/ صفحه 240/
وما عليهم أن يتركوه، فتكون دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان في موضع الشك والتزلزل عند عامة الناس وخاصتهم، ويلتمس الناس لأنفسهم فقهاً وضعياً ملائماً لهم، قادراً على تلبية حاجاتهم، وإما أن يستقبل العلماء كل حادثة تجدّ، وكل قضية تعرض، بما كان يستقبل به الفقهاء الأولون حوداثهم، ووجوه التصرفات والمعاملات في زمانهم، فيستنبطوا حكم الله، ويبينوا للناس ما نزل اليهم، ويدخلوا بهذا الفقه كل مجال، ويطرقوا به كل باب، ويحملوا أمتهم وحكامهم ونوابهم عليه حملاً، لا بالقوة ولا بالثورة، ولكن بالاقناع والتوجيه وإبراز محاسنة، والتخلص من الجمود والتعصب، والضيق والتبرم، وحينئذ تصدق دعوى الصلاحية لجميع الأزمان والأمكنة علماً وواقعاً، ويتجلى للناس فضل الفقه الاسلامي، وسعة أفقه وطواعيته، وحسن تقبله لكل ما يفيد الأمة، ولا يخرج عن الأصول المحكمة التي هي أساس الشريعة.
وليس الذي يدعو إلى الاجتهاد هو حاجة الناس إليه فحسب، وإنما هو أمر تقضي به طبيعة الشريعة نفسها، ويؤذن به أن الله ختم بها النبوات، وجعلها آخر الرسالات، وأنه تعالى تكفل بحفظ كتابه الكريم إلى يوم الدين عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يكن الخلود والعصمة لمجرد أن يتعبد الناس بتلاوته، وليست العزة لكتاب ما في مجرد تبرك الناس به، وإنما كان هذا وذاك عن حكمة اسمى، ورحمة أعم وأشمل، ذلك أن يظل الناس أبد الدهر منتفعين بكتاب ربهم في جميع شئونهم وأحوالهم، وأن تبقى الحجة به قائمة على صدق الرسول، وحقية الشريعة، فما دام في المسلمين عقول تفكر، وقلوب تفقه، فلابد لهم من النظر في كتاب ربهم، وإلا كانوا منتسبين إلى القرآن بالاسم والميراث دون أن يكون منهم فرقة متفقهة في الدين، ينفرون إليه بعقولهم وقلوبهم وأجسامهم قائمين وراحلين فحصا وعلما ودرساً ونظراً وتبيينا وعرفاناً واستنباطاً لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ثم إن الله جلت حكمته قد أودع نبيه جميع أحكامه وأسراره وعرّفها له