نحن والغرب والعولمة المضادة .. الصراع الحضاري المتجدد والحوار النقدي

نحن والغرب والعولمة المضادة .. الصراع الحضاري المتجدد والحوار النقدي

 

 

نحن والغرب والعولمة المضادة .. الصراع الحضاري المتجدد والحوار النقدي

 

الدكتور سمير سليمان

أستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة اللبنانية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في المنهج

في الكلام عن العولمة والسياسات والاستراتيجيات الغربية يصعب الفصل بين القضيتين بقدر ما يصعب الفصل بين العولمة والغرب.

 

صحيح أن الغرب هو المصدر والمنبثق، إلا أن هذا الغرب، مفهوماً وكياناً ومشروعاً حضارياً وإرادة سياسية، مسيل في تضاعيف وانسجة سياساته واستراتيجياته حتى لتبدو (هي) بمثابة الـ (هو) ـ والعكس صحيح أيضاً في كثير من الأحيان، وبطريقة أو بأخرى .. أو كذلك يُنظر اليهما.

 

إلا أن هذه الحقيقة ينبغي لها أن لا تجب حقيقة تأسيسية ومنهجية أخرى، وهي أن الغرب ليس معادلاً أو مساوياً للعولمة في معادلة تكافوئية:

(الغرب = العولمة).

فالغرب تركيبة أضخم وأشد تعقيداً من أن يكون مشروعاً من مشاريع ذاته وبضعة منها.

 

قد يشبه الإبن الأب في كثير من الملامح والصفات والأسرار، بمبدأ أن الابن سرّ أبيه، إلا أن الأب ليس إبنه وإن كان منه.

 

ألا يستخدم بعض اللاهوت الخاص بإخواننا المسيحيين هذا النسق المنطقي ذاته في معادلة: الأب والإبن والروح القدس، للاستدلال على أنهم من الموحدين؟

1 ـ حقل الرؤية

شكلت مسألة العلاقة بالغرب([1])، إحدى أبرز المعضلات / التحديات الموضوعية التي شغلت الحركات الإسلامية المعاصرة والحديثة. وبالرغم من الانجازات الكبرى التي حققتها حالة الاستنهاض النسبي في بلدان العالم الإسلامي كافة، وخصوصاً ما ظهر منها بعد إنتصار الثورة الإسلامية في ايران، فإن تلك المسألة الحافلة بالإشكاليات ما انفكت عقدة مستحكمة تحول دون تشكل علاقات مستقرة ومتوازنة ومتفق عليها بين الشعوب والدول الإسلامية وبين الغرب عموماً.

 

والواقع أن مسؤولية الإضطراب التاريخي في تلك العلاقات لا تقع على الغرب وحده كما لا يزال البعض يصرّ على التوهم، بل تقع ايضاً على المسلمين أنفسهم احياناً، وإن بنسبة أقل. أما رصيد الغرب من تلك المسؤولية فهو أكثر بروزاً في الجانب الموضوعي تبعاً للخلل التاريخي في معادلات النظام الدولي في الأزمنة المتأخرة لمصلحة القوى الإستعمارية والإمبريالية الغربية وسعيها المستمر الى ترسيخ عوامل ومفاعيل تجزئة العالم الإسلامي ونهب ثرواته والهيمنة على مقدراته وإرادة شعوبه وإستتباعه سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وعسكرياً لمشروعها الحضاري وصيغ الحياة المادية وقيمها ومثلها العليا التي تهدف تلك القوى الطاغوتية الى فرضها وإستلاب الأمة من خلالها وممارسة كل صنوف الإستكبار عليها.

 

أما حصة المسلمين من تلك المسؤولية فتشمل، فيما تشمل، الجانب الذاتي بشكل أساسي، وذلك واضح في الوعي أو التبسيطي أو (الشعوبي) بالغرب لدى الأكثري منهم، بحيث لا يرى الغرب إلا عالماً واحداً للكفر والفسوق والسقوط الاجتماعي والأخلاقي والتحالف الاستراتيجي مع العدو الصهيوني ومعاداة الحقوق المشروعة للشعوب العربية الإسلامية .. الخ، حتى لا يرى فيه خير إلا نادراً، كما تشمل حال الاضطراب العام في وعيهم لذاتهم وهويتهم، وفي جعلهم مشروعهم الحضاري الإلهي الذي يشتركون في الانتماء اليه جزئياً او كلياً مع الكثير من القوى والجماعات والفئات الداعية الى الحق والحرية والعدالة لأمم الأرض كافة من أحرار العالم وموالاة المدنية الحية، وعجزهم في كثير من الأحيان عن تقديم بدائل او نماذج حضارية منافسة وقابلة للتطبيق وعقلانية ومقنعة، قياساً الى الصيغ والنماذج والأنساق الحضارية التي أبدعها العقل الغربي، أو أعاد انتاجها وأرساها واختبرها وأسسها، فغدت في وعي ولا وعي الكثير من الشعوب، داخل العالم الإسلامي وعالم المستضعفين عموماً والنخب، النموذج الأصلح والوصفة السحرية الناجعة و(الوحيدة) القادرة على تطوير العمران البشري في المجالات كافة، ومعالجة العلل الاجتماعية والاقتصادية ومعضلات التخلف ـ أو أكثرها بالأقل ـ التي ترزح تحت أحمالها تلك الشعوب المستضعفة والنخب العاجزة عن تقديم البدائل الأصيلة وغير المستعارة لشعوبها. وبذلك تحققت، وعلى نطاق عالمي، الغلبة الشاملة للمشروع الحضاري الغربي ومنظوماته الديمقراطية الليبرالية وللمنتمين اليها غرباً وشرقاً والمتحكمين او المستفيدين من قانون سوقها واحتياجاتها، وإن تفاوتوا قوة واقتداراً ومكراً، او تمايزوا جنوحاً الى الاستبداد والاستحواذ والسطوة، او تغايروا في نظرتهم الى الآخر واختلفوا في نسبة ومستوى (الحقوق) والثروات التي ينبغي لهم إنتزاعها منه.

 

وإذا كانت ضرورات التحرر الوطني والتطلعات الاستقلالية قد طغت على ما عداها في مرحلتي الاستعمار القديم والجديد مما انتج بالتالي جنوحاً إيجابياً مشهوداً للتمسك بالخصوصيات الثقافية او التاريخية والدينية لدى شعوب العالم الإسلامي والدفاع عنها بلا هوادة في مواجهة الهجوم الاستعماري المعلوم والمتماهي في المشروع الصهيوني التوسعي والإستيطاني، وقدم ذلك الجنوح الإيجابي ضرورات التصدي للغرب ولمشروعه الاستيلائي الاستحواذي وللكيان الصهيوني كأولوية لا تعلوها أية أولوية أخرى في توجهاته الايديولوجية والسياسية، وذلك على أولويات تجاوز التخلف الفكري والعلمي والاقتصادي وإعادة المشروع الحضاري الإسلامي ليكون مرجعية الحياة وخيار النهوض والاستنهاض ومنهج إحياء عقلاني، فكان منه أن قدم أولوية التحرر من الخارج على تلك المنطقة بالتحرر من الداخل وبالتنمية الذاتية، وإذا كانت الحرب الباردة منذ قمة يالطا الى أواخر ثمانينات القرن العشرين قد أوهمت العالم الإسلامي وقادته ونخبه بحدوث إنشطار حضاري عمودي في معسكر المشروع الحضاري المادي المنقسم ايديولوجياً الى شرق ماركسي وغرب ليبرالي ديمقراطي، إذا كان ذلك قد حدث فأنتج انساقاً ايديولوجية وسياسية وثقافية وتنموية ذات عمق وطني او قومي أو ديني معادية للغرب او للشرق او لكليهما معاً، او متوجسة منهما او متحالفة معهما، أو ميالة الى اعتبارهما حضارتين / مشروعين حضاريين مختلفين ومتمازين يمكن الاستفادة من تناقضاتهما وضرب أحدهما بالآخر، أو الإحتماء بواحد منهما في مواجهة خصمه … الخ، إذا كان كله قد حدث فإن انتهاء الحرب الباردة وتفكك المنظومة الاشتراكية وعودة الإلتحام الحضاري الى طرفي الانشطار الغربي ليلتئما ويأتلفا من جديد بإعتبارهما مشروعاً حضارياً واحداً، اصلاً وصيرورة ومصيراً..، قد أعادت تدريجياً تركيب التوجه المنهجي والصحيح لفهم أكثر واقعية وعمقاً لحقيقة العلاقة التاريخية بين طرفي ما جرت تسميته معادلة الإسلام والغرب، وسمح بتكوين وعي عالمي وإسلامي أفضل بطبيعة المشروعين الحضاريين([2])، اللذين يضطلعان بحملهما، وازال الكثير من عوامل وظروف الاشتباه والالتباس او سوء الفهم التي لطالما أرخت بظلالها الكثيفة على تلك العلاقة وما ينبغي أن تكون عليه، وذلك باتجاه اجراء قراءة لها في ضوء التحولات الاستراتيجية الكبرى التي حدثت في الغرب وعلى أرض المشروع الحضاري المادي وأدت الى انهيار عام للنظام العالمي القديم وسقوط درامي لمعادلات ومنظومات الثنائية القطبية والتي تطاول حضورها على مدى الحرب الباردة ولم يكن ممكناً لسبل وآليات ومعايير هذه القراءة الجديدة أن تبرز في العالم الإسلامي والعربي، لولا ذاك الصعود (المفاجئ) للمشروع الحضاري الإسلامي الذي استعادته الى الواجهة الثورة الإسلامية الايرانية وقيام أول دولة إسلامية في التاريخ الحديث على انقاض الحكم البهلوي الاستبدادي، الوكيل الثاني للامبريالية الغربية في الشرق، بعد الكيان الصهيوني.

 

صحيح أن صورة العالم إبان الحرب الباردة التي انفجرت الثورة الإسلامية في سعي الى كسر معادلاتها في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كانت بخطين ايديولوجيين يتجهان وجهة واحدة ويرميان الى الوصول الى ذات الأهداف تقريباً بسياقين مختلفين، إلا أن المشروع الحضاري الإسلامي المستبعث بعد لأي ويأس شاملين في العالم الإسلامي، تمكن من إعادة تشكيل تلك الصورة للنظام العالمي والعلاقات الدولية، بإضافة وجهة منهجية جديدة ومغايرة، حتى أمكن القول آنذاك أن النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية كان برأسين منبثقين من حضارة واحدة، غير أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية الايرانية والتداعيات والامتدادات الارتجاعية التي احدثتها في كل بقعة من بقاع العالم فيها للمسلمين وجود، قد أضحى بثلاث رؤوس منبعثة من جذعين، أي بإضافة مشروع حضاري جديد الى الساحة الثقافية والايديولوجية الدولية. وعندما أطاحت الرأسمالية رأس الاشتراكية لم يعد ظاهراً في صورة النظام الحضاري للعالم سوى رأسين / مشروعين كما وسبق وأسلفنا، ولكن في معادلة فيها للمشروع الحضاري المادي غلبة شاملة بحكم التوفق العلمي الكبير الذي حققه والغنى الذي أنجزه، والتقدم المعرفي والثقافي، إضافة الى عصرية منظوماته السياسية وتطوره الإقتصادي الهائل.

 

إضافة الى التحولات الاستراتيجية التي نوهنا بها، قيض للعالم في السنوات الأخيرة، وعلى أيدي حملة المشروع الحضاري المادي أنفسهم وبسبب من المراكمة العلمية التي أحدثوها، أن يشهد ثورة تكنولوجية وفضائية ومعلوماتية ضخمة لم تألف لها المدنيات البشرية مثيلاً، وهي، بسلبياتها وإيجابياتها، قد غيرت بحق وجه العالم الحديث وراحت تضيف الكثير من صيغ الحياة الجديدة اليه وفرضت ـ موضوعياً ـ أنماطاً مختلفة من العلاقات بين البشر وصيغاً مغايرة من صيغ التبادل والتعاون والتعامل بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول، حتى أضحى وصف العالم بالقرية الكونية خلواً من المبالغة والخيال، فانفحت العلاقات بين الناس بلا حدود وقصرت المسافات بين البلدان والقارات الى درجة الصفر، فانحدرت الجغرافيا الى قيمة تكاد تكون هامشية إلا بما هي حالة حدودية تضاريسية او وطنية، وأشرعت الأبواب أمام كل الأفكار والمعلومات والمعاملات والمنظومات الاجتماعية والمثل وتحولت جميعها الى خيار فردي وانتقاء حر يسير، ليعرف العالم بذلك مرحلة تاريخية جديدة من التطور البنيوي الذي يضع فيه من يتمنع عنه او يكابر، نفسه خارج العصر حقاً، بل خارج التاريخ، وبذلك أصبحت الدعوة / الدعوات العولمية وكأنها نتيجة موضوعية لهذا التطور لامجرد سبب من أسبابه أو آلية من آلياته.

 

وإذا كنا لا نبغي في هذا المقام الخوض في تفاصيل نشأة العولمة، والاختلاف فيها، ولا في مواقف مؤيديها وخصومها، كل بغاياته ومقاصده وتصوراته، فإننا نعتقد إنه من المهم الاشارة الى أن العلومة والسعي اليها هما فكرة تاريخية عضدتها موازين القوى، او اقتداء المغلوب بالغالب (بمنهج ابن خلدون)، او اقتداء المغلوب الحضاري بالغالب الحضاري (بمنهجنا)، وتجسدت فيها مجموعة تحولات في الزمان والمكان وفي التأثير عن بعد ـ بتعبير انطوني غيدنز([3])، مما انتج جزئياً نظاماً اجتماعياً بعد تقليدي([4])، وإيديولوجية كاملة ومتخصصة اندع فيها الفكر العولمي بلا عوائق تذكر مغطياً ألوان الطيف السياسي داخل الغرب وخارجه من اليمين الى اليسار([5]).

 

إذ نقول ذلك، فإننا ممن يؤمنون بأن العولمة ظاهرة موضوعية وبعضها الكثير من نتائج انتهاء الحرب الباردة وتطور الرأسمالية، وسواء قبلها من قبل، وعارضها من عارض، فإنها قد غدت شريكاً حضارياً وسياسياً وحياتياً في صيغ معيش الأمم، المتلقي منها والمرسل. ولا نظن أنه بات من المجدي (والعقلاني؟) تجاهل نتائجها وانعكاساتها والتداعيات. وليس أدل على هذا الأمر الواقع من كون ما يسمى (بالعالم الثالث) / عالم الجنوب معولماً تاريخياً بدرجة أو بأخرى، من غير أن يعني ذلك أنه قد انشق عن تقليديته، او انفصم كلياً عن بنى علاقاته وصيغ حياته المحافظة. ووجود العولمة او عدمه وجودها لا يلغي في شيء حقيقة كون العالم الإسلامي بخاصة والعالم الثالث بعامة، عالمين يحملان الكثير من قابليات الاستتبات الايديولوجي والسياسي والاقتصادي المعولم.

 

ونضيف هنا: إنه إذا كان دعاة العولمة او خصومها قد حاروا في تفسيرها والوعي فيها بين السياسي والاقتصادي الى الاثنين معاً، فإننا نميل الى الاعتقاد بأن العولمة ظاهرة حضارية بالمعنى الذي كنا قد نوهنا به آنفاً، إذ إن الحضاري / الثقافي من وجهة النظر هذه، هو منشأ السياسي او الاقتصادي، او كليهما. وبالتالي فإن العولمة إن كانت قد صنعت أدوات الاستحواذ والهيمنة ودينامياتهما، فإنها ـ وربما عن غير قصد من سدنتها ـ أفرزت في المقابل أدوات ثقافتها وتفكيكهما ودينامياتها، فاستُحضر الكل في الجزء، واستكن الجزء في الكل، وتحررت علاقات الأفراد والجماعات من قيود الزمان والمكان لمصلحة اوسع سوق لتداول كل شيء بدءاً بالسلع والأشياء ورؤوس الأموال والأسهم، وصولاً الى الافكار وردات الفعل والعواطف وعقود الزواج([6])، التي جعلتها تكنولوجيات الإتصال بمثابة الحضور المادي بمفاعليها الحقوقية والقانونية كافة.

 

وللمصابين بالإرهاب / الإرهاب العولمي نقول: سواء أكانت العولمة حالة موضوعية كما رأينا إليها، أو قدراً دائماً أو مؤقتاً، فإنه لا يضيرنا أن ندرسها بعمق، وأن نعيها وعياً موضوعياً بأبعادها كافة فنختار منها ـ في الأقل ـ ما يلائمنا وينسجم مع قيمنا وينضوي تحت لواء مشروعنا الحضاري الإنساني، وفي كل حال .. ما الضير في عولمة العلم والمعرفة والتكنولوجيا والمعلومات؟

 

وما الضير في عولمة الحريات والديمقراطية وتداول السلطة سلمياً؟

 

وما الضير في عولمة حقوق الإنسان؟

 

وما الضير في عولمة قيم التكامل والتعاون والتعارف بين الشعوب والأمم؟

 

وأنى يكون الخطر في تعميم رفع الظلم والتهميش والتمييز الديني والعنصري والاقتصادي؟

 

أمام هذه التحولات التي طرأت مع غروب القرن العشرين، والقفزات العلمية الكبرى التي حدثت ومنها الثورة الجينية الواعدة بثورة اخرى في حياة البشر، ثمة انجاز تاريخي آخر من إنجازات الطفرة التكنولوجية الحديثة، لم يعد ممكناً لأحد، وخصوصاً في العالم (غير الممكن) او غير التقاني الذي يستهلك التكنولوجيا والمعلومات ولا ينتجها ـ او العالم الثالث سابقاً او عالم الجنوب لاحقاً، أن ينزوي أو يتخذ مهرباً من الآخر بكل انماطه([7]): الآخر الايديولوجي، والآخر الديني، والآخر الاثني او العرقي، والآخر السياسي، … الخ، فلقد بات الآخر المتنوع، وخلافاً للأعصر السالفة، حاضراً في الذات باستئذان تارة، وبغيره تارة أخرى، وغدا حاجة وضرورة أكثر من أي وقت مضى، تتشكل العلاقة به من دون وسائط منهكة او مكلفة او بعيدة، وخارج الأطر والنماذج التقليدية التي تفبركها المؤسسات الاستعمارية الكلاسيكية نماذج مدروسة ومخطط لها، او بصور وأشكال بنمطية معروفة الأهداف والمقاصد …

 

علاقة الذات بالآخر إذن، اضحت بلا قيود او محددات مفروضة ومقررة سلفاً… إن هذه المفروضات او قل بعضها باتت أكثر من أي وقت مضى ممكنة الخرق والتهافت، وذاك يتيح للبشر قاطبة ان يستعيدوا في مناخ من فوضى الاتصال الرائجة بعضاً من أصالتهم الإنسانية وأن يتعارفوا مباشرة كما هم، وكما يريدون أن يكونوا، بلا أوهام او تصورات قبلية، وذلك بالرغم من بعض المحاولات العولمية المشبوهة الداعية الى تعميم النموذج الواحد في كل الشؤون لمصلحة كارتل أممي متعددة الاختصاصات.

 

2ـ الذات والآخر … عالم جديد برؤية جديدة في ضوء المواجهة الثقافية والسياسية

 

ولا نريد في هذا التنويه بثورة الاتصالات وتكنولوجيا الفضاء والمعلومات ومفاعيلها العولمية أن لا نرى في مستجداتها وطوارئها، إلا النفع العميم والخير الناجز والايجابيات المتفردة فحسب للناس كافة، فنحن نعرف ـ بالمقابل وفيما يعني الحركات والقوى الإسلامية الحالية تحديداً ـ أن تلك الانجازات الانسانية اللامعة والعبقرية هي سلاح ذو حدين يصلح أحدهما ليكون وبالاً عليهم كإسلاميين استنهاضيين وتهديداً وجودياً للمشروع الحضاري التغييري الذي يحملونه وذلك لمصلحة المشروع الحضاري المادي المضاد الذي ينافسه، لكن حده الآخر ـ وهذا ما لا ينبغي تجاهله او إحتمال اهميته وتأثيره ـ يتيح للمشروع الحضاري الإلهي لو عرف أهلوه الاستفادة ـ ولو بغير قصد او تخطيط من الأول على الأرجح (كما سبق وذكرنا)، المجال لتقديم نفسه كما يحلو له وأن يعرف بمنظوماته وأفكاره وقيمه من غير تشوه او تشويه، وان يحلق فوق المسافات والدنى بغمضة عين ليدخل الى جناح كل مريد، ويرد على تساؤلات كل متسائل، ويستجيب لكل مطلب ممكن يطالب به مطالب في أقصى الأرض، وينقد ويفند حجج ودعاوى المنظومات والاعتقادات المناوئة، ويجلو الكثير من الأضاليل وسوء الفهم التي كانت تحيق به، ولعلنا لا نضيف جديداً إذا لاحظنا هذا التمدد والانتشار المشهودين لاستخدام تكنولوجيا المعلومات على نطاق واسع بين ظهراني دعاة الاعتقادات والأفكار والعاملين على تبليغها ونشرها.

 

ومع ادراكنا العميق لطبيعة التوترات والتوجسات بين الإسلام والغرب والإرث الثقيل من المواقف الثقافية والايديولوجية والسياسية التي حكمت وتحكم العلاقات فيما بينها، ومع وعينا (المتقدم) لمحاولات المؤسسات السياسية في الغرب، محاصرة العالم الإسلامي ومشروعه الحضاري ونواياها ودأبها في الهيمنة على ارادته وثورته، ومع إدراكنا العميق بأن موجات العولمة الإكتساحية تسعى الى تنميط العالم وإنتاج نموذج إنساني واجتماعي كوسموبوليتي قد يفضي الى اغراق الخصوصيات الثقافية وطمر القيم الثقافية للشعوب المستضعفة وتحويل العالم الى سوبرماركت او مقرات مركزية للعلاقات العامة والاستثمارات … مع إدراكنا لهذا كله، فإننا نعتقد بإستحالة بقاء المشروع الإسلامي وأتباعه مجرد منفعلين هامشيين او سكونيين او تائهين عن التحولات التي أشرنا اليها. بل إننا نرى أن ثمة فرصة هامة متاحة لإحداث إختراق ـ او اختراقات ـ في كيان المشروع الحضاري المادي ومعتنقيه وفي أسواره الثقافية، وفي تغيير الصورة النمطية التي تكونت عن الإسلام والمسلمين بفعل الأوهام الإعلامية المتقنة سياسياً التي روجتها او روجت لها وسائل الإعلام الغربية التي لليهود فيها نفوذ لا يعلو عليه نفوذ.

 

لقد لاقانا احرار الغرب والعالم ومواطنينا الحية والمستقبلية إبان التحضيرات الاميركية البريطانية الاخيرة لاحتلال العراق في منتصف الطريق – حتى داخل الولايات المتحدة وبريطانيا نفسيهما – ورفعوا اعلى الصوت ضد الحرب على العراق وشعبه، وضد فرض الخيارات السياسية والثقافية والاقتصادية على الشعوب بالقوة وبالحديد والنار، واعلنوا تشبثيهم بالسلام والحلول السلمية للنزاعات، ورفضهم سياسات التسلط والعسف والاكراه.

 

لكأن العالم يتهيأ لنمط جديد من العولمة لما تكتمل ملامحه ولامشروعه الاممي بعد.. لكنه نمط يتجه اتجاها معاكسا (نسبيا) لنهج العولمة الرأسمالية التي الفناها في العقد الاخير من القرن العشرين والسنتين الاوليين من القرن الواحد والعشرين. وقد لانبالغ اذا زعمنا ان هذه العولمة المستجدة هي ضرب من »العولمة المضادة« يمكن لنا وصفها بأنها (عولمة للعدالة والسلام). ولاندري بعد ما اذا كان القياس بالديالكتيك الهيغلي في هذا السياق ممكنا.

 

ثمة ظاهرة اخرى مستجدة شهدناها ايضا خلال (الحرب) الدبلوماسية والسياسية التي مهدت لتفرد الولايا المتحدة وبريطانيا وحلفائهما الدوليين القلة في الاضرار على الذهاب الى الحرب، رضيت الهيئات الدولية ام لم ترض، وهذه الظاهرة تتمثل في التصدع داخل الجبهة السياسية للغرب من خلال تمرد بعض اوروبا، مثلا بفرنسا والمانيا وبلجيكا، على التوجه الاميركي – البريطاني.

 

لاننزه هذا التمرد الاوروبي عن الخلفيات ولعبة تناقض المصالح. لكننا بدأنا ننصت على اثرها في الغرب الى تنظيرات من مفكرين استراتيجيين ترى الى ما حدث باعتباره سقوطا لوحدة الغرب الاستراتيجية واستمرارها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا([8])، والى ان الوقت قد حان (للتوقف عن الادعاء بأن الاميركيين والاوروبيين يتقاسمون رؤية واحدة للعالم) ([9]).

 

صحيح ان الحرب العسكرية على العراق قد انتهت باحتلاله، وستنتهي ازمة العلاقات بين الطرفين الاميركي والاوروبي الى اعادة تطبيعها، غي ران (الفوارق في المسائل الاستراتيجية لن تتوقف) في رأي اولئك المنظرين([10]).

 

وسواء صحت توقعاتهم ام لم تصح، فليس لذي بصيرة ان يغفل عن ان التشقق في ما درجت ادبياتنا السياسية على تسميته بـ (الغرب) ليس شأنا خارج نطاق الممكن، وان ما كان بعيد الاحتمال بالامس ليس كذلك اليوم. وبالتالي فان اي مشروع غربي للهيمنة، وبقطع النظر عن اية قوة عظمى تقوده، ليس محصنا من تشقق دعاية والمستفيدين منه، ومن انهيار مفاعيله السلبية وارتخاء قدرته على فرض نماذجه وتحويل الانسان الاجتماعية والحياتية للآخرين الى ما يتلاءم مع مصالحه واهدافه..

 

ولانريدها هنا ان نغرق في التفاؤل .. لكن ما نستطيع الشهادة له ان ثمة ظاهرة عولمية ايجابية وواعدة قد ولدت في مواجهة عولمة قوى السئوق وقوانينها. مما قد يفضي، بما توفر له من صدقية سياسية واخلاقية نسبية، الى تشكل نمط علائقي جديد بين قوى المجتمعات المدنية في شتى.

 

الاقطار، مما قد يبشر – اذا توفرت بعض الشروط الذاتية والموضوعية المساعدة – بتحول تلك القوى لاحقا الى كتلة ضغط مدني عالمية قادرة بنسب متفاوتة على احداث تغيير في سياسات القوى العظمى تجاه القضايا والحقوق العدالة لشعوب المستضعفة.

 

انها فرصة قد لاتعوض لاقامة هذه الجبهة العالمية لاعادة الحد الادنى من التوازن للعلاقات الدولية، اذا لم نحسن جميعا استغلالها، وبخاصة الإسلاميون المستنيرون وحركاتهم الاستنهاضية.

 

ومن لطيف المصاديق في التدافع بين الحضارات، ان الحرب الاميركية  – البريطانية على العراق لم تكن صداقا بين الفحضارات – كما حلا لبعض الباحثين والمحلين ان يتوهموا – بدليل وقوف تيار جماهيري دافق من داخل الكتلة الحضارية الغربية ذاتها ضد تلك الحرب. ولانستبعد – اذا قيض لهذا التيار ان يتنامى ويعضد من داخل ومن خارج – ان يكون له في المستقبل غير البعيد انكاسات ايجابية على صورة الإسلام والمسلمين النمطية في بنية المخيال والوعي الغربيين بالرغم من مواقف ومخططات المؤسسات السياسية الغربية واجهزتها والاعلام النمطي الذي يسوق خطابها ومواقفها.

 

لقد آن لنا ان ندرك بان الديمقراذية ولادة للمجتمعات المدنية في الغرب، وان القوى الحية في هذه المجتمعات هي الوجود بالقوة للتحول في موقف تلك المجتمعات من قضايانا المحقة.

 

ولايخافن احد من مصطلح مفهوم المجتمعات المدنية والعلاقة بها الذي غدا موضع حساسية وتوجس الكثيرين عندنا بلا مبرر وجيه او مقنع. فبعض مظاهره الاساسية لطالما كانت معروفة في المجتمعات المسلمة القديمة والحديثة، ومجتمعاتنا اولى بتجسيد مضمونه قبل اية مجتمعات اخرى.

 

ان المجتمع المدني، هو بمصطلح علماء الاجتماع: الفضاء الاجتماعي الذي لايخضع للسلطة السياسية بشكل مباشر، ولا يذعن لاجهزتها الرسمية، بل ينأى عنها حتى حدود الرقابة عليها ومحاسبتها.

 

والمجتمع المدني هو جميع الهيئات والمؤسسات والتنظيمات والقوى الحية التي تتصل بادارة جوانب هامة واساسية في حياة الفرد والجماعة، وتنظم انشطتها. وتحدد مواقفها بقدر مشهود من الحرية والاستقلالية.

 

في التاريخ العلائقي الصدامي بين الإسلام والغرب كانت المجتمعات المدنية الغربية مؤتلفة مع مؤسساتها السياسية في المواجهة الشاملة التي حدثت في بعض الحقب مع المسلمين، وكذلك كانت حال المجتمعات المدنية والمؤسسات السياسية في الجان المسلم في بعض المراحل والحقب. ولامفر من بذل الجهود اللازمة لفك ذلك الائتلاف تدريجيا، والضغط الدائم في هذا الاتجاه، وما كنا المحنا اليه سابقا من استفاقة وعي وضمير الرأي العام الدولي حيال الحرب على العراق، هو اول الغيث في هذا السبيل.

 

ان بيننا وبين الغرب تاريخا متطاولا من التنازع الايديولوجي والسياسي والعسكري والديني احيانا فضلا عن الممانعات الاخلاقية والفلسفية غير ان هذا التنازع مكتنز ايضا بالكثير من عوامل سوء الفهم المتبال التي شكلت في بعض الحقب بنية تحتية او خفائض (وخاصة من جهة الغرب والنخب الغربية)، صالحة للاثارات العدوانية والهروب والتصورات السلبية المقررة سلفا. والدارس الموضوعي، قبل التنافر والتناحر السياسيين والايديولوجيين وبعدهما، ومن الطرفين، اذ يعاود النظر في المشروعين الحضاريين: المادي والالهي الإسلامي يعثر فيهما على نقاط كثيرة مثيرة للتباين والاختلاف، لكنه يجد فيهما وبينهما – بالمقابل – الكثير من القواسم المشتركة التي يحسن الانطلاق منها والبناء عليها ف يالتوجه الى الآخر، دون ان يعني ذلك التماهي فيه والانصياع والاذعان لارادته والارتخاء في براثنه وتصديق خدعه وجعله قادرا على فرض املاءاته ومصالحه. ولقد اضافت مستجدات الاعصر المتأخرة الى تلك القواسم هموما ومسؤوليات واعاء مشتركة جديدة، لامحيد عن مواجهتها والتصدي لها بتصور وآليات وجهود وامكانيات وتعاون متبادل.

 

ولايبدو لنا في فهم علاقة (المسلمين) بالغرب وفيما ينبغي لهذه العلاقة ان تكون عليه افضل من الشعار القرآني  الذي رفعه واكد عليه الامام الخميني(قدس سره): »لاتظلمون ولاتظلمون« ولا في وصف الواقع الحضاري والاجتماعي للطرفين، ادق من عبارة الشيخ محمد عبده: »ذهبت الى الغرب فوجدت إسلاما ولم اجد مسلمين، وعدت الى الشرق فوجدت مسلمين ولم اجد إسلاما«.

 

3 – العولمة.. الحضور النقدي

 

بينما تحضر العولمة بنماذجيها الكونية الكوسموبوليتية في دورنا وامزجتنا وتتغلغل في نسيج ثقافتنا وحياتنا وتتدخل فيما نحب وفيما نكره، وتتمدد غلبتها في مغلوبيتنا، فان الرد عليه من قبل المغلوبين لايكون باضافة (لا) جديدة الى (لاءاتنا) السابقة لكل ماهو غربي لمجرد كونه غربيا، كما لايكون الرد بالغياب الحضاري ما دام حضورنا المادي معلوما موضوعيا. فلا فراغ في الكون، وان لم نسد (فراغاتنا) فسيملأها الآخرون حتما وقسرا، وسنفقد اي فرصة في استعادة الحد الادنى من التوازن مع المشروع العولمي، وقد امسى واقعا في وجوده وشبكة نفاذه ونفوذه، لكنه واقع غير ثابت دائما وفي كل الشؤون والمسائل، كما ان الحقل العولمي وموقع اختباره ليسا مؤاتيين على الدوام.

 

ان سؤال اين الـ(نحن)؟ يظل مشروعا في وجود الـ (هم) الموضوعي.

 

ان كوننا مجرد ردة فعل على كثير من الفعال التي تصيبنا، وان كوننا في موقع الاستلاب والضحية، لا يغفران – ولايبرران – البتة لنا الغياب، ولا الاستسلام والاكتفاء بالصراخ (الخافت؟!) نتيجة لما يعصف بنا وحولنا. فليست (التجربة) العولمية اول ولا آخر المطاف في علاقة اللاتوازن المتفاقم بيننا وبين التفوق الغربي. واذا كانت لنا مع تلك التجاريب هزائم، ونحن على ما هو مشهود من تهافت وتخلف ومواجع ضعف، فان لنا ايضا تاريخا من الممانعة والمقاومة ينبيء بأن مسؤولية الهزائم تتحملها، في الاعم، النخب التي اضطلعت بأعباء المواجهة (في حال وجودها) لا الامة بأسرها. اما عندما كانت الامة هي المعنية بالمواجهة فان احدى النتيجتين كانت المآل: اما جعل انتصار الخصم صعبا ومنهكا وظرفيا، واما الحاق الهزيمة به ودفعه الى الانكفاء، او حتى الى فرض الاندحار عليه.

 

ان للهزيمة شروطها.. لكن للمقاومة شروطها ايضا.. كما لها ادواتها ومستوياتها وخطتها واعدادها، وفي طليعة ذلك كله المعرفة الوثيقة بمن، وبما نواجه .. وليست مشاريع الهيمنة العولمية خارج سنة نقاط الضعف ونقاط القوة، ولا خارج سنة الايجابيات والسلبيات.

 

ولاريب في ان قدرة المغلوب على الاختيار بينها ليست مطلقة، بيد انها ايضا غير معطلة بالكامل. فاستعادة مجتمعاتنا بعضا من سيطرتها على اقتصادها والخروج من هوس الاستحواذ والانحطاط الثقافي والسياسي والاجتماعي ليسا شأنين مستحيلين([11]).

 

أما البدائل المجدية والمقنعة والمتفق عليها فهي مسؤولية الرافض أو الممانع وبذا وبغيره يتشكل حضورنا في الساح العولمية، أو بعضه في الاقل.. وأما الاستنكاف والحرد المجانيان، فشعوب العالم الإسلامي والعربي أدري بنتائجهما والمحصلات، ولن يغيرا من العولمة الواقعة وفيها شيئا.. ولعلهما يقدمان خدمة جليلة لها ولاستحكامها.

 

صحيح الكثير مما يقال ويكتب عن المشاريع العولمية واهدافها.. الا ان الصحيح ايضا ان (السباق الكبير الى الاستهلاك) ([12])، في ازمة، وان الشعور بالهامشية والاحباط والمرارة والقهر باتت كلها اشد وطأة في العالم اليوم من الفقر والجوع والامراض والحروب([13]).

 

فليست الطريق العولمية سالكة وآمنة الا جزئيا. وكنا قد اشرنا آنفا الى ان الاعتراض على مواقف وممارسات المؤسسات السياسية الغربية وجحنوحها العولمي قد بدأ يراكم تجارب احتجاجية جعلت بعض الحكومات الغربية تقف في واد، بينما تقف شعوبها في واد آخر.

 

فالدارونية السياسية والاقتصادية والعسكرية والزعم بأن البقاء للاقوى وان الضحية تستحق مصيرها لم يعودا في سوق التداول بلا  منازع.

 

اما الفكر السياسي والفلسفة السياسية في الغرب فيما فتئا يرفعان وتيرة نقدهما الذاتي ويدعوان الى نظرة مغايرة لاداء اقتصاد الاعلام الموجه، ولطريقة تصوير ما يحدث في العالم الثالث بضغوط ايديولوجية.. حتى ان اصواتا مستنيرة قد بدأت تلقي تجاوبا شعبيا عندما رحت تدعو الى اعادة النظر في وعي الغرب بالعالم. وهذا شأن كان حتى الامس القريب بمثابة المحرم، او في عداد غير المفكر فيه، الا في النادر من الحالات والنماذج. وانها لمهمة محفوفة بالصعوبات لان جميع العادات والاعراف والمصطلحات الثقافية هي بلسان هؤلاء الحداثويين الغربيين الجدد (من مخلفات العالم القديم) ([14]).

المهيمن فكره على المؤسسات السياسية في عدد من دول الغرب والموصوف هناك باليمين الذي يعتبره انطوني غيدنز راديكاليا اذ يدعو الى التغيير عن طريق الجراحة الراديكالية([15]).

 

ان الحضور النقدي للمسلمين والعرب في المشهد الدولي المعولم يعني حضور المواجهة التي لاتستقيم في رأينا الا بالتوازي في العمل باتجاهات عدة في الوقت نفسه:

أوّلاًً : ذاتيا وداخليا

وذلك من خلال القيام بخطوات التحصين الآيلة الى تعزيز عوامل الممانعة للسلبيات العولمية. ولعل في طليعة تلك الخطوات الآتي:

 

1 – ضرورة تحديث وعصرنة آليات ودنياميات المشروع الحضاري الإسلامي (اصولا وفقها وعلم كلام وموضوعات) بما يتلاءم والتطورات الحديثة في جميع المجالات، لاسيما منها قضايا الحريات العامة والخاصة، والمرأة، والاقتصاد وآلمان، والتكنولوجيا والفنون والآداب.. الخ.

 

2 – المبادرة العاجلة الى توفير جميع الشروط الآيلة الى اقامة حوار داخلي موضوعي بين الحركات والقوى الإسلامية بهدف تكوين رؤية مشتركة (في الحدود الممكنة) تطمح الى التوحد للمشروع الحضاري الإسلامي وللدين الإسلامي نفسه حتى لايبدو مجموعة من الإسلامات المتباعدة (يجب الاقرار بهذه الحقيقة الكارثية) التي تختلف فيما بينها في كثير من المشؤمات الاساسية بدءا من الهوية ووعينا لذاتنا وصولا الى الحداثة وحقوق الانسان والوعي الآخر وسبل التحرر وبرنامج الاولويات واقامة العداوات او الصداقات او التحالفات ونظن اننا في أسوأ حال امام: الإسلام الاميركي والإسلام على طريقة ابن لادن، والإسلام الصدامي، والإسلام السوداني، والإسلام الايراني، والإسلام الباكستاني، والإسلام الطالبان، وإسلام ماليزيا.. وإسلام تركيا.

 

3 – فتح اوسع الابواب للنقاش الداخلي لجميع قضايانا باتجاه تأمين اوسع مشاركة وتكالم بين قوى المجتمع المدني باتجاه تكريس سلم اجتماعي بين مختلف الجماعات الايديولوجية الاتنية والدينية والسياسية، وباتجاه تقريب المواقف والرؤى من كل شؤوننا وتشكيل كتل ضغط و تحريك لقوى المجتمع كافة، وتوفير افضل الآليات والديناميات الديمقراذطية لتحقيق تلك الاغراض ولتداول السلطة سلميا.

 

4 – استكمالا للبند(2): لعل في اولويات ديناميات تنميتنا المدنية ضرورة قيام احزاب ومرجعيات اهلية متعاونة ومتكاملة لتكون بمثابة وجعيات للرأي العام في شتى الشؤون العامة والوطنية، تكون قادرة على تفعيل دوره، وتنظيم حراكه، ورص صفوف فئاته كافة في وجهة واحدة على طريق تحقيق الاهداف المشتركة.

 

5 – توثيق العلاقات، بخاصة، بالمرجعيات الدينية غير المسلمة وبمواطنينا غير المسلمين (المسيحيين تحديدا) على قاعدة المساواة التامة في الحقوق والواجبات مع مواطنيهم المسلمين، وعلى اساس اقامة اصح تعارف ديني واجتماعي ووطني وحقوقي.. بين الملتين بهدف تكوين بنية اجتماعية وسياسية متراصة ووحدة وتكامل وطنيين في المجالات كافة. ففي قناعتنا ان مواطنينا المسيحيين، بعد توحدنا الداخلي والوطني، هم بعض اهم عدتنا في احداث اختراق مؤشر في اوساط الرأي العام المسيحي في الغرب وفي ترشيد او تصويب علاقاته بالعالم العربي والإسلامي، ما سيقدم افضل العون للجهود المشتركة في احباط المشروع العولمي الامبريالي او اعاقته.

 

6 – لم يعرف تاريخ المدنية الإسلامية نهضة وتنويرا وازهارا الا من خلال ابداعات فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ومثقفين وفنانيها.. الذين كانت لهم اياد بيض في استنهاض اوروبا في حينه.

 

ولعل احد ابرز ظواهر انحطاط هذه المدنية وتعثرها في مشهد الازمنة المتأخرة يتجلي في ان اكثرية هؤلاء: اما مستتبعون مستأجرون لخدمة السلطان فأهدروا في هذا الموقع مواهبهم وكفاءاتهم، واما مهمشون لاحول لهم ولاقوة، واما كتاب اعمدة في الصحافة اليومية تؤسس كتاباتهم لاشخاصهم اكثر مما تؤسس لوجهة فكرية يراكم كمها نوعها فتحدث في محيطها الاجتماعي مخاضات وعي واستنهاض مبشرة، واما موظفون او معلمون محترفون تاكلهم هواجسهم اليومية، واما مهجرون في ياسبورا علمية وثقافية تطوي البلاد بحثا عن حرية عزيزة او حياة كريمة.. واما.. واما..

 

ان امر هذه المدنية الإسلامية لايصلح في رأينا، الا بكثير مما صلح به اولها. وما لم تستعد الامة لنخبها العلمية واثقافية والابداعية دورها الاستنهاضي، فالكبوات ولادة اخواتها. وكيف لجماعة مواجهة مشاريع عولمية تنبض علما وتقنيات وخبرات واختصاصات معمقة وتخطيط استراتيجي بغير هذه الاسلحة المواضي؟!..

ثانيا: في الدائرة الدولية

أ – القيام بأوسع الحملات باتجاه المجتمعات المدنية الغربية (لقد جربنا عشرات السنين من الترك والاهمال للرأي العام الغربي فلنجرب بضع سنوات باتجاه مختلف).

 

ب – المبادرة السريعة الى تقوية وتعزيز اوسع اعلاقات مع المرجعيات المسيحية في اوروبا واميركا، وبخاصة المرجعيات الكاثوليكية وعلى رأسها الفاتيكان الذي كان له باع طولي في التأثير على مسيحيي العالم وجعل الكثيرين منهم ينخرطون في الحملة المناهضة للحرب على العراق واعتبار هذه الحرب شرا مستطيرا.

 

ذلك كله في اتجاه تصحيح صورة المسلمين والإسلام في الذاكرة والوعي المسيحيين في العالم، وبهدف اقامة حوار بناء لبيان المشتركات الكثيرة وكشف مجالات التقارب، مع السعي الحثيث الى محاصرة او تعطيل تأثير الجماعات المسيحية المهودة في الغرب على الرأي العام واستشراء تغلغله في وسائل الاعلام المتنوعة الاختصاص.

 

يقتضي التعقل والحنكة ايضا فتح ابواب الحوار حتى مع تلك الجماعات المهودة باتجاه مساجلتها في معتقداتها وقناعاتها المحرفة او المنحرفة، وتأويلاتها الطائشة وبعضهم لاقى من صنوف العنت الكثير.

 

ج – في السياق نفسه نشير الى ضرورة بذل كل جهد ممكن لتوسيع دائرة التمييز في فكرنا وخطابنا السياسيين والثقافيين والاعلاميين بين اليهودية والصهيونية.. وهذه قضية خلافية قيل وكتب فيها وعنها الكثير.. ولقد آن اوان الحسم فيها على قاعدة التمييز الذي ماجر نقيضه على قضايانا الا المزيد من الارباك واصطناع الاعداء بكلفة مرتفعة. فلا يؤخذن الصديق، او الحليف، بالعدو، ولا الصحيح بالسقيم. فبين الشخصيات والقوى الداعية الى السلام ولوازمه في العالم رجال ونساء كثر ممن ينتمون الى اليهودية غير التحريفية، أو الى اليهود العلمانيين، او هم من الذين يقفون الى جانب حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقاومة محتلي ارضها وبخاصة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين.. او هم من المناهضين المشهود لهم بالصدقية في معاداة الصهيونية والفاشية ومواجهة الجنوح العولمي انى تكن توجيهاته.. وبعض من هؤلاء قد لاقوا العنت والهوان وصنوف الاضطهاد من الصهاينة، او المتصهينين الكثر، ولايزالون..

 

نرى الى انه بات يهدي ما اوردنا، بات بحكم المستحيل ان تغيب السياسات الغربية الجائرة المعتمدة حيال قضيانا، عربا ومسلمين، كما حيال قضايا المستضعفين في العالم، عن الأجندة، علاقاتنا الدولية. وبالتالي فان كل استراتيجية او سياسة عولمية تخرجهما اليد السوداء للامساواة الكونية ستظل عندنا وعند اصرار العالم بلاشرعية، ولن تستولد الاستقرار الدولي الذي تتوهمانه، بل الانفجار تلو الانفجار([16])، ولن يكون اصحابها انفسهم في مأمن من شظايا تلك الانفجارات([17]).

 

وفي كل حال، ينبغي – في رأينا – لعلاقاتنا بالغرب (الكلي او الجزئي) وبأي طفوح عولمية تصدر عنه، بالجملة او بالمفرق، ان تخرج عن مجموعه مسلمات استراتيجية هي الآتية:

 

أ – رفضنا ومواجهتنا لاي نظام دولي او اي مشروع عولمي يقوم على اساس الغائنا ومصادرة حقوقنا وشطب خصوصياتنا الاعتقادية والاخلاقية والاجتماعية.

 

ب – مواجهة كل انماط تدخل المؤسسة السياسية الغربية، او محاولات تدخلها، في شؤوننا الداخلية وفي سعيها الى فرض املاءاتها السياسية علينا.

 

ج – مواجهة محاولات هيمنتها على اقتصادنا ونهب ثرواتنا واستتباعنا بعناوين وشعارات نفاقية تدس السم في الدسم.

 

د – مواجهة تحالفها مع اسرائيل وامعانها في المشاكرة والاعانة على احتلال فلسطين وتشريد اهلها.

 

هـ – الحؤول دون منعنا من السعي الجاد الى انماء مجتمعاتنا وتعطيل عوامل استضعافها، والى امتلاك جميع وسائل القوة والمنعة التي تكفل تطوير قدارتنا المادية والعسكرية بما يضمن تحسين جاهزيتنا للدفاع عن بلادنا وحقوقنا ضد اي اعتداء، من اي نوع ومن اي مصدر جاء.

 

و – استعدادنا الدائم للانخراط في كل مشروع يعولم الحق والعدل وقيم الخير والسلام والحرية.

الهوامش:

([1]). ليس المقصود بالغرب هنا تلك الكتلة التقليدية الديموغرافية والاقتصادية والثقافية والدينية التي تضم الأميركيين وأوروبا وأوقيانية ومجالها الجيوسياسي، بل تلك المنظومة من الدول والجماعات المنتمية إيديولوجياً الى مشروع حضاري واحد تعبر عن مواقفه ورؤيته للعالم وصيغ العمران البشري، المؤسسات السياسية الغربية وقوى المجتمع المدني التي اختارت نخبها القيادية وتتبنى اطروحاتها ومشاريعها الكونية ونظرتها الى مجالاتها و(مصالحها الحيوية) في العالم، حتى ولو كان من شأن ذلك إنتهاك حقوق الآخرين، وحرياتهم واستقلالهم والهيمنة على إرادتهم وثرواتهم وخياراتهم الاعتقادية والاجتماعية.

([2]). نعني بمصطلح (الحضارة) هنا مجموعة الغايات والأفكار والمعايير ومنظومات القيم والمثل العليا التي تكون مفهوم الإنسان لنفسه، ونظرته الى الوجود وما وراء الوجود، وتصوره لعلاقات البشر وصيغ الحياة ونظمها، ومنتج سلوكياتهم وأفعالهم ومواقفهم وتطلعاتهم، وتنظم إجتماعهم ووسائلهم في هذا العالم، بحيث لا تنفصل الغاية عن وسيلتها.

هذه المكونات هي بمعنى آخر: المشروع الحضاري الذي يشكل وعي الناس وكيانهم الفلسفي والثقافي والأخلاقي والمعياري، ويلتزم المؤمنون به تحقيقاً دينامياً، وصولاً بالإنسان الى التكامل في بناء ذاته والتسيد على مصيره والاضطلاع بمسؤولياته في هذا العالم. وعلى هذا الأساس، فإن المشروع الحضاري الإسلامي هو الإسلام ومفهومه التوحيدي للوجود والحياة. ويعني هذا المفهوم التوحيدي وعي العالم بإعتباره لم يخلق إلا بمشيئة الهية، وإن نظام الحياة الأصلح لا يقوم إلا على أساس الشرعية الإلهية القائمة على الخير والحق والعدل والرحمة والبلوغ بالموجودات الى كمالها وتكاملها. وبذلك يجعل المشروع الحضاري الإسلامي، الناهد دائماً الى التحقق والى تغيير الحياة، لهذه الحياة معنى وهدفاً وجدوى.

بهدي هذا التحديد للحضارة / المشروع الحضاري، وفي ضوء تصورنا لنظرة الإسلام والأديان السماوية للإنسان والتاريخ والصيرورة الاجتماعية، نعتقد أن تاريخ العمران البشري ـ كما التاريخ نفسه ـ لم يعرف سوى حضارتين اثنتين، لا ثلاثة حضارات، وهما حضارة التوحيد / المشروع الحضاري الإسلامي، والحضارة المادية / المشروع الحضاري المادي، وهاتان الحضارتان / المشروعان محكومتان بالاختلاف والصراع والتنافس، فكل منهما تقدم رؤية مغايرة للعالم، وخاصة في نسق القيم الأخلاقية الذي تأسس عليه، فالمنظومة الأخلاقية تعد أهم أهم المكونات الحضارية في الإنسان وفي رؤيته للعالم.

ولا نعني بالصراع سوى مدلولات التدافع القرآني التي لا تقوم على الصدام العدواني، ولا على العزل المطلق للآخر الحضاري وإشهار القطيعة والإلغاء في وجهه، والاصرار المسبق على إعلان القنوط القاطع من جدوى أو تقدم العلاقة به ايجاباً، كما لا يتأسس ذاك الصراع على الرفض الممنهج لأية ايجابية محتملة في الآخر لمجرد كونه غير الـ (نحن).

 

إن ثمة فارقاً جوهرياً بين الصراع والصدام في رأينا، فالأول هو بمثابة تباين وخلاف بين اعتقادات وإرادات وخيارات، ولا يتخذ بالضرورة شكل المواجهة المسلحة وإن كانت تتعدد أشكاله ومظاهره، كأن يكون فلسفياً او سياسياً، او اقتصادياً، او اعلامياً … ففي مجمل مظاهر الصراع لا تقع الحرب لزوماً، وإن كان الصراع قد يقود الى الحرب، خاصة عندما يبادر الآخر الى استخدام القوة وفرض ما يريده بالإكراه المادي والمعنوي.

([3]).غيدنز، انطوني (بعيداً عن اليسار واليمين) الترجمة العربية ، ص 11.

([4]).م. ن. ص 12.

([5]).انظر: هيرست، بول و: طوبسون، غراهام (ما العولمة، الاقتصاد العالمي وامكانات التحكم)، الترجمة العربية ص 12.

([6]).راجع: تورين، آلان (العولمة : ليبرالية مفرطة ما بين حربين)، (مقابلة)، جريدة (Lemonde)، باريس 14 نيسان 2000، ونشرتها جريدة (السفير) معربة في 19 نيسان 2000.

([7]).لا يتخذ مصطلح (الآخر) عندنا دلالة اطلالية، وهو هنا (الآخر الحضاري) أي الذي يحمل مشروعاً حضارياً بالمفهوم الذي سبق ونوهنا به، وباعتبار أن هذا المشروع تتقاطع معه (الذات الحضارية) المستندة الى مشروع حضاري مغاير في إيجابيات عديدة وتختلف معه فيما تراه سلبياً. ولا يمكن لإسرائيل بالتالي أن تشكل بوجودها مثلاً سوى منظومة كاملة من السلبيات الحضارية التي لا يحل أن يتقاطع معها أحد.

([8]).انظر: كاغان، روبرت، (على اميركا قيادة سياسة القوة)، مقابقلة منشورة في مجلس الفرنسية.

([9]).المصدر نفسه.

([10]).المصدر نفسه.

([11]).أنظر تورين، آلان – م. س.

([12]).كابوشنسكي، ريزارد، في Lecourrier International (العدد 573)، من 25 الى 30 تشرين الاول / اكتوبر 2001، ص 56.

([13]).م. ن.

([14]).م. ن – صص 56-57.

([15]).غيدنز، انطوني – م.س ص.ص 16-17.

([16]).تلاوي، ميرفت: في كتاب (اياد مرئية…)، الترجمة العربية، ص / 9.

([17]).م. ن: راجع ايضا: SACHS, JEFFREY “L.Emanouvel Observateur” وParis : 13 – 19 Dec. 2001.