/ صفحه 38 /
ولم ينشط في إقامة هذا القصر الباؤون فحسب، بل نشط كذلك النجّارون والبستانيون وأهتم كل بناحيته، وتقدم كل فن يشجعه الاسلام، من تفسير إلى أدب، ومن طب إلى كيمياء، ومن علوم إسلامية إلى نبوغ في الفقه بنوع خاص وهكذا أوجدوا كنزاً ثميناً يليق أن يسمى بحق أغنى كنز في العلوم الإسلامية، ازدهرت كل هذه العلوم دون أن يؤخذ عهد من القائمين عليها ودون أن تشرف على تنسيقها منظمة كاليونسكو، ودون أن يمنع أحد من الدخول في أي بحث، أو يحرم من الرجوع إلى أي مرجع، أو الاغتراف من أي منهل. كانت ثقافة إسلامية تقدم لكل المسلمين، لا لشعب دون شعب ولا لطائفة دون طائفة، وكان لكل عالم حق الدخول في كل بحث ومراجعة أي كتاب والأخذ بأي رأي ولا ينظر أحد إلى من يخالفه في الرأي إلا نظرة التقدير والأخوة.
فالخليفة يقدم إلى الإمامي كرسي الدراسة ببغداد، والسني يستمع إلى دروسه كثير من غير أهل السنة، ومرجع الفتوى إلى كل مذهب، والباحث يقف على رأي كل مفكر، كانت ثقافة عامة مشتركة، تعلق بها كل قطر لأنه يساهم فيها، وغار عليها كل صقع لأن له قسطاً منها، وحفظ حرمتها وكرامتها كل مسلم، وإحترم رجالها ونظر اليهم كمجموعة يكمل يعضها بعضاً ولا تقبل التجزئة.
لعلك تتساءل: أين هذا القصر ؟ هل عدا عليه الدهر فخربه، أم غصبه أحد الطغاة ودمره ؟ كلا: لا هذا ولا ذاك. أنما تنازع فيه ورثته، وقسموه فيما بينهم وأقاموا الحواجز بين أقسامه، واستقل كل فريق بحصته وامتنع الآخرون من الدخول إليها.
وهكذا تحولت الثقافة الإسلامية من عامة جامعة، إلى مذهبية ضيقة، ومن قومية شائعة، إلى طائفية محدودة، وعكف كل عالم على مراجع مذهبه، وأغضى عن ما في المذاهب الأخرى، وتعصب لما درس، واستراب في كل ما جهل. وتأثرت كل طائفة بعلمائها، وتمسكت بنهجهم، ونفرت من كل من يخالفهم في الرأي بل ذهبت إلى الشك في عقائد الطوائف الأخرى.
وانتهر كثير من غير المسلمين هذه الظلمة، وتسللوا إلى الصفوف، وتسموا باسم المسلمين، واستغلوا جهل الطوائف بعضها ببعض، يزعمون لكل طائفة أنهم