء وبعض الجامعات في الغرب، سارعت الكنيسة لتحيطها بالشكوك أو تعاملها بانتقائية خاصة فتقبل مايفيدها من تطور بعض العلوم كالطب والصيدلة وتهمل الباقي، أما المناهج العقلية والتجريبية التي ساهمت في تقدم تلك العلوم، والجوانب العقديّة التي ألهمت الإنسان المسلم، وأطلقت حريته في النظر وتأمل آيات الكون فقد أهملت أو حوربت محاربة شديدة، كما حصل مع الفيلسوف ابن رشد قاضي قرطبة، الذي شنت عليه الكنيسة حرباً شعواء بعدما أحست بخطره عليها.

 

وحينما أطلت العصور الحديثة في الغرب الأوروبي بداية بعصر النهضة شكل ذلك صدمة للمؤسسات التقليدية، رافقها تطور وتغير في شتى ميادين العلم والمعرفة وفي نظرة الإنسان للعالم، وبدأ الفلاسفة والعلماء في اتباع مناهج علمية جديدة تحاول تحرير العقل من إسار الفلسفة الوسيطة، وتؤسس لنهضة علمية جديدة بدأت ملامحها تتضح منذ القرن السادس عشر للميلاد.

 

وكان أشهر من تصدى لتلك المهمة فيلسوفان كبيران أحدهما الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561 – 1626) الذي انتقد المنطق الأرسطي والفلسفة المدرسية ودعا إلى اعتماد منطق جديد قوامه التجربة والاستقراء؛ والثاني رينيه ديكارت (1596 – 1650) الذي انتقد كسلفه المنطق الأرسطي والفلسفة المدرسية لأنهما حالا دون تقدم العلم، واعتمد المنهج العقلي الرياضي وطبقه في قضايا العلم والفلسفة التي جهد في أن تكون مثل الحقائق الرياضية واضحة وبديهية، كما جعل غاية المعرفة أن يتحكم الإنسان في قوى الطبيعة. وقد كان أثر هذين الفيلسوفين كبيراً وحاسماً في تقدم العلم التجريبي ووصوله إلى ماوصل إليه حتى يومنا هذا.

 

ومن الطبيعي أن تكون الجامعات والمعاهد العلمية في الغرب قد استوعبت درس التغيير جيداً، فبدت مناهجها مواكبة للتطور العلمي الذي تحقق، وأصبحت نقطة انطلاق ومكان اختبار للنظريات العلمية التي تتناول شتى فنون المعرفة. فتخلصت تدريجيا من سيطرة مناهج العصر الوسيط العلمية والتربوية، وبدأت ثورة في ميدان التربية والتعليم ومناهج البحث العلمي وغيرها لم تتوقف حتى يومنا هذا.

 

2- الصدام والتفاعل الحضاري:

لو استعرضنا تجارب التاريخ لوجدنا أنه ما من حضارة عاشت بمعزل عن الحضارات الأخرى، قريبة كانت أو بعيدة، إذ لابد أن يحصل بينها في يوم من الأيام احتكاك أو صدام أو حوار أو تفاعل تترتب عليه نتائج تتراوح بين الانهيار الناجم عن هيمنة عسكرية وقوة اقتصادية وسياسية، أو الذوبان التام أو الجزئي لحضارة ضعيفة هرمة لصالح حضارة فتية قوية التأثير في الجانب المادي والمعنوي، أو الحوار والتفاعل وتبادل المنافع والثقافات.

 

فليس صحيحا إذن ماذهب إليه الفيلسوف الألماني شبنغلر من أن الحضارات تشكل دوائر منعزلة على نفسها، تحمل مصيرها الفردي وقدرها المحتوم الذي لابد أن يحل عليها في يوم من الأيام، حين تمر بدورة تشبه تناوب الفصول الأربعة في عالم الطبيعة، تولد في الربيع وتنمو وتزدهر في الصيف، وتهرم في الخريف، ثم يحل عليها الفناء في الشتاء. ورغم أن نظريته في نشأة الحضارات وتطورها ليست جدّية كل الجدّة إذ سبقه إليها ابن خلدون، فإننا نجد لها مصاديق عديدة في الماضي والحاضر. غير أن قوله بعزلة الحضارات عن بعضها البعض هو الذي يبقى محل نظر.

 

والعلاقة بين الشرق والغرب في العصر الحديث مرت ومازالت تمر بألوان من الصدام والتفاعل كان الجانب الثقافي أحد مسارحها الرئيسة. فمنذ أن وطأ جيش نابليون أرض مصر، صحا المصريون على المنجزات وتقنيات وعلوم لم يألفوها من قبل، وبعد انسحاب الفرنسيين وتسلـم محمّد علي باشا (1769 – 1849)  للسلطة ابتدأ مشروعا طموحا لبناء دولة قوية مستقلة عن سيطرة العثمانيين، لا بل منافسة ومهددة لها، كما اتضح فيما بعد خلال الهزائم التي ألحقها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمّد علي بالأتراك، وسيطر بموجبها على بلاد الشام وواصل زحفه على الأناضول، لولا أن تحالفت ضده الدول الأوروبية وساندت العثمانيين، وفرضت عليه المعاهدات التي حصرت نفوذه داخل حدود مصر.

 

3- تحديث التعليم وانشطاره:

حينما بدأ الاحتكاك الحضاري مع الغرب لاحظ العلماء المصلحون والقادة المتنورون أن لا سبيل إلى اللحاق بركب الأمم المتقدمة والوقوف أمامها على قدم المساواة إلا إذا امتلكنا مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تبني عليها الدول وتكون سياجا منيعا يحميها من غائلة العدوان. لكن هذه المصادر لا تتأتى من مجرد امتلاك السلاح والمال والصناعات والتقنيات وما شابه، بل تنبع من امتلاك منظومة العلوم التي أبدعت وطورت تلكم الإنجازات المادية المختلفة، لأن النهضة تبدأ بالعلم وبه تدوم. غير أن السؤال الملح الذي برز أمامهم هو: أي علم سيكون معياراً للنهضة والتحديث ويساعدنا في اللحاق بركب الحضارة؟

 

لقد كانت العلوم السائدة في ذلك الحين، كما ألمحنا سابقا، هي نفس العلوم التي كانت سائدة منذ قرون، ولكن بعد أن صبت في قوالب جامدة ومضامين عتيقة خارجة عن سياقها التاريخي والاجتماعي. وهي لا تتجاوز العلوم الشرعية وعلوم اللغة التي تغلب عليها المماحكات اللفظية والقضايا الشكلية التي لا صلة لها بالواقع إلا بقدر قليل، أما علوم الصناعة والحضارة والعمران وكل ماله صلة بعمارة الأرض فلم تعره المعاهد العلمية اهتماما، بل ينقل عبد الرحمن الجبرتي (1754 – 1825) المؤرخ المصري المعروف أن الجامع الأزهر وشيوخه في منتصف القرن الثامن عشر لم يكن لديهم اهتمام حتى بالعلوم الرياضية والفلكية التي يتوسل بها لمعرفة أوقات الصلاة، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم، والأهلة التي تحدد أوائل الشهور العربية([1]).

وبقي الأمر على هذه الحال حتى حصلت حملة نابليون وقامت دولة محمّد علي الذي سعى لإقامة دولة عصرية قوية فنظم الإدارة، واهتم بالصناعات، وشيد السدود والقناطر، وأنشأ جيشاً وطنيا قويا وأسطولا بحريا، وأسس المدارس. ولكي يتخلص من التبعية للدول المتقدمة أرسل عدة بعثات علمية من الطلبة المصريين إلى فرنسا ليعودوا إلى وطنهم وقد أتقنوا العلوم الحديثة فيقومون بنشرها على أوسع نطاق.

 

كانت البعثات الأولى مخصصة لدراسة العلوم العسكرية في بادئ الأمر، غير أنها تجاوزت ذلك لدراسة علوم أخرى كالطب والهندسة والسياسة والإدارة والاقتصاد السياسي والزراعة والمعادن والتاريخ الطبيعي والترجمة الشاملة لمختلف العلوم والفنون والآداب.

 

وحينما اتجه محمّد علي لتطوير أقدم مؤسسة تعليمية في مصر وهي الجامع الأزهر جوبه بمعارضة العلماء التقليديين الذين يرون ضرورة بقاء القديم على قدمه، مما اضطره إلى إنشاء مدارس منفصلة تدرس فيها العلوم الجديدة مع شيء من علوم الدين، وكانت تلك بداية لانشطار التعليم إلى ديني لا يعرف إلا القليل عن علوم الدنيا، ومدني لا يعرف إلا القليل عن علوم الدين، الأمر الذي ترتب عليه فيما بعد انفصال عميق في العقل المسلم تجاه المشكلات الخطيرة التي بدأت تعيشها المجتمعات المسلمة على ضوء التقدم الحضاري المتصاعد الذي يمسك الغرب فيه بزمام القيادة.

 

فهناك من رأى أن الحلول لمختلف مشكلات المجتمع تكون بالرجوع إلى الموروث أيا كانت طبيعته مع النظر إلى العلوم الجديدة الوافدة بعين الشك والريبة، وهناك من رأى بأن الطريق الأنجع للنهوض بالأمة هو الاستفادة من المنجزات الحضارية الكبيرة التي حققتها أوروبا في ميادين الحياة المختلفة نظرا لإيمانها بالعلم التجريبي والرياضي، وتحرير إرادتها السياسية من سيطرة الكهنوت، ليقرر الشعب مصيره بنفسه. وتجدر الإشارة إلى أن التيار الثاني لم يكن قد انفصل بعد كلية عن تراثه الحضاري المخزون، واتجه بتفكيره كله إلى الغرب ملتمسا فيه طوق النجاة، كما سيتضح في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

 

4- تجارب تعليمية متوازنة – الانفتاح على العصر والحفاظ على ثوابت التعليم الحديث من الانفصال إلى الاتصال:

إزاء المخاطر المترتبة على انشطار التعليم إلى ديني ومدني، حاول بعض المصلحين رأب الصدع والقيام بتجارب متوازنة تعيد اللحمة مابين الطرفين. ولعل من محاسن الصدف أن قيض لشيخ أزهري تولي هذه المهمة الصعبة، فأصبح رائداً للتعليم الحديث لا في مصر وحدها بل في العالم العربي والإسلامي، لأن هذا هو صمام الأمان من الانزلاق في عملية التحديث حسب المقاييس الغربية مع إغفال النظر للشروط والمعطيات التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة.

 

ذلك هو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873) خريج الأزهر وأحد أساتذته الذي درس المعقول والمنقول على نخبة من العلماء الذين وصل بعضهم إلى مشيخة الأزهر، وأشهرهم وأكثرهم تأثيرا عليه الشيخ حسن العطار (1766- 1835) الذي كان شيخاً متفتحا احتك بعلماء الحملة الفرنسية واطلع منهم على العلوم والفنون الجديدة التي لم تكن معروفة عند رجالات الأزهر، وهو الذي أشار على محمّد علي بـأرساله مع البعثة المصرية التي سافرت إلى باريس عام 1826 ليكون مرشداً دينياً للطلاب وإماما في الصلاة.

 

لكن الشيخ رفاعة ما أن وصل فرنسا حتى أتقن اللغة الفرنسية في فترة وجيزة لفتت انتباه أساتذته وزملائه، فصدر قرار من الحكومة المصرية (بضمه إلى أفراد البعثة، بحيث يتخصص في الترجمة، لميزته عن الكثيرين من زملائه في التفوق باللغة العربية وثقافته الأزهرية، فإذا ماضم إلى العربية وتراثها الفرنسية وعلومها كان مؤهلا للنهوض بالترجمة أكثر من الآخرين) ([2]).

وهكذا تجاوز الشيخ رفاعة مهمته الوعظية البحتة ليدرس العلوم العصرية وخاصة العلوم الاجتماعية، ويكتب مشاهداته وملاحظاته عن التطور الحضاري للمجتمع الفرنسي في ذلك الحين من الوجوه السياسية والاجتماعية والدستورية ووضع المرأة وغيرها، والتي ضمنها كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، مما كان له أكبر الأثر في إطلاع المجتمعات الشرقية على التطور الحضاري الذي بلغته أوروبا وخاصة في ميدان العلوم التي يمكن الاستفادة منها في النهوض بالمجتمع المصري والشرقي عموما من وهدة الجهل والتخلف التي كان غارقاً فيها. ولعل أهم إنجازات الطهطاوي تتمثل بدوره في تأسيس المدارس ونشر التعليم لا للبنين فقط بل للبنات أيضاً، وهو أمر له دلالاته في مجتمع كان يحرم المرأة من أبسط حقوقها، بل ويحرم عليها التعليم في كثير من الأحيان.

 

اهتم الشيخ رفاعة بالترجمة اهتماما كبيراً، حيث ترجم وهو مازال طالبا في فرنسا اثني عشر كتابا عن الفرنسية في جملة من العلوم، وسعى حين وصوله إلى مصر لتأسيس معهد خاص للترجمة، فقام بعدة محاولات تبلورت أخيرا في مدرسة الألسن التي كانت في حقيقتها جامعة حديثة تضم مدارس أو كليات متعددة للشريعة والقانون، والتجارة، والإدارة والسياسة، والزراعة، ثم ان مدرسة الألسن التي كانت تدرس لطلبتها آداب العربية واللغات الأجنبية، وخاصة الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية والإنكليزية، وعلوم التاريخ والجغرافيا([3]).  

 

ومعروف أن هذه المدرسة استمرت في أداء مهمتها كأهم كلية للغات في مصر، وهي تتبع حاليا جامعة عين شمس في القاهرة. والأمر الجوهري الذي نستخلصه من كل ذلك أن أول تجربة جامعية نشأت في العالم الإسلامي في العصر الحديث، سعت إلى تدريس علوم الدين وعلوم الدنيا في معهد واحد، فكما تخرج هذه المدرسة القضاة فإنها تخرج المحاسبين والإداريين والمهندسين الزراعيين والمترجمين وغيرهم، وهو مالم يكن معروفا حينذاك في إطار الفصل الذي بدأ يشيع بين التعليم الديني والتعليم المدني.

وهناك أمر آخر تجدر الإشارة إليه وهو أن الاهتمام الكبير الذي أولاه الطهطاوي للترجمة يدل على خطوة حضارية متقدمة، فلكي نسد الفجوة بين العالم المتقدم والمتخلف، لابد لنا من الوصول إلى ماوصل إليه من مستويات متقدمة في ميدان العلوم والتقنيات وغير ذلك، وهذا لن يتأتى إلا بترجمة مالديه من علوم إلى لغتنا لتكون في متناول الدارسين الذين لا يتقن كثير منهم اللغات الأخرى، وهو مافعله المسلمون قديما حينما ترجموا الكتب العلمية والفلسفية من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية، ليتم تجاوزها أو الإضافة إليها فيما بعد.

 

لكن لم يقيض لهذه التجربة المهمة أن تستمر، فما أن بدأ الزحف الاستعماري على بلاد المسلمين حتى بدأت اللغات الأجنبية تحتل مكان الصدارة في التعليم الأساسي والعالي، وتعزز هذا الأمر يوما بعد يوم مع ثورة المعلومات وشبكة الاتصالات العالمية التي تأخذ منها اللغة الإنكليزية حصة الأسد.

 

وهناك شخص آخر ترك بصماته على الحياة الثقافية والتعليمية في مصر وهو علي مبارك باشا (1823 – 1893) الذي درس في فرنسا، وترقى في وظائف الدولة حتى صار ناظرا (وزيراً) للمعارف. لقد خطا هذا الرجل خطوة كبيرة في ميدان التعليم حينما أسس مدرسة أو كلية (دار العلوم) كمؤسسة تعليمية جديدة، «تضم خير ما في الأزهر، بعد تطويره وتحديثه، إلى جانب ما في التعليم المدني العصري من علوم وفنون.. مؤسسة تلغي ازدواجية التعليم، ذات المخاطر على عقل الأُمة وشخصيتها الموحدة» ([4]).

 

وهكذا ضمت تلك المدرسة أو الكلية، كما تنعت اليوم، نخبة من المدرسين الأجانب والمصريين هم من خيرة علماء عصرهم، يدرسون العلوم العصرية كالفلك، وعلم النبات، والطبيعيات، والتاريخ العام، وفن الآلات، وفن الأبنية، وفن السكك الحديد، وأساتذة مصريون يدرسون العلوم العربية والإسلامية، وكان من بينهم الشيخ محمّد عبده الذي درّس – ولأول مرة – علم الاجتماع أو علم العمران معتمدا على مقدمة ابن خلدون، والشيخ أحمد شرف الدين المرصفي (من شيوخ  الأزهر) للتفسير والحديث، والشيخ البحراوي مفتي الحقانية لفقه المذهب الحنفي، وغيرهم ([5]).

 

ولذا كان خريجو هذه المدرسة الذين يعيّنون في التعليم يتمتعون بثقافة عصرية عالية إلى جانب ثقافتهم الأصلية، فكانت دار العلوم نموذجا عمليا للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، دونما حاجة إلى تنظير كثير ملأنا به المجلدات حول هذا الموضوع منذ أكثر من عشرين عاماً. ورغم أن كلية دار العلوم مازالت قائمة في مصر حتى يومنا هذا وتتبع جامعة القاهرة، إلا أنها اليوم تقتصر في تدريسها على علوم اللغة العربية وآدابها، فلم يعد لها عناية بالعلوم الأخرى الطبيعية والرياضية، وهذا نكوص عما كنا عليه قبل قرن ونصف من الزمان!!

 

لقد تركت هاتان التجربتان أثرهما على أقطار إسلامية أخرى، وخاصة في تركيا العثمانية  ابتداء من عهد السلطان محمود الثاني، وفي تونس أيام الباي أحمد باشا والمشير محمّد الصادق الذين قاما بمحاولة بناء دولة حديثة على غرار دولة محمّد علي. وكان الموجه الفكري والمنفذ السياسي والإداري لتلك التجربة خير الدين باشا التونسي، الذي وصل إلى رتبة الوزير الأول في تونس ثم الصدر الأعظم في الدولة العثمانية. وكان أحد أهم إنجازات تلك المرحلة إنشاء المدرسة الصادقية على نمط المدارس الأوروبية الحديثة، وإعادة تنظيم التعليم في جامعة الزيتونة، وتطويره ومحاولة تحديثه ([6]).

5- شيوع التعليم الجامعي الحديث:

بالإضافة لتلك المؤسسات التعليمية ذات الطابع الوطني أو التي نشأت من ضمن النسيج الاجتماعي للمجتمعات المسلمة، بدأت بعض المؤسسات التعليمية الأجنبية ذات الطابع التبشيري المسيحي تطل برأسها، فتأسست مدارس الإرساليات في أقطار إسلامية متعددة، كما أسست (الكلية الإنجيلية السورية) في لبنان، والتي سميت فيما بعد بالجامعة الأمريكية، والتي أردفت بفرع آخر في القاهرة أوائل القرن الماضي.

 

وما أن أطل القرن العشرون حتى بدأت الجامعات تنشأ في أكثر من قطر عربي مسلم، حيث أفسحت المجال لتدريس مختلف العلوم الإنسانية والدينية والطبيعية والرياضية. وأصبح مألوفا أن تشاهد أقساما أو كليات للشريعة تقوم جنبا إلى جنب مع كليات العلوم والطب والهندسة والتجارة وغيرها. بل إن قانون تطوير الأزهر الذي صدر قبل حوالي أربعين عاما قضى بـإنشاء كليات جديدة ضمن جامعة الأزهر مثل كلية الطب والهندسة والعلوم واللغات وغيرها، بعد أن كانت الكليات الرئيسة فيها ثلاثة هي الشريعة وأصول الدين واللغة العربية. وكانت تلك محاولة جديدة للموازنة بين ماسمي بعلوم الدين وعلوم الدنيا، وكذلك للاستفادة من مناهج التعليم الجامعي الحديث في تطوير وتحديث الدراسات الدينية في الأزهر.

6- خصائص التعليم التقليدي والجامعي:

توارثت الأُمة الإسلامية طرقا وأساليب معينة في التعليم بدأت بالحلقات التي كانت تنتظم في المساجد حول فقيه أو مفسر أو محدث يتلقى عنه الطلاب علومهم، ثم نشأت المدارس الكبرى في العصر العباسي كالنظامية والمستنصرية، والجامع الأزهر بمصر أيام الفاطميين، والحوزات العلمية، التي تعتبر امتدادا حيا لنظام الحلقات، في النجف الأشرف وقم وغيرهما، وكذلك مساجد أو جامعات أخرى كالزيتونة بتونس والقرويين بفاس.

 

وقد تميز التعليم التقليدي بنظام الدراسة الحرة التي يختار فيها الطالب أستاذه، وعدم وجود سقف زمني للانتقال من مرحلة إلى أخرى، وعدم وجود اختبارات تثبت أن الطالب أنهى مرحلة علمية معينة وانتقل إلى مرحلة أعلى منها. أما المراحل التي يقطعها الطالب فهي مقرونة بـإنهائه كتابا معينا أو أكثر في النحو والصرف، أو في الفقه، أو الأُصول، أو العقائد، وليس باجتيازه مرحلة زمنية تخضع لبرنامج دراسي متكامل كما هو الحال في الجامعات الحديثة. إضافة إلى ذلك فإن الطالب في الحوزات العلمية ليس مطلوبا منه أن يقدم أپحاثاً منهجية تعالج طرفا من قضايا العلوم التي يدرسها، وجل ما يقوم به الطالب وهو يقطع المراحل العليا في دراسته أن يكتب تقريرا لمحاضرات أستاذه، وهي أشبه ماتكون بالأمالي التي يكتبها الطلبة لدروس أساتذتهم.

 

هذا بالنسبة للمنهج، أما بالنسبة للمادة العلمية فإن المتون القديمة هي المعتمدة وبعضها قد مضت عليه عدة قرون، وأحدثها قد مضى عليه قرن أو يزيد، ولا جديد فيها إلا الحواشي التي يدونها العلماء على أحد المتون الأصلية.

 

بالمقابل كانت الجامعات الحديثة تعج بالحركة والنشاط الذي يستجيب لإيقاعات الحياة المعاصرة. فهناك معالجة جديدة لقضايا العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية، ولمشكلات الفلسفة الحديثة وتياراتها المؤثرة في الغرب، والتي بدأت تنبهر بها الأجيال الجديدة في العالم الإسلامي.

 

وفضلا عن ذلك فقد توسعت مناهج البحث العلمي بفروعها المختلفة، وصارت تطبق بشكل واسع في مشكلات العلوم الإنسانية والتجريبية. أما الأپحاث التي يقدمها الطلبة في دراستهم الجامعية الأولية أو العليا فلها أصولها المقررة ومناهجها ومناقشاتها التي تتم وفق معايير وضوابط جديدة لم تكن متعارفة في الجامعات التقليدية.

 

لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الاختصاصا ت الدينية والعلمية الحديثة بقيت مثل الجزر المنفصلة عن بعضها في الجامعات الحديثة في الدول الإسلامية، وبقي الطالب الجامعي يدور في فلك اختصاصه، ولا يكاد يفقه شيئا عن العلوم الأخرى، وخاصة علوم الشرع، مما أدى إلى نتائج سلبية على صعيد الرؤية الفكرية للأجيال الجديدة خلال قرن أو يزيد.

 

وقد زاد الطين بلة أن عددا من رواد التعليم الجامعي والحركة الثقافية في العالم الإسلامي قد تبنوا المناهج والفلسفات الغربية بشكل كامل، وصاروا يطبقونها حرفيا لا على العلوم الحديثة وحسب، بل حتى على قضايا التراث ومشكلاته التي يجب أن تدرس من منظور منهجي مختلف، ينبع من معطيات التراث العربي والإسلامي وأطره التاريخية والاجتماعية والسياسية التي مر ويمر بها. وأضحى طبيعيا والحالة هذه أن تجد من يطبق منهج الشك الديكارتي على الشعر الجاهلي، والفلسفة الوضعية على مشكلات ما بعد الطبيعة، وعلى القضايا الروحية والغيبيات، والمادية التاريخية والجدلية على مسار الفكر الإسلامي، وتطور المجتمعات المسلمة، منذ ظهور الإسلام وحتى القرون المتأخرة، أو يطبق المنهج البنيوي ليفكك العقل العربي أو المسلم، ويخرج بأحكام جاهزة على هذا الأساس.

7- دور المصلحين المسلمين في الخروج من هذا المأزق:

لاشك أن التعليم الجامعي الحديث في العالم الإسلامي، ومخاطر انجرافه نحو التغريب الثقافي الكامل، استدعى نفرا من المجددين والمصلحين المسلمين إلى التفكير جديا في إيجاد الحلول البديلة لمشاكله التي بدأت تطفو على السطح. كان التيار التقليدي قد حسم أمره إزاء هذه القضية بالوقوف موقفا سلبيا أو مناوئا للجامعات الحديثة، والانكفاء على مؤسساته التقليدية التي ورثها الخلف عن السلف، من دون أن يفكر بالاستفادة من بعض الجوانب الإيجابية المتوفرة في الجامعات.

 

أما تيار المجددين والمصلحين فقد شخص في الجامعات الحديثة مظاهر سلبية عديدة، لكنه شخّص أيضاً بعض الظواهر الإيجابية التي يمكن الاستفادة منها في تحديث مؤسسات التعليم الديني العالي، والتي لا تمس بعض الثوابت التي تعتبر بمثابة صمام أمان للعقل المسلم من الانحراف والتبعية الثقافية للغرب، وما يترتب على تلك التبعية من نتائج تعزز السيطرة السياسية للدول الاستعمارية على بلاد المسلمين، حتى وإن حصلت الدول الصغيرة على استقلالها الظاهري.

 

ومن أهم الإيجابيات التي شخصها المصلحون في التعليم الجامعي:

أ- المناهج وطرق التعليم، والتدرج العلمي، وضبط مراحله بالاختبارات المنتظمة.

 

ب – إطلاع الطالب فيها على الكثير من العلوم العصرية، التي تفتح عينيه على العصر والتطورات الحاصلة فيه، فيعيش زمنه، ويكون أكثر تأثيراً في مجتمعه، بينما كان الكثير من طلبة العلوم الدينية يعيشون في غربة عن أزمانهم ومجتمعاتهم، إلا من خرق ذلك بجهد فردي خاص.

 

ج – تشجيع البحث العلمي الذي يخضع لمعايير منهجية وأگاديمية دقيقة، وخاصة في ميدان الدراسات العليا.

 

د – وجود أنظمة وشروط للقبول تتيح قبول الطالب في هذا الفرع أو ذاك، بحيث لا ينتظم في الدراسة إلا من كان مهيئاً ذهنياً ونفسياً لذلك، وليس لمجرد أنه يتزيا بزي أهل العلم.

 

من هنا بدأ التفكير بـإنشاء الكليات والجامعات الدينية، أو تطوير المؤسسات التقليدية القائمة، لتكون على غرار الجامعات الحديثة، رغم اختلافها عنها في الأهداف وفي الوسائل أحياناً. كما شهد القرن التاسع عشر والقرن العشرون نزول العديد من الشخصيات الدينية المرموقة إلى ساحة التعليم الجامعي، وقد أشرنا إلى بعض هؤلاء ممن درّسوا في (كلية دار العلوم) في القاهرة، ويمكن الإشارة إلى سلسلة طويلة منهم على امتداد العالم الإسلامي أذكر منهم على سبيل المثال العلّامة الشيخ مصطفى عبد الرازق تلميذ الشيخ محمّد عبده، وشيخ الجامع الأزهر، الذي درّس الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة، وتخرج على يديه جيل كامل من رواد الفلسفة في العالم العربي؛ وكذلك العلّامة المرحوم السيد محمّد تقي الحكيم، الذي تخرجت على يديه أجيال من العلماء والأكاديميين في جامعة بغداد، فضلا عن كلية الفقه في النجف الأشرف.

 

وكان وجود نخبة من العلماء والمشايخ في الجامعات الحديثة كفيل بـإحداث نوع من التوازن النسبي في مسارها، لأن التيار الغالب حينذاك هو تيار التغريب، الذي يهدف إلى أن تكون الجامعات عندنا نسخة منقحة أو غير منقحة من الجامعات الغربية سواء في الشكل أو المضمون، في المناهج أو في تطبيقاتها العملية.

 

لذلك فكر المصلحون في إنشاء جامعات بديلة تأخذ من القديم عمقه وأصالته، ومن الجديد تطوره وحيويته. وإذا كان لنا أن نتحدث عن تجربة مهمة في هذا المضمار، لم تأخذ حقها من البحث والدراسة، فإننا نشير هنا لتجربة الشيخ محمّد رضا المظفر (1903 – 1963)، مؤسس جمعية منتدى النشر وكلية الفقه في جامعة النجف، والذي يعتبر بحق مجدد التعليم الديني في هذه الجامعة العريقة التي يمتد عمرها إلى أكثر من ألف عام.

8- الشيخ المظفر وتجديد التعليم الديني في جامعة النجف:

أ- إصلاح التعليم الحوزوي:

كان للنجف وجامعتها العلمية العريقة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين دور قيادي مركزي في العالم الإسلامي على الصعيدين العلمي والسياسي. غير أن انشغال المرجعية الدينية في النجف حينذاك بمواكبة الأحداث الخطيرة التي عصفت بالعراق وغيره من بلدان العالم الإسلامي، جعلها تغفل عن مواكبة أحداث أخرى تتعلق بتطور العلوم، والمناهج، وطرق التعليم، ونظم الدراسة، وغير ذلك مما يمكن الاستفادة منه في تطوير نظامها التعليمي، ليكون مواكبا لروح العصر وطبيعة المرحلة. وقد طبع هذا الأمر النظام التعليمي في جامعة النجف بطابع المحافظة والجمود، وجعل أمر الإصلاح غير يسير.

 

ولما بدأت الطليعة الواعية من أساتذة الحوزة العلمية تشعر بالمشكلات التي تعاني منها الجامعة النجفية، كانت تتناقل ذلك سرا وفي غرف مغلقة. وقد صور الشيخ المظفر بداية الحركة الإصلاحية، فأشار إلى أن بعضا من رجال الدين »كانوا يحلمون بـإصلاح نواقص الدراسة العلمية في معاهد النجف الأشرف. فإن هذه النواقص، كفقدان نظم التربية والتدريس، والامتحانات، والمواد العلمية، والأوقات، والشهادات، كانت تهدد المفكرين منا بشلل الحركة العلمية في مستقبل الجامعة القريب أو البعيد، يوم أن اصطدمت سفينة هذه الجامعة القديمة بتيار هذا العصر الجديد، فهزتها في بحر متلاطم بالميول ([7]).

 

لقد أبتدأ هذا التفكير الصامت بضرورة إصلاح النظام التعليمي في الحوزة في عشرينيات القرن الماضي، وكان جل أصحابه من شباب علماء الدين الذين تحسسوا الثغرات والنواقص الموجودة، ولكنهم تخوفوا من ردة فعل التقليديين وخصوم التجديد غير أن تعرض النجف لحملات عدائية في تلك الفترة، أشعر الجميع بضرورة وجود جمعية للنشر والتأليف تتولى مهمة الرد والدفاع ونشر التراث محققاً. لكن بعض دعاة الإصلاح وجد في تأسيس هذه الجمعية فرصة سانحة لإصلاح الدراسة الدينية ([8]).

 

وهكذا ولدت جمعية منتدى النشر في النجف عام 1935م، وهدفها المعلن تحقيق ونشر كنوز التراث العربي الإسلامي الذي تزخر به مكتبات النجف.

 

وفي وقت مواز لهذا العمل ابتدأ الشيخ المظفر تطبيق برنامجه لإصلاح التعليم في الواقع العملي. وكانت نظرته للعملية التعليمية شاملة وكلية، إذ لم تقتصر على التعليم الأساسي ( ابتدائي، متوسط، ثانوي)، بل تجاوزته إلى التعليم العالي. وهو في هذا يختلف عن غيره من المصلحين الذين قصروا جهودهم على مرحلة معينة من مراحل التعليم، واجتهدوا لإصلاحها، أمثال الإمام السيد محسن الأمين (1282 – 1371هـ / 1865 – 1952م) الذي أسس في دمشق المدرسة المحسنية للبنين، واليوسفية للبنات في أوائل القرن الماضي، والإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (1290 – 1377 هـ / 1873 – 1957م)، الذي أسس الثانوية الجعفرية في صور بلبنان في ثلاثينيات القرن الماضي.

 

أما بخصوص التعليم الأولي فقد استطاعت جمعية منتدى النشر أن تنشئ مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية في النجف ومناطق أخرى في العراق، تهدف من ورائها إلى تطوير الدراسة الدينية أسلوبا ومنهجا، وتفاعلا ببعض ماجدّ من الفكر التربوي المعاصر. بل إن فكرة الجمعية في محاربة الجهل بشتى ألوانه دعتها إلى تأسيس وإدارة أول مركز أهلي لمحو الأمية في العراق قبل أكثر من نصف قرن، كما قامت بفتح دورات خاصة تتصل ببعض العلوم التي كانت لها حاجة عملية ملحة، مثل دورة مسك الدفاتر التجارية، ودورة للعلوم الرياضية، إلى جانب الدورة الخاصة ببعض اللغات الأجنبية ([9]).

 

ب - التعليم الجامعي: تجديد المناهج والأساليب:

كان الشيخ المظفر فقيها مجددا يستجيب لروح العصر وتطوراته العلمية والمنهجية. وهذه الاستجابة تقتضي الانتقال بالدراسات الدينية من نظام (الحوزات) أو الحلقات المسجدية إلى الدراسة الأكاديمية المنظمة، وخصوصاً في الدور الأول من الدراسة الحوزوية المشتملة على المقدمات والسطوح، التي تـُعدّ الطالب لمرحلة البحث الخارج أو الاجتهاد، حيث يكون اعتماد الطالب على نفسه غالباً. وقد وجد الشيخ أن طبيعة المرحلة الثانية تأبى أي تعديل في شكلها ومحتواها، ولا يمكن إخضاع هذه المرحلة لأي تنظيم منهجي خاص، وتبقى المرحلة الأولى هي التي تعاني من النقص، وتحتاج إلى التنظيم والمنهجية.

 

لقد شخص الشيخ عوامل النقص تلك في المادة العلمية وضعف إسلوبها. أما بخصوص المادة العلمية التي يتناولها طالب الحوزة في المرحلة الدراسية الأولى، فإنها لا تخرج عن النحو والصرف والبلاغة والمنطق والتفسير والفقه والأصول، مع توسع في المادتين الأخيرتين. وهذه المواد رغم أهميتها لا تنهض وحدها بواجبات الطالب الرسالية من توجيه ودعوة وتثقيف، حيث لابد له أن يتعرف على مناهج الفكر الحديث، وبعض الدراسات البشرية، وحقول من المعرفة التجريبية. ولهذا أضاف إلى منهاج كلية الفقه علوما حديثة أو علوما لم تكن تدرس أصلاً في الحوزة، كعلم التربية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ الإسلامي، والتاريخ الحديث، والقانون، والفلسفة الحديثة والمعاصرة، وطرق التدريس، واللغة الأجنبية. وقد استعان بنخبة من أكفأ الأساتذة في الجامعات العراقية للتدريس في كلية الفقه، كما استضاف عدداً من الأساتذة الزائرين من الجامعات المصرية لإلقاء المحاضرات، ليحقق ارتباط المؤسسة بالجامعات العربية ولاشك أن تطوير المناهج وإضافة المواد الجديدة اقتضى تطوير أساليب الكتابة التي كان يطغى عليها الغموض والتعقيد، فألف المظفر كتباً في المنطق وأصول الفقه، بسط فيهما هذين العلمين، وعرضهما بلغة واضحة، وقد حل منطقه محل المتون القديمة التي كانت تدرس في الحوزات العلمية مثل (الشمسية) و(حاشية الملا عبد الله). وقد سار رفاق الشيخ المظفر وتلامذته على دربه، فأًلـّفوا كتباً حديثة تعالج مختلف موضوعات العلوم الإسلامية، وأصبحت هي المعتمدة للتدريس في كلية الفقه وغيرها.

 

ونستطيع القول أن تجربة الشيخ المظفر تعد أولى التجارب الناجحة لتطوير التعليم الديني نبعت من داخل المؤسسة الدينية ولم تفرض من الخارج، الأمر الذي جعلها تترك أثرا فعالاً استمر حتى يومنا هذا، حيث انتشر خريجوها في أكثر من قطر عربي أو مسلم. ويمكن أن تعد هذه التجربة، رغم الصعاب التي واجهتها، نموذجا لما نطمح إليه من تعميق أواصر الترابط والتعاون بين المؤسسات التعليمية التقليدية وبين الجامعات الحديثة، يثبت أن لا غنى لأحدهما عن الآخر، ويبدد المخاوف والهواجس القائمة بين الطرفين.

9- أوجه التعاون والتبادل بين الدراسات التقليدية والدراسات الجامعية الحديثة:

على الرغم من أن الجامعات الحديثة قد انتشرت بشكل كبير في العالم الإسلامي، فإن الدراسات التقليدية بقيت هي الأخرى مستمرة في عطائها، وخاصة عند أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). ولاشك أن عند كل واحد من الطرفين مايمكن أن يقدمه إلى الآخر في عدد من الميادين لعل من أهمها على سبيل المثال:

أ- ميدان الطرق والمناهج:

لقد أشرنا في بداية بحثنا إلى أن النهضة العلمية الحديثة بدأت بكتابين في المنهج، وسرعان ما تطورت المناهج وتشعبت لتطال مختلف نواحي الحياة. فهناك مناهج للفلسفة، والتربية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والعلوم الرياضية والتجريبية، وغيرها.

 

والمنهج (Method) بوجه عام هو وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة، أما المنهج العلمي فهو خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف الحقيقة أو البرهنة عليها ([10]).

 

والحق أن المناهج العلمية ليست ابتكاراً غربياً وإنما سبقهم إليه المسلمون إبان ازدهار حضارتهم، وحسبنا أن نشير إلى جابر بن حيان ومنهجه التجريبي، والكندي ومنهجه الرياضي، وكذا الفارابي الذي كتب (إحصاء العلوم) مبينا الخصائص الذاتية لكل علم مما يعد مقدمة ضرورية لفلسفة العلوم ومناهج البحث العلمي، وغير أولئك كثيرون.

 

غير أن قرون التراجع الحضاري التي مرّ بها المسلمون أدت إلى تجمُّد حركة المناهج أو انعدامها في حين تقدم فيها غيرنا، الأمر الذي أدى إلى تخلف علمي ملحوظ، لأن تقدم العلم مرهون بتقدم مناهجه. من هنا كان لابد للدراسات التقليدية أن تستفيد من المناهج الحديثة في تطوير طرق التدريس، وجمع المعلومات، ومعالجة مشكلات الواقع بمنظار منهجي معاصر وليس من خلال مناهج وأدوات قديمة كانت صالحة لوقتها، لأن المناهج في النهاية هي وسائل لا غايات، فإذا ثبت عجزها عن تحقيق ما نهدف إليه صار من اللازم استبدالها بوسائل أخرى تأخذ بأيدينا إلى الحقيقة أو الغاية التي نريد. لقد تخلت الفلسفة الحديثة منذ أربعة قرون عن منطق أرسطو، لأنه أصبح حجر عثرة في طريق التقدم العلمي، بينما نجد أن منطقه الصوري مازال هو المعتمد في الجامعات الدينية والحوزات العلمية، ويعتبر مقدمة ضرورية لمباحث الفقه والأصول وعلم الكلام وغيرها. ويعتبر الشهيد الصدر – رضوان الله عليه –  استثناء علميا ومعرفيا للتيار السائد حينذاك، وذلك حينما استخدم المنطق الرياضي وحساب الاحتمالات الذي أسس له في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) في مباحث الفقه والأصول وعلم الرجال، متحررا من سيطرة منطق أرسطو والمشّائين عموماً.

 

ويقترن بتطور المناهج تقدم طرق التعليم وتعقدها، حيث لم يعد الأمر مقصوراً على الطرق التلقينية القديمة، أو الطريقة القائمة على شرح النصوص شرح عبارة، فهذه قد تعد الإنسان الحافظ للمعلومات قلت أو كثرت، ولكن الهدف الأساسي من العملية التعليمية اليوم هو إعداد الإنسان الذي يعيش عصره ويتفاعل مع مجتمعه، ويوظف ما قرأه وتعلمه لصون الناشئة من الانحراف، وخدمة الصالح العام، وهذا لن يتأتى إلا بالاستزادة من علوم التربية والاجتماع وعلم النفس وغيرها، والاطلاع على آخر ما وصلت إليه الحضارة الحديثة في هذه المجالات. ولاشك أن الدراسة الجامعية الحديثة تتوفر فيها مثل تلك الفروع، ولكن علينا أن ننظر بعين فاحصة ناقدة لكل ما نأخذ خوفاً من الانزلاق في طرق غير مأمونة العواقب.

ب- أُصول البحث العلمي:

أُصول العلم هي القواعد التي تبنى عليها أحكامه، أما البحث فهو استخدام الوسائل العلمية من أفكار وأدوات وفق قواعد المنهج لمعرفة مجهول ما. من هنا فإن علم أُصول البحث يعني دراسة قواعد البحث([11]).

 

وقد تطور البحث العلمي في العصور الحديثة، إلى درجة لا نستطيع فيها اللحاق بمتغيراته التي تحصل كل يوم، خاصة مع ثورة الاتصالات، وشبكة المعلومات، وتقنيات الحاسوب (الكمبيوتر)، وانفتاح العلوم على بعضها بعضاً، فهل يواكب درسنا التقليدي كل ذلك؟ بمعنى آخر هل شاعت قواعد البحث العلمي وترسخت عند الدارسين في هذا المجال أم أنها مازالت مرهونة بالجهد الفردي الخاص؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي بحثا واستقصاءاً، لكنها بوجه عام أقرب إلى السلب منها إلى الأيجاب. وأعتقد أن في الدراسات الجامعية الحديثة الكثير مما يمكن أن تقدمه لإثراء البحوث العلمية في الدرس التقليدي.

ج- في ميدان البحث الفقهي والفلسفي:

توجد مساحات مشتركة للتفاعل بين العلوم الكلاسيكية والعلوم الحديثة يمكن الوصول من خلالها إلى حلول للمشكلات الفكرية والتطبيقية التي تعيشها الحضارة الحديثة. وتشمل هذه ميدان البحث الفقهي، حيث أثارت الاكتشافات العلمية الأخيرة في مجال هندسة الجينات والنسخ الوراثي مثلا، مشكلات خطيرة وقلقا مشروعا على مستقبل الإنسان، تصدى له الفقهاء بالبحث والتحليل وتوخي الحلول المناسبة التي تستلهم الشرع وأحكامه، وذلك لن يتأتى إلا بدراسة العلوم الحديثة، والنتائج المترتبة عليها. وقل مثل ذلك في الاقتصاد الإسلامي وغيره من المجالات. كما تشكل القضايا الفلسفية ميدانا خصباً للتعاون والتبادل بين الطرفين أيضاً. فالدرس الفلسفي التقليدي مازال أسيرا لمقولات الإشراقيين والمشائين، في حين قطعت الفلسفة أشواطاً كبيرة في ميدان نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، مستفيدة من التقدم الكبير الذي حققته العلوم التجريبية والرياضية، وقل مثل ذلك بالنسبة للميتافيزيقا، وفلسفة التاريخ والحضارة، والمشكلات المثارة في فلسفة القيم، والأخلاق، وفلسفة اللغة، والبنيوية وغيرها مما يجدر الاطلاع عليه والإفادة منه أو نقده، إذا اقتضت الضرورة. ورغم الجهود الجبارة التي بذلها فلاسفة كبار منذ جمال الدين الحسيني الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد إقبال، وحتى العلّامة الطباطبائي، والشهيد الصدر، والشهيد مطهري، لإعادة الحياة للدرس الفلسفي الإسلامي وتجديده، فإنه مازال يحتاج إلى كثير من العمل، وتجاوز المقولات والمشكلات الفلسفية التي لم يعد لها قيمة نظرية أو عملية.

وفي الختام لابد من التنويه أن الدراسات الجامعية الحديثة يجب أن تتوجه إلى مخزون الأُمة التراثي، وتهتدي بجوانبه المعرفية المضيئة في جميع المجالات، حتى العلمية المتخصصة منها، حتى لا تحصل تلك القطيعة المعرفية التي روج لها العلمانيون والمستغربون منذ قرن أو يزيد من الزمان، والقائمة على أساس أن العصرنة تقتضي قطع كل صلاتنا بالماضي الذي يعني عقيدة الأُمة وهويتها الحضارية، وهي فكرة أًثبتت التجارب خطأها.

 

الهوامش:

([1]).أنظر د. محمّد عمارة: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث،ص 11 – 12، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1984. نقلاً عن (الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، المجلد الأول، ص 276)..

([2]).المصدر نفسه، ص 54.

([3]).المصدر نفسه، ص 71.

([4]).د. محمّد عمارة: علي مبارك، مؤرخ ومهندس العمران، ص 280، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1984.

([5]).المصدر نفسه، ص 280 – 281.

([6]).د. معن زيادة: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص 42، ط 2، بيروت، 1985.

([7]).الشيخ محمّد مهدي الآصفي: مدرسة النجف وتطور الحركة الإصلاحية فيها، ص 61، منشورات دار النعمان، النجف الأشرف، العراق (بدون تاريخ)..

([8]).د. محمود المظفر: مقدمة كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) للشيخ الطوسي، الصفحة (ز)، ط2، دار الأضواء، بيروت، 1986.

([9]).أنظر مقالتنا عن (الشيخ المظفر مجدد التعليم الديني)، مجلة النور، العدد 79، لندن، 1997..

([10]).المعجم الفلسفي، ص 195، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1979.

([11]).د. عبد الهادي الفضلي: أُصول البحث، ص 12 – 13، منشورات الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، ط 1، بيروت، 1992.