/ صفحه 376/
ولو درسنا تاريخ العقائد لوجدنا أن كل فرقة تستند إلى منطق، وكل عقيدة قد سادت في فترة من الزمن، أو سادت في بيئة من البيئات. وكل بيئة تعتقد ان ما لديها خير ما أخرج للناس. ولو سرنا في المنطق إلى غايته لوصلنا إلى الحيرة والشك في كل ما انتجته العقول الإنسانية من آراء.
ومع ذلك فاليقين موجود ومهما حاولت ان تنكر إشراق الشمس إذا كانت مشرقة، فسوف لا يستجيب اليك شخص ما، وسوف لا تستجيب أنت إلى نفسك.
وهكذا الامر في جميع المحسوسات بيد أن ذلك ميدان. والمغيبات ميدان آخر.
لقد كان من الطبيعي: أن يكون الحس طريق المعرفة المادية، وأن يكون العقل طريق المعرفة العقلية. وما دامت المغيبات من المعقولات، فالطريق إلى معرفتها انما هو العقل، وما دمنا قد وثقنا بالحس في معرفة الماديات فلنلتزم الوثوق بالعقل في معرفة المغيبات.
هذا النمط من التفكير يبدو موقفاً، ولكنه محض سفسطة: فالتصور ـ وهو أساس المعقولات ـ لا يقوم الا على الحس، وإذا جردته من المدركات الحسية، فقد أزلته إزالة لا تترك له من أثر. وما دام الأمر كذلك فالتفكير المجرد عن المحسوسات معدوم، وما دامت المساتير لا شأن لها بالحس فكل تفكير فيها لا يؤدي إلى نتيجة.
لقد أطال العلماء في بحث الاراء الموضوعية، والاراء الذاتية، ورأوا أن الأولى لا تقبل جدلا: ذلك لأنها تعتمد الاعتماد كله على الحس. أما الآراء الذاتية، وهي قائمة على أسس أخرى، فإنها مجال للأخذ والرد، ولا يمكن الوصول فيها إلى نتيجة حاسمة مهما طال النقاش. وإذا كانت مادة الأخلاق هي الميدان الخصب للآراء الذاتية، فإن الالهيات، وهي حجب ومساتير، وميدان أخصب، لذلك لا يعدو البحث فيها أن يكون " علماً كلامياً " أو " علما جدليا ".
ومهما أشاد المعتزلة بالعقل، ومهما رفعوا من شأنه، فمن البهديهي: أن الميدان الذي يتخبط فيه العقل تخبطاً لا نهاية له إنما هو ميدان ما وراء الطبيعة.