أرضية الوحدة التقريب بين المذاهب

أرضية الوحدة التقريب بين المذاهب

 

 

أرضية الوحدة التقريب بين المذاهب

 

الشيخ إحسان بعدراني

خطيب مسجد المرابط ـ دمشق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أرضية الوحدة التقريب بين المذاهب

إن من أسباب التأخر والفرقة بين العالم الإسلامي:

عدم تفريق المسلمين بين الإسلام وفقه الإسلام.

وهذا يقودنا إلى تساؤلات عديدة:

1ـ هل التراث الفقهي يحتل محل الآيات القرآنية؟

2ـ هل يمكن القفز فوق التراث الفقهي للاتصال بالقرآن مباشرة؟

3ـ هل التراث الفقهي هو نهاية المطاف في الفقه عند الفقهاء؟

4ـ هل وقف التراث الفقهي عند حد حتى نحتاج إلى فقه جديد؟

5ـ هل لأحد ان يلزم أحداً بما عنده من رأي واجتهاد؟

6ـ هل زعم أحد أنه أصاب الحق الذي يريده الله سبحانه؟

الإسلام وفقه السلام

الإسلام هو القاعدة، وفقه الإسلام هو التطبيق، وقد يكون فقه الإسلام قريبا من

ـ(168)ـ

الإسلام، وقد يكون بعيداً عنه بصور متفاوته.

فقه الإسلام صورة عن الإسلام، وليس لـه أن يحتل محل الإسلام، ولهذا علينا أن نميز بين هذين الأمرين في مجال تصدينا لبحث الإسلام.

علينا أن نميز بين الإسلام ديناً منزلاً، وبين فقه الإسلام على مر العصور، بحيث لا نظن أن فقه الإسلام لـه المناعة الموهوبة للإسلام نفسه من الله تعالى.

إن الإسلام ثابت، والبشر يبعدون أو يقربون بفقههم من هذا الإسلام، ويخطئون ويصيبون في فقه هذا الإسلام، ولكن أخطاءهم لا تحسب على الإسلام ولا تغير ثوابته.

وحين يخطئ البشر في فقه الإسلام فإن هذا الإسلام يظهر خطأهم، وحين ينحرفون عنه فإنه يكشف انحرافهم، وهذا ما حصل في التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة في غزوة أحد، والتي صاحبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والتي تمثل أكرم رجال الأمة على الله، وهي حقيقة، وحقيقة نافعة لنا نتعلم منها أن تبرئة البشر لا تساوي تشويه الإسلام، ومن الخير أن يبقى الإسلام سليما معافى، وان يوصف المخطئون بالوصف الذي يستحقونه ـ أيا كانوا ـ وإلا تسوغ أخطاؤهم بتشويه الإسلام. فالإسلام أكبر وأبقى من البشر.

الإسلام منهج ثابت تدور حوله حياة البشر، وبقدر فقههم لهذا الإسلام وبقدر تطبيقه بقدر ما نستطيع أن نصفهم به. وبقدر ما تكون الوحدة الإسلامية بينهم.

أعن كشف الخطأ أو التقصير في فقه البشر للإسلام، لا يعني وبأي حال من الأحوال أنه كشف لخطأ أو قصور في الإسلام.

إن الإسلام لا يعطي الجمال والكمال لأحد من البشر بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكننا معشر البشر والمسلمين ـ في الواقع ـ نعطي الكمال للبشر وهم لا يطلبون ذلك ويصعب علينا أن نرى الشخصية التي نجلها تصيب وتخطئ في آن واحد، كما يصعب علينا القول: هذا الرأي والفقه من قولـه صواب، وهذا خطأ.وكأننا

ـ(169)ـ

أصبحنا نتعامل مع من نحب على أنهم يصيبون ولا يخطئون.

الإسلام شيء، وفقه الإسلام شيء آخر.

الفقيه ليس الإسلام، وإنّما يخضع للإسلام، وهو يسعى إلى فهمه ومعرفته والكشف عن مقصده وهدفه وروحه وجوهره. ومهما كان الفقيه فلن يتجاوز حد البشر.

ثم ليس مما يقلل من قيمة الفقيه كونه لم يحط بكل شيء، ولكن حسبه أن يعطي شيئاً ولو يسيرا، وهذا هو التقدير الحقيقي للبشر.

الهدف أن يبقى الإسلام سليما معافى، والفقيه فقيها، ولا يعرف الإسلام بالفقيه، وإنّما يعرف الفقيه بالإسلام. ومن الصواب ربط الفقه بالإسلام، ومن الخطأ ربط الإسلام بالفقه. من الصواب ربط الفقهاء بالإسلام، ومن الخطأ ربط الإسلام بالفقهاء وحين حدث هذا الأخير ظهرت الصورة الضيقة للإسلام، ظهر جانب معين واختفت جوانب.

هل يمكن أن يكون فقه الفقهاء معيارا للإسلام؟

لو اننا نظرنا إلى فقه الفقهاء، على علو قدرهم وسمو مكانتهم وعظيم اجتهادهم وسعة علمهم بالإسلام، بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، على أنه هو الفقه الذي ليس وراءه لمستزيد أن يزيد، لكان نظرنا هذا هو السد الذي يقوم أمام كل من يريد أن يدلي بدلوه بعدهم، ولأصبح بعدهم النظر في كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم لا طائل منه، وفي هذا تعد على الإسلام، وفي هذا إساءة لهؤلاء الفقهاء الأعلام. من قال منهم: «إن أبواب الفقه قد أوصدت من بعدهم»؟ هل هذا جزاؤنا لهم على عظيم ما بذلوا وما اجتهدوا؟... أما قال الإمام مالك رضي الله عنه «مأمنا إلا من رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر» وأشار إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، حين كان يقي دروسه في المسجد النبوي الشريف.

وأما قول الغزالي «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، فإنه لا يتناول فقه الفقهاء، وإنّما

ـ(170)ـ

تشير عبارته هذه كما نرى إلى أنه ليس في قدرة المخلوق الوصول إلى مثل هذا الإبداع عند الخالق في كل شيء. قال تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.

ولو قدر للفقه أن يحيط بالإسلام لتوقف ركب الفقه عن أن يتقدم خطوة واحدة، لأنه ليس بعد الوصول إلى الإسلام من مطلب، ولرفعت الأقلام وجف الحبر وطويت الصحف.

الفقه خطوة على درب الإسلام الذي لا ينتاهى، وما أبعد الفرق بين أن نجعل الفقه هو الإسلام، وبين أن نجعل الفقه خطوة في درب الإسلام، ومع هذا فإن الفقه هو من الإسلام، وليس إسلاماً كاملاً.

إن النظر على أن الفقه هو الإسلام نظر يسد الباب للسير نحو التجديد والجديد، وهذا يعني إيقاف حركة الحياة والتاريخ.

إن الفقه الجديد والتجديد في الفقه، خطوة أخرى في درب الإسلام، وبدونها لا نستطيع الوصول إلى المثل الأعلى، الذي نتجه إليه وهو الوحدة.

إن الأجيال القادمة سوف تسحر منا إذا وقفنا عند مكيال الأجيال الماضية فلكل عصر مكيال. هل نبقى على مكيال وسواك وحبة البركة في المدينة المنورة؟

هل نقف عند الوسيلة ونترك الهدف والغاية والمقصد؟

إذا كان الإسلام هو الباقي، فلم الخلاف؟ فلكل فقيه فقهه، ليس لأحد حق في أن يفرض علينا فقهه، وإلا كان فقهه هو الإسلام الذي لا يتناهى، ولم يفعل ذلك أحد من قبل. ولقد رفض الإمام مالك ذلك حين طلبه منه، لأنه كان يعلم أن عند الإسلام الخبر اليقين.

إن إعفاء أنفسنا من التجديد في هذا العصر إذا قامت فينا أسبابه لا يعني إلا اننا خلقنا عبثاً، أو اننا أموات في أجساد أحياء. وما دام الإسلام هو معيار الفقه فما هو

ـ(171)ـ

الفقه؟

الفقه: يعني الفهم، نقول: فقه الرجل: فهم ونقول: فلان لا يفقه: لا يفهم. ونقول: فاقهه: باحثه في العلم. وعلى هذا فالفقه: يعني العلم بالشيء ـ أي شيء ـ وكل عالم بشيء فهو فقيه. والفقه: يعني أيضاً التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، ثم غلب الفقه على العلم بالشريعة، وقال علماء اللغة: الفقه مشتق من الفتح والشق؟ وعلينا إذا أردنا أن نفقه الشيء أن نشقه ونفتحه لنعلم ما في ذاته ونفقه ما في داخله، ولئن كان الفقه يعني الشق والفتح، ونحن لا نشق الشيء ولا نفتحه، فكيف نفقهه؟ ونسأل السؤال، لماذا سمي الفقه فقها؟ أليس لأننا نشق ونفتح الشيء المصور؟ لنفقهه ونفهمه ونعرفه المعرفة البشيرة التي تقودنا إلى إسراره وأقداره الكامنة في ذاته والتي توصلنا إلى مقصده وهدفه وروحه.

اننا بحاجة إلى فقه الأشياء من الذرات إلى المجرات.

اننا بحاجة إلى فقه الإسلام من ألفه إلى يائه.

ونحن بمنعرج اللوى، وعسى أن نستبين النصح قبل ضحى الغد:(بذلت لكم نصحي بمنعرج اللوى فلم تستبينوا النصح الأضحى الغد).

هل كان فيما مضى من الزمان فقه جديد مما مكن الفقهاء من سلف الأمة أن وجدوا في الإسلام كل ما يحتاجون إليه للنهوض بها من حال إلى حال، مع تغير الزمن وتبدل الحال، لجلب المصالح ودرء المفاسد وحل المشكلات وصلاح أمر الأمة، بحيث لم يبق جديد أو مستجد؟

أما وقف الفقهاء سابقا على مقاصد وغايات وأهداف الإسلام في عصرهم الواحد، ثم وجدوا ما يحدو بهم ان يعدلوا عن أمور أفتوا بها في بعض الأماكن أو الأزمنة ليفتوا بخلافها، في أماكن أخرى وأزمنة أخرى؟

الشافعي رضي الله عنه، كان لـه مذهبان: قديم وجديد، قديم في بغداد وجديد في

ـ(172)ـ

القاهرة، حين قصدها سنة 199 للهجرة.

ومحمد بن الحسن بن فرقد، ناشر علم أبي حنيفة، لـه مذهب في بغداد ومذهب في مرو. والإمام الخميني لـه مذهبان قبل الثورة وبعدها.

إن عدول الفقه عن رأيه الأول ليس سببه تبين وجه الصواب من الخطأ، ولا إلى ظهور دليل كان خافيا، ولكن في كثير من الأحيان إنّما سببه تنقل الفقيه في الأمصار، ووقوفه على تغاير الأحوال والظروف والأعراف في الأمة الواحدة، وكلا رأييه في الفقه صحيح.

نحتاج إلى فقه جديد دائما يشمل بأحكامه ما تجيء به الحياة المتجددة المتغيرة المتبدلة من حوادث ووقائع ومستجدات، والإسلام فقه المرونة حيث يعطي العلاج والدواء المناسب، وان تغير الزمان والمكان والإنسان والحوادث والوقائع والمستجدات لا تتناهى والإسلام لأمتناه.

الثابت من الأحكام ثابت، وأن تغير الزمان والمكان. والمتطور من الأحكام متطور بتغير الزمان والمكان، لأن الإسلام جاء لتحقيق مصالح العباد التي تتجدد، وهذا التغير مرتبط بالعامل المؤثر، وقد يكون العامل المؤثر ظرفا معنويا أو ماديا أو خاصا أو عاماً.

وهذا يدل على أن الإسلام فقه فقه الطوارئ وفقه الضرورة وفقه استيعاب المستجدات وفقه مصالح العباد، بل هو فقه العافية للأُمة والذي يستوعب الجديد ويحافظ على القديم.

التراث الفقهي مفتاح لإخصاب الرؤية القرآنية نحو الوحدة؟

إن الوقوف عند التراث الفقهي والاقتصار عليه، واعتباره المساحة التي يجب التحرك ضمنها إنّما يشكل عائقا بين المسلمين وبين الأخذ من النص الأصل، إلا وهو القرآن الكريم وفي الوقت نفسه يصبح عائقا في طريق الوحدة.

ـ(173)ـ

ليس التراث الفقهي إلا مفتاحا يساعد على فهم القرآن، ويدعونا إلى أن نعود إليه وهو في الوقت نفسه مفتاح الوحدة الإسلامية.

ليس التراث الفقهي حاجزا يحول دون الوصول إلى النبع الأصل والنهل منه وبالتالي ليس حاجزا بين المسلمين ووحدتهم الإسلامية.

هل يدعونا الإسلام إلى أن نترك القرآن للسنة؟ هل يدعونا الإسلام بعدها إلى أن نترك السنة لأقوال الأئمة؟

هل يدعونا الإسلام بعدها إلى أن نترك أقوال الأئمة لمؤلفي المتون؟

هذه هي الصورة التي يسير عليها كثير من المسلمين. يدرسون المالكية من متن العشماوية، ويدرسون الحنفية من متن نور الإيضاح، ويدرسون الشافعية من متن الغاية والتقريب، دون أني كون هناك اتصال مباشر بالقرآن والسنة كمصدر اصل، وهما مصدر الوحدة.

هل المسلمون يتعلمون ليقرؤوا أم يقرؤون ليتعلموا، هل همهم ضبط اللفظ ومراعاة أحكام التجويد والنظر إلى الشكل دون المضمون والغاية والقصد.

التراث الفقهي مهم لإخصاب الدراية بالآيات القرآنية، ولا يمكن لـه أن يحتل محل الآيات القرآنية في القدسية والدراية طريق الوحدة.

ليس المطلوب القفز فوق التراث ومحاولة الاتصال بالقرآن وتقرير الأحكام، وإنّما جهد المجددين يجب أن يكون مضاعفا، وهو الاستئناس بالتراث ليكون مفتاحا للاتصال بالقرآن.

التراث الفقهي ليس دينا، ولا مقدسا، لأنه من مفهوم البشر، وإنّما يستعان به وهو وسيلة للوصول إلى الأصل حتى نبقى مشدودين إلى القرآن والسنة، وبهذا نكون قد وضعنا الخطوة الأولى والأولى لمنهاج العودة إلى القرآن، وهنا لابد من القول: أن الاغتراف من القرآن مباشرة يدعونا إلى امتلاك الوسائل التي تمكننا من الوحدة

ـ(174)ـ

الإسلامية.

ليس من ينظر إلى جُلباب عمر كمن ينظر إلى لباب عمر.

 

وإذا كان الفقه القديم لا يجوز القفز من فوقه فهل هذا يعنى نهاية المطاف في الفقه؟

التعبير القرآني فيه مرونة، وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام عندما قام ابن عباس وجادل الخوارج أن لا يكون التحاج بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه..» ففي الصياغة القرآنية مرونة لكي تبقى وتكون ممتدة مع الزمن. يستقبلها العبقري ويغوص فيها، ويصل إليها العامي ويستقر عند حدودها الأولى. فكلمة(لا ريب فيه) تسع القارئ للقرآن وهو صغير، وتسعه حين يصير كبيراً ﴿... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾(سورة النساء: 82).

والسؤال: إذا كان فهم القرون الأولى للقرآن هو الأصل الذي لا يجوز القفز من فوقه فهل هذا يعني أنه نهاية المطاف الذي لم يدع استزادة لمستزيد في مجال المعاملات، وامتداد الحضارات، وطوارئ المشكلات والمستجدات... التي تعبد طريق الوحدة؟

النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حسم هذه القضية عندما قال: «فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه». وهو الذي قال: «بلغوا عني».

وهو الذي قال: «فربّ مبلغ، أوعى من سامع».

والقرآن الكريم يقول؟ «ثلة من الأولين وقليل من الآخرين».

ويقول «ثلة من الأولين وثلة من الآخرين».

وهذا يعني أن العصور الممتدة التي جاءت بعد القرن الأول، قرن صاحب الرسالة ومن معه، فيها من غير شك عمالقة في فهمهم، لا يقلون عن العصر الأول.

ـ(175)ـ

وقد جاء في الحديث: «أمتي كالغيث، لا يدرى أوله خير أم آخره». رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلا.

وفي رواية «أمتي مباركة، لا يدرى أولها خير أم آخرها».

القرآن الكريم خطاب الزمن كله، خطاب الأجيال كلها، ولا يمكن أن يجمد عند فهم معين في عصر معين.

نحن نستصحب فهم السابقين فيما يتصل بالآفاق الأخرى، آفاق(الكون، والحياة والعلوم الإنسانية، وغيرها) ذلك الفهم الذي وقف عند حد، وأن العصور المتأخرة لابد أن تزيد.

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(سورة فصلت: 53).

أما ما يتصل بفرائض العبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة مثلا، فقد كفانا السابقون بما أتوا عنها وما اجتهدوا فيها وعلينا أن نأخذ منها ما يقود للوحدة

إن حاجتنا إلى فقه سنن الله في الكون اليوم كحاجتنا إلى فقه العبادات، والسنن تعني القوانين المطردة التي لا تتخلف إلا في قضايا السنن الخارقة. وهذا الفقه هو واحد من دعائم الوحدة الإسلامية.

ليس هناك فوضى في الكون، وسنن هذا الكون انطبقت على صاحب الرسالة، محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن كان معه، نصرا وهزيمة.

انطبقت عليهم هزيمة، عندما قصروا في اتخاذ الأسباب المطلوبة لاستكمال النجاح في(أحد) وقيل لصاحب الرسالة: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾(سورة آل عمران: 128).

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(سورة آل عمران: 151).

ـ(176)ـ

وانطبقت عليهم نصراً، عندما ألحقوا بالمشركين(بقريش) الهزيمة في(بدر) حيث قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(سورة الأنفال 51 ـ 53).

القانون الذي انطبق على الفراعنة منذ عشرين قرنا انطبق على المشركين.

﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(سورة يونس: 81).

﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾(سورة الرعد:11).

إن تعطيل قانون السببية بشيوع فلسفة الجبر من جهة والتي أدت إلى أن ساد التواكل واضمحلت الفاعلية، والى شيوع عقيدة القدر من جهة ثانية بحيث أخذ المسلمون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ريشة في مهب الريح، يدعونا اليوم إلى إدراك سنن الله في الكون وحسن تسخيرها والانتقال من موقع الانفعال المجرد إلى موقع الفعل.

وهذا الإدراك هو واحد من أسباب قيام الوحدة الإسلامية.

هل لأحد من الناس أن يلزم الناس بما عنده؟ وبعبارة أوضح:

هل ما يصل إليه الإنسان باجتهاده هو رأى، أم دين مقدس؟

ـ وإذا كان هذا الاجتهاد هو رأى.

فهل هذا الرأي معّرض للخطأ والصواب؟

ـ وإذا كان هذا الرأي معرضا للخطأ والصواب، فإنه يمثل فهم شخص، وقد يفهم آخر من خلال ما يتمتع به من الإمكانية والموهبة والكسب المعرفي أو النظر فهما آخر.

وعلى هذا يمكن اعتبار الآراء في النصوص التي تقبل الاجتهاد ضمن إطار إغناء الرؤية القرآنية. وبذلك نخلص من مطاردة التحريم، والتكفير، والتخطيء. وهذه

ـ(177)ـ

المطاردة واحدة من الأسباب التي تبعد الوحدة.

القرآن جاء بالمبادئ وترك الاجتهاد في تنزيل النص على الواقع(النص العام) لأن الإسلام ربط الحق بالمنفعة.

﴿... كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾(سورة الرعد: 17 ).

فالحق نفّاعُ للناس، وفيه صالح الأمم والباطل مضر للناس، وفيه هلاك الأمم.

الترف باطل وحرمه الإسلام لأن فيه الفساد في الأرض.

فكيف نمنع تكونه؟

ليست هناك وسيلة معينة، وإنّما تركت الوسائل لاجتهاد مطلق.

الإمام مالك كان يرفض ان يعتبر رأيه دينا. ومعروف من حكمته أنه رفض وهو صاحب الموطأ، ان يفرض على الناس لأنه قد تبدو للناس علوم أو معارف أخرى، وهذا من صميم الدين الإسلامي.

ليس لأحد أن يلزم الناس بأن ما عنده هو الدين، وهو المقدس.

(باب الاجتهاد في العبادات أخذ حقه ولكن الاجتهاد في المعاملات الإدارية والاجتماعية والدولية وغيرها لم يأخذ حقه).

وهذا واحد من الأسباب التي قصر فيها المسلمون فكانت سببا في بعد الوحدة عنهم.

النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يلتزم التخميس عندما وزع غنائم هو ازن وثقيف، فقد حرم بعض الصحابة «الأنصار» من هذه الغنائم.

وعمر صنع مثل هذا عندما رفض أن تقسم الأرض المفتوحة، وفرض عليها الضرائب، وأعطى الفاتحين أنصبة، أو مرتبات، من هذه الأرض المفتوحة.

ـ الإسلام ليس قوالب ثابتة وإنّما هو مبادئ وقيم ثابتة(انتم أعلم بأمر دنياكم).

ـ(178)ـ

ـ الاجتهاد تنزيل نص على حادثة معينة.

ـ ما زعم أحد من الأئمة أنه أصاب الحق الذي يريده الله سبحانه، بل كل منهم قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب.

ـ وبقي الود بين الأئمة، وبقي التواضع عند كل واحد منهم لأنه بذل الجهد لمعرفة مراد الله سبحانه وتعالى، ومراد نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ـ أبو حنيفة يرى أن قراءة المأموم للفاتحة حرام.

ـ الشافعي يرى أن قراءة المأموم للفاتحة واجبة.

ومع هذا يسأل الشافعي عن أبي حنيفة فيقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. ولو سئل أبو حنيفة لقال: أن الناس عيال على الإمام جعفر الصادق.

ـ بعض اتباع المذاهب ممن ضاق فكرهم وقل علمهم وأدبهم، يرون الرأي تبعا لفكر اجتهادي لصاحب مذهبهم، ثم يلغون أو ينسون المذاهب الأخرى... وهذا واحد من الأسباب التي تبعد الوحدة عن المسلمين.

ـ الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف أحداً.

ـ أبو بكر الصديق استخلف أحداً.

ـ عمر الفاروق: استخلف ستة يختارون من بينهم.

ـ ليس هناك صورة معينة محددة، ومن هنا ليس هناك من يستطيع أن يقول: أنا أولى بالحق من غيري. الصحابة الكرام اختلفوا في قولـه صلّى الله عليه وآله وسلم:

«لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة».

هل يصلون العصر في بني قريظة أو يصلونه في الطريق؟ ولم ير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في آراء الصحابة حرجا، بل جمعهم صفا واحدا أمام اليهود، ولم يعلق على هذا الموضوع ولم يتوقف عند الأمر.

كذلك الأمر بالنسبة لمن تيمموا وصلوا ثم وجدوا الماء قبل مضي وقت الصلاة،

ـ(179)ـ

فتوضأ بعضهم وأعاد الصلاة، ولم يعدها بعضهم الآخر، فالذي أعاد الصلاة قال لـه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: «نور على نور».

والذي لم يعدها قال لـه: أجزأتك صلاتك».

ـ وفي آية مثل قولـه تعالى: ﴿... أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء...﴾ هل مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ أم المقصود باللمس هنا لمس معين؟

الرأي ليس دينا مقدساً، ولا تفريقا للدين، بل هو اجتهاد في فهم النص، وليس لأحد أن يقول: بأن الخروج عليه أثم أو باطل، أو حرام، أو كفر. وان حدث ففيه تفريق وليس توحيد.

ـ الناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتا عجيبا، وهذا التفاوت بقدر ما يؤتى أحدهم من إدراك.

ـ الناس أوان، دقتها وسعتها من عند الله، فالمطر ينزل فيملأ الآنية الكبيرة.

ـ هناك من يستطيع أن يفهم في القرآن أو السنة أموراً يهديه الله إليها، وفي الوقت نفسه يستغربها غيره حين تساق إليه، وهي من مصدر واحد، ألا وهو القرآن، وهذا سر ما جعل علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: « إلا فهما يؤتاه رجل في كتاب الله».

قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾(سورة الرعد: 17).