ـ(240)ـ
وأما إذا أشبعها بعبادة غير الله فقد انحرف عن الاستقامة، ووقع في الكفر أو الشرك، فالله تبارك وتعالى لم يطلب من الإنسان أن تكون عنده غريزة التدين، وإنما طلب منه أن يشبع هذه الغريزة الموجودة عنده فطرياً إشباعاً صحيحاً.
أما الحديث: فيقرر كذلك أن غريزة التدين موجودة عند كل إنسان:(كل مولود...)، وبين أن الانحراف والضلال إنما يحصل عند إشباع الإنسان هذه الغريزة الإشباع الخاطئ، أو الإشباع المحرم تبعاً لإرادة أبويه وإرشادهما له إلى الطريقة التي يريد أن يشبعا ولدهما غريزة التدين بها. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
هناك عهد أكبر وميثاق رباني أخذه الله على الناس جميعاً وهم في ظهر الغيب، وفي ظهور آبائهم في اللحظات الأولى عند بدء الخليقة، وعند ظهور البشرية؛ لتؤمن البشرية بوجوده وتعترف بالوهيته:( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهور هم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)(1).
فالفطرة توحيد جبلي لله، ومعرفة أولية؛ ولأنها أمر غريزي يولد بولادة البشر، وجزء كامن في نفس البشر، وهذا ما تؤكده آية الفطرة نفسها:(فأقم وجهك...)، وشطر الآية:(فطرة الله ) يدل على أن الفطرة غير قابلة للتبديل، بل هي حاضرة أبداً في النفس الإنسانية ويشعربها الفرد وإن سلك سلوكاً يخالفها، فهي إذا شديدة الالتصاق، ولكن الغفلة عنها بعد الكبر أمر ممكن الحدوث، ولهذا قال سبحانه وتعالى:(وإذ أخذ ربك) حتى لا نغفل عن ذلك، وأخذ الميثاق علينا؛ لأن الحواس لا تتأمل ولا تشاهد ولا تسمع ولا تعي، ولا تهتدي إلى التوحيد، ولا شك أنها تسبب للفرد غفلة كبرى عن حقيقة محسوسة نشاهد آثارها بالسمع، والبصر، والعقل، والقلب. ولهذا قال سبحانه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)(2).
______________________________
1 ـ الأعراف: 172.
2 ـ النحل: 78.