/ صفحه 50 /
التي بين يديه، وقد وصف الله كلامه بالبينات في مواطن كثيرة، تقريراً في الأذهان أنها لا تحتمل اللبس وتدل على مقاصدها دون معاناة ولاكد، وكرر هذا الوصف لكلامه نحو ستين مرة في كتابه الكريم كقوله تعالى: (فيه آيات بينات) و (بل هو آيات بينات) و (أنزلنا اليك آياك بينات) الخ، تنبيهاً على أن ألزم ما يلزم الكلام الإلهي فهمه على وجهه الصحيح، لا على وجه يساور أهواء النفوس وبنات الخيال، وهو ما تتدافع النفوس الساذجة إليه تطلعا لتنور بعض الاسرار العلوية من خلال الألفاظ، وفضول العبارات. وهو الأمر الذي أفسد جميع الأديان، وأمكن رؤساء المذاهب من تضليل العقول، وتسخير أصحابها لخدمة أهوائهم.
لم يكتف الإسلام بما كرره من وجوب الوقوف مع مدلولات الألفاظ في الحد المسموح به، ولكنه سند ذلك بتحفظ آخر أدل على ما يريده من كل ما سبق وذلك أنه لما أطلق القرآن الكريم على عيسى (عليه السلام) أنه روح منه في قوله تعالى: (كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) قال النصارى يكفينا ذلك توهماً منهم أن إطلاق كلمة روح الله على عيسى تدل على بنوته له، فأنزل الله في دفع هذا الضرب من التأويل قولاً فصلاً لا عذر لمتقول على الدين بعده. قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به. كل من عند ربَّنا. وما يذكر إلا أولوا الألباب).
بهذه الآية، أوصد الله آخر باب لتأويل آيات القرآن الكريم وألفاظه وفقا لما تتطلبه الأهواء، أو لتأييد بعض الآراء، والمتأمل في كل هذه التحفظات، يرى إلى أي مدى وصل تشديد الكتاب الكريم على أهله في لزوم الحرفية في الدين. وإن ديناً هذا شأنه كان يجب أن لا توجد فيه فرق يخالف بعضها بعضا، ولكن الطبيعة البشرية تتغلب على جميع الحوائل الأدبية والمادية، وتظهر