من مظاهر الواقعية الإسلامية (التوازن، المرونة، الأخلاقية)

من مظاهر الواقعية الإسلامية (التوازن، المرونة، الأخلاقية)

 

 

من مظاهر الواقعية الإسلامية

التوازن، المرونة، الأخلاقية

 

آية الله محمد علي التسخيري

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المظهر الأول التوازن

وتوجد هنا مقدمتان:

الأولى: أسلوب الإعداد المفهومي والصياغة التصورية:

تتميز التربية الإسلامية بخاصة قد لا نجدها في غيرها، وهي ما يمكن تلخيصه بأسلوب الإعداد المفهومي والصياغة التصورية، وذلك بتغيير الصورة المنحرفة عن الواقع، وإعطاء النظرة النافذة وتأصيلها في النفس عن الوجود، والكون، والحياة، والإنسان، بفطرته، وتاريخه، وقوانين هذا التاريخ، وحاضره، ومستقبله، فإذا تم هذا التأصيل البنّاء عاد الأسلوب الإسلامي ليثقف المسلم بالهدف

ـ(98)ـ

مباشرة، وبشكل مجمل، ليركز عليه ـ ولو من خلال مسيرة الأجيال، بحيث لا يشكل هو إلا خطوة من هذه المسيرة ـ ثم يرسم بعد ذلك أمامه الصورة التفصيلية والتشريعية، فيضمن بذلك اندفاعا للعمل من جهة، وأداءً أروع لـه بعد ان تركزت في نفس العامل كل أبعاد الصورة والإطار الذي يجب ان يتم فيه من جهة أخرى. ونلحظ لهذه الحقيقة الكثير من المصاديق، ومنها مسألة التوازن الذي يعمل الإسلام على تركيزه في النفس الإنسانية بشتى الأساليب، كما نرى.

الثانية: التوازن العادل الحكيم:

قبل كل شيء يجب ان نركز على ان المقصود بالتوازن ليس ما قد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة من التساوي بين الجانبين أو ما إلى ذلك، وإنّما يقصد منه ملء الواقع بالشكل العادل بحيث يوضع الشيء في محله دون ان يلحق حيف بأجزاء الواقع، وبحيث يشكل هذا الملء، افضل حالة لصالح الكمال، وهو ما يمكن ان نطلق عليه اسم: (التوازن الحكيم) أو (التوازن العادل) فمثلا لو اننا لاحظنا جانب الغرائز الإنسانية فإننا نجد أنها تحتاج إلى إشباع معين، وهي قد تتطلب ما يزيد على إشباعها الصحيح فيؤثر هذا على إشباع الغرائز الأخرى. فإذا أعطيت أكثر مما يتطلبه واقعها وهدفها فقد اختل التوازن في إشباع الغرائز فالتوازن لا يعني ان تشبع كل غريزة بالمقدار الذي تشبع به الغرائز الأخرى.

وعندما يتضح هذا المفهوم، نستطيع القول بأنه لا يحتاج في إجماله إلى استدلال فإن نظرية خلق الكون بحكمة وأحكام، وكون التشريع حكمة تشريعية تنسجم مع الحكمة الكونية، هي من أوضح النظريات القرآنية التي يتكرر التصريح والإشارة إليها في مختلف الآيات القرآنية. 

ـ(99)ـ

وإذا شئنا بعد هاتين المقدمتين ان نستعرض مجالات التوازن نجدها مجالات تصورية وتشريعية.

التوازن في التصور الإسلامي عن الواقع:

ان الإسلام يحاول ان يغير الوجود الإنساني إلى الشكل المراد، فيبني التشريع على أساس تصوري محكم حدد لـه فيه موقعه من التشكيلة الكونية ليكون على هدى من أمره: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعن﴾(1).

وهانحن نشير إلى جوانب من تلك الصورة التي رسمها عن الواقع، فيقول تعالى عن:

1 ـ التوازن الكوني: ﴿انا كل شيء خلقناه بقدر﴾(2).

ويقول عز وجل: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾(3).

2 ـ التوازن بين الإطلاق في المشيئة الإلهية: ﴿إنّما قولنا لشيء إذا أردناه ان نقول لـه كن فيكون﴾ (4). والثبات في القوانين الكونية: ﴿لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار﴾ (5). ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾ (6).

3 ـ التوازن بين الإرادة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية المحدودة التي حصلت بمشيئة الله: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقد افلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾(7).

4 ـ التوازن بين الرحمة الواسعة والعقوبة الشديدة يقول تعالى:

﴿نبىء عبادي إني أنا الغفور الرحيم _ وان عذابي هو العذاب الاليم﴾ (8).

فإن تصور الرحمة الواسعة يبعث في الإنسان أملا واسعا دافعاً نحو العمل، وتصور العقوبة الشديدة يمنع ذلك الأمل من الانقلاب على هدفه ويضبطه

ـ(100)ـ

ويحوله إلى عمل في سبيله، فيتحقق نوع متكامل من التوازن البناء.

5 ـ التوازن بين صورة الدنيا وصورة الآخرة، بحيث تترابطان إلى حد الوحدة، وتتميزان إلى حد التباين.

6 ـ التوازن بين طرق الخير وطرق الشر المعروضة أمام الإنسان، مما يفتح إمامه سبيل الاختيار الحر، وهناك نصوص شريفة تركز على هذه الحقيقة (9).

7 ـ التوازن بين قوى الإنسان والأهداف المنشودة التي خلق لأجلها.

علما ان الصورة التي يرسمها الإسلام عن الواقع لا يمكن ان نجدها لدى أي مذهب.

 التوازن في تعامل المسلم مع الواقع:

وعلى ضوء من النظرة المتوازنة إلى الواقع يرسم الإسلام للمسلم مواقف متوازنة منه، أي من الواقع.

1 ـ الموقف المتناسق من الكون المتناسق.

ذلك أن التصور السابق يدفعه للانسجام مع الكون ليتحقق الهدف المنشود من الخلقة . وهنا تبدو والعلاقة الرائعة بين التسخير والشكر، فالتسخير انسجام تكويني، والشكر انسجام إرادي من قبل الإنسان:

﴿وسخر لكم الليل والنهار _ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الإنسان لظلوم كفار﴾ (10). وكذلك ﴿سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين﴾ (11).

2 ـ موقف العبودية المطلقة والشكر لله مع الاعتراف بفضل المخلوق...

فالإسلام على ضوء ما سبق، دعا لجعل الشكر المطلق لله تعالى باعتباره

ـ(101)ـ

المنعم التام، دون ان يهمل الدعوة لشكر المخلوقين باعتبارهم اعملوا ارادتهم الخيرة لتحقيق الهدف الخير.

﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ان اشكر لي ولوالديك إلي المصير﴾ (12).

وعنه ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث قدسي: «وإني قد آليت على نفسي ان لا أقبل شكر عبد لنعمة انعمتها عليه حتى يشكر من ساقها من خلقي إليه» (13).

3 ـ موقف الأمل بالله تعالى مع الاطمئنان ببقاء السنن الكونية.

4 ـ موقف التوكل على الله والثقة بالنفس.

5 ـ موقف العلو على المشاكل التاريخية مع تقدير دور كل عامل.

6 ـ موقف الدقة في اختيار سبيل الخير مع الحذر من سبل الشر.

7 ـ موقف الخوف والرجاء.

فعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ إنه قال: كان أبي يقول: «ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا» (14).

ومن الواضح ان هذه الخاصة تنعكس على السلوك تماما.

يقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو» (15).

8 ـ الموقف المتوازن من الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾ (16).

ويقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ في كتابه إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه:

ـ(102)ـ

«واعلموا عباد الله، ان المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم».

9 ـ موقف التوازن بين البرهنة وطلب الدليل من جهة، والتعبد والتسليم من جهة أخرى.

وهناك نماذج أخرى للمواقف المتوازنة من الواقع لا يسعنا فعلا التعرض لها.

التوازن والتشريع:

هناك اسلوبان من البحث في هذا المجال:

الأول: التوازن بين التشريع وارضيته المناسبة لـه.

وهذا السمة تنسجم مع مبدأ ضرورة ربط المسألة الاجتماعية (وهي مجال التشريع) بالمسألة الفلسفية (وهي مجال الأرضية الروحية المناسبة). فعلى ضوء نوعية العقيدة، والمفاهيم المبتنية، والعواطف المتفرعة عنها، يأتي التشريع المنسجم.

2 ـ الوحدة والتوازن في تطبيق كل الأنظمة الإسلامية.

ذلك ان الحياة مترابطة، والحلول لها مترابطة، فمن الطبيعي ان يتم التناسق في التطبيق.

3 ـ الموازنة بين الإلزام التشريعي والتطوع الفردي أو الاجتماعي.

4 ـ التوازن بين التحديد في المجالات الثابتة والمرونة في المجالات المتطورة.

5 ـ الموقف المتوازن من الحرية الإنسانية.

فلا يعمل الإسلام على الفتح المطلق، ولا يسمح بالتحديد التام، وإنّما يتم

ـ(103)ـ

تخطيط واقعي سليم.

الثاني: بتناول كل نظام من النظم الإسلامية والعمل على اكتشاف جنبات التوازن فيه، ونشير هنا مثلا إلى ان نظام العبادات، عندما يتم التركيز عليه، يعرض علينا أروع صور التوازن، تارة بين الحرية الإنسانية والعبودية لله.

وأخرى في مجال الإشباع المتوازن لغريزة التدين،

وثالثة بين عزل المسجد عن الحياة وحصرها فيه.

ورابعة بين المصلحة الذاتية والمصلحة العامة.

وخامسة بين الاتجاه العقلي المحض والاتجاه الحسي المحض، وسادسة بين الغيبية، من جهة، ووعي المصالح، من جهة أخرى، ولكل من هذه الجوانب حديث مفصل..

الخاتمة:

المجتمع الإسلامي بين العلمنة والتطرف:

بعد هذه الجولة السريعة في ميادين التوازن، نود ان نقف قليلا عند الحد الوسط الإسلامي في الفرد والمجتمع.

ان الحد الوسط في الفرد والمجتمع يتلخص في تطبيق التعاليم الإسلامية، والتحلي بمكارم الخصال، والقيام بالمسؤولية الرسالية الشاهدة الملقاة على عاتق الفرد والأُمة.

فإذا آمن الفرد بأصول العقيدة واصلها التوحيد،

وإذا سار التوحيد في كيانه حتى غمر وجوده ووجه حياته،

وإذا فجر التوحيد عواطفه وصاغها إسلامية تبدأ من حب الذات حبا طبيعيا

ـ(104)ـ

وتنتهي إلى حب الله تعالى والذوبان فيه، وإذا كانت هذه العقيدة والعاطفة روحا لكل التزام يقوم به بأحكام الشريعة فلا يبصر إلا من خلال القرآن، ولا يسمع إلا من خلال القرآن، ولا يستهدف إلا أهداف القرآن، ولا يستهدي إلا هدى القرآن والرسول العظيم ـ صلى الله عليه وآله ـ، ولا يتخلق إلا بأخلاقهما فذلك هو الفرد الوسط الشاهد.

وإذا سرت روح الإيمان في المجتمع، واتجهت العواطف وجهة منسجمة فيه مع الإيمان، وشكلا معا أرضية مناسبة لتطبيق الطروحات الإسلامية في كل مجالات الحياة: الحقوقية، والاجتماعية، والعبادية والسياسية، والاقتصادية، والاخلاقية، والتربوية والجزائية، والإدارية، وغيرها.

وكل معيار السير الحياتي هو رضا الله تعالى لا غير، وهو الكفاح المرير ضد الطغيان ومظاهر الطاغوت، سواء على الصعيد الداخلي في قلب الأمة، أو على الصعيد الخارجي في مجالات العلاقات الدولية، وانتفت كل المعايير اللاإسلامية من حياة المجمع من قبيل الامتيازات المادية، والعنصرية، والجغرافية، والقومية، والطبقية، وأمثالها، فإن ذلك المجتمع هو المجتمع الرسالي الوسط والشاهد.

وأمام هذه الصورة الوسط المتوازنة حالتان منحرفتان:

الحالة الأولى: العلمنة ـ إذا صحت صياغة هذا المصدر واقل ما يقال في هذه الحالة هو ان يعود المجتمع غير مكترث بالقوانين الإسلامية، وغير آبه بتطبيقها التطبيق السليم، وان يعمل النظام الحاكم فيه على استيراد القوانين من الشرق أو الغرب، وترويج أنماط من الحرية الكاذبة التي لا يرضاها الإسلام وترتفع هذه الدرجة حتى تصل إلى مستوى الصراع ضد الإسلام ومظاهره العبادية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها وهنا تكمن الطامة الكبرى ويكون الكفر بعينه، على رغم بقاء المظهر الإسلامي الاسمي.

ـ(105)ـ

والحالة الثانية:

ان يتخذ المجتمع سبيل ترجيح أحد طرفي أنماط التوازن التي أشرنا إليها ـ أو التي لم نوفق للإشارة إليها ـ ليتم نوع من الإفراط في ذلك.

ولنضرب مثلاً على ذلك:

باتخاذ المرء موقف الثقة بالنفس إلى الحد الذي ينسيه التوكل على الله ويوقعه في الغرور القاتل، أو موقف الرجاء الكبير بالله مع نسيان الخوف من عقابه، أو موقف الرهبنة والتركيز على الآخرة، وإهمال الدنيا، مما يقعده عن اتخاذ دوره الحضاري المطلوب، أو موقف البرهنة وطلب الدليل في كل شيء. وإلا ترك الإيمان به ـ وهو موقف خطير يفقد الإنسان المسلم أولى خواصه، وهي خاصية التسليم المطلق لله جل وعلا ـ وأمثال ذلك.

لا أريد هنا ان أسوغ السلوكات المنحرفة والتصورات السخيفة، وإنّما أريد ان نمنح كل شيء حقه بقدر، وان نفسح المجال لاختلاف الرأي، وان نبقى نعتقد ان الخلاف الذي نهينا عنه ليس الخلاف الفكري مطلقا، كيف والقرآن كتاب الفطرة، وكتاب الدليل، والنظر، وهو منسجم مع كل الحالات الطبيعية، ومنها الاختلاف الفكري. وإذا كان قد نهانا عن الخلاف فهو يشير إلى التنازع العملي المقيت بلا ريب، ويدعونا للاعتصام بحبل الله جل وعلا.

أعود فأقول ان الحالتين معا منحرفتان عن الخط الإسلامي الوسط. وإذا أردنا ان ندين، كان علينا ان ندينهما معا: ندين حالة العلمنة وكل أولئك الذين يقفون وراءها محتجين بحجج واهية من قبيل:

ملاحظة مقتضيات التطور والتعقيد الاجتماعي،

ولزوم استخدام الوسائل والنظريات العلمية،

ـ(106)ـ

وجمود المفاهيم والتعاليم الدينية!!

ووجود الأقليات في المجتمع،

وتركيز الدين على خصوص الشؤون الفردية، وانعدام النظام السياسي في التشريع الإسلامي، وضرورة الانسجام مع النظام الدولي العام، والانفتاح على الفكر الحديث في مجال الدولة الحديثة

وأمثال هذه الأقاويل التي ناقشها المفكرون الإسلاميون واثبتوا بطلانها وفساد اللجوء إليها، ثم ندين حالة الإفراط، وعدم التوازن، وتجاوز الحد، والتطرف من جهة أخرى، آخذين على دعاته انهم لا ينسجمون مع الطروح الإسلامية الوسط، وملاحظين ان ادعاءاتهم من قبيل:

ان مجال العمل الطبيعي لتطبيق الإسلام معدوم ـ نظرا للوضع القائم.

وان الأخذ بالشدة ضروري ليتم لنا الحد الوسط، وان الحدة والرسالية تقتضيان هذه المواقف المتشددة، وان العدو جارح فيجب الرد بالمثل عليه، وان القرآن ينهي عن المساومة، فلكم دينكم ولي دين، كل هذه الادعاءات ربما كانت صحيحة في مواردها، إلا أنها لا ترسم لنا خطا عاما يدعونا لعدم التزام التوازن الإسلامي المطلوب، ونسيان الخلق الإسلامي الحميد، في الوقت الذي نقسو فيه على أعداء الله، ونتبرأ منهم، ونقارع سلطانهم الكافر، ونعمل على اجتثاث بنيانهم من الأساس.

ـ(107)ـ

الروابط بين وضع الإنسان والنعم الإلهية والحضارة عموماً

إننا لو تتبعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجانب الحضاري، ومنه المادي للشعوب، نجدها تركز على كيفية تعالم الإنسان مع الدين ومع الله، أي مع وظيفته تجاهه تعالى فتجعل نوعية التعامل سببا للرقي والنصر ان كانت إيجابية وللانهيار والضياع ان كانت سلبية، وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية، منها:

﴿ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾(17).

﴿وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾(18).

فإذا كان الإنسان هو المغير أولاً...

وإذا كان الذي يقبل التغيير، هو الشكل العام، لا القوانين الواقعية ـ ومنها الفطرة بمقتضياتها ـ ثانياً...

فإن من الطبيعي ان نتوقع للإسلام الخلود بعد ان كان:

يعمل على تربية الإنسان ـ إرادة وتعقلا ـ في مختلف الحالات، ويعمل على ان يضع لـه القواعد العامة والمفاهيم المستمدة من تصورات واقعية، كل ذلك في سبيل ان يقوم (الإنسان الأعلى فكرا من غيره والمنزه من الانحرافات، ونعني به الإمام وفي طوله الحاكم الشرعي المجتهد العادل) بتطبيق تلك القواعد على الجانب المتغير، أو فقل ملاحظة مدى إمكانية الصورة من الحياة الملائمة مع الواقع الثابت، ومدى مساهمتها في تحقيق الأهداف الإنسانية العالية. فيقبلها أو يرفضها على ضوء ذلك.

يخاطب نوح ـ عليه السلام ـ قومه فيقول: ﴿استغفروا ربكم انه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم

ـ(108)ـ

انهارا﴾(19).

ويخاطب هود ـ عليه السلام ـ قومه فيقول: «ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين» (20).

وهكذا تتلازم الزيادة في النعمة الإلهية مع الشكر: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد﴾(21).

المظهر الثاني المرونة الإسلامية:

نستهدف في هذا البحث جلاء قابلية الإسلام الخارقة على النفوذ إلى الفطرة، وبالتالي قابليته على البقاء والخلود، بقاء الفطرة وخلودها.

ويشمل:

أ ـ عنصر المرونة الإسلامية في التشريع.

ب ـ عنصر المرونة الإسلامية في التطبيق والتبليغ.

وقبل كل شيء نود ان نشير إلى حقيقتين:

الأولى: إن المرونة لا تعني التنازل المبدئي مطلقاً ولا الميوعة التنظيمية، فإن كلا منها يتنافى مع عقائدية المبدأ المرن وواقعيته العملية، ذلك ان العقائدية والواقعية ـ خصوصاً إذا تصورنا حقيقتهما وانسجامهما الكامل مع حركة الكون والتاريخ والإنسان بتركيبته الفطرية الأصيلة ـ توجبان ثبات الأسس العقائدية والمفاهيم التصورية عن الواقع من جهة، وثبات النظم والبناء العلوي الذي يقوم على أساس من ذلك التصور الرصين، الأمر الذي لا يدع مجالا لما أسميناه بالتنازل المبدئي أو

ـ(109)ـ

الميوعة التنظيمية.

فماذا تعني المرونة اذن ؟ انها تعني:

أولا ـ تكتيكا وتدرجا واقعيا يلحظ ضغوط الواقع ولكنه يستهدف تعميق التصور الأصيل، والوصول إلى تطبيق الصورة التنظيمية المثلى.

ثانياً: قدرة النظام على استيعاب التحولات الزمانية والمكانية والتعقيدات الاجتماعية كلها، ووضع العلاج الواقع لها في إطار الأطروحة العامة للتنظيم.

وما أشرنا إليه من قبل هو المعنى الثاني، اما المعنى الأول فهو ما نحن بصدد الحديث عنه.

الثانية: وهي منسجمة مع الحقيقة الأولى وملخصها هو: انه لا يمكن تصور المرونة في العقيدة، فالمرونة تعني اتخاذ موقف مؤقت يتغير بتغير الحالة وذلك للمحافظة على الموقف العام.

والعقيدة ـ بما هي صفة نفسية ـ لا تتغير تحت ضغط الواقع، الذي يعلم الإنسان بأنه منحرف، والعقيدة بما هي الأساس والخط العام لا يمكن التنازل عنها بل يجب ان تبقى الروح التي تميز كل التصرفات، ومن هنا نجد ان القرآن يعرض علينا صورا لبعض المساومات العقائدية التي حاول فيها الطرف الكافر ان يجبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على اعتناق بعض مبادئه ولو لبعض الوقت في مقابل مصلحة كبرى للدعوة الإسلامية نفسها، وفي مقابل ان يؤمن الطرف الآخر بالإسلام أيضاً لفترة أخرى. إلا ان الوحي يجابه أولئك بالموقف الحدي الصارم، الذي لا تنازل عنده باعتبار ان المصلحة لا يمكنها ان تبرر هذا الموقف.

ـ(110)ـ

بسم الله الرحمن الرحيم ـ ﴿ قل يا أيها الكافرون _ لا اعبد ما تعبدون  _ ولا انتم عابدون ما اعبد  _ ولا أنا عابد ما عبدتم _ ولا انتم عابدون ما اعبد _ لكم دينكم ولي دين﴾ (22).

وقد وقف الإسلام من مسألة الشرك هذا الموقف على طول الخط حتى انه حرم تشريعياً صناعة الأشياء المجسمة لأن فيها ظلا من الفكرة الصنمية.

بعد هذا لنلاحظ بعض تطبيقات عنصر المرونة الإسلامية على النحو التالي:

أ ـ عنصر المرونة الإسلامية في التشريع.

ان هدف كل النظم ـ لا ريب ـ يكمن في تحقيق السعادة للإنسان.

وان مشكلة الإنسانية الاجتماعية الكبرى، تكمن في معرفة النظام الاصلح الذي يتكفل تحقيق تلك السعادة، وان هذا النظام الاصلح، لن يستطيع ان يكون الاصلح، إلا إذا وافق الواقع وقوانينه، كل هذا متفق عليه في المبادئ الواقعية. ولكن يبدأ الخلاف بينها في تحديد نوعية هذا الواقع القائم أولاً وأسلوب مطابقته وعلاج مضاعفاته ثانيا.

ولكي نقف تفصيليا على كيفية التوازن الذي يوجده الإسلام بين أنماط الإشباع الفطري من جهة والمتطلبات الواقعية للحد من تطلعات الغرائز من جهة أخرى، فإننا نحتاج إلى دراسة تفصيلية عن هذه العملية ـ ولا أجد الآن مجالا للحديث عنها ـ ولكن يبقى ان نحاول اكتشاف سر إمكانية خلود الإسلام وبقائه، في حين ان الكل يدرك حصول التطورات الاجتماعية الهائلة التي لا يمكن إنكارها.

فهل يمكن للإسلام ان يستوعب هذه التطورات ؟ أو لا يقيم لها وزنا فيفقد واقعيته التي آمنا بها إجمالا؟

ـ(111)ـ

الثابت والمتغير في حياة الإنسان:

ـ الثابت: إننا لو رجعنا إلى وجداننا أولا، واستقرأنا التاريخ المشترك للبشرية ثانياً، آمنا بوجود جانب ثابت في الإنسان لا يمكن للإنسان ان يتخلص منه وان أمكن تحريف آثاره إلى فترة من الزمن بواسطة الشبهات أو الوضع الاجتماعي الفاسد أو غير ذلك من العوامل لكنه يبقى في أعماق الإنسان يلح عليه كلما رجع إلى نفسه.

وكمثل على هذا فإن حب الام لولدها غريزة يشهد به الوجدان ويشهد لها استقراء التاريخ والإنسان، فإذا ما رأينا أمهات يحاولن قهر هذا الحب، عرفنا ان تلك الحالات استثنائية، سرعان ما تزول بزوال أسبابها، وتعود الأم محبة والهة.

وهكذا غريزة الجنس، وغريزة الغضب، وحب الكمال، وغير ذلك وفوق ذلك حب الذات وما يتفرع منها من غرائز فهي أمور أصيلة لا يتبدل الأصل فيها، ومن هنا كانت بعض المبادئ خيالية حين أنكرت بعض هذه الغرائز، في حين ان المذهب الواقعي هو الذي يعترف بها ويدرك مدى خلق التوازن بينها ولا يركز على أحدها على حساب الأخرى كما فعلت الرأسمالية وكما أدعى فرويد وغيرهما.

هذا جانب ثابت في حياة الإنسان.

والجانب الثابت الآخر هو ما يحيطه من قوانين وأمور واقعية تتطلب أوضاعا ثابتة لكي تقوم بأداء دورها في حياة الإنسان.

المتغير: ولكن لحياة الإنسان جانبها المتغير أيضاً، وهذا التغيير يشمل، التقدم العلمي،

ـ(112)ـ

والتعقد الاجتماعي، وتعاظم المسؤوليات الاجتماعية، مما ينشئ مشاكل جديدة لم تكن متوفرة في الجيل السابق.

والإسلام لاحظ هذين الجانبين ووضع لهما ما ضمن لـه خلوده وبقاءه.

فأما الجانب الثابت فقد وضع لـه نصوصاً محددة لا مجال فيها للتخيير، فالخمر مثلا محرمة على ضوء أضرارها الواقعية التي تتنافى وسير الإنسان السالم نحو السعادة.

ان قتل الإنسان بلا سبب يرتبط بمصلحة الإنسان ككل، ولن يكون في يوم من الأيام أمرا غير مهم فتتغير أهميته بتقدم الإنسان والزمان، كلا، فإنه سيظل جريمة دائما ويحتاج إلى عقوبة ثابتة دائمة، في كل ظرف و آن.

وهذا مثال من الحياة الاقتصادية يذكره كتاب اقتصادنا فيقول: (فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة التي تتمثل في أساليب إنتاجه لها وسيطرته عليها. وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك.

والإسلام ـ كما نتصوره ـ يميز بين هذين النوعين من العلاقات. فهو يرى ان علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة تتطور عبر الزمن.. واما علاقات الإنسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها.. ولاجل ذلك يرى الإسلام أن الصورة التشريعية التي ينظم بها تلك العلاقات ـ وفقا لتصوراته عن العدالة ـ قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية لأنها تعالج مشاكل ثابتة. فالمبدأ التشريعي القائل مثلا: إن الحق الخاص من المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل ويعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة. لأن طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الأفراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.

ـ(113)ـ

...ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الإنسان بالطبيعة، وإخراج تأثير هذا الجانب من الحساب، فإن تطور قدرة الإنسان على الطبيعة ونمو سيطرته على ثرواتها يطور وينمي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة ويضع في خدمته باستمرار إمكانات جديدة للتوسع ولتهديد الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية) (23).

اما الأخلاق فهي أيضاً تمثل جانبا ثابتا لا معنى لتغيره بعنوانه ـ وان اختلفت المصاديق التي تتبع العرف أحيانا ـ وعليه فقد جاءت النصوص الأخلاقية الثابتة، ووصف المؤمنون بأوصاف لا يمكننا ان ندعي انها يمكن ان تتغير.

فالمسلمون هم الأمة الخيرة وهم المتعاونون في الخير، الشديدون على الكفار، الرحماء بينهم، الكرام غير المهانين، المنفقون، المتقون، الصابرون، المرابطون، القائمون بالقسط، غير الخائنين، والساخرين، والظانين سوءاً، واللاهين.. وغير ذلك.

كما انه يمكننا ان نمثل للجانب الثابت بحق الإنسان في الطعام والمسكن والملبس والملك والجنس.

اما الحكومة ففيها جوانب:

منها جانب التنظيم الإداري ـ ومنها جانب تعيين الرأس الأعلى للحكومة، ومنها جانب تعيين الصلاحيات التي تملكها، والواجبات التي يجب ان تؤديها.

فالجانب الثاني والثالث أمر قد فرغ الإسلام من تعيينه بحدوده الخاصة، ولا معنى للقول بتغيير ذلك بعد ان كان النظام نظاماً يخطط للحياة كلها ويستوعب كل التطورات المختلفة، وكان الحاكم المفترض إنساناً منزها يمثل أعلى درجات التسليم لله في تطبيق النظام وفق المصالح الواقعية.

ـ(114)ـ

أما الجانب الأول، فهو جانب متطور يتعقد بتعقد الدولة، ولذا فليس هناك أوامر محددة في هذا السبيل، بل هناك مقاييس عامة تقوم على ضوء المصلحة التي يراها الإمام بعد ان تتوفر الشروط المعينة في الموظفين كالكفاءة مثلا.

فلندخل الآن إلى الجوانب المتطورة في حياة الإنسان لكي نجد علاج الإسلام لمثل هذه الجوانب.

ان التغير إنّما يطرأ في الصورة، أي في شكل إشباع الحاجات الأساسية، وفي نوعية القوى والسيطرة التي يمتلكها الإنسان، وفي شكل التكوين الاجتماعي من التعقيد والبساطة، فالجوانب التنظيمية مثل: نظام المرور، ونظام التسعير، ونظام التجارة الداخلية والخارجية، ونظام التعليم، هي جوانب متطورة لا يمكن تحديدها بقوالب جامدة غير متغيرة.

وهكذا مسألة علاقات الإنسان بالطبيعة فانها بلا ريب متغيرة في الغالب من حيث اختلاف نوعية الأرض، وملائمة المنطقة لنوع من الإنتاج، ومقدار الثروة المتوفرة على ضوء حاجات المجتمع.

وهذا الجانب المتغير، وضع الإسلام لتنظيمه وقواعد عامة يقوم الحاكم الشرعي بتطبيقها على ضوء المصالح التي يراها، وهو يشكل منطقة فراغ تعبر عن مرونة تشريعية عالية، ومن الطبيعي ان صلاحيات الحاكم الشرعي في الأمر والنهي تدور في دائرة المباحات ـ أو تعبرها في بعض الحالات إلى دائرة الامورات الإلزامية.

فإن كان الحاكم الشرعي هنا هو الإمام المعصوم ـ عليه السلام ـ فهو الأدرى بالمصالح، وان كان الحاكم نائبا عنه عليه السلام فان الشريعة قد فتحت لهذا الحاكم باب الاجتهاد، بعد ان كان قد طوى مراحله الأولية الضرورية قبل صيرورته حاكما شرعيا،

ـ(115)ـ

وكذلك أعطته قواعد محددة يتم على ضوئها استنباط حكم الظرف المتجدد، وإرجاعه إلى أصوله الأولى، وتطبيقها مع تصورات الإسلام عن العدالة الاجتماعية ـ طبعاً مع التشاور في مختلف الأمور.

هذا بالإضافة إلى دور فتح أبواب الاجتهاد في مجال معرفة نظريات الإسلام في الجانب الثابت من حياة الإنسان أيضاً.

وإذا وصلنا إلى الحديث عن الاجتهاد، ينفتح باب واسع لعوامل المرونة في الإسلام، يشمل كون العقل مدركاً للملازمة بين أحكامه وأحكام الشرع، مما يفتح للعقل مجالاً لـه حدوده في أدراك المصالح العامة، كما يشمل تلك القواعد العامة الكثيرة التي تهدي المجتهد في سبيل التعرف على الرأي الإسلامي في البين.

ويستوعب أيضاً قبول مرحلة الحكم الظاهري والحكم الاضطراري ومما يجب ان نؤكد عليه ونكرره، ان كل ذلك يتم وفق قواعد قطعية، اما القواعد الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل قطعي، فهي أمر من الطبيعي ان يرفضه الإسلام، لأنه لا يسمح للفكر البشري القاصر ان يضيف من ذاتياته للإسلام، وهذا أمر خطر جدا لا يمكن ان يقبله المبدأ الواقعي.

ومن هنا رفض القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغير ذلك في مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وهذا المعنى يثبت لنا ان المرونة الحقة في مجال التشريع العام لها أجلى الصور في مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ حيث:

وفّر الأئمة ـ عليهم السلام ـ برواياتهم وسلوكهم رصيدا ضخما لـه أثره الكبير في مواكبة الحوادث المتجددة واكتشاف الرأي الإسلامي فيها، وله أثره الكبير في علاج الحالات الاستثنائية، وتعيين الوظائف العملية، كل ذلك ضمن قواعد وضوابط دقيقة.

ـ(116)ـ

ثم فتح باب الاجتهاد للفقهاء كي يستنبطوا الحكم الشرعي وغير ذلك من المؤهلات الكبرى التي تجعلهم مؤهلين لقيادة مسيرة الأمة.

ما هو العامل المغير للمجتمع بالأصالة في نظر الإسلام!

طرحت على الصعيد الفكري البشري نظريات كثيرة في مسألة التغيير والتطور الاجتماعي، فحاول البعض ان يفسر التطور الاجتماعي بالعالم الاقتصادي، وأعطى الآلة صفة الإله المغير، في حين فسر البعض الآخر التطور بخصوص العوامل العرقية ونقاء الدم، ونسبته في الشعوب، أو الغرائز الجنسية على العموم، أو العوامل الجغرافية وغير ذلك.

ومهما تعددت هذه المذاهب فإنها تتفق على أبعاد الإنسان أو بالأصح إعطائه دورا ثانويا في عملية التغيير.

لكن الإسلام ـ كما يبدو من نصوصه وروحه ـ يعطي الإنسان دورا رئيسيا في عملية التغيير الاجتماعي والتطوير أو التراجع بالحالة التي هو عليها ويجعل نقطة البدء في التغيير.

فالقرآن الكريم يقول: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾(24).

ويقول: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾(25).

إن الإسلام يقرر أن للإنسان الدور الرئيسي في عملية التغيير، ولذا فقد حمله المسؤوليات الجسام، وركز عليه، إلا انه لا ينكر تأثيرات العوامل الغريزية والبيئوية في فكر الإنسان فذلك أمر وجداني لا يمكن ان يتغاضى عنه الإسلام، ولذا نراه قد خطط تخطيطا واسعا لتوفير الجو الصالح والمنع من التأثيرات المفرطة للغرائز،

ـ(117)ـ

وذلك مثل التحفظات التي وضعها لأجل ان لا يتحول طغيان الجنس إلى عامل مخرب للحضارة الإنسانية وهذا ما نشهد آثاره في بعض المجتمعات اليوم.

ولكن لما كان المغير الأساسي هو الإنسان، فقد عمل الإسلام على تربية هذا الإنسان وتنمية الجانب الإرادي والواعي فيه، إذ كلما قوى فيه هذان الجانبان، اشتد تركيز دوره في عملية التغيير.

إن القرآن يعتبر الإنسان خليفة لله في أرضه، وإنه المكلف بإعمار الأرض واستثمار خيراتها، لصالحه، وإن نعم الله عليه لا تحصى ولا تعد، اللهم إلا إذا كان الظلم ناشئا من كفر الإنسان بنعم الله وظلمه في توزيعها.

﴿وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها، ان الإنسان لظلوم كفار﴾(26).

 ﴿الم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا واحلوا قومهم دار البوار﴾(27).

ب ـ عنصر المرونة الإسلامية في التطبيق والتبليغ

يمكننا ان نكشف المرونة في التبليغ والدعوة إذا عرفنا ان القاعدة الأولى في العمل التبليغي تتضمن هذا العنصر بكل وضوح وتلك هي الآية الشريفة:

﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة...﴾(28) ولا يمكننا ان نفسر الحكمة إلا باتخاذ أصوب موقف مناسب للظرف الذي يراد التبليغ فيه، بشرطين:

أحدهما ضمني، والآخر مذكور في الآية الكريمة، وهما: اتباع الطرق الشرعية وعدم الانحراف، وإتقان ذلك الطريق بالموعظة الحسنة مهما أمكن.

ولذا يمكن القول بأنه ليس هنا أسلوب محدد لا يمكن ان يحيد الإنسان عنه في إطار ذينك الأمرين في مجال العمل في سبيل الله ونشر الإسلام.

وقد أكد علم الأصول على ان فعل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لا يكتشف منه غير الإباحة

ـ(118)ـ

للعمل أو الاستحباب على الأكثر ما لم تقم قرينة تجعله يدل على الوجوب. إلا ان تلك السيرة المباركة ـ مهما كانت دلالاتها ـ تبقى هي الهدى النير في كل حقل ومجال، ومن هنا فسوف نركز عليها في بحثنا هذا قبل أي شيء آخر.

مظاهر التدرج والمرونة في هذا السبيل:

ويمكن ان نعيّن أهم هذه المظاهر في النقاط التالية:

ألف: التدرج في إعطاء الأحكام وتطبيقها.

ب ـ التدرج في توسيع رقعة الدعوة.

ج ـ التدرج في الموقف من أعداء الدعوة.

اما النقطة الأولى: فملخص القول فيها، ان الإسلام بمقتضى مرونته النابعة من واقعيته أدرك انه جاء دينا يقلب الحياة الجاهلية رأساً على عقب، ويغير تصورات الناس وأخلاقهم ويوجه كل سلوكاتهم التوجيه الأكمل، وكما ان الإنسان مرتبط بعقيدته كذلك هو مرتبط بعادته السلوكية. بل يمكننا ان نؤكد أن ضعف المستوى العقائدي عند أمة يمكنه ان يتأثر بشكل قوي بالسلوك والعادات والأعراف العامة والخاصة. ومما يؤكد ذلك ان المجتمع الجاهلي استطاع التنازل عن عقيدته ولكنه

لم يستطع التخلص تماما من عاداته وسننه القبلية. ومن هنا فإن من الصعب جدا ان يحاول مصلح تغيير كل ذلك بقانون واحد، كما فعلت بعض الدول اليوم حين أرادت ان تقتلع من المجتمع عادة أضرت به وفتكت بقواه، فأصدرت قانونا يحرم الخمر وجهزت لتنفيذ القانون جيشا ضخما من الوسائل الرادعة ولكنها فشلت في نهاية الأمر، لعاملين:

الأول: إنها لم تغير النفسية والشخصية.

الثاني: إنها واجهت المجتمع المعتاد وأرادت ان تقلع عادته بلحظة.

ـ(119)ـ

نعم، أدرك الإسلام هذا المعنى فاتخذ الأسلوب التربوي واستعمله في مجال إعطاء الأحكام السماوية، فكان يبدأ أولا بصياغة العقيدة الواضحة والشخصية المتعبدة ثم يهيء الأرضية الاجتماعية لصدور الحكم، وهكذا يتدرج حتى يعطي الحكم النهائي في الموضوع. وها نحن نضرب مثلا في هذا المجال، والمثال الذي نختاره تحريم الربا، وقبل الدخول في عرض هذا المثال ينبغي التنبيه إلى أمرين:

الأول: ان النسخ في القرآن لا يمكن ان يتصور قيامه إلا على هذا الأساس.

الثاني: ان القرآن المكي غالبا ما كان يقوم بعامل تهيئة المراحل الأولى لعملية التدرج، فبالإضافة إلى تركيزه العقائدي وتأكيده على خلق الشخصية المتعبدة كان يشير إشارات عابرة إلى الأحكام التي يراد بعد ذلك ان يلتزم المجتمع بتفاصيلها.

وهذا ما يلاحظ في مثل الآيات التالية: ﴿ونفس وما سواها_ فألهمها فجورها وتقواها _ قد افلح من زكاها _وقد خاب من دساها﴾(29).

﴿قد افلح من تزكى _ وذكر اسم ربه فصلى﴾(30)﴿يا أيها المدثر_قم فانذر_وربك فكبر_وثيابك فطهر_والرجز فاهجر﴾(31).

فهي تركز على تهيئة النفسية التي تتطلب الصلاة وتتقبل ما يفرضه الإسلام عليها من أحكام الزكاة، وهي مما يزكي النفس... ومن ثم تأتي الآيات المدنية غالباً لتبين تفصيلات للتشريع وعلى مستواها من التدريج، حتى تصل إلى القالب النهائي المقصود من أول الأمر.

وكمثال على ذلك تحريم الربا:

ـ(120)ـ

وقد ذكرت لهذا التحريم مراحل أربع وهي ـ وان لم نستطع إثبات تسلسلها الزمني مباشرة ـ متسلسلة منطقيا على الأقل مما يوحي بالتسلسل الزمني.

المرحلة الأولى: مرحلة الوعظ الأخلاقي، وبيان ان المرابي سوف لن يحظى بمرتبة رابية عند الله.

﴿وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون﴾(32).

المرحلة الثانية: إيجاد أرضية التحريم بالحديث عن اليهود وصفاتهم الرذيلة التي منها ﴿وأخذهم الربا وقد نهوا عنه..﴾(33).

وهذا يوجد حالة انتظار لعملية التحريم.

المرحلة الثالثة : تحريم الربا المضاعف.

﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾(34).

المرحلة الرابعة: التحريم النهائي الشامل.

﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين _ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون﴾(35).

وهذا التدرج لم يقتصر على الربا فقط بل اتخذ أسلوباً عاماً في تطبيق الأحكام كما حصل في تحريم الخمر وتشريع الإرث وتحويل القبلة ومعالجة قضية الرق وغيرها من الأحكام، أعرضنا عن بيانها تحاشياً من الإطالة.

النقطة الثانية من نقاط التدرج هي الترتيب في توسيع رقعة الدعوة:

وملخصه: إن الإسلام بلا ريب كان هو الدين الذي بعث إلى العالم جميعا،

ـ(121)ـ

وإن هذا الهدف كان واضحا لدى الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ تماماً.. بل إن الإسلام خاتم الأديان بمقتضى عالميته واستيعابه لكل الأجيال العرضية والطولية؛ وقد أكدت بعض الآيات الأولى للدعوة على هذا المعنى، كما في الآية الشريفة: ﴿وان يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون _ وما هو إلا ذكر للعالمين﴾ (36).

إلا انه لما كانت الدعوة تحاول الانطلاق من نقطة الصفر فقد كان التوسيع في نطاق المدعوين يتم وفق طاقات الدعوة، وعلى مراحل.

المرحلة الأولى ـ مرحلة الدعوة الفردية السرية:

يقول هيكل في كتابه حياة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ: «وكان المسلمون الأولون يستخفون لعلمهم بما تضمر قريض من عداوة لكل خارج على أوثانها، فكانوا إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة وصلوا فيها، وظلوا على ذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشارا بين أهل مكة، ونزل على محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ من الوحي ما زاد المسلمين إيماناً وتثبيتا وقد اقتصر في هذه المرحلة على دعوة الأفراد فردا فرداً».

المرحلة الثانية ـ مرحلة إنذار العشيرة علنا ﴿وانذر عشيرتك الأقربين﴾(37).

المرحلة الثالثة ـ مرحلة إنذار مكة ومن حولها.

﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها...﴾(38).

المرحلة الرابعة ـ مرحلة إنذار العرب.

﴿..وتنذر به قوما لدا﴾(39) ﴿..لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك...﴾(40).

المرحلة الخامسة ـ مرحلة إنذار الناس جميعاً.

ـ(122)ـ

﴿قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً..﴾ (41) ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾(42). وهنا بعث ـ صلى الله عليه وآله ـ رسائله إلى الملوك.

النقطة الثالثة: من نقاط التدرج، الموقف من أعداء الإسلام:

وهو مورد آخر من موارد حكمة الإسلام وأسلوبه المدرك للظروف، ونحن نوجز الحديث فنصور الموقف في أساليبه التي قد تتغاير زمناً وقد يتعاصر بعضها وتختلف ظروفها.

1 ـ أسلوب الدعوة السرية:

إذ مع قوة الطرف المقابل المعادي لا يجد الإسلام بداً من التخفي وعدم اطلاع الآخرين على نوعية سيره وهكذا كان الأمر، ودامت هذه المرحلة ثلاث سنوات كما مر.

2 ـ أسلوب المجادلة العلنية:

فبعد ان أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بأن يعلن دعوته، كان من الطبيعي ان يثور جدل عنيف وتبدأ الحزازات والعناد. ومن هنا فقد أمر المسلمون ـ كتوجيه عام غير مخصوص بزمان ـ بأن يجادلوا بالتي هي أحسن، ويدعو إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدفعوا بالتي هي أحسن، فجاءت الآيات التالية: ﴿أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو اعلم بمن ظل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين﴾(43).

﴿... ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾(44).

ونجد كتطبيق لذلك: النماذج التالية:

1 ـ ﴿قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾(45).

ـ(123)ـ

فالآية ـ أولا تحاول تحريك فطرة المخالفين وتنبيهها إلى الرزاق، ثم تحاول التشكيك في موقفهم فيبدو المؤمن وهو المعتقد بأحقية ما يعتقده مرددا فيقول للمخالف: إن الأمر لا يعدو ان يكون أحد منا على الحق أما هو أو مخالفه، وهذه الروح الموضوعية تساعد على دفع العناد.

2 ـ قال تعالى: ﴿قل إنّما أعظكم بواحدة ان تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾(46).

وهذا الأسلوب هو أسلوب إعادة الجماهير إلى وعيها. وتخليصها من العقل الجمعي المسيطر عليها بدعوتها إلى التفرق والتفكير مثنى وفرادى.

3 ـ ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾(47).

﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وألهنا وألهكم واحد ونحن لـه مسلمون﴾(48).

ويلاحظ فيهما التأكيد على نقاط الالتقاء قبل بيان مواطن الاختلاف.

ويمكننا ان نجد في أسلوب دعوة الأنبياء لقومهم ومجادلتهم لهم خير مرشد للمسلمين في مجادلتهم، وهذه هي إحدى فوائد قصص القرآن وما أكثر تلكم الفوائد.

ومن تلك الآيات ما ورد في سورة الأنعام، الآيات 75 ـ 79، والآيات 51 ـ 67 من سورة الأنبياء، والآيات 43 ـ 44 من سورة طه، وغيرها.

3 ـ أسلوب الموقف السلبي:

وهذا الموقف يقوم على أسس واقعية أصيلة، سواء كان في مجال العقيدة أو

ـ(124)ـ

العمل أو العواطف، ويشتد هذا الموقف صرامة في حالات عناد الطرف الآخر أو عمله على سلوك طرق المساومة أو إثارته الماكرة للروابط العاطفية إلى غير ذلك، وهذه المقاطعة قد أدت دورا كبيراً في إعطاء المسلمين شخصية مستقلة، وشلت تأثير الكفار في إغواء بعض الأفراد واستغلال الروابط العاطفية في ذلك . اما المقاطعة الفكرية فتركزها الآية الكريمة: ﴿ قل يا أيها الكافرون _ لا اعبد ما تعبدون  _ ولا انتم عابدون ما اعبد  _ ولا أنا عابد ما عبدتم _ ولا انتم عابدون ما اعبد _ لكم دينكم ولي دين﴾ (49). فليس هنالك أي نقطة التقاء في العقيدة ولا معنى للمساومة العقائدية. ولا يعني الالتقاء إلا تنازل الإسلام عن عقائده، وأما المقاطعة العملية ـ أي عدم الركون والتعامل العملي مع الظالمين ـ فالآية القرآنية الأخرى تشير إلى ذلك: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار...﴾(50).

وأخيراً، فالمقاطعة العاطفية لأجل ان تبتني عواطف المسلم على أسس عقائدية، جاءت الآية الكريمة:

﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...﴾(51). وتبقى دائرة البحث تشمل الله والرسول والأئمة ـ عليهم السلام ـ وصالح المؤمنين، وقد استعمل الإسلام هذا الأسلوب في المجال الداخلي أيضاً. واقصد به أنه استعمله كعقاب لأولئك المسلمين المتقاعسين عن واجبهم الإسلامي كما في قضية الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد، وأمر المسلمين بمقاطعتهم وكانت المقاطعة شاملة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم جاءهم العفو الإلهي.

والمقاطعة السلبية عنصر مهم وأسلوب أصيل في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو مبين في محله.

ـ(125)ـ

4 ـ أسلوب الجهاد:

ونعني به المقابلة المسلحة من قبل المسلمين في مواجهة العدو. والذي نجده في هذا الأسلوب انه كان ممنوعا منعا باتا في الفترة التي مرت على المسلمين وهم في مكة، ولعل مبررات ذلك بعض الأمور التالية أو مجموعها، وقد أشار إليها الكتاب المسلمون، وهي:

أ ـ ضعف الدعوة الإسلامية واحتمال القضاء عليها تماما لو تطور الأمر إلى مجابهة مسلحة.

ب ـ كون تلك الفترة فترة اعداد تربوي للقادة، وهي تتطلب جو اقد لا يتوفر في حالات المجابهة بالسلاح. وعلاوة على هذا فإن قريشا وان استعملت كل وسائلها في سبيل منعه ـ صلى الله عليه وآله ـ من التبليغ إلا إنها فشلت في ذلك، فلم يكن طريق التبليغ مسدوداً تماما في وجه المسلمين.

ج ـ قوة نظام الثأر العشائري والذي يؤلب على المسلمين مختلف القبائل العربية.

د ـ إن المجابهة كانت تعني حدوث المعركة الدامية في كل بيت. ومن آثار ذلك قوة الإشاعات والتقولات التي تستغل الجانب العاطفي فتزعم للناس ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ جاء لضرب وحدة الناس وشق عصا الجماعة الواحدة. وهذا ما شهدناه قويا مؤثرا في بعض الساذجين، وشهدنا القرآن الكريم يعرض قصة «آل يس» هادفاً ـ فيما يهدف ـ السخرية من أولئك الذين يطلقون هذه الإشاعات ويعتبرون مجيء الأنبياء موجبا للتشاؤم والتطير.

فكيف يكون الحال لو أمر النبي أخا ليقتل أخاه ؟ وما هو تأثير ذلك في النفوس والدعوة الإسلامية ضعيفة كل الضعف ؟ ثم ان هذا الأمر سيكون ذا وطأة ثقيلة لا تتحملها إلا النفوس المشبعة بأفكار العقيدة والتي صيغت عواطفها على

ـ(126)ـ

أساسها.

هـ ـ إن المجابهة المسلحة ستحرك القبائل البعيدة ضد المسلمين، إذ ستخرج عن إطار كونها دعوة محلية وحركة داخلية فتحسس باقي القبائل بالخطر الذي يتهددها في المستقبل القريب فتمد يدها لمعارضي الإسلام كي يسهل لهم القضاء على نبتته الضعيفة، وقد رأينا ان تلك القبائل قد شكلت خطرا كبيرا بعد ذلك حينما أحست بالخطر يحدق بها من قريب.

و ـ ان اتخاذ دور المظلوم المقهور المعتدى عليه من قبل زعماء قريش كان يدفع الكثيرين للدفاع عن الدعوة بدافع النخوة العربية التي تنتصر للمظلوم، فلم ننس بعد ان الكثير من هؤلاء المتحمسين لهذا الأمر كانوا قد تجمعوا في تلك الفترة تقريبا لأجل تشكيل حلف يدافع عن المظلومين «حلف الفضول» وقد اشترك فيه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وكان يذكره بتبجيل فيما بعد.

ز ـ هذا بالإضافة إلى أن الإسلام كان ينظر نظرة بعيدة فيتوقع لهؤلاء المعارضين ان يكونوا في المستقبل في طليعة حاملي الإسلام العالمي، وكذلك بالإضافة إلى طبيعة الإسلام الخيرة التي تتجنب إيصال الأذى مهما أمكن لعله لكل هذه الأسباب ولغيرها قد منعت المجابهة المسلحة في الفترة المكية قبل وفي فترة يسيرة بعد الهجرة. وإذا اشتدت وطأة الكافرين أمر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بالهجرة.

ولكن الإسلام أمر بالقتال حين أحس بضرورته من جهة وبضعف المبررات التي منعت من جهة أخرى.

وكان أول لواء عقد لحمزة ـ عليه السلام ـ  في رمضان الشهر السابع للهجرة ثم تتابعت السرايا، وكانت سرية عبد الله بن جحش في رجب الحرام، وهنا نزلت الآية الكريمة: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير...﴾(52) ثم كانت

ـ(127)ـ

غزوة بدر وهكذا.

شبهة السيف:

وهي شبهة انطلقت أول ما انطلقت من المستشرقين ـ فيما نقدر ـ وكان الغرض منها تشويه سمعة الإسلام والانتقاص من قدراته الذاتية على التوسع، فأدعى بأن الإسلام إنّما انتشر بالسيف وقد قام كتاب أخذتهم الغيرة على الإسلام، ودافعوا عن ذلك قائلين: بأن حروب الإسلام كانت كلها حروبا دفاعية فلم يهاجم الإسلام أحداً مطلقاً، والحقيقة إننا لا نستطيع المجازفة بذلك أولاً ولا نجد داعيا للقول به ثانياً.

إن من ينظر إلى طبيعة الإسلام العقائدية والعالمية، والى أهداف الإسلام في قيادة العالم وإيصاله إلى الكمال، ثم ينظر إلى ضراوة الكفار وتوسلهم بكل وسيلة للقضاء عليها، يجد ان من الطبيعي ان يحمل الإسلام السيف.

فلم يكن الإسلام دين أفراد بل كان دين الإنسانية. ولم يكن الإسلام مجموعة أفكار بل كان فكرة عن الكون، ونظاما يقوم على أساس تلك الفكرة لا يقوم إلا بتملك السيطرة على تطبيقه، والقضاء على من يقفون حجر عثرة في ذلك، والدليل على ذلك واضح من استقراء تاريخ أي دعوة تملك هذه الطبيعة. وقد بينت الآيات القرآنية مبررات القتال:

﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا﴾(53).﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر...﴾(54)﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله...﴾(55).

إن الهدف هو تكوين البشرية المؤمنة، وان يكون الدين كله لله، باعتبار ان

ـ(128)ـ

الله تعالى خالق البشرية، علم ان الإسلام هو دواؤها، فالذي يقف حجر عثرة في سبيل كمال الإنسانية ولا يرضى بالتسليم على الأقل للحكومة الإسلامية ويعمل على تقويض عملية انتشار الإسلام، مثل هذا الإنسان يعتبر جرثومة سارية للإنسانية جميعاً.

نعم، لا يكره الإسلام على العقيدة إلا في حدود الإيمان بالله، ولكنه لن يدخر وسعاً في تعميم حكومته على الأرض فلن تصلح الأرض مع وجود مقاييس مختلفة وأهداف متوزعة.

وإذا تم هذا نقول: ان حمل السيف ضروري في بعض الأحيان ولكنه فرق بين يد تحمل السيف لتحرير الإنسان من كل العبوديات المذلة لـه وتجعله عبدا لله فقط، ويد تحمله لأجل إذلاله واستغلال موارده وطاقاته.

على أنه لا يفوتنا هنا ان نشير إلى ان أمما كثيرة أسلمت بواسطة التبليغ والدعوة. كما لا يفوتنا ان ننبه إلى ان المسلمين الأوائل كلهم اسلموا بالدعوة، وانه حتى الأراضي التي فتحت عنوة بقيت مسلمة حتى بعد زوال الضغط الإسلامي عنها، وغير ذلك.

5 ـ أسلوب الهجرة:

وهو أيضاً أحد الأساليب المهمة التي اتبعها المسلمون للحصول على مكاسب كبرى في تاريخهم الأول، وقد تمت الهجرة أولا على صعيد محدود، وان كانت إلى بلد بعيد وهو الحبشة، ثم كانت على نطاق شامل إلى يثرب؛ اما الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد حققت بعض الأهداف بنجاح، وذلك إنها:

1 ـ أنقذت بعض المسلمين من العذاب المر الشديد الذي كان قد يودي بحياتهم.

ـ(129)ـ

2 ـ أكدت مظلومية المسلمين وجبروت قريش للعرب وغيرهم مما زاد في عطف الغير عليهم.

3 ـ أحدثت هزّة كبرى في ذلك المحيط مما وجه الأنظار نحو الدعوة الجديدة ومعرفة حقيقتها.

4 ـ كان لتلك الهزة أثرها الكبير في أضعاف عزائم الأعداء أمام ذلك الإصرار الهائل.

5 ـ يمكن ان نعتبر الهجرة دورة تدريبية على التشبع بروح العقيدة وصياغة الحياة وفق أوامرها وتركيزها في النفس.

6 ـ نقل إشعاعات الدعوة الإسلامية إلى الخارج بأسلوب بسيط.

وكانت الهجرة الثانية إلى يثرب، وهي الهجرة العامة والحدث التاريخي الكبير الذي أحس الكل بقيمته المهمة، فأبتدأ تاريخ المسلمين من الهجرة مشعراً بعظمتها.

ان هذه الهجرة كانت تمتلك النتائج السابقة بصورة أقوى وأعمق. بالإضافة إلى كون المدينة تمتلك آفاقاً أرحب يمكن للدعوة الإسلامية فيها ان تتنفس ويبدأ المجتمع الإسلامي أولى مراحله، بعد ان كادت قريش تخنقها بضغطها العنيف، وبعد ان مات نصيرا الإسلام العظيمان، أبو طالب وخديجة.

وهنا نود ان نشير إلى ان البعض اعتبر الهجرة نوعا من الموقف السلبي، وهذا أمر لا نقبله بل هي ـ بالنظر إلى طبيعتها ونتائجها ـ عمل إيجابي فعال.

6 ـ أسلوب المعاهدة والصلح:

وهو أسلوب آخر من أساليب الإسلام في تحديد موقفه من غير المسلمين عامة والأعداء منهم بصورة خاصة، وقد كان لهذا دور مهم في حماية ظهر الدعوة

ـ(130)ـ

الإسلامية وفي بسط نفوذها والتمهيد لانتصارها النهائي. ولا يسعنا الحديث عن الفوائد المختصة بكل عهد.

7 ـ الحرب الفكرية المضادة:

وهذا ما اضطلع بحمله القرآن الكريم الذي كان يضعف عزائم العدو بآياته المتدرجة ويحكي قصص الأمم التي تشابه الأمة المعارضة وكيف وصلت إلى الخسران وغير ذلك.

كانت هذه هي أهم الأساليب التي اتخذها الإسلام في مجال موقفه من أعداء الدعوة.

وأخيراً، فإن من الضروري ان نتعرض إلى أهم فوائد نزول القرآن التدريجي، فإن لها تأثيراً كبيراً على استكمال الصورة في هذا الموضوع.

 

الإنزال التدريجي للقرآن وفوائده:

يمكننا ان نتصور لذلك فوائد كثيرة أهمها:

1 ـ تفادي الصدمة، وذلك لأن العقائد كانت تعبث بها الصنمية والطبقية وغير ذلك، وتسود المجتمع الزعامات القبلية، وفي مثل هذا الجو يكون التعدي على فرد واحد موجدا لروح الثأر فكيف بنسف العقائد والزعامات مرة واحدة. إن ردود الفعل ستكون قوية جدا مما يتوقع معه القضاء على الدعوة الإسلامية وهكذا الأمر بالنسبة لضرورة التدرج في إعطاء الإسلام.

2 ـ تفهم القرآن بروحه ـ إذ ان فهم القرآن ليس أمرا يسيرا كما انه غالبا ما يرتبط فهم الآية بالموقف النفسي، فالمحارب يشعر بقيمة الآية التي تطمئنه وجوها، غير ما يشعر به الجالس في بيته.

ـ(131)ـ

ان الفهم يحتاج إلى فرصة كافية ليتعمق المسلم في معاني الآيات وخصوصا إذا تنبهنا إلى ان العملية تبدأ من الصفر.

يروي ابن مسعود: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن».

ومن علل التدرج التي يذكرها مجمع البيان قولـه: «ويكونوا اقدر على التأمل والتفكر فيه» ولذا كان من الضروري ان ينزل تدريجاً.

ان عجزهم عن الفهم ينتج شيئين:

اما الانبهار بالعظمة ـ والانسياق الأعمى وراءه. وهذا ما لا يريده الإسلام، لأنه استهدف تربية المسلم الواعي الرصين العقيدة لكي يحق لـه ان يحمل العقيدة للأرض. ولا يريد ان يتحول إلى مذهب طوبائي ينفذ اتباعه ما يريده بلا وعي.

أو التوقف والتملص من هذه العملية بكاملها. وبتعبير آخر، فإن القطرة قطرة هي التي تؤثر تماماً والدفعة تغرق ـ كما يقولون ـ.

3 ـ تركيز التربية في النفوس ـ فإننا لاحظنا الفروق بين المعجزة الإسلامية الخالدة «القرآن» وباقي المعاجز التي جرت على أيدي الأنبياء عرفنا ان تلك المعاجز كانت تتصف بما يلي:

أ ـ المحدودية الزمانية والمكانية.

ب ـ إنها تجعل الإنسان أحياناً أمام أمرين لا ثالث لهما، اما الإيمان وإما العذاب والضلال التام، وهذا مما قد ينتج الإيمان الإجمالي.

ج ـ الانفصال بين الرسالة والمعجزة التي توفر السند لها.

د ـ ان أكثرها بل كلها ترتبط بجانب الأعجاز المادي.

هـ ـ إنها تعتبر خرقا للنواميس الطبيعية.

ـ(132)ـ

إلى غير ذلك، في حين نجد القرآن على العكس من ذلك باعتبار انه:

أ ـ ليس إعجازه محدوداً بزمان ومكان خاصين مما يؤكد انه معجزة الرسالة الخالدة.

ب ـ انه يربي الإيمان في النفس قطرة قطرة وبكل تأن وروية، وهذا أمر تتطلبة عملية التربية الطويلة للأجيال.

ج ـ انه هو الرسالة وهو المعجزة في آن واحد.

د ـ إن إعجازه يرتبط بالجانب المعنوي.

هـ ـ إنه يعتبر تكاملا إعجازياً للنواميس لا خرقا لها.

وعلى أي حال، فإن أهم ما يميزه هو هذه الصفة التربوية الرائدة المربية للأجيال وهذه الصفة تستدعى ان ينزل القرآن بالتدريج ليصعد بالإنسان من مرحلة إلى أخرى.

يقول في مجمع البيان معللاً هذا التدريج بأنه «ليكون أمكن في قلوبهم».

4 ـ لتركيز الاتصال الحسي المتواصل بالسماء ـ وهذا يلحظ من جوانب:

أ ـ ان هذا التدرج يعمق في نفوسهم عنصر انتظار المساء ورأيها في كل حادثة مما يطبع حياتهم بطابع الصياغة وفق أوامر الله. وهكذا تكون الآيات القرآنية أوامر سماوية يتلقاها المسلمون كما يتلقى الجنود الأوامر اليومية.

ب ـ خلق الصمود والعزة والأمل في نفوس المسلمين باعتبار انهم يشعرون ـ حسياً ـ بأن جبار السماوات يسندهم وهو معهم يسدد خطواتهم، فينطلقون مجاهدين باذلين كل ما يملكون في سبيله، فنجد القرآن العظيم:

تارة يسلي النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ويأمره بالصبر ﴿فأصبر على ما يقولون﴾(56)﴿فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾(57) وينهاه عن الحزن ﴿ولا يحزنك قولهم﴾(58).

ـ(133)ـ

ويذكره بأن الكافرين يعاندون الحق لمصالحهم ﴿قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾(59) ويسدد خطواته فيقول: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾(60) ويخفف عنه: ﴿طه _ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾(61) وإذ يشعر المسلمون بتسديد قائدهم من قبل السماء يحسون بالمدد وتزداد عزائمهم وكذلك عندما توجه أوامر القتال أو آيات الإسناد الملائكي للمسلمين أو آيات الرضوان عنهم، عندما يشعرون بذلك، فلابد ان نتوقع منهم كل التضحيات. ومن هنا يقول في مجمع البيان:

«إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل حادثة، وكل أمر، كان ذلك أقوى لقلبه وأزيد في بصيرته».

ج ـ ويمكن ان نلتفت إلى جانب تأثير ذلك على المنافقين وخطط الأعداء الآخرين إذ تجعلهم جميعاً في حذر شديد من انكشاف مؤامراتهم الحاقدة مما يثبط عزائمهم بلا ريب.

5 ـ ظهور وجه الإعجاز بصورة أكبر:

وذلك لأن القرآن نزل خلال 23 سنة متفرقا هنا وهناك، وفي حالات الحرب والسلم والأمن والخوف والنصر والهزيمة والموقف الجاد والمواقف العاطفية وهكذا، وتناول مختلف الشؤون الإنسانية، ومع كل هذا التفرق تلحظ الوحدة فيه كاملة «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» (62).

6 ـ تركيز الاثنينية بين الله تعالى ـ موحى القرآن ـ وبين الموحى إليه وهو الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في نفوس المسلمين.

فهو تارة ينهاه عن العجلة بقراءة القرآن من قبل ان يقضي إليه وحيه، وأخرى يتدثر فتأتيه سورة «المدثر» وتأتيه سورة «اقرأ» ثم يفتر الوحي ثلاث سنوات

ـ(134)ـ

ويأتي حديث الإفك، ويضطرب الجميع، ويتأخر الوحي فينتظره الجميع حتى ينزل. وهكذا يشتاق النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى الكعبة ويقلب وجهه أشهرا عديدة ولا ينزل القرآن، ثم بعد ذلك تأتي الآية الكريمة: ﴿قد نرى تقلب وجهك..﴾(63) وهكذا تتابع المواقف التي يوصف فيها بالعبودية ويقف فيها موقف المتأدب أمام الله.

وكل هذا يركز ـ كما يبدو ـ:

أ ـ الاثنينية التامة بينه وبين الباري جل وعلا تحرزا من دعوات الانحراف والخلط مما قد يؤدي إلى انحرافات كبرى.

ب ـ دفع الشبهات التي قد تثار ـ كما أثيرت من قبل البعض، فإن الوحي كان حالة من حالاته ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن إبداعاته والعياذ بالله وعلى ضوء ما سبق، يمكننا ان نفهم بشكل أعمق مغزى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحدثت عن الموضوع.

يقول تعالى: ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾(64).

ويقول تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا﴾(65).

الخلاصة:

عرفنا مما سبق، ان التدرج في مختلف المواقف كان تعبيرا أصيلا عن مرونة الإسلام التي هي بالتالي تعبير عن واقعية الإسلام.

 

 

ـ(135)ـ

المظهر الثالث للواقعية ـ الأخلاقية

روح النظام الإسلامي وإطاره العام

قبل كل شيء يجب ان نحدد ماذا نعني بالأخلاقية، ليتسنى لنا الحديث عن صلتها بروح الإسلام، وكيف تشكل الإطار الإسلامي لكل حكم وسلوك مفضل.

إن الأخلاقية تعني ـ باختصار ـ ذلك الانسجام الكامل بين الفكرة والحكم، وبالتالي بين النظام وهدف الخلقة الإنسانية العام وما يقتضيه من قيم عملية ضرورية التحقق حتى يتم تأمين ذلك الهدف.

وهكذا يكون النظام أخلاقيا إذا كان يستمد غاياته من ذلك الهدف وتلك القيم المتفرعة منه، ويركّز ـ من حيث الطريقة ـ على الغور إلى الأعماق النفسية وتجليه الدوافع الفطرية، وبناء الداخل الإنساني وفقا لتلك الغايات.

ولن يكون أي نظام متمتعاً بهذه الصفة إذا كان يستمد غاياته من ظروف بعيدة عن الإنسان وهدف خلقته.

هذا في مجال الغايات، والكلام نفسه يقال في السبل التي تسلكها النظم لتحقيق غاياتها.

وهذه الحقيقة تسوقنا إلى الحديث عن الصلة بين الهدف والتركيبة الإنسانية بشكل أكثر تفصيلا، ذلك إننا نؤمن على ضوء التأمل الوجداني الواعي في الأنفس والآفاق، وعلى أساس من نظرة الإسلام الأصيلة للنفس الإنسانية والنصوص الكريمة الناظرة إلى هذا المجال، نؤمن (بنظرية الفطرة الإنسانية الأصيلة) التي تحدد هوية الإنسانية وتفصله عن غيره، وعلى أساس من هذا

ـ(136)ـ

الترابط تقوم نظرية الفطرة، أما الدين فيعمل على جلاء الفطرة لتعود إلى صفائها، ويوضح لها ما تجهله من الحقائق الهائلة، ويعبد لها الطريق نحو هدفها بعد توضيحه لها ورسمه أمامها بكل جلاء.

إن الأخلاق تستقي ثباتها وأسسها وأضواءها من الفطرة، وكل ادعاء خلقي ينفي هذا الثبات في المعايير وهذا الرسوخ في الفطرة، إنّما هو ادعاء فارغ ودعاية للتصريف المحلي والتموية على الآخرين.

وقبل الحديث عن أخلاقية النظام الإسلامي المقام في أي مجتمع، ينبغي الحديث عن الأرضية التي يوجدها الإسلام في المجتمع ليكون مؤهلاً للتطبيق الإسلامي الجيد. ومثل هذا المجتمع لابد وان تتوفر فيه العناصر التالية:

الأول: العقيدة المتأصلة في النفوس والمتعدية من مجال الإيمان المنطقي إلى مجال توجيه الوجود الإنساني كله.

الثاني: الرؤى والمفاهيم التي تستمد معالمها من العقيدة وتصب مباشرة في السلوك الإنساني.

الثالث: العواطف المنسجمة كل الانسجام مع العقيدة والمفاهيم.

فإذا كان المجتمع المتهيئ لتطبيق الأطروحة الإسلامية بهذا النحو، فإن ذلك يعني ان الترابط الأخلاقي ـ بالمعنى الذي طرحناه ـ يسود كل الحياة الفردية والاجتماعية ويشكل روحها وإطارها بلا ريب. ويتأكد هذا المعنى عندما نؤمن بحقيقة الترابط التام بين كل أجزاء الأطروحة، فإن هذا الترابط يعني ان أي بلورة لأي جانب يتم على ضوء المسيرة المجموعية نحو الهدف الكبير تماما كما نعتقد بأن أي حركة في هذا الكون الرحيب تترك أثرها على كل المجموعة الكونية الهائلة من خلال هذا الترابط التكويني المشهود والمبرهن. وهذا الترابط

ـ(137)ـ

الهادف بين أجزاء الأطروحة وهذا الانسجام بينها وبين الهدف هو الذي أهّل الإسلام ليكون دين الفطرة والقيم على كل الحياة.

بعد هذه الحقائق نجد انه ليس من الضروري ان نستعرض مفردات النظام الإسلامي كلها حتى نكتشف مظاهر هذه الروح الأخلاقية فيها، فيكفي ان نلقي نظرة على بعض العينات لنطمئن إليها.

وكمثال على ذلك نقول: إننا نلاحظ تركيز الإسلام القوي على نظامين رئيسين قبل غيرهما معبرا بذلك عن اتجاهه الأخلاقي هذا، وهما: نظام العبادات، والنظام الأخلاقي والتربوي، معتبرا إياهما أساس الحياة الإسلامية وقوامها.

فالصلاة ـ كما تصفها النصوص ـ عمود الدين، ان قبلت قبل ما سواها، وأن ردت رد ماسواها. ومكارم الأخلاق وتركيزها في المجتمع تبلغ من القيمة حدا يجعلها هدف البعثة النبوية الشريفة بل يصل الأمر إلى طرح هذه المعادلة (الدين = الأخلاق).

وإذا طالعنا بعض أهداف نظام العبادات وجدناه نظام التربية الخلقية بعينه فهو يستهدف ـ من جملة ما يستهدف ـ إشباع الحاجة الفردية والحضارية الإنسانية إلى الارتباط بالوجود المطلق بأفضل وجه، والحاجة الحضارية إلى الإحساس الذاتي بالمسؤولية الآنية والتاريخية كضمان للتنفيذ، وبالتالي فهو يستهدف إشباع حاجة الإنسان الدائمة للتذكير بالحقيقة وإنقاذه من مرض الخمول في الطاقة الإيمانية، والتقاعس عن الفاعلية الحضارية نتيجة نمط من أنماط التخلف (العقلي، النظامي، الفردي و...).

وحتى العبادات المالية نجدها تسير على هذا المنوال أروع سير، إذ انها تستهدف الكمال الإنساني كغاية لا محيد عنها، فدافع الزكاة لن يقبل منه عمله إلا

ـ(138)ـ

إذا قصد التقرب إلى الله، والجابي لها يرغب في الدعاء للدافع ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم..﴾(66).

ان الشمولية في العبادة تعطينا معنى الشمولية الأخلاقية في الإسلام وتركز في ذهن الإنسان ان يعيش لله دائماً: ﴿قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك لـه﴾ (67) وفي رواية: من وصايا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأبي ذر: «يا أبا ذر، إن استطعت ان لا تأكل ولا تشرب إلا لله فافعل».

إن النظام الأخلاقي في الإسلام يتحلى بالصفة الواقعية، بعيدا عن التطرف الذهني والخيال المتصوف، والرياضات الباطلة، ويعلن قبوله بمبدأ حب الذات (النفس) أولا ويستجيب لكثير من متطلباتها وأهمها (الحرية)، إلا انه يضع مخططا تربويا دقيقا نلخصه بالخطوات التالية ولا يشترط فيها ان تأتي بالترتيب:

أولاً: يبدأ قبل كل شيء بتعيين مركز الإنسان من الكون. فقد خلقه الله تعالى لأن يعمر الأرض من خلال ممارسة حياة اجتماعية طويلة، ووضع لـه تشريعا في سبيل ذلك.

ثانياً: وعلى ضوء الخطوة الأولى ينمي في المسلم حب الله تعالى حتى يصل إلى الحد الذي يضحي بذاته في سبيله تعالى.

ثالثاً: ثم يربط بين التقرب إلى الله والحياة الاجتماعية، ليكون سبيل الله يعني سبيل العمل لصالح الرسالة، وتحقيق رضا الله في الأرض ونشر تعاليمه بين الناس، وفي خدمة المؤمنين ورفع أدوائهم ونقائصهم، وإشاعة الأخلاق الحسنة، بالإضافة إلى التكامل الفردي:

﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لـه..﴾(68).

﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾(69).

ـ(139)ـ

﴿ان الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله...﴾(70).

وهكذا يرتبط سبيل الله بخدمة المجتمع خدمة يأذن بها الله ويراها لصالحه.

رابعاً: وعلى ضوء الخطوة الثالثة، يبدأ الإسلام بتربية أخلاقية طويلة المدى، من خلال نظم عديدة (كنظام العبادات، والنظام التربوي والأخلاقي، ونظام الأسرة، وغيرها) كلها تؤكد تنمية الحس الاجتماعي فيه، وتعمل على تربية الوجدان والضمير الأخلاقي في الإنسان، وتركز على ان يرتبط بعلاقات مودة كبرى مع مجتمعه المؤمن خاصة، ومع مجتمعه الإنساني عامة.

خامساً: وبعد هذا يعمل على ان يذكر الإنسان بالثغرات التي تنفذ عبرها غريزة حب الذات فتنمي نفسها وتطغى، وكمثل ذلك: نلاحظ موقف الإسلام من كل من عنصري الغفلة والتكبر، وهما منفذان كبيران للذاتية.

سادساً: ومع كل هذا يأتي دور أصيل يشكل نقطة الحل الرئيسة، وهو الدور الذي يجعل المسألة الفردية والمسألة الاجتماعية أمراً واحداً، وذلك بتركيز الاعتقاد بالآخرة، وإعطاء صورة واضحة عنها. وحينذاك، فالذات الإنسانية واحدة في كلا الحالين، وعندما يكون التنازل البسيط المؤقت في هذه الحياة القصيرة عن اللذات لصالح المجتمع الذي يحبه، ولصالح رقي الإنسانية وهو عضو منها، موجباً لإشباع النفس والذات عينها بأسمى أنواع الإشباع بدخولها جنة الخلد والرضا، وخلاصها من عذاب الخلد في النيران.

وقد كانت الآيات الشريفة دقيقة غاية الدقة عندما ضربت على وتر إشباع الذات إشباعاً خالداً في قولـه تعالى: ﴿.. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين _ وأنتم فيها خالدون﴾(71).

ـ(140)ـ

﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله﴾(72).

وهكذا يتحول العمل الصالح لصالح المجتمع ولصالح النفس في الوقت نفسه.

ويكون المتاع الدنيوي المنحرف ظلماً وبغياً على النفس:

﴿... يا أيها الناس إنّما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا...﴾(73).

فالنفس تباع في الدين لله وللرسول وللمؤمنين ليعوض عنها بالجنة:

﴿ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة...﴾(74).

وما أكثر الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وكلها تنتج هذا الحل الوحيد للمشكلة الاجتماعية المستعصية. فلا يبقى ـ والحال هذه ـ إلا طريق الإسلام المتوازن تماماً فحسب.

وعندما نرد النظم الإسلامية الأخرى نجد الجانب الأخلاقي متجلياً فيها بمستوى أساس:

فالنظام الاقتصادي الإسلامي يجسد الصفتين الآنفتين: (الأخلاقية والواقعية) تمام التجسيد في غاياته وفي وسائله.

انه لا يضمن العامل لأنه أداة إنتاج إذا أصيبت أصيب الإنتاج نفسه، وإنما يضمنه لأنه إنسان قدر ان يعمل أم لا.

وانه عندما يريد تقسيم الربح لا يجعل الإنسان إلى جانب الحجر وإنّما يعتبر أدوات الإنتاج خادمة للإنسان. وانه عندما يضع خطته التنظيمية يجعل (العدالة الاجتماعية) أحد اكبر الأهداف الاقتصادية للفرد والدولة ويعمل على تحقيق التوازن في مستوى المعيشة بين الأفراد، دونما توجيه أية ضربة للدوافع الذاتية، لتؤدي دورها الاقتصادي المطلوب.

والنظام الحقوقي في الإسلام يسعى ليستلهم الحقوق الفطرية الإنسانية

ـ(141)ـ

ويعكسها على الصعيد التشريعي معادلا بين الحقوق والواجبات ﴿... ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف...﴾(75).

والنظام الجنائي أيضاً يمتاز بهذه الصفة الأخلاقية التي تميزه تماماً عن باقي النظم الأخرى.

إن الإسلام ينظر لكل ما يخالف التكامل الروحي للإنسان باعتباره جريمة يعاقب عليها عقابا دنيويا كالحنث باليمين والخيانة، أو يوكل أمر العقاب إلى الآخر كما في الغيبة والنميمة والحسد والحقد، وعدم رد السلام والتكبر وأمثال ذلك، بالإضافة إلى إمكان تصور التعزير الدنيوي على هذه المعاصي.

هذا بالإضافة إلى اعتباره الجرائم التي تمس المسيرة الاجتماعية الصحية جرائم أخلاقية حتى في حالة عدم التضرر الاجتماعي بها ـ ظاهراً ـ كما في مسائل شرب الخمر، والاستمناء وأمثالهما.

هذا في حين تعجز القوانين الوضعية عن علاج هذه الأمراض الأخلاقية لأنها لا تقع تحت سلطتها بل ربما لأنها لا تأبه بها وكثيرا ما تقع هذه القوانين فريسة الضعف البشري والذوق العام، وهي غالبا ما تخدم الطبقات الحاكمة فتبشر بأخلاقها، وهو ما وجدناه من التدني الأخلاقي في المجتمعات الوضعية القائمة.

ولا نرانا بعد هذا بحاجة لاستعراض باقي النظم الإسلامية كالنظام الاجتماعي المعتمد على أساس (الوحدة العائلية المتوازنة). والنظام التعاملي وغيرهما فإن في ما ذكر الكفاية كما نعتقد.

من كل ما مر وكذلك من مراجعة مجمل الأسس والمظاهر الأخلاقية في الإسلام نستنتج الظواهر التالية:

أولاً: إن الأخلاقية الإسلامية تشمل الحياة كلها، والإنسان المسلم المثالي هو

ـ(142)ـ

الأخلاقي المثالي في كل وجوده وسلوكه.

ثانياً: إن الأخلاقية الإسلامية ليست أخلاقية انعزالية عن الحياة والملذات، وإنّما هي أخلاقية الانهماك في العمل الاجتماعي بروح زاكية مع امتلاك ملكة (الزهد) والقدرة على التحرر من الأسر المادي الوضيع إذا تطلب الموقف ذلك.

ثالثاً: ان معاييرنا الأخلاقية مستمدة من عقيدتنا، وحينئذٍ مهما امتدت العقيدة امتدت هذه المعايير، فلا تتأثر بالأبعاد الجسمية، ولا العرقية، ولا المادية، وما إلى ذلك، وهي بالتالي تصلح لأن تكون معايير إنسانية كاملة.

رابعاً: إن الأخلاقية الإسلامية ليست سطحية عارضة، وإنّما هي تتعامل مع الفطرة وتستمد منها مسوغاتها وتعمل على تجليتها وإسراء مفعولها إلى ظاهر السلوك.

خامساً: إن اخلاقيتنا ليست منافية للتغير المادي والرفاه البدني بل هي متلاحمة معه لصنع أهداف معنوية سامية.

سادساً: إن اخلاقيتنا لا تتعامل مع الخيال المفرط وليست طوبائية النظرة، وإنّما هي واقعية قائمة على أساس من علم الهي بالواقع الإنساني والواقع الكوني والعلاقة بينهما، وتقدير دقيق لهدف الخلقة الإنسانية. ولذا فهي تتجنب أي تخدير كاذب وتسعى للرقي المعنوي الحقيقي.

سابعاً: إن الأخلاقية الإسلامية لم تطرح أهدافا ومبادئ عليا تاركة إياها دوما تفصيل لها ولكيفية تحقيقها، وإنّما هي إذ تطرح مفهوم العدالة مثلا تعطي التخطيط الكامل لها وللأساليب العملية التي يتم تحقيقها بها، وعندما تطرح فكرة تزكية النفس تعطي البرنامج العملي الدقيق الذي يحققها لئلا ينحرف السبيل بالإنسان عن الهدف الأسمى.

ـ(143)ـ

 ثامناً: إن اخلاقيتنا ليست أخلاقية مصلحية، أي ترعى مصالح الذات الضيقة، وإنّما هي أخلاقية إنسانية ترمق الهدف العام كله وتحاول ان تنسق كل أجزاء المسيرة مع هذا الهدف.

تاسعاً: إن اخلاقيتنا أخلاقية متوازنة، فلا هي بالتي تفني الفرد تحت عجلات المصلحة الاجتماعية العليا، ولا هي بالتي تسمح للفرد ان يسحق المصالح الاجتماعية، وإنّما هي تحاول إيجاد توفيق، وربما أوجدت تلاحما بين المصلحتين فلا يحس الفرد العامل لذاته انه منفصل عن العمل لمجتمعه.

عاشراً: وبالتالي فإن الأخلاقية الإسلامية ليست مقطعية تنطفئ عندما تصل إلى حد معين، وإنّما هي برنامج تكامل إنساني لا ينقطع لأنه يسير إلى الله تعالى، وهو جل وعلا الكمال الذي يتسامى فوق كل عروج.

هذه هي بعض ملامح الحياة المعنوية في الإسلام.

نفي الشبهات حول الواقعية الإسلامية.

أشرنا في مطاوي البحوث الماضية إلى ما يدفع بعض الشبهات المطروحة، ونريد ان نضيف إلى ما سبق أن العناصر المعادية للإسلام تسعى ـ بشكل طبيعي ـ لتحويل عناصر القوة فيه إلى عناصر ضعف وتشكيك، الأمر الذي يحقق لها مآربها في ضعف الوازع الديني لدى المسلمين إلا ان الشبهات مهما كانت مزوقة لن تصمد بوجه الحقيقة الناصعة.

فمن الشبهات التي أثيرت هنا ما يلي:

أولاً: ان الإسلام بتقريره نظاما شاملا لمختلف جوانب الحياة وتأكيده على

ـ(144)ـ

ضرورة تطبيقه في كل العصور يؤدي بالإنسان إلى الجمود وعدم التطوير فهو اذن يقيد حركة التطور الإنساني.

ثانياً: ان الإسلام إذ يعترف بالواقع يستلم لـه ولا يعمل على تطويره نحو الأفضل.

ثالثاً: ان الإسلام من خلال مرونته اقر بنوع من الميوعة النظامية وهو أمر لا ينسجم مع طبيعة النظام التي يجب ان تقف أحياناً بكل صلابة أمام الانحراف.

والحقيقة هي ما أشرنا إليه من قبل من ان الإنسان يمتلك جوانب ثابتة في حياته لا تتغير باختلاف الظروف كما يمتلك علاقات تتأثر بالظروف المختلفة.

فإنسانية الإنسان وفطرته، وعلاقة الإنسان بخالقه، والأخلاق الإنسانية والعلاقات التكوينية مع الموجودات الأخرى، وأصول العلاقات الاجتماعية، كالعلاقة العائلية، ونشر مبدأ العدالة والتعاون والرحمة وأمثال ذلك، هي أمور في أصولها ثابتة لا تتغير إلا بتغير الإنسان نفسه إلى موجود آخر، ولذا فإن النظم التي تتعامل مع هذه الجوانب يجب ان تكون ثابتة في حين تكون النظم التي تتعامل مع العلاقات المتغيرة نظماً مرنة تستوعب مختلف الظروف دون ان تفقد أسسها النظامية.

وعليه فلا معنى لو ف النظام الذي يلحظ الواقع ويخطط لـه بدقة بالجمود أو الميوعة أو التسليم للواقع كيف ونحن نجد الإسلام يحرك في الإنسان كل عناصر التطوير والتغيير في الجوانب القابلة لـه.

انه يحرك وينظم ويدفع قراه العقلية للسير في الأرض واستكناه المجهول، والتفوق على مصاعب الطبيعة وشكر النعم الإلهية باكتشافها والاستفادة الأفضل منها وإعمار الأرض، وعدم إهدار القوى الطبيعية وعدم التبذير أو الإسراف فيها، فإذا تخلف عن ذلك عاد ظلوما كفاراً.

ـ(145)ـ

والتاريخ نفسه يشهد لهذه الأمة إنها طورت الحضارة إلى أسمى مراتبها ولكنها فقدت دورها الحضاري عندما فقدت التزامها بالإسلام وأصوله.

وختاماً:

فإننا نود ان نشير إلى مسألة هامة وهي ان المذاهب الإسلامية لا تختلف مطلقا حول خصائص الإسلام العامة وان اختلفت اجتهادا في بعض التفاصيل، فلتكن هذه الخصائص إحدى النقاط التي نتجمع حولها وننسق اعلامنا في مجالها ونجمع الأمة حولها، وصولاً إلى أهدافنا المرجوة في وحدة إسلامية شاملة.

 

ـ(146)ـ

الهوامش:

 

1 ـ سورة يوسف: 108.

2 ـ سورة القمر: 49.

3 ـ سورة الرحمن: 5.

4 ـ سورة النحل: 40.

5 ـ سورة يس: 40.

6 ـ سورة الأحزاب 62.

7 ـ سورة الشمس: 7 ـ10

8 ـ سورة الحجر: 49 ـ50

9 ـ يراجع مثلا كتاب (الخصال) للشيخ الصدوق.

10 ـ سورة إبراهيم: 33،34

11 ـ سورة الحج: 37.

12 ـ سورة لقمان 14.

13 ـ سفينة البحار: مادة الشكر.

14 ـ وسائل الشيعة:ج11 ص17.

15 ـ نفس المصدر: ج 11، ص17.

16 ـ سورة القصص: 77.

17 ـ سورة الأعراف: 96.

18 ـ سورة القصص: 59.

19 ـ سورة نوح: 10 ـ 12.

20 ـ سورة هود: 52.

21 ـ سورة إبراهيم: 7.

22 ـ سورة الكافرون.

23 ـ اقتصادنا: ص38_640.

24 ـ سورة الرعد: 11.

25 ـ سورة الأنفال: 53.

26 ـ سورة إبراهيم: 34.

27 ـ سورة إبراهيم: 28.

28 ـ سورة النحل: 125.

29 ـ سورة الشمس: 8.

30 ـ سورة الأعلى:14 ـ15.

31 ـ سورة المدثر: 1 ـ5.

32 ـ سورة الروم: 39.

33 ـ سورة النساء: 161.

34 ـ سورة آل عمران: 130.

35 ـ سورة البقرة: 278،279

36 ـ سورة القلم: 51 ـ 52.

37 ـ سورة الشعراء: 214.

38 ـ سورة الأنعام: 92.

39 ـ سورة مريم: 97.

40 ـ سورة القصص: 46.

41 ـ سورة الأعراف: 158.

42 ـ سورة الأنبياء: 107.

43 ـ سورة النحل: 125.

44 ـ سورة فصلت: 34.

45 ـ سورة سبأ: 24.

46 ـ سورة سبأ: 46.

47 ـ سورة الكافرون.

48 ـ سورة العنكبوت: 46.

49 ـ سورة البقرة: 217.

50 ـ سورة النساء: 76.

51 ـ سورة التوبة: 29.

52 ـ سورة البقرة: 193.

53 ـ سورة طه: 130.

54 ـ سورة الأحقاف: 35.

55 ـ سورة يونس: 65.

56 ـ سورة الأنعام: 33.

57 ـ سورة التوبة: 43.

58 ـ سورة طه: 1 ـ 2.

59 ـ سورة النساء: 82.

60 ـ سورة البقرة: 144.

61 ـ سورة الإسراء: 106.

62 ـ سورة الفرقان: 32.

63 ـ سورة التوبة: 103.

64 ـ سورة الأنعام: 162.

65 ـ سورة البقرة: 245.

66 ـ سورة البقرة: 154.

67 ـ سورة البقرة:: 218.

68 ـ سورة الزخرف: 71.

69 ـ سورة البقرة: 110.

70 ـ سورة يونس: 23.

71 ـ سورة التوبة: 111.

72 ـ سورة البقرة: 228.

73 ـ سورة آل عمران: 64.

74 ـ سورة العنكبوت: 46.

75 ـ سورة المجادلة: 22.