/ صفحه 152/
من فتنة العمران، ولا ليؤدي شعائر دين موروث، ولكنه كان ينشد الحقيقة التي يثلج عليها صدره، فقد قضى عليه سمو عقله ان لا يرتضي ديناً من الاديان التي يرى الناس عليها في زمنه. فان تعجب ان يحدث ذلك لرجل ولد وتربى وكبر في عهد الجاهلية، وفي منأ عن ينابيع العلم والحكمة، فأعجب منه أنه هدي إلى طلبته وانكشف له من عالم الروح ما لم يكن يتوقعه، حتى خشي أن يكون قد قُصد من الكائنات السفلية بسوء، بسبب ما كان يوجد فيه من الظلام والوحدة.
لا جرم أننا هنا بسبيل نفس من النفوس التي لا يسمح لها بالنبوغ الا في أدوار الانتقالات الاجتماعية، وهذا لا يكون الا في كل عدة أجيال مرة، وهي تمنح من المواهب النفسية ما يجعل الفارق بينها وبين أعقل المعاصرين، كالفارق بين الرجل المستكمل قواه العقلية وبين الاطفال الذين تستهويهم الشئون الصبيانية. فما ظنك بالرسول الذي أعد ليكون خاتماً للرسل، ويكلف تربية الأمة التي اراد قيّم الوجود ان تحدث أكبر انتقال عالمي بين الجماعات البشرية.
هذا أمر لا يحتمل المماراة، فلم يبق علينا الا بيان إلى أي مدى بلغ محمد (صلى الله عليه وسلم) من الميزات النفسية، والمنح العقلية، وعلى أي ضرب من السياسات التعليميم اعتمد، ليصل بأمة جاهلية في مدى ربع قرن إلى ارفع ما يمكن أن تبلغه امة من آداب النفس، وسمو النظر وشرف المقصد، وبعد الغاية، حتى بلغت أقصى ما ترمي إليه أمة من الحضارة والعلم والسلطان، في مدة لم توفق إلى مثلها امة اخرى.
تأمل في قوله (صلى الله عليه وسلم): (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه) قال ذلك تفسيراً لقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فانظر كيف فسر هذا الحديث المبين لجوهر الإسلام وحقيقته، تفسيراً لا يستطيع أعرف الناس بما طرأ على الأديان، وأعلمهم بما يجب ان يكون عليه الدين الخالص من شوائب التحريف، أن يزيد عليه حرفاً واحداً.