أزمات العالم الإسلامي وآليات الحوار

أزمات العالم الإسلامي وآليات الحوار

 أزمات العالم الإسلامي وآليات الحوار

 

                                                                                         ناصر العبدلي

  

يحظى الجدل حول  دور العقل والنقل بأهمية كبيرة في الفضاء الإسلامي إذ تنسب إلى هذا الجدل الكثير من الأزمات والعثرات في ذلك الفضاء من حيث أن هيمنة النقل طوال الفترة الماضية أدى إلى حالة من الجمود ، ويمكن الإستدلال على أجواء الجمود تلك من خلال خط سير فكرة الدولة والعثرات التي وقعت فيها  ،  وأعتقد أن مشكلة السلطة ( الدولة ) في العالم الإسلامي هي العقبة الرئيسية في طريق تحول الدول الإسلامية إلى دول مؤسسات حقيقية تضمن بقاء تلك الأنظمة دون التعرض لأية هزات كما ظهر خلال مايسمى الربيع  العربي  .

حتى الآن هناك صعوبة في تحديد ماهية العالم الإسلامي وما إذا كان هذا العالم موجود على أرض الواقع هناك دول شعوبها مسلمة وهناك مسلمين في دول أخرى ليس لها علاقة بالإسلام ، ولايمكن بأي حال من الأحوال أن نحدد طبيعة هذا العالم والعلاقة بين تلك الدول وهل يمكن الإعتماد على الدين في تحديد طبيعة أي فضاء ، وهل هناك عالم مسيحي وآخر يهودي وربما هندوسي أو بوذي .

كان لابد من إستقراء النصوص التاريخية خاصة تلك الجدلية ومادار من حوار بين المتناقضات وفهم مثل تلك الخلافات التاريخية ، وإستنباط مايمكننا من تجاوز كل تلك المعوقات من أجل  إنطلاقة فكرية جديدة في العالم الإسلامي ، الذي ظل لفترة طويلة جامدا بسبب الصراعات  الفكرية الجدلية دون أن يكون لها نتاج إيجابي .

التطور الإنساني ليس محصورا في إطار وحيد من التفكير ، بل هناك الكثير من الأفكار سجلت تطورا لشعوبها والأمثلة كثيرة بينها بلدان أغلبية شعبها مسلم وهناك أخرى فيها أقلية مسلمة ولم تثر تلك الأفكار مثل تلك الحساسية التي تصر  عليها بعض التوجهات الإسلامية ، حتى العالم الإسلامي إذا  جاز التعبير إستفاد كثيرا من الأنظمة التي طورتها شعوب قبل الإسلام على أكثر من صعيد بينها السياسة والإقتصاد وأنظمة الجيوش وغيرها .. فلماذا لاتستفيد الأمة بعيدا عن نظام وصاية بعض أطرافها على عقول أبناءها .

نظام العزلة الذي ضربته أفكار هي عبارة عن إجتهادات  في التاريخ الإسلامي لاينبغي لها أن تتحول إلى أنظمة مقدسة لاتتعرض للنقد من بقية العقول الأخرى ، فتلك الإجتهادات تندرج في أن للقائمين عليها حسنة إذا أخفق وأثنتين إذا أحسنوا فلا نسمح لهذه الأطر الفكرية الخروج عن الساحة التي كان العقل السباق الأول لها ، وليس عيبا أن نخضع كل تلك التجربة التاريخية إلى مسارات نقدية ، فالشعوب الأخرى لم تتقدم وتتطور دون إعادة النظر فيما أعتقد البعض انها مسلمات لايجوز المس بها أو إعادة النظر بها وبالظروف التي شهدت ولادتها .

هناك إشكالية  حضارية تفاقمت وأستشرت في أوصال العالم الإسلامي وتلك الإشكالية تتطلب أن يقابلها نظرة شمولية تحليلية تستند على قاعدة العقل والنظر بجدية إلى الأسباب التي تؤدي إلى التطور الحضاري ، فإنتشال الأمة من هذا الوضع يتطلب الكثير من التضحيات من  جانب السياسي ومن جانب رجل الدين على حد سواء فالطرفين كما يبدو لي سببان  من  أسباب تدهور الأمة وضعفها .

هناك سؤال لابد من  طرحه في مثل هذا الموقف يتعلق بأسباب أزدهار الحضارات وإندثارها  وقد طرحت مثل ذلك السؤال أغلب الأمم التي عادت مرة أخرى لدورة التاريخ والحضارة ،  وأن لاتكون تهمة الخروج على الأمة هي التهمة التي توجه لكل من يدعو إلى تبني التوجه  النقدي للنص مهما أسبغنا عليه من قدسية ، وفي هذا المكان بالتحديد على التيارات والتنظيمات السياسية مسؤولية كبيرة في التوقف عن  طرح الشعارات الوهمية في سعيها للوصول للحكم في بعض الدول الإسلامية إذ أن لمثل تلك الشعارات صدى في عقول الشباب يمكن أن يفهم خطأ ويكون تمهيدا للحشد على الطرق الخاطئة .

إذن الثقافة لها الأهمية الأولى في مشروع النهضة إذا ماتلمسنا مسارها الصحيح ، لكن يجب تحضير تلك المجتمعات إلى " صدمة " ثقافية حتى نستطيع أن نضع الآليات الحوارية للخروج من المأزق الذي تعيشه ، فالسبات الذي تعيشه مثل تلك المجتمعات يؤكد أننا بحاجة إلى مايجعلها تستيقظ من ذلك السبات ، ويمكن أن نضع التطور الثقافي ضمن أربعة عناصر تتناول الجانب الإخلاقي لتكوين الصلات الإجتماعية ، والجانب الجمالي لتكوين الذوق العام وتهذيبه ، وإطار عملي لتحديد أنماط النشاط العام ، بالإضافة إلى الإستفادة من الفن التطبيقي العملي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع  [1]

طبيعة الأزمة

يمكن أن نستدل على جذور وأسباب أزمة العالم الإسلامي في بضعة كلمات أوصى بها الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت أحد تلاميذه لكنها كلمات ذات دلالات أستشرافيه أستبقت فعلا ماسيحدث لاحقا عندما قال " ما أقوله مجرد رأي " أي أن ما أقوله ( فتوى ) من كلام مجرد رأي بشري لايحمل " قدسية  " [2]، فلا تجعلوه في هذا الإطار ، ومع ذلك حدث إنقلاب على تلك الكلمات من بعض تلاميذه وسارت أجواء الأمة في مسار آخر .

 غير أن تحميل  تلاميذ أبي حنيفة النعمان مسؤولية ماحدث للأمة ليس موضوعيا ، فالمسؤولية يتحملها أكثر من طرف وأكثر من مرحلة تاريخية فهي نتاج تراكمات فكرية ، ويمكن من خلال تفحص المعارك الجدلية ومانتج عنها خلال  تلك السنوات الطوال أن نضع يدنا على مكامن الخلل .

بذور التحولات كانت واضحة منذ البداية فالدين الإسلامي الذي كان للعقل فيه الدور الأكبر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال التوجيهات الآلهية في النص القرآني ( أفلا يتدبرون القرآن .. النساء) شهد مرحلة  إرتداد فكري بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ووضحت أجواء هذا الإرتداد في بدايات خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وماشاب تلك المرحلة من  إنقلاب على حقه في الخلافة والصراع بين الأطراف المتناقضة .

 وإذا  كان  الإرتداد المادي ( إرتداد القبائل ) في وسط الجزيرة العربية جرت  تصفيته على يد الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه ودعم  من  كبار الصحابة  ( حروب الردة ) إلا  أن  الجانب الفكري ظل بعيدا عن  التناول فترة طويلة  من الزمن جذرت خلافاته وعمقتها ، رغم أن الواقع الإجتماعي في ذلك  الوقت لم يتخلص كليا من التبعية والتقليد (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .. الزخرف ).

دور العقل تضاءل أمام  الأدوار الأخرى وخاصة دور النص أو مايسمى النقل ، وربما نستطيع أن نسجل إنحسار دور العقل كليا في بداية شهرة الإمام الثاني من المذاهب الأربعة مالك بن أنس (  ولد مالك سنة 93 هـ بعد وفاة الإمام أبي حنيفة بما يقارب 29 عاما  وتوفي سنة 179هـ ) الذي جمع كتابا سماه الموطأ بإشارة من المنصور العباسي وكاد أن يفرضه قانونا  ليجمع الناس عليه لكن الإمام مالك تخوف من تداعيات مثل تلك الخطوة على طبيعة الأمور ، غير أن ماجرى كان مؤشرا على المسار المستقبلي للعلاقة بين العقل والنص .

 في  السنوات  اللاحقة ثبت الإمامين محمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل مسار  القطيعة الكاملة مع العقل وتبعهم كثيرين ، من أمثال الإمام أحمد بن تيمية الذي حاول أن يقول في كتابه درء تعارض العقل والنقل ، أن العقل لايعترض على مايذهب إليه التوجه الفكري الذي تبنياه ( ينحصر دور العقل في  التأكد من صحة النقل ) [3] ،  وهناك أيضا محمد أمين الإسترابادي (المتوفى سنة 1033هـ) الذي أنكر مصداقية العقل بشكل  قطعي .

الهجوم الشرس على الفلسفة كان عنصرا أضافيا في تحجيم  دور العقل ، وتكريس الدور الآخر ، خاصة بعد نشر كتاب تهافت الفلاسفة للإمام أبي حامد الغزالي الذي أتخذ ذريعة لتحميل العقل كل الأخطاء دون تمحيص ، ويبدو لي أن منطلقات تلك الهجمة غلب عليها البعد الطائفي .

ورغم محاولة إبن رشد التخفيف من تلك الهجمة الشرسة بتناول المسائل التي طرحها الغزالي في كتابه ( 20 مسألة 16 منها في الآلهيات وأربع مسائل في  الطبيعة ) إلا أن محاولته تلك لم تتمكن من تخفيف حدة الهجوم خاصة وإن المزاج العام ( الشعبي ) بين رجال الدين كان ضد الفلسفة .

 إزداد هذا النهج قوة مع مرور الوقت حتى عصرنا الحالي ومع إزدياد قوته برزت تحالفات بين السلطة ورجال الدين أشبه ماتكون بالإكليروس الكنسي ، وربما يندهش المرء عندما يسمع العبارات التي يطلقها ذلك التحالف لشده شبهها بالعبارات التي يطلقها رجال الكنسية في العصور المظلمة على إعتبار أن تحالفهم لم يقم إلا من أجل حماية الدين والحفاظ عليه .

يمكن رؤية هذا النهج ( النقل ) متجسدا على شكل دولة في أكثر من مرحلة من مراحل التاريخ ، ويمكن مشاهدته متجسدا في  الوقت الحاضر في نظام المملكة العربية السعودية السياسي ، فالتحالفات التي  يقوم عليها تستمد بقاءها وإستمراريتها من فكرة (( الوصاية )) الكاملة على العقل وإبقاءه في إطار النص .

في بدايات القرن الثاني الهجري (80 هـ- 131 هـ) في البصرة ( في أواخر العصر الأموي ) كان هناك تجربة لم يكتب لها النجاح لجملة من الأسباب مع ضرورة الإشارة إلى تواضعها لكنها بدت علامة فارقة في الفضاء الإسلامي حينها وهي تجربة المعتزلة حيث سمحت تلك التجربة بتبلور مسار جديد دون أن يترتب على ذلك المسار قطيعة مع الدين بشكل كامل [4]، بل كانت محاولة للتخفيف من ( توحش ) النهج الآخر وإعادته  للسياق المفترض أن يسير عليه ، بالطبع كان هناك " شطحات " مع تطور تلك التجربة ودخولها في معارك كلامية مع خصومها مثل تقديم العقل على الكتاب والسنة النبوية بدل محاولة تفسيرهما تفسيرا عقلانيا لكن التجربة سقطت فيما يبدو في نفس الإشكالية التي ثارت عليها مع مرور الوقت وإتساع رقعة المعارك.

صحيح أن فكر المعتزلة بلغ ذروة قوته في عصر الدولة العباسية بتبني بعض الحكام لها لكن بداياتها ظهرت في مرحلة من أشد مراحل التاريخ الإسلامي تعقيدا فيما يسمى زمن " الفتنة " في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي أنتهى بإغتياله، وقد طرحت تلك الفترة حزمة من الإسئلة حول دور العقل والنص وحدود كل منهما في أكثر المواضيع جدلية في  التاريخ الإسلامي يتعلق بطبيعة النظام السياسي ودور الخليفة والحدود التي ينبغي له التوقف عندها  ، ومن هو الأحق من غيره بأن يكون في هذا الموقع . 

تلك الصراعات خطت المسار الذي يتسيد الساحة الإسلامية حاليا وربما بشكل أشد قسوة ، وقد غلب  على تلك الصراعات " توظيف " النص القرآني لإسباغ الشرعية على تصرفاتها وإلباسها لبوس ديني مقدس من أجل تجريد الطرف الآخر من حجته القائمة على العقل ، ويمكن أن يسجل للأمويين تلك الخطوة عندما إستخدموا النص القرآني والحديث في صراعهم مع الإمام علي رضي الله عنه .

هل يمكن  الخروج  من  هذا المأزق ؟

يبدو أن من الصعوبة خلق واقع جديد يمكن من خلاله إعادة صياغة المشهد الإسلامي بشكل عام ، خاصة وأن الأفكار والأدوات التي دفعت إلى المسار الحالي لازال تننتج نفسها ، وما الصراع بين الطوائف الإسلامية الذي نراه حاليا خاصة بين السنة والشيعة ، وربما الإباضية إلا إستمرار للخلاف  الفكري القديم المتجدد عن دور العقل والنص وحدود كل منهما ، لكن هذا لايعني أن المستحيل هو الخيار المتوفر بل يمكن أن يكون هناك فرصة إذا ماطرحت هذه القضايا الشائكة في  إطار الخيارات العقلانية .

فك التشابك بين الدولة والدين والإعتراف بأن المجتمع الإسلامي وصل إلى مرحلة من التناقضات غير قابلة للحل إلا من خلال حصر دور الدين في حاجات  المجتمع ، مثل ( الأرث ، الحدود، القصاص ) وترك الفرصة للعقل لإستنباط فكرة جديدة تتعلق بطبيعة الدولة  وليس هناك مايمنع من الإستفادة من تجربة ( ماليزيا ) بالتحديد بإعتبارها نموذجا إسلاميا يمكن تطبيقه في بيئات أخرى  .

لابد من التفريق بين الدولة كمؤسسة وبين الإدارة فالمؤسسة ينبغي أن تكون مجردة من الإيدولوجيا لكن هذا لايعني أن لاتدار من جانب الإيدولوجيا فيما لو حصلت الأخيرة على تفويض شعبي للإدارة ، كما يحدث في تركيا ، أو في دول أخرى لديها أيدولوجيات مختلفة .

إنشاء مؤسسة تضم في عضويتها مفكرين من كافة المذاهب والأفكار خيار بشرط أن تفضي مهمتها إلى إجراء مراجعة نقدية للتاريخ الإسلامي وأن تحظى تلك المؤسسة بالوقت اللازم في إتمام تلك المراجعة ويكون التركيز على أهمية إعطاء العقل الدور الذي يستحقه ، وفي التأسيس لحوارات مع بقية الأفكار والإيدولوجيات ، فهناك الكثير من التجارب الناجحة على صعيد الإدارة التي ينبغي الإستفادة منها .

إعادة صياغة العلاقة بين السياسي ورجل الدين فهناك الكثير من  العثرات  يمكن تقييدها على إختلال  العلاقة فيما بينهما والشواهد في  التاريخ الإسلامي كثيرة ، خاصة وأن الدين لايقبل الحلول الوسط ، فيما يمكن أن تكون تلك الحلول خيارا على الساحة السياسية ، ويمكن أن تكون هناك معايير لضمان ألا تلتبس تلك العلاقة مرة أخرى .

محاولة ترشيد الشعارات التي ترفعها بعض الجماعات الإسلامية لأن بعضها مضلل مثل ( الإسلام هو الحل ) و ( فكرة الخلافة ) لأن تلك الشعارات تخدع عوام الناس وتجعلهم يعيشون رومانسية تاريخية ، ويمكن للعقول  المتطرفة من حشدهم بكل سهولة من أجل تحقيق تلك الشعارات رغم أنها لاتحمل أية مضامين حقيقية .

إعادة النظر في قائمة الحلال والحرام التي تمددت مع مرور السنوات وتسابق بعض  رجال الدين لوضع بصماتهم عليها حتى أصبح التفكير العلمي جريمة ، بالإضافة إلى التخلي عن نزعة " التكفير " التي إجتاحت المراحل التاريخية اللاحقة من التاريخ الإسلامي ، وإستعادة دور الفلسفة  .

 



[1] مالك بن نبي - شروط النهضة - ص 127

[2] الإمام أبي حنيفة كان يقول : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه ولو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم - البحر المحيط، فقرة 82

[3]   - درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص20ـ22.

[4] - عبد الجبار بن أحمد ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، طبعة تونس، 1972، ص 128.