منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي

منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي

 

 

منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي

 

السيد علي أكبر الحائري

 

إنّ الهدف الأساس من كلمتي هذه توضيح فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) وإثبات أنّها فكرة مطروحة - بروحها ومحتواها - في الأوساط الفكرية الإسلامية من الطائفتين (السنّة والشيعة) منذ العصور الأولى من تاريخ الإسلام، وإن كانت جديدة في اسمها وعنوانها الخاصّ، حيث جاء التعبير بـ (منطقة الفراغ) في بعض مؤلّفات المفكّر الإسلامي المعاصر أُستاذنا الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر قدس سرّه (1)وتخيّل البعض أنّها فكرة حديثة برزت على يد هذا المفكر الإسلامي، وبدأ يناقشه، في ضوء ذلك (2)، في حين أنها من الأفكار العريقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وإن كان هذا التعبير حديثاً - كما ذكرنا -.

ونحن سنبدأ ببيان المقصود بهذه الفكرة ونحاول استكشاف جذورها وأسبابها

_______________________________________

1ـ اقتصادنا 400، ط المجمع العلمي للشهيد الصدر - قم. و(الإسلام يقود الحياة) 1: 23، ط مطبعة الخيّام - قم.

2ـ الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة: قراءة نقدية في كتاب اقتصادنا: تأليف يوسف كمال وأبو المجد حرك: 64 وما بعدها، ط دار الصحوة للنشر، القاهرة.

ـ(302)ـ

بنحو يتضح أنّها من مظاهر كمال الشريعة الإسلامية وليست نقصاً فيها، ثمّ نشير إلى الموازين والأُطر الثابتة في الشريعة الإسلامية لملء منطقة الفراغ من قبل وليّ الأمر الشرعي في كلّ زمانٍ بحسب مقتضيات ذلك الزمان، كما سنشير إلى الفرق بين ملء منطقة الفراغ من قبل وليّ الأمر وبين علاج المجتهد لمشكلة (العوز في النصّ) عند استنباط الأحكام الشرعيّة، ثمّ نعرج إلى بيان الشبهات والإشكالات التي أوردت أو بالإمكان أن تورد على فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) ونحاول حلّها ومعالجتها بالشكل الصحيح.

 

توضيح الفكرة:

المقصود بـ (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) تلك المساحة من الأمور والقضايا التي تركت الشريعة الإسلامية حقّ التشريع فيها لوليّ الأمر أو للسلطة التشريعية العاملة بالتخويل أو بالإشراف من قبل وليّ الأمر، لكي يصدّر فيها الحكم المناسب للظروف المتطوّرة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامّة للشريعة الإسلامية. وهذا المعنى من لوازم وجوب طاعة وليّ الأمر الشرعي في كل عصر وزمان، فإنّ وجوب طاعة وليّ الأمر المستفاد من الآية الكريمة: ­﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1). – بقطع النظر عن تعيين المقصود بوليّ الأمر – يستلزم تخويل حقّ إصدار الحكم والأمر والنهي لوليّ الأمر في مساحة معيّنة من الأمور، وهي المساحة التي لم يرد فيها تكليف مباشر من قبل الشريعة الإسلامية، وهذه المساحة هي التي نعبّر عنها بـ (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي).

وبمزيدٍ من التوضيح نقول: إنّ وجوب الطاعة المستفاد من هذه الآية الكريمة يمكن

_______________________________________

1 - سورة النساء: 59.

ـ(303)ـ

تفسيره بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن يقصد به مجرّد تنفيذ الأحكام الشرعية الثابتة مسبقاً في مصادر التشريع الإسلامي، من دون أن يحقّ لـه أي لوليّ الأمر تقنين حكم أبداً غير ما قنّنته الشريعة الإسلامية بصورة مباشرة، وهذا الوجه لا نحتمل إرادته من الآية الكريمة لأنّه إنّما يعني وجوب طاعة الله فحسب، في حين أنّ الآية الكريمة تصرّح بوجوب طاعة الله تعالى والرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر، ولا أقلّ من منافاة هذا الوجه لإطلاق وجوب طاعة وليّ الأمر، لأنّه يشمل بإطلاقه وجوب طاعة كلّ تكليفٍ يصدر من وليّ الأمر – ما لم يؤدّ إلى معصية الله تبارك وتعالى كما سيأتي – ولا يختصّ بالتكليف الصادر منه لتنفيذ أوامر الله تعالى فحسب.

والوجه الثاني: أن يقصد به وجوب طاعة كلّ تكليف يصدر من وليّ الأمر، في جميع الأمور سواء كان فيها تكليف مباشر في الشّريعة الإسلامية أو لم يكن، وهذا غير محتمل أيضاً لأنّه ينافي ما ثبت بالضرورة من عدم جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وقد وردت روايات بهذا المضمون كما في حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(1).

والوجه الثالث: أن يقصد به وجوب طاعة وليّ الأمر في المساحة التي لم يرد فيها تكليف مباشر من قبل الشريعة الإسلامية؛ وهذا هو التفسير المتعيّن لوجوب طاعة وليّ الأمر، بقطع النظر عن تعيين المقصود بوليّ الأمر كما ذكرنا. وهذا يعني أنّ الشريعة الإسلامية تركت مساحة معينة من الأمور لم يباشر فيها ببيان تكليفٍ إلزامي من وجوب أو حرمة، ليملأها وليّ الأمر الشرعي بما يرى من تكليف مناسب،

_______________________________________

1 - تفسير ابن كثير 1: 783: نقلاً عن سنن أبي داود: 87 والبخاري 9: 78.

ـ(304)ـ

يضمن به الحفاظ على الأهداف العامّة للشريعة الإسلامية بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، وهذه المساحة هي التي نعبّر عنها بـ (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي).

ولا يخفى أنّ الخلاف في تعيين أُولي الأمر لا يؤثّر على أصل هذه الفكرة، فسواء كان أُولو الأمر عبارة عن كلّ من تمّ تعيينه بالبيعة في كل زمان – كما هو المشهور لدى علماء السنّة - أو كان عبارة عن الأئمّة الاثني عشر وينوب عنهم الفقهاء العدول في عصر الغيبة – كما هو المشهور لدى علماء الشيعة – فعلى كلا التقديرين إنّما تجب طاعة وليّ الأمر في المساحة المفوّضة إليه من قبل الشريعة الإسلامية، لا في المساحة التي قد عيَّنت الشريعة الإسلامية أحكامها بصورة مباشرة.

وبهذا يظهر أنّ فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) مستبطنة في فكرة (وجوب طاعة وليّ الأمر)، لأنّها تعبير عن المساحة التي فُوّض التقنين والحكم فيها إلى وليّ الأمر، وكلّ من استعرض فكرة وجوب طاعة وليّ الأمر - كالإمام الطبريّ (1) والإمام الفخر الرازي(2) وغيرهما من أئمّة التفسير – وغيرهما من أئمّة التفسير – فقد استعرض ضمناً وبالدلالة الالتزامية لفكرة (منطقة الفراغ) بالمعنى الذي ذكرناه. وهذا معنى ما قلنا من أنّ هذه الفكرة ليست مستحدثة جديدة، وإنّما هي من الأفكار العريقة في تاريخ الفكر الإسلامي وإن كان اسمها وعنوانها الخاص جديداً، ولا أظنّ أحداً عبّر عنها بعنوان (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) قبل المفكّر الإسلامي المعاصر أُستاذنا الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره.

_______________________________________

1 - تفسير الطبري 8: 502، حسب نقل مختصر تفسير الطبري 1: 113.

2 - التفسير الكبير 10: 143.

ـ(305)ـ

جذور الفكرة:

والواقع أنّ جذور هذه الفكرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة النبوّة وأهدافها الرسالية العظمى، حيث إنّنا نجد أنّ الرسالات السماوية التي نزلت على يد الأنبياء والمرسلين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) – رغم أنّها تشترك في خطوطها العامّة ونزلت جميعاً لهداية البشرية وضمان مصالحها في إطار الحقّ والعدل – شهدت ظاهرة التغيير والتجديد في تفاصيل أحكامها وقوانينها ونُظمها طبقاً لما شهدته البشرية من أنواع التطور في فكرها وإدراكها وثقافتها وحضارتها ومعنوياتها وماديّاتها ومشاكلها وتعقّداتها الاجتماعية والفردية إلى غير ذلك، ممّا كان يستدعي تغيير النبوّة والرسالة بين حين وحين من تاريخ البشرية، فكانت كلّ رسالة من تلك الرسالات تباشر معالجة الحاجات والمصالح المقطعية والمتطورة بنسبة معيّنة في عصرها إلى جنب ممارستها للخطوط العامّة الثابتة(1)، وقد تدرّجت الرسالة الإلهية نحو التكامل والسعة والشمول إلى أن بلغت ذروتها على يد الرسول الأعظم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وقد استقرّت المشيئة الإلهية على ختم الرسالة على يده الكريمة، فكانت الرسالة الإسلامية رسالة أبديةً خاتمة بالإضافة إلى كونها أكمل الرسالات السماويّة وأتمّها وأسماها.

وهي بحكم كونها أكمل الرسالات وأتمّها لابدّ لها أن تشتمل على جميع ما يقتضيه النظام الاجتماعي الصالح للبشريّة بما فيه من عناصر ثابتة وعناصر متطوّرة، ولكنّها بحكم كونها رسالةً أبديّةً خاتمة لابد لها أن لا تباشر بتشريع العناصر المتغيرة بصورة

_______________________________________

1 - لاحظ بهذا الصدد محاضرة قيّمة لأُستاذنا الشهيد الصدر قدس سره تحت عنوان «التغيير والتجديد في النبوّة»، وقد طبعت مع مجموعة أخرى من محاضراته تحت عنوان «أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف» دار التعارف. بيروت.

ـ(306)ـ

تفصيليّة، لأنها لو صنعت ذلك لأصبح حالها حال الرسالات السماوية السابقة التي كانت تستدعي التغيير والتجديد بين حين وآخر من تاريخ البشرية، وهذا ينافي أبديتها وخاتميتها.

فلكي تكون الرسالة الإسلامية رسالةً كاملةً شاملةً من ناحية، وتكون صالحةً للدوام والاستمرار في كلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة من ناحية أُخرى، كان من الضروري أن يفرز الإسلام ويفرّق بين مساحة العناصر الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال وبين العناصر المتطورة التي تتغير بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، فيباشر في المساحة الأولى بوضع الأحكام والقوانين والتشريعات اللازمة في أكمل نظام اجتماعي يريد إسعاد البشرية، ولكنّه في المساحة الثانية لا يباشر بمثل ذلك بل يعمل بصورة غير مباشرة، وذلك بتشريع موازين وضوابط معيّنة ثابتة يضعها بين يدي وليّ الأمر الشرعي في كلّ زمان، ويفوّض إليه أمر الحكم والتقنين في إطار تلك الموازين والضوابط المعيّنة، ويأمر الأُمة الإسلامية بطاعته والانصياع لـه ما لم يخرج عن ذلك الإطار وهذه المساحة هي التي نسمّيها بمنطقة الفراغ في التشريع الإسلامي.

وبهذا التوضيح يظهر أنّ الشريعة الإسلامية - وإن فوّضت أمر الحكم والتقنين إلى وليّ الأمر في المساحة التي نعبّر عنها بمنطقة الفراغ - لم تترك هذه المساحة تحت رحمة وليّ الأمر من دون أن يُخطَّط لـه التخطيط اللازم لكيفيّة ملء هذا الفراغ، بل إنّها وضعت موازين وضوابط معيّنة لملء منطقة الفراغ، وهذه الضوابط والموازين هي بنفسها من العناصر الثابتة في التشريع الإسلامي، وحالها حال باقي الأحكام الشرعية التي يجب استنباطها من الكتاب والسنّة في ضوء القواعد الفقهيّة والأُصولية العامّة التي يستخدمها الفقهاء والمجتهدون لاستنباط الأحكام.

ـ(307)ـ

الضوابط العامّة لملء منطقة الفراغ:

ويمكن تقسيم الضوابط العامّة التي وضعها الإسلام لملء منطقة الفراغ من قبل وليّ الأمر إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الضوابط الراجعة إلى تعيين وليّ الأمر الذي فُوّض إليه حقّ التشريع والتقنين إلى وليّ الأمر.

القسم الثاني: الضوابط الراجعة إلى تحديد مساحة منطقة الفراغ التي فُوّض فيها حقّ التشريع والتقنين إلى وليّ الأمر.

القسم الثالث: الضوابط الراجعة إلى ما يُملأ به هذا الفراغ من القوانين والتشريعات.

ولا يخفى أنّ جملة من هذه الضوابط في الأقسام الثلاثة قابلة للبحث والخلاف بمقتضى الاتجاهات الاجتهاديّة المختلف فيها.

وإليك شيئاً من التوضيح حول كلّ قسم من هذه الأقسام بهدف الإلمام الإجمالي بها من دون قصد التبنّي لاتجاه اجتهادي خاص.

الأول: ضوابط تعيين الولي:

أعني الضوابط الراجعة إلى تعيين وليّ الأمر؛ فالرأي المعروف لدى علماء السنّة أنّ وليّ الأمر يتمّ تعيينه من خلال البيعة، فكلّ من بايعته الأُمة الإسلامية على الولاية فهو وليّ الأمر ويشمله وجوب الطاعة المستفاد من الآية الكريمة. والرأي المعروف لدى علماء الشيعة أنّ وليّ الأمر يتمّ تعيينه بالنصّ من قبل الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، ويعتقد هؤلاء أنّ النصّ قد تمّ من قبله على الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام، وينوب عنهم في عصر الغيبة الفقهاء العدول الأكفّاء، على خلاف في مدى نيابتهم عنهم عليهم السلام، كما وقع الخلاف أيضاً

ـ(308)ـ

بينهم على أنّ فعليّة الولاية للفقيه في عصر الغيبة هل هي مشروطة بالبيعة أولا. وأمّا ولاية نفس الأئمّة الاثني عشر الأطهار فهي فعليّة بشأنهم حسب معتقدات الشيعة من دون حاجة إلى بيعة، لأنّهم منصوبون من قبل الله تبارك وتعالى على لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم على الولاية العامّة، بمعنى القيادة الشرعية التي تشمل حقّ التشريع والتقنين لملء منطقة الفراغ. نعم، البيعة وسيلة لتسليم أمر القيادة من الناحية العملية وقد تمسّك الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم بهذه الوسيلة في حياته أكثر من مرّة، رغم أنّه منصوب لقيادة الأُمة من قبل الله تبارك وتعالى بصورة مباشرة بإجماع المسلمين وبضرورة من الدين.

ومن الجدير بالذكر في الضوابط الراجعة إلى تعيين وليّ الأمر ضرورة توفّر العنصر الكيفي في شخص وليّ الأمر، سوءا آمنّا بشرط البيعة أو لم نؤمن، حرصاً على ضمان حسن نيّته ومراعاته للمصالح الموضوعية العامّة، سواء في مقام التشريع والتقنين أو في مقام الإجراء والتنفيذ، وفي هذا المجرى جاءت فكرة العصمة في معتقدات الشيعة بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة عليهم السلام كما جاءت فكرة شرط العدالة في من ينوب عن الإمام المعصوم في عصر الغيبة. وقد جاء التأكيد في نصوص الشيعة على ضرورة توفّر صفات عالية جدّا في المرجع الديني الذي يتصدّى لبعض مراتب النيابة عن الإمام الحجّة في عصر الغيبة، كأن يكون «صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه»(1) كلّ ذلك حرصاً على استقامة القائد الوليّ على الحقّ والعدل ومراعاة مصالح الأُمة في جميع الشؤون.

إضافة إلى ذلك ينبغي لمن يتصدّى لهذا المقام في عصر الغيبة أن يستعين بمجلس نيابي من ذوي الكفاءات العالية يقوم بتشخيص مصالح الأُمّة وترشيح القانون المناسب لها في القضايا المهمّة ويسمّى هذا المجلس - في المصطلح الجديد - بمركز

_______________________________________

1 - الوسائل 18: 95 ب 10 من أبواب صفات القاضي ح 20، ط المكتبة الإسلامية - طهران.

ـ(309)ـ

السلطة التشريعية.

والواقع أنّ السلطة التشريعية من حيث الأساس تكون لوليّ الأمر ويمكنه تفويضها إلى المجلس النيابي، فيقوم هذا المجلس بدور التشريعات اللازمة في صيغ قانونية في حدود دائرة منطقة الفراغ.

الثاني: تحديد منطقة الفراغ:

من الضوابط العامّة لملء منطقة الفراغ، هي الضوابط الراجعة إلى تحديد مساحة منطقة الفراغ التي فُوّض فيها حقّ التشريع والتقنين إلى وليّ الأمر، فيمكن تحديد تلك المساحة بثلاثة مجالات:

المجال الأول: مجال تشخيص الموضوعات الدخيلة في الأحكام الثابتة التي شرّعها الإسلام بصورة مباشرة؛ فإنّ كثيراً من الأحكام التي شرّعها الإسلام بصورة مباشرة قد أناطها بموضوعات خارجية قابلة للتشكيك والإبهام في بعض الحالات فعلى وليّ الأمر حينئذٍ – أو السلطة التشريعية التي أشرنا إليها – أن يعلن التشخيص الميداني المناسب لتلك الموضوعات حتّى يتّضح حال تلك الأحكام سلباً وإيجاباً.

فمثلاً: من جملة الأحكام الثابتة في الإسلام حرمة ممارسة(1) الآلات المعدة للقمار فإنّها تحرم ممارستها حتّى بغير رهن مادامت معدّة للقمار كما أفتى به المشهور، فلو أنّ آلة معينة كانت صالحة للقمار وغير القمار فحينئذٍ تارةً تتغلّب عليها سمة القمار بصورة واضحة معروفة فتشملها الحرمة المذكورة لأنّها من الآلات المعدّة للقمار، وتارة أخرى تتغلّب عليها سمة غير القمار بصورة واضحة معروفة أيضاً فلا تشملها الحرمة المذكورة – أي لا تحرم ممارستها بغير رهن – لأنّها ليست معدّة للقمار، وتارة ثالثة لا تكون القضية واضحة معروفة فيقع الشكّ في أنّها من الآلات المعدّة للقمار أو ليست كذلك، ففي هذه

_______________________________________

1 - تجد ذلك في جملة من الرسائل العملية عند البحث عن المكاسب المحرّمة.

ـ(310)ـ

الحالة يكون من حقّ وليّ الأمر أن يعلن تشخيصه لهذا الموضوع ويحكم بذلك.

كما أنّ من الأحكام الثابتة أنّ الأصوات والألحان المعدّة لمجالس اللهو واللعب تكون محرمة(1)، فإذا وقع الشكّ في لحن من الألحان أنّه من الألحان المعدّة لذلك أولا كان من حقّ وليّ الأمر أن يشخّص هذا الموضوع ولو بالفحص عن طريق أهل الخبرة ويحكم على طبق ما يتوصّل إليه من تشخيص.

ومن الأمثلة المعروفة لتشخيص الموضوع من قبل وليّ الأمر مسألة الهلال في الشهور القمرية، فإنّ هناك أحكاماً ثابتةً منوطةً بالشهور القمريّة وهي متوقّفة على ظهور الهلال، فإذا ثبت ظهور الهلال لوليّ الأمر كان من حقّه أن يحكم بذلك.

وبصورةٍ عامّة الأحكام الشرعية الثابتة يجب استنباطها بصورة كلّية من خلال مصادر التشريع الإسلامي، وقلّما يتوصّل الفقيه من خلال ذلك إلى حكم كلّي منوط بموضوع معيّن، بحيث يدور الحكم سلباً وإيجاباً مدار ذلك الموضوع، ويبقى الحكم حينئذٍ تحت رحمة تشخيص الموضوع، ولا يمكن حلّ الموقف عند الشكّ في الموضوع. نعم، قد يأتي الحكم الظاهري عند الشكّ في الموضوع، ولكنّ وليّ الأمر إذا شخّص الموضوع وارتفع عنه الشكّ كان من حقّه الحكم على طبق ذلك ووجب على الناس إطاعته فيه.

المجال الثاني: مجال تشخيص الأهم عند التزاحم بين الأحكام الإلهية الثابتة، كما إذا وقع التزاحم بين الجهاد الواجب أو دفع العدو الغاشم وبين الانتهاء من بعض المحرمات كاحتياز الأرض المغصوبة أو إتلاف ما لا يرضى به صاحبه، بل قد يتوقّف دفع العدوّ على قتل بعض الأبرياء، فيقع التزاحم بين امتثال وجوب دفع العدوّ وامتثال حرمة قتل الأبرياء، بمعنى أنّ ضيق القدرة وقلّة الإمكانات العملية قد يؤدّيان إلى التنافي والتضاد

_______________________________________

1 - بناءً على اختصاص الحرمة بذلك.

ـ(311)ـ

بين امتثال حكمين من الأحكام الإلهيّة الثابتة، ففي مثل ذلك يكون من حقّ وليّ الأمر أن يحكم على طبق ما يشخّصه من أهميّة أحد الحكمين على الآخر، ويجب على الأُمة إطاعته فيه، وليست هذه إطاعةً للمخلوق في معصية الخالق، لأنّ الأحكام الشرعية إذا تزاحمت في مقام الامتثال تقدّم الأهم على ما يقلّ عنه أهمّية، ولا يحقّ لوليّ الأمر أن يحكم إلاّ على طبق ما يعتقده من الأهمّية.

المجال الثالث: مجال المصالح الطارئة في دائرة المباحات، فإنّ التصرفات التي لم يرد فيها تكليف إلزاميّ ثابت من قبل الشريعة الإسلامية لا نفياً ولا إثباتاً قد تحدث فيها مصالح وملاكات طارئة وفق الظروف والملابسات التي تمّر بالأمة الإسلامية بحيث تستدعي الالتزام بسلوك معيّن؛ ففي مثل ذلك يحقّ لوليّ الأمر أن يحكم بالالتزام بذلك السلوك حفظاً لتلك المصالح والملاكات، والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن أن نذكر منها المصالح الاقتصادية الطارئة التي تستدعي في بعض الظروف وضع الضرائب المالية في دائرة أوسع ممّا أمر به الإسلام من الزكوات والأخماس الواجبة، وكذلك المصالح التي تستدعي في بعض الظروف تحديد الأسعار، وكذلك المصالح التي تستدعي وضع الضوابط الخاصة للمرور، إلى غير ذلك من المصالح العامّة التي تستدعي وضع جملة من القوانين والأحكام وفق الظروف والملابسات التي تمرّ بالأُمة الإسلامية أو بالشعب الذي يحكمه الإسلام، فإنَّ من شأن وليّ الأمر أو السلطة التشريعية المفوضة من قبله – أن يشخّص أمثال هذه المصالح ويصدّر الأحكام اللازمة على طبقها، ويجب على الأُمة أن تسمع لـه وتطيع.

وهذا أيضاً لا يستلزم إطاعة المخلوق في معصية الخالق، فإنّ إعطاء كمّية من المال بعنوان الضريبة مثلاً، والالتزام بسعر معيّن أو بنسبة معينة من الربح في المعاملات، والالتزام بضوابط معينة في المرور... كلّها من الأمور المباحة بطبيعتها وليست فيها معصية للخالق تبارك وتعالى، فإذا أمر بها وليّ الأمر أصبحت واجبةً على الناس

ـ(312)ـ

بسبب وجوب طاعة وليّ الأمر في غير معصية الله تبارك وتعالى.

هذه هي المجالات الثلاثة التي يمكن أن نحدّد بها مساحة منطقة الفراغ التي فُوّض الحكم فيها إلى وليّ الأمر، وقد يستدل من الناحية الفقهيّة على شمول منطقة الفراغ لكل هذه المجالات الثلاثة بإطلاق أدلّة وجوب طاعة وليّ الأمر وإطلاق أدلّة نيابة الفقيه العادل عن وليّ الأمر في عصر الغيبة، فإنّ إطلاق هذه الأدلة يدلّ على وجوب طاعة وليّ الأمر أو نائبه في كل ما يحكم به في جميع الأمور وفي جميع المجالات، وقد خرج عن ذلك ما يستلزم معصية الله تبارك وتعالى وبقيت في إطلاقها هذه المجالات الثلاثة التي ذكرناها لعدم استلزامها لمعصية الله تبارك وتعالى.

الثالث: ضوابط ما يملأ به الفراغ:

من الضوابط العامّة لملء منطقة الفراغ هي الضوابط الراجعة إلى ما يُملأ به الفراغ من القوانين والتشريعات من قبل وليّ الأمر، فإنّ الشريعة الإسلامية بعد أن حدّدت مجالات منطقة الفراغ وفوّضت أمر التشريع والتقنين فيها إلى وليّ الأمر، لم تدع أمر ملء هذا الفراغ تحت رحمة الرغبات الشخصية الخاصّة لوليّ الأمر لكي يملأه كيفما يشاء وبأيّ نحو يريد، بل لابدّ لوليّ الأمر أن يراعي أمرين أساسيين:

الأمر الأول: ملاحظة مصالح الأُمة في جميع القوانين والتشريعات التي يضعها لملء منطقة الفراغ حسب الظروف المرحلية التي تمرّ بها الأُمة، فإذا كان أمامه عدّة خيارات لحلّ مشكلة من المشاكل الاقتصادية أو السياسية أو غيرها التي تمرّ بالأمة الإسلامية، بمعنى أن هذه المشكلة يمكن حلّها باختيار واحدة من صيغ قانونية متعدّدة، فلابدّ لوليّ الأمر أن يختار جهد الإمكان أفضل تلك الصيغ القانونية وأولاها بحسب مجموعة مصالح الأمة بعد مراعاة الكسر والانكسار في المصالح والمفاسد المختلفة الراجعة إلى تلك القضية، ولا يحقّ لـه أن يختار الصيغة القانونية الأنسب لمصالحه الخاصة ولا الصيغة

ـ(313)ـ

القانونية الأنسب لمصالح طبقة خاصة أو قطاع معيّن من قطاعات الأُمة دون غيرها، فإن مثل ذلك خيانة للأُمة ولا يجوز ارتكابها لولي الأمر بالضرورة.

والأمر الثاني: ملاحظة تلك المصالح من وجهة نظر الإسلام وبحسب الموازين الإسلامية العامّة، لا من وجهة النظر المادّية البحتة مثلاً أو من وجهات النظر الأُخرى التي لا تنسجم في روحها مع الإسلام، ولأجل توضيح ذلك نكتفي بمثالين:

المثال الأول: إننا لو لاحظنا المصالح الاقتصادية العامّة من وجهة النظر المادّية البحتة، فقد يؤدّي ذلك إلى ضرورة منع العمال في جميع المعامل والمصانع من ممارسة الفرائض الدينية من الصوم والصلاة وحفظ الحجاب للنساء العاملات إلى غير ذلك، لأنّ الصوم يؤدّي إلى ضعف العامل عن عمله، والمدة التي تستغرقها إقامة الصلاة في المعامل والمصانع ستنقص من ساعات العمل اليومي للعمال، كما أنّ الحجاب الإسلامي للنساء العاملات قد يلكّئ من مستوى السرعة للتقدّم الكمّي والكيفي في نطاق أعمالهن، وهذه الأمور بمجموعها ستؤثر تأثيراً بالغاً جدّاً على مستوى الإنتاج في المعامل والمصانع، ومن ثمّ ستؤثر على المصالح الاقتصاديّة العامّة في الوطن الإسلامي، وهذا يعني وقوع التزاحم بين امتثال تلك الفرائض الدينية لهؤلاء العمال وبين المصالح الاقتصادية الكبيرة التي ستضيع بسبب إقامة تلك الفرائض، وبحسب هذه النزعة الفكريّة قد ينتهي الأمر إلى ترجيح تلك المصالح الاقتصادية على تلك الفرائض.

ولكننا إذا لاحظنا المصالح الاقتصادية العامّة في إطار وجهات النظر الإسلامية وبحسب الموازين الإسلامية العامّة، لوجدنا أنّ المصالح الاقتصادية المادية لو انعزلت عن المصالح المعنوية والروحية والأخلاقية التي اهتمّ بها الإسلام لأصبحت تلك المصالح الاقتصادية وبالاً على الإسلام والمسلمين، وهذا يعنى أنّ من يقوم بدور ترجيح بعض المصالح على بعض لابدّ أن يكون واعياً لوجهات نظر الإسلام حول تلك المصالح، حتّى

ـ(314)ـ

يدرك مثلاً أنّ مصلحة الصوم لا تقتصر على مجرّد الصحة البدنية وأنّ مصلحة الصلاة لا تقتصر على الرياضة الجسمية، بل إن هناك مصالح معنوية وروحية عالية جدّاً أدّت إلى جعل الصلاة ركناً من أركان الدين وجعل الصوم بمنزلة ضيافة الله للعباد، إلى غير ذلك.

المثال الثاني: لو أنّ بيت مال المسلمين لم يفِ بسدّ الميزانية المقرّرة لحاجات الدولة ومشاريعها، واضطرت الحكومة الإسلامية إلى وضع ضرائب مالية على الناس بالإضافة إلى الضرائب الثابتة في الإسلام كالزكوات والأخماس ونحوها، فسيكون وليّ الأمر أمامَ عدّة خيارات في كيفيّة وضع الضرائب الإضافيّة لسدّ ميزانيّة الدولة:

1 - يمكنه أن يضع مبلغاً معيّناً من المال على كلّ فردٍ من المواطنين على حدّ سواء، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار المستوى المعيشي لهؤلاءِ المواطنين ولا المستوى الثّقافي والعلمي لهم ولا نوعيّة أعمالهم ومِنَنهم.

2 - كما يمكنه أن يضع الضريبة بنسبة معينة على أرباح التجارة فحسب.

3 - ويمكنه أيضاً أن يخصص الضريبة بالأثرياء وذوي الميزانيات المالية العالية ويلغيها عن الضعفاء.

4 - ويمكنه أن يضع الضريبة على الناس بحسب الميزان السكني لهم، فكل من كان يملك سكناً أكبر كانت ضريبته أكثر.

5 - ويمكنه أيضاً أن يضع الضريبة على المؤسّسات والشخصيّات الحقوقية فقط دون غيرها.

6 - كما يمكنه أن يضع الضريبة على المدارس والجامعات العلمية فحسب، ليكون على كل طالبٍ مبلغٌ من المال مثلاً.

7 - كما يمكنه أن يخوّل الوزارات القائمة في الدولة على جمع الضرائب من قنواتها الخاصّة، فتقوم وزارة التجارة على وضع الضرائب على التجار، وتقوم وزارة التربية

ـ(315)ـ

والتعليم على وضع الضرائب على المدارس والجامعات، وتقوم وزارة النشر والإعلام على وضع الضرائب على الصحف والمجالات، إلى غير ذلك.

وهكذا يمكن أن نصوّر لوليّ الأمر عشرات الوجوه لكيفيّة وضع الضرائب لحلّ مشكلة العوز في ميزانيّة الدولة، وعلى وليّ الأمر أن يختار الوجه الأولى والأصلح - جهد الإمكان - من هذه الوجوه الكثيرة، لكن الأولويّة بالمنظار الماديّ البحت تختلف عنها بالمنظار الإسلامي الصحيح، فإذا وضعنا هذه الوجوه الكثيرة أمام عالمٍ اقتصاديّ لا يهمّه سوى الجانب المادي من الاقتصاد، فسوف يضع لنا خطةً اقتصاديةً دقيقة لحلّ مشكلة العوز في ميزانيّة الدولة ويعيّن لنا أفضل وجه ممكن لذلك بالمنظار الماديّ البحت، وقد يكون مصيباً حقّاً من زاوية حلّ هذه المشكلة، لكن مَنِ الذي يتضرّر مِن وراء هذه الخطة ومَنِ الذي يربح مِن قطاعات الشعب الإسلامي ؟ وهل الوجه الذي اختاره من بين تلك الوجوه يكون لصالح المستضعفين والمحرومين أو لصالح الأثرياء والمتموّلين؟ وهل جناح التّربية والتعليم يتضرّر بذلك أكثر أو جناح المعامل والمصانع أو جناح التجارة مثلاً ؟ كلّ هذه الأسئلة قد لايهتمّ بها ذلك العالم الاقتصادي الذي يعالج المشكلة بالمنظار المادي البحت.

ولكنّا إذا أردنا معالجة المشكلة بالمنظار الإسلامي الصحيح فلابدّ أن نضع الجواب الصحيح لهذه الأسئلة وأمثالها ونختار الوجه الأصلح والأولى، لا من الزاوية الماديّة فحسب، بل من زاوية مجموع القيم والأهداف التي اهتمّ بها الإسلام؛ فإذا كان وجه من وجوه كيفية وضع الضرائب أصلح بشأن جناح التربية والتعليم مثلاً من جناح التجارة أو الصناعة، بينما كان وجه آخر من وجوه كيفية وضع الضرائب على عكس ذلك، بمعنى أنّه كان أصلح بشأن جناح التجارة أو الصناعة من جناح التربية والتعليم، فلابدّ لولي الأمر أن يرجّح الوجه الأوّل الذي هو أصلح بشأن التربية والتعليم وذلك لشدّة اهتمام

ـ(316)ـ

الإسلام بأمر التربية والتعليم، حتّى عُدّ ذلك من الهدف الأسمى لأصل بعثة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(1).

كما أنّه إذا كان وجهٌ من وجوه كيفية وضع الضرائب أصلح بشأن المستضعفين والفقراء والمحرومين من وجه آخر من تلك الوجوه، كان عليه أن يرجّح الأوّل على الثاني، وذلك لشدّة اهتمام الإسلام بشأن الفقراء والمحرومين، حتّى ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياءِ أقوات الفقراء، فما جاع فقيرٌ إلا بما مُتّع به غنيّ، والله تعالى سائلهم عن ذلك»(2).

وهكذا يجب على وليّ الأمر في كل عصر وزمان عند مواجهة حالات التزاحم وعند ترجيح بعض المصالح على بعض أو ترجيح بعض الصيغ القانونيّة على بعض أن يلحظ الأولويّة بحسب الموازين والقيم والأهداف الإسلامية العامّة، لا بحسب الموازين المادّية البحتة، ولا بحسب الموازين والأفكار المستوردة من حضارات غير إسلاميّة.

هذه جملة من الضوابط العامّة لملء منطقة الفراغ، وقد أشرنا منذ البدء إلى أنّ بعضها قابل للبحث والنّقاش بمقتضى الاتجاهات الاجتهاديّة المختلفة، ولم نقصد هنا التبنّي لاتّجاه اجتهاديّ خاصّ، وإنّما قصدنا الإلمام الإجمالي بها بقدر ما يسعه هذا المقال.

منطقة الفراغ وما لا نصّ فيه:

وقد وقع الخلط والاشتباه لدى بعض الباحثين بين فكرة منطقة الفراغ وبين ما لا نصّ فيه من الكتاب والسنّة حيث قال: «ونحن لا نقدر أبداً على التسليم بوجود فراغ في

_______________________________________

1 - سورة الجمعة: 2.

2 - نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة 328.

ـ(317)ـ

التشريع، لأنّ الأُمور المستحدثة التي لا نصّ فيها قد بلغنا أمر المشرِّع بالاجتهاد في معرفة أحكامها على ضوء مقاصد الشريعة العامّة، وقد تكوّن لدينا تراث فقهيّ ضخم بجهود العلماء المجتهدين الذين لم يتركوا أداةً لهذا الاجتهاد الشرعي إلا واستعملوها، كالقياس، والاستنباط، ومراعاة المصلحة، ودفع الضرر...»(1). وقد فات هذا الباحث أنّ (منطقة الفراغ) لا يقصد بها ما لا نصّ فيه بأيدينا، رغم وجود حكم شرعي ثابت لـه في أصل الشريعة، بل إنّما يقصد بها المساحة التي فُوّض فيها أمر التشريع والتقنين إلى وليّ الأمر كي يضع الحكم المناسب فيها، بحسب متطلّبات الظروف والملابسات المختلفة في كل زمانٍ ومكان. وذلك كما أشرنا إليه سابقاً من أنّ المصالح والملاكات التي اهتمّ بها الإسلام على قسمين:

القسم الأول: تلك المصالح والملاكات التي لا تتغيّر بتغير الظروف والملابسات إلّا بالقدر الذي يمكن ضبطه في صيغ تشريعيّة ثابتة.

والقسم الثاني: تلك المصالح والملاكات المتطوّرة إلى درجة لا يمكن ضبطها في صيغ تشريعيّة ثابتة.

أمّا القسم الأول فقد باشر فيه الإسلام بجعل الأحكام والقوانين ضمن صيغ تشريعيّة ثابتة، حتّى وإن كانت تلك الصيغ التشريعيّة على نحو قضايا شرطيّة، مثل: (إذا استطاع الإنسان وجب عليه الحج) و(إذا كان واجداً للماء وجب عليه الوضوء) و(إذا لم يكن واجداً للماء وجب عليه التيمّم) و(إذا لاقى الطعام نجاسة حرم أكله) و(إذا بلغت الغلات حدّ النصاب وجبت فيها الزكاة)، وهكذا... وهناك شروط عامّة كشرط القدرة وعدم الضرر والحرج ونحو ذلك، فالأحكام الشرعية التي جعلها الإسلام بصورة

_______________________________________

1 - الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة: قراءة نقديّة في كتاب اقتصادنا: 65، ط دار الصحوة للنشر - القاهرة.

ـ(318)ـ

مباشرة – وإن كانت مشتملةً على شروط خاصّةٍ وعامّةٍ قابلةٍ للتطوّر من حيث الوجود الخارجي – قد صيغت – على ما فيها من شروط – بصيغ تشريعيّة ثابتة.

وأمّا القسم الثاني من المصالح والملاكات وهي التي لا يمكن ضبطها في صيغ تشريعيّة ثابتة فلم يباشر فيه الإسلام بجعل الأحكام والتشريعات المناسبة لتلك المصالح، وإلاّ لزم تغيير الأحكام بين حين وحين، وهذا يستدعي تجديد النبوّة والرسالة، في حين أنّ الرسالة الإسلاميّة رسالة أبديّة خاتمة، وإنّما اتّخذ الإسلام في مثل هذه المصالح أُسلوباً غير مباشر فأمر بوجوب طاعة وليّ الأمر، فكلّما أمر به وليّ الأمر وفق الظروف والمتطلّبات المرحلية في كلّ زمان اتّصف بالشرعية ووجبت طاعته.

والمساحة التي اتّبع فيها الإسلام هذا الأسلوب غير المباشر في التشريع نعبّر عنها بمنطقة الفراغ، وقد وضع الإسلام ضوابط عامّة لملء هذه المنطقة من قبل وليّ الأمر وحدّد لـه مجالات ذلك - كما سبق - وهذا يختلف عن مشكلة عوز النصّ في الأحكام الشرعية الثابتة، سواء كان هذا العوز ناشئاً من عدم تدوين نصوص السنّة المطهرة في كثير من المجالات، أو ناشئاً من ضياع نصوص السنّة في خضمّ الأحداث التاريخيّة، أو ناشئاً من كون متعلّق التكليف من الأُمور المستحدثة التي لم تكن موجودة في زمن التشريع كالتدخين وشرب القهوة وغير ذلك؛ فإنّ مشكلة عوز النصّ بأيّ سبب من هذه الأسباب بحاجة إلى الحلّ لمعرفة الأحكام الشرعيّة الثابتة في موارد هذا العوز، فلابدّ أن نعرف ما هو الحكم الشرعيّ الثابت في أمر التدخين مثلاً، بقطع النظر عن حكم وليّ الأمر بوصفه حاكماً وليّاً للأمر، وهذا لا علاقة لـه بمنطقة الفراغ بالمعنى الذي شرحناه.

والحلّ المطروح لمشكلة عوز النصّ هو الرجوع إلى العمومات والإطلاقات والقواعد العامّة أو الأُصول العمليّة حسب الموازين والضوابط الاجتهاديّة المطروحة في علم الفقه والأُصول، وهذه الموازين والضوابط الاجتهاديّة – وإن كانت مختلفةً في جملة

ـ(319)ـ

منها عند علماء السنّة والشيعة - تهدف جميعاً عند الطائفتين إلى التوصّل إلى حكم الله الثابت في الشريعة الإسلامية، سواء نجحت في هذا الهدف أو لم تنجح، وهذا يختلف عن الحكم الذي يصدّره وليّ الأمر من عند نفسه لمعالجة المصالح الطارئة في دائرة منطقة الفراغ؛ فالمجتهد في موارد عوز النصّ سيُفتي وفق القواعد العامّة بحكمٍ معيّنٍ بوصفه حكماً لله تبارك وتعالى - سواء كان على مستوى الحكم الواقعي أو على مستوى الحكم الظاهري - وهو وإن كان قابلاً للخطأ والصواب فإنّه حجّة ومنجّز على الناس وفقاً لموازين الاجتهاد والتقليد. وأمّا وليّ الأمر فهو بوصفه مفوّضاً بأمر التشريع والتقنين في دائرة منطقة الفراغ فلن يفتي بحكمٍ بوصفه حكماً لله، بل إنّما يجعل الحكم ويشرّعه من عند نفسه بوصفه مفوّضاً بذلك من قبل الله تبارك وتعالى ويجب على الناس طاعته فيه. وكم فرق بين الأمرين؛ فالأوّل عبارة عن الفتوى بحكم الله تبارك وتعالى، والثاني عبارة عن الحكم الصادر بالولاية.

وهكذا يظهر أنّ فكرة منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي تختلف اختلافاً جوهريّاً عن فكرة عوز النصّ، كما أنّ طريقة العلاج في كل منهما تختلف عن الأُخرى.

وبمجموع ما ذكرنا ظهر أنّ الولاية على ملء منطقة الفراغ بالأحكام المناسبة وفق الظروف والأحوال منصبٌ إلهي فوّضه الله تبارك وتعالى لوليّ الأمر الشرعيّ في كلّ زمان ومكان ضمن الموازين والضوابط التي أشرنا إليها، وهو يختلف عن منصب الإفتاء الذي هو لكلّ الفقهاء والمجتهدين.

 

منطقة الفراغ في عصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم

ولاشكّ في أنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم كان يمارس الولاية على ملء منطقة الفراغ بالنحو المناسب للظروف والحالات التي كانت تمرّ بالأُمة الإسلامية في عصره، لأنّ العصر

ـ(320)ـ

الذي عاش فيه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم شأنه كشأن باقي العصور والأزمان التي لا يمكن أن تخلو عن المصالح الطارئة التي تستدعي وضع الحكم المناسب لها من قبل وليّ الأمر، بوصفه وليّاً وحاكماً منصوباً من قبل الله تبارك وتعالى، لا بوصفه مبلّغاً للأحكام الشرعيّة الإلهية، فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلم إضافة إلى إعطائه منصب تبليغ الرسالة كان يملك منصب الحكم والولاية من قبل الله تبارك وتعالى وجاء الأمر بوجوب طاعته بوجه مستقلّ في القرآن الكريم بالإضافة إلى دخوله تحت عنوان (أُولي الأمر) حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1).

إذن؛ فلا شك في أنّه بوصفه رئيساً للحكومة الشرعية كان يمارس شؤون الحكم والولاية التي من جملتها ملء منطقة الفراغ ومعالجة المشاكل والحاجات الطارئة بوضع الأحكام والقوانين المناسبة لها وفقاً للظروف والأحوال التي كان يعيشها، غاية الأمر أنّنا اليوم - بسبب البعد الزمني عن عصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وبأسباب أُخرى - قد يصعب علينا تمييز ما صدر عنه بوصفه مبلّغاً لأحكام الله تبارك وتعالى ورسالته عن ما صدر عنه بوصفه رئيساً للحكومة ووليّاً للأمر، وهذا ممّا يؤكّد دور الفقهاء والمجتهدين في استنباط الأحكام الشرعية، لأنّ القسم الأوّل يعبّر عن أحكام شرعية ثابتة لكلّ عصر وزمان، والقسم الثاني يعبّر عن أحكام صادرة بالولاية لمعالجة شؤون ذلك العصر، وعلى الفقيه أن يبذل جهده للتمييز بحسب موازين الاستنباط وقواعده العامّة التي منها: حجّية الظهور اللفظي والظهور الحالي للمعصوم، ومنها: دور القرائن الحاليّة ومناسبات الحكم والموضوع في تحديد الظهورات و... وقد تختلف الاتجاهات الاجتهاديّة في تشخيص ذلك.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج من الأحكام التي نحتمل صدورها من الرسول

_______________________________________

1 - سورة النساء: 59.

ـ(321)ـ

الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم لملء منطقة الفراغ بوصفه رئيساً للحكومة ووليّاً للأمر، لا بوصفه مبلِّغاً لأحكام الله تبارك وتعالى، ويبقى التبنيّ لها منوطاً بخوض المباني الاجتهاديّة التي لسنا الآن بصددها:

1 - دلّ بعض النصوص على أنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن إجارة الأرض، وفي بعضها التصريح بشمول هذا النهي لصورتي ما إذا كان ثمن الإجارة عبارة عن بعض خراج الأرض أو عبارة عن النقود؛ فقد نقل الترمذي عن رافع بن خديج أنّه قال: نهانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أمرٍ كان لنا نافعاً؛ إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها (1). في حين أنّ أصل جواز إجارة الأرض في الشريعة الإسلامية يبدو واضحاً من خلال روايات أُخرى ونصوص كثيرة منقولة عن صحابة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم (2) وبالأخصّ فيما إذا كان ثمن الإجارة عبارة عن النقود. وهذا يدعو إلى حمل ذلك النهي على الحكم الصادر بالولاية لملء منطقة الفراغ بلحاظ ظروف خاصّة.

2 - جاء في النصوص أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن منع فضل الماء والكلأ، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ...»(3). في حين أنّ المعروف عن رأي جمهور الفقهاء عدم حرمة منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه

_______________________________________

1 - سنن الترمذي 3: 668، ب 42 من أبواب كتاب الأحكام، الحديث الأوّل.

2 - راجع بهذا الصدد: السنن الكبرى للبيهقي 6 كتاب المزارعة، باب بيان المنهي عنه، وأنّه مقصور على كراء الأرض ببعض ما يخرج منها دون غيره ممّا يجوز أن يكون عوضاً في البيوع، وكذلك الموطأ لمالك بن أنس 1 – 2 كتاب كراء الأرض، باب ما جاء في كراء الأرض. وكذلك شرح سنن ابن ماجه 2. أبواب التجارات، باب الرخصة من كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضّة.

3 - الوسائل 17: ب 7 من أبواب إحياء الموات: ح 2.

ـ(322)ـ

من الماء والكلأ.

وهذا يدعو أيضاً إلى حمل ذلك النهي على الحكم الصادر بالولاية لملء منطقة الفراغ، فكأنّ مجتمع المدينة المنوّرة وقتئذٍ كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فمارس النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلاحيّته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف، وإلزام أهل البادية ببذل ما يفضل من مائهم وكَلَئِهم للآخرين تشجيعاً للثروات الزراعية والحيوانية.

3 - ورد عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها، في حين أنّ المعروف لدى الفقهاء جواز ذلك ووردت فيه روايات كثيرة(1)، ممّا يدعو أيضاً إلى حمل ذلك النهي على الحكم الصادر بالولاية لأجل معالجة ظروف خاصّة، وممّا يؤكد ذلك إشارة الإمام الصادق عليه السلام إلى الظروف الخاصّة التي دعت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى النهي عن ذلك ضمن نقله لصدور النهي عنه. وإليك نصّ الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام.

«سُئل ] أي الإمام الصادق عليه السلام [ عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرضٍ فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها، فقال: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فكانوا يذكرون ذلك، فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتّى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم»(2).

إنّ هذا شاهد على أنّ النهي الصادر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكن تعبيراً عن الحرمة الشرعية، بل كان منعاً لهم عن ذلك بوصفه وليّاً للأمر، لمعالجة الخصومات التي أشار إليها.

إلى غير ذلك من النماذج التي يمكن حملها على الحكم الصادر بالولاية لملء منطقة الفراغ وفقاً لمتطلّبات عصره صلّى الله عليه وآله وسلم.

_______________________________________

1 - الوسائل 13 ب 1 من أبواب بيع الثمار.

2 - الحديث الثاني من الباب.

ـ(323)ـ

الاعتراضات على الفكرة:

وهناك اعتراضات أوردت(1) أو يمكن أن تورد على فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي)، وهي في الحقيقة ناشئة من عدم وضوح هذه الفكرة وجذورها وأبعادها وضوابطها بالنحو الذي وضّحناها، أمّا في ضوء توضيحاتنا السابقة لهذه الفكرة فيظهر الجواب على جلّ تلك الاعتراضات، ورغم ذلك رأينا من المفيد الإشارة إلى جملة منها مع ذكر الجواب ولو بصورة مختصرة:

فمنها: توهم أنّ هذه الفكرة بدعة واختراع جديد أُدخل في التشريع الإسلامي من دون دليل.

وقد وضحنا في هذا البحث بالتفصيل أنّ هذه الفكرة ليست حديثة في روحها ومحتواها وليست اختراعاً جديداً من قبل المتأخّرين - وإن كان عنوانها الخاص باسم (منطقة الفراغ) جديداً - وأنّها من مستلزمات فكرة وجوب طاعة أولياء الأمور، فإنّ طاعتهم في نفس الدائرة التي يجب فيها طاعة الله تبارك وتعالى مباشرة غير معقولٍ، فلابدّ أن تكون هناك دائرة معيّنة لطاعة وليّ الأمر غير الدائرة التي يطاع فيها الله مباشرةً، وهي الدائرة التي عُبِّر عنها بمنطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، والدليل على ذلك عبارة عن نفس أدلة وجوب طاعة وليّ الأمر - كالآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(2) – إضافة إلى ما دلّ على عدم جواز طاعة مخلوقٍ في معصية الخالق.

ومنها: توهّم أنّ فكرة (منطقة الفراغ) تعبّر عن وجود نقصٍ وقصور في التشريع الإسلامي، في حين قد ظهر من توضيحاتنا السابقة أنّ هذه الفكرة تعبّر عن كمال الإسلام

_______________________________________

1 - الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة: قراءة نقدية في كتاب اقتصادنا، ط دار الصحوة – القاهرة.

2 - سورة النساء: 59.

ـ(324)ـ

وثرائه الفكري والتشريعي، بحيث استطاع أن يعالج العناصر الثابتة والمتطوّرة من متطلّبات النظام الاجتماعي الكامل الصالح للتطبيق في مدى العصور والأجيال، ولولا وضع الحلّ المناسب من قبل الإسلام للعناصر المتطورة من خلال فكرة (منطقة الفراغ) – التي شرحناها – لما كان النظام الإسلامي صالحاً للتطبيق على مدى العصور والأجيال.

ومنها: توهّم أنّ هذه الفكرة تفتح باب التعديل والتبديل في أحكام الإسلام وتشريعاته على مصراعيه، بحجّة أنّ ظروفنا تختلف عن ظروف عصر التشريع وأنّ الأحكام الإسلامية إنّما نزلت وفق متطلبات ظروف ذاك العصر، فمن حقّ أولياء الأمور في العصور المتأخّرة عن عصر التشريع أن يغيّروا ما شاؤوا من الأحكام الشرعية بدعوى أنّها من منطقة الفراغ، وقد يؤدّي ذلك إلى تحليل الخمر والميسر والربا، أو إلى رفع حكم الحجاب عن المرأة، أو إلى دعوى التساوي في الحقوق – من الإرث وغيره – بين الرجل والمرأة، إلى غير ذلك من التغييرات التي لو أدخلت في الأحكام الشرعية لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلاّ رسمه.

وقد اتّضح الجواب عن ذلك أيضاً من خلال أبحاثنا السابقة حيث قلنا: إنّ منطقة الفراغ لم يدعها الإسلام تحت رحمة الفكر الشخصي الخاصّ لوليّ الأمر ليحدّد حدودها باختياره، ويملأها بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، بل إنّه وضع الموازين والضوابط العامّة لملء منطقة الفراغ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه الموازين والضوابط على ثلاثة أقسام:

فقسم منها يرجع إلى كيفية تعيين وليّ الأمر الذي يمارس ملء منطقة الفراغ؛ فليس لكلّ أحد أن يشغل هذا المنصب الحسّاس، بل لابدّ من توفّر الشروط والصفات اللازمة فيه كما شرحنا.

وقسم منها يرجع إلى تحديد مساحة منطقة الفراغ، وقد قلنا: إنّها تُحدَّد في ثلاثة مجالات، وهي: مجال تشخيص الموضوعات، ومجال تشخيص الأهمّ والأصلح عند

ـ(325)ـ

التزاحم بين الأحكام الشرعية، ومجال المصالح الطارئة في دائرة المباحات، أمّا في دائرة الأحكام الشرعيّة الإلزامية فلا يحقّ لـه تغيير الحكم إلا إذا تزاحم مع حكم شرعيّ آخر، فيدخل في مجال تشخيص الأهم عند التزاحم.

وقسم منها يرجع إلى كيفيّة اختيار الأحكام المناسبة لملء منطقة الفراغ، حيث قلنا: إنّ اختيار الحكم المناسب لابدّ أن يكون في ضوء المفاهيم الإسلامية العامّة على شرحٍ مضى بيانه.

وبعد وضع هذه الضوابط لا يبقى مجال أصلاً لإدخال التغيير والتعديل في الدين بالشكل المتوهّم.

وأمّا التشخيص بين الأحكام الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بوصفه مبلِّغاً للشريعة الإلهية وبين الأحكام الصادرة عنه بوصفه وليّاً للأمر لمعالجة منطقة الفراغ بالنحو المناسب لمتطلبات ظروفه وزمانه، فقد قلنا: إنّه يتبع المباني والموازين الاجتهاديّة العامّة المطروحة في علم الفقه والأصول وليس لأحدٍ حقّ الرأي فيها إلا الفقيه المتخصّص في جميع موازين الاستنباط.

ومنها: توهّم أنّ فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي) تنافي مفاد الروايات الدالّة على أنّه (ما من واقعةٍ إلاّ ولله فيها حكم)(1). بدعوى أنّ هذه الفكرة تعني أنّ الله تبارك وتعالى ليس لـه حكم معيّن في دائرة ما يسمى بمنطقة الفراغ، في حين أنّ الروايات المشار إليها تؤكّد استيعاب الأحكام الشرعية الإلهية لجميع وقائع الحياة.

ويمكن الإجابة عن هذا التوهّم بوجهين:

الأوّل: إنّ هذه الروايات إنّما دلّت على أصل استيعاب الأحكام الشرعية لجميع وقائع الحياة، وهذا صحيحٌ، غاية الأمر أنّ بعض الأحكام الشرعية تعلّق بوقائع الحياة

_______________________________________

1 - أصول الكافي 1: كتاب فضل العلم: باب الردّ إلى الكتاب والسنّة.

ـ(326)ـ

بصورة مباشرة وبعضها تعلّق بها بصورة غير مباشرة، والأحكام التي تصدر من وليّ الأمر لملء منطقة الفراغ تكون من القسم الثاني، بمعنى أنّها أحكام شرعيّة غير مباشرة، لأنّ الله تبارك وتعالى لم يأمر بصورة مباشرة بما أمر به وليّ الأمر، لكنّه أمر بطاعة وليّ الأمر في كلّ ما يأمر به، وهذا يكفي لإسناد تلك الأحكام إلى الله تبارك وتعالى ويتمّ به استيعاب الأحكام الشرعية لجميع وقائع الحياة.

والثاني: إنّ وقائع الحياة التي هي في دائرة منطقة الفراغ ستكون مشمولة للأحكام الشرعية الإلهية بعنوانين، هما: العنوان الأوّلي والعنوان الثانوي.

توضيح ذلك: إنّ ما يأمر به وليّ الأمر – كدفع الضريبة أو الالتزام بنظامٍ معيّنٍ في المرور أو نحو ذلك – يكون مباحاً شرعاً في حدّ ذاته، وإنّما يصبح واجباً بعنوان كونه طاعةً لوليّ الأمر، فهو بعنوانه الأوّلي محكوم شرعاً بحكم الإباحة، وبعنوانه الثانوي - وهي عنوان كونه طاعةً لولي الأمر – يكون محكوماً شرعاً بحكم الوجوب؛ فكما أنّ (الكذب) مثلاً بعنوانه الأوّلي حرامٌ ولكنه إذا اتّصف بعنوان (طاعة وليّ الأمر) يصبح واجباً بسبب هذا العنوان، وتلك الإباحة وهذا الوجوب كلاهما شرعيان وصادران من الله تبارك وتعالى، وفي مثل هذه الحالات يكون حكم العنوان الأوّلي نافذاً ما لم ينطبق عليه العنوان الثانوي، فإذا انطبق عليه العنوان الثانوي سقط حكم العنوان الأوّلي وأصبح حكم العنوان الثانوي نافذاً، وهو حكم شرعي صادر من الله تبارك وتعالى، وبهذا اللحاظ تكون الأحكام الشرعية الإلهية شاملةً للوقائع التي هي في دائرة منطقة الفراغ، سواء قبل صدور الأمر بها من قبل وليّ الأمر أو بعد صدور الأمر بها من قبله، أما قبل صدور الأمر بها من قبله؛

ـ(327)ـ

فإنها مباحةٌ بعناوينها الأوليّة، وإمّا بعد صدور الأمر بها فهي واجبة بعناوينها الثانوية.

وهذا – طبعاً – لا يعني أنّ أصل وجوب طاعة وليّ الأمر حكم ثانوي، بل هو حكم أوّلي ثابت في الشريعة على حدّ ثبوت وجوب الصلاة ووجوب الصوم، لكنّ تطبيق هذا الوجوب على ما هو مباح في نفسه يكون بالعنوان الثانوي، كما أنّ جواز إصلاح ذات البين بل استحبابه حكم أوّلي ثابت في الشريعة على حدّ ثبوت الاستحباب في باقي المستحبّات، لكنّ تطبيق ذلك على الكذب الذي هو حرام في نفسه يكون بالعنوان الثانوي، وهذا بحث جدير بالتوضيح والتفصيل في مجالٍ لا يسعه هذا المقال.

ومنها: توهّم أنّ فكرة (منطقة الفراغ) بالمعنى الذي شرحناه تنافي الروايات التي وردت بمضمون: «إنّ حلال محمد صلّى الله عليه وآله وسلم حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(1) وذلك لأنّه بناءً على هذه الفكرة سوف يصبح الشيء الحلال واجباً أو حراماً بأمرٍ من وليّ الأمر، في حين أن مفاد هذه الروايات ينفي وقع التبدّل في الأحكام إلى يوم القيامة.

وهذا التوهّم يمكن ردّه بالنقض تارةً وبالحل أُخرى:

أمّا الجواب النقضي فهو إنّ كثيراً من الأحكام تتبدّل من حلال إلى حرام أو من حرام إلى حلال، ومن مباح إلى واجب أو من واجب إلى مباح، ومثال ذلك أنّ الإنسان لم يكن مستطيعاً للحج – بالمعنى الشرعي من الاستطاعة – فلم يكن يجب عليه الحج، وبعد ذلك تحصل لـه الاستطاعة فيتبدّل حكمه إلى الوجوب، كما انّ الإنسان لم يكن مريضاً فوجب عليه الصوم في شهر رمضان ثمّ يمرض فيسقط عنه الوجوب ويتبدّل حكمه إلى الإباحة أو إلى الحرمة، إلى غير ذلك من موارد تبدّل الحكم بسبب تبدّل بعض قيود الموضوع، فهل هذا كلّه يتنافى مع مفاد روايات حلال محمد صلّى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة

_______________________________________

1 - أُصول الكافي 1: كتاب فضل العلم: باب البدع والرأي والمقاييس، ح 19.

ـ(328)ـ

وحرامه حرام إلى يوم القيامة ؟!

وأمّا الجواب الحلّي فهو أنّ كلّ حكمٍ شرعيٍّ لـه موضوع مقدّر الوجود، بمعنى أنّه على تقدير تحقّق ذلك الموضوع يجري عليه ذلك الحكم، وربّما يكون الموضوع مشتملاً على قيود معيّنة، بحيث متى ما تمّت تلك القيود جرى عليه الحكم ومتى ما انتفى بعض تلك القيود سقط الحكم، من قبيل وجوب الحجّ فإن موضوعه عبارة عن الإنسان الذي يكون: مستطيعاً، صحيح البدن، مخلّى السرب؛ فما لم يتمّ جميع هذه القيود لا يجري عليه وجوب الحج، وبسقوط بعض هذه القيود يسقط وجوب الحج ويتبدّل إلى الإباحة مثلاً.وهذا لا ينافي أبديّة الأحكام وعدم تبدّلها من الناحية المبدئية بالمعنى المقصود في الروايات المشار إليها، فإنّ هذه الروايات إنّما تدلّ على أنّ كلّ حكم شرعي بما له من موضوع ومن قيود ملحوظة فيه لا يتبدّل إلى يوم القيامة، ولا تدلّ على عدم تبدّل الحكم بتبدّل موضوعه أو بتبدّل بعض القيود الدخيلة في موضوعه.

ومن هنا نقول: إنّ الشريعة الإسلامية، التي أوجبت طاعة وليّ الأمر فيما يأمر بفعله من الأمور المباحة بطبعها، لا بدّ لها أن تقيّد إباحة تلك المباحات بعدم صدور الأمر بفعلها من قبل وليّ الأمر، وهذا يعني أنّ صدور الأمر من قبله بفعل ما هو مباح بطبعه يؤدّي إلى انتفاء قيد الإباحة، فتسقط الإباحة بزوال قيدها، وهذا يعني تبدّل الحكم بتبدّل بعض القيود الدخيلة فيه، وهذا لا ينافي مدلول تلك الروايات كما ذكرنا.

وأخيراً نستنتج أنّ فكرة (منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي)، وإن كانت جديدةً من حيث التسمية بهذا الاسم فإنّها في محتواها الأصلي فكرة إسلامية مطروحة من قديم ضمن فكرة وجوب طاعة وليّ الأمر، ولها ضوابط وموازينها ولا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة.

هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.