/ صفحه 188/
بعد من أنه لم يصح في رواية الأدب سند يتصل بالعصر الجاهلي، ولعل هذا هو الوجه المعقول.
وكان قد سبق هؤلاء طبقة أخرى هي التي أخذت النحو عن أبي الاسود، ومنهم ميمون الأقرن ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدواني.
كانت هذه الطبقة كغيرها ترجع إلى الشعر والخبر، وتتبع لغات العرب، وتسمع منهم، التماساً للشاهد، واصطياداً لشارد المثل، إلا أنهم لم يشتهروا باسم الرواية كغيرهم، لأن ذلك غلب على أهل الأدب.
من ذلك العهد ابتدأت مذاهب الرواية تتفرع، واتجاهاتهم تختلف بسبب ما قام بينهم من المناظرات في تعليل النحو وتفريعه، وابتداء القول بالقياس في اللغة وفي النحو، ومرجعهم في ذلك كله كلام العرب ولغات قبائلها، وكانت اللغة قد ضعفت في الحضر واستعجمت، فصاروا يطلبونها في المناطق الخالصة من شوب اللحن، وهجنة الدخيل، في بطون البوادي وأطرافها، يأخذون عن الأعراب، ويروون عنهم للقصد العلمي، حتى اتسعت فنون الأدب، وتعددت نواحيه، وتشعبت اطرافه واصطبغت كل طائفة من الرواية إذ ذاك بصبغة خاصة، بما غلب عليها من بعض فنون الأدب، دون بعض، إلى أن ظهر ذلك جليا في ائمة الأدب، وهم أهل الطبقة الثالثة ا لتي هي أبعد طبقات الرواة شهرة في تاريخ الأدب العربي، ألا وهي طبقة الخليل وأبي عمر بن العلاء وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي الذي هو أتقن القوم وأبعدهم صيتاً وأكثرهم حظاً وشهرة، فعن هؤلاء أخذت جميع فنون الأدب من لغة وشعر وأخبار، وفي عهدهم دونت.
وكان ذلك في العصر العباسي الأول، لأن الوضاعين من الرواة قد كثروا فيه، وأكثروا من الروايات المكذوبة، طمعاً في بذل الخلفاء الذين اشتدت عنايتهم في ذلك العصر بأمر الرواية والرواة فضلاً عن اهتمام الأمراء والوزراء والعظماء وسائر الأمة بهما، وبذلك انتهى أمر الرواية إلى التدوين واقتصر فيها بعد على ضبط الأداء، وتصحيح النطق فيما هو مدّون على الشيوخ الذين يجيزونها كما سمعوها.