/ صفحه 54/
كان المماليك في مصر أو غالبيتهم قد جلبوا إلى مصر من الجيش التركي أو الشركسي وإن كان ثمت فيهم مماليك من أجناس أخرى، وتطور بهم الأمر حتى استولوا على زمام الأمر في مصر بعد عهد الدولة الأيوبية على يد الملك المعز عام 648 هـ، وظلوا يقبضون على سلطانها حتى عام 923 هـ، وكان لهؤلاء المماليك تربية خاصة، وثقافة قُدّت على غرار النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في البلاد التركية التي نزحوا منها، وهو الذي ساد العالم كله في القرون الوسطى، ولكن النظام الذي اتبعوه كان فذا في التاريخ، فلا هو ملكية وراثية مطلقة أو مقيدة، ولا جمهورية شورية، وكانوا طبقة تتجدد بما يفد على مصر من الخارج، وهم مع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم طبقة متميزة من الشعب، وليس للشعب مظهر لإرادته اللهم إلا اشتراك القضاة في حفلة تنصيب السلطان.
وهم ـ على هذا الاعتبار ـ كانوا يرون لأنفسهم من الحق ما ليس للشعب وأنهم ـ إلا قليلاً منهم ـ وإن كانوا مسلمين، فيجب أن يسرى عليهم نظام خاص هو النظام الذي ألفوه في البلاد التي رحلوا منها، والذي ساد العالم بعد موجة التتار، ذلك هو نظام (الياسا) أو الياسق كما يسميها ابن بطوطة في رحلته. وتلك (الياسا) هي شريعة جنكيز خان التي كانت محفوظة في الألواح، والتي كانت تظهر عند كل مناسبة في تولية خاناتهم وأمرائهم، وقد كتب المستشرقون كثيراً عن هذه (الياسا) ولكننا سندع المقريزي يتكلم عنها حتى نعرف السر في ثورة الفقهاء على نظامها في عهد المماليك. قال في الخطط في ذكر أحكام الياسا: (وكان جنكيز خان قد قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسا) ونقشه في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، وكان جنكيز خان لا يتدين بشئ من أديان أهل الأرض، فصار (الياسا) حكما بتا بقي في أعقابه لا يخرجون عن شئ من حكمه، ومن جملة ما شرعه جنكيز خان في الياسا أن من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها فأنه يقتل بعد الثالثة،