/ صفحه 399 /
وقد تساعدهم ظروف السياسة وتقلبات الأحوال في ظاهر الأمر، فيلتبس الحق بالباطل، وتتبلبل الأفكار، وتتهيأ النفوس لقبول الدعاوة السيئة، دعاوة التفريق والتمزيق وتقطيع الصلات بين ذوى الأرحام، وأبناء الأعمام.
وتلك شنشنة يعرفها التاريخ من أخزم، فما كان أعداء العرب بذى خلق يردعهم، ولا فضيلة تحول بينهم وبين ما يرتكبون من الإفساد، وما كانت لهم في الحقيقة قوى مادية، ولا قوى نفسية وأدبية، ترسم لهم في الخصومة دائرة شريفة لا يتعدونها، ولكنهم ألفوا أن يستبيحوا في سبيل مطامعهم وأغراضهم كل شئ، وأن يتوسلوا لقضاء مآربهم بكل وسيلة، والعالم اليوم عالم مادي ليس للمثل فيه قيمة، ولا لأخلاق الشرف وزن، فإذا لم يصحُ العرب وينتبهوا إلى هذه الحقائق وينظموا شئونهم على أساسها، فسيكونون ـ والعياذ بالله ـ طعما سائغا لنيران حامية يوقدها عليهم أعداؤهم، ولن تنفعهم يومئذ أرحامهم.
وإني على هذا لست بيائس، ولا أحب أن يتطرق اليأس إلى قلب من القلوب فان المعهود أن الأحداث والأهوال تجمع، ولن تلبث " الجامعة العربية " بعد هذه المحنة التي منيت بها، وهذه العثرة دبرت لها، أن تنهض من كبوتها، وتخرج من محنتها، وتسير في طريقها أشد مضاء، وأقوى عزيمة، لأن هذا هو رأي الجميع، وإرادة الجميع، وما دامت هناك إرادة وإخلاص، فلن يكون هناك إلا الخير والصلاح والتعاون إن شاء الله.
هذا ولا يغيب عن البال أن الرسالة المحمدية التي طلع فجرها من قلب البلاد العربية، قد دعت إلى ما هو أبعد مدى، وأوسع أفقاً، فتخطت حدود البلاد العربية، وألفت القلوب على رابطة أخرى هي أسمى شأناً، وأجل قدراً، وأصبر على محن الدهر، وتيارت العداوة والحرب، من كل رابطة سواها، تلك هي رابطة " الإيمان " التي تجمع بين العربي وغير العربي، وتجعل من الجميع أمة واحدة متماسكة، حيث يشعر كل مسلم بأنه أخ لكافة المسلمين، وأن الناس جميعاً متساوون كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.