أيّ دورٍ للتصوّف في مواجهة التحدّيات المعاصرة ؟

أيّ دورٍ للتصوّف في مواجهة التحدّيات المعاصرة ؟

أيّ دورٍ للتصوّف في مواجهة التحدّيات المعاصرة ؟

 

 

                                                                                أ.د. أسعد السحمراني

أستاذ العقائد والأديان في جامعة الإمام الأوزاعي- بيروت

تمهيد:

تتقاذف سفينة البشريّة في مسارها في هذه الأيّام أمواجٌ من المشكلات والتحدّيات تهدّد سعادة الإنسان المستخلف في الأرض، وتنذر بحالاتٍ من الفوضى الأمنية، والفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ممّا ينذر بإطالة عمر التنازع والاقتتال، وبازدياد مقدار الجور والظلم اللاحق بإنسان اليوم.

حيال ذلك يتطلّع الجميع إلى برّ الأمان لترسو عليه سفن البشريّة باستقرارٍ وهناءة تحقّق مقاصد الشريعة على مستوى الإنسان الفرد والمجتمع. ولأنّ الفراغ الروحيّ يأتي بين عوامل هذه الفوضى ومعه أشكالٌ من الغرق في ظلمات الماديّة، فإنّ أصواتاً باتت تظهر في أكثر من ساحةٍ تنادي بأنّ تزكية النفوس على المستوى الفرديّ، وانتظام الناس في مسارٍ ملتزمٍ بمنظومةٍ قيميّة سامية إنّما هو الدواء لهذه المشكلات، وهذا الدواء موجودٌ في صيدليّة التصوّف الذي هو ثورة روحيّة على هذا الواقع المتردّي.

أمّا المعالجة فإنّها تتمحور في الميادين الآتية:

 

1-الشرع مرجعية التصوف:

إن الواقع الإسلامي المعاصر يشهد حالات من الانقسام الحاد حيث تتباعد المواقف، وتتباغض الأنفس، وتتصادم المذاهب والمجموعات، وتضيع هباء طاقاتٍ وجهوداً؛ لأنّ مجاميع من الحركات وحالات الانتظام تخلط بين الشرع والفقه، وتتضارب الاتجاهات بسبب الاجتهادات والآراء، وكان الأصل أن يتوافق الكلّ على قاعدة مفادها: الشرع (القرآن والسّنّة) واحد وهو المرجعية، والفقه متنوع بتنوع الأفهام والأفكار والمواضع والأزمنة، وكلّ ذلك ثراء إذا تمّ التعامل معه بعقل رشيد قائم على سنّة التعارف لا التناكر ولا التنازع.

إن الاحتكام في كل أمر أنما هو للشرع قرآناً وسنّة، وكلّ ما خالفهما لا مكان له عند المسلمين عامّة، وعند أهل التصوف خاصّة.

والدعوة ومسار حركة الصلاح والإصلاح للإنسان فرداً ومجتمعاً محتاجة جهود العلماء والفقهاء والصوفية، فهذه الجهود تتكامل لتحفظ للإنسان إيمان والتزامه وظاهره وباطنه.

وقد عبّر عن ذلك السراج الطوسي قائلاً:

"وعندي، والله تعالى أعلم، أنّ أولي العلم القائمين بالقسط الذين هم ورثة الأنبياء، هم المعتصمون بكتاب الله تعالى، المجتهدون في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، المقتدون بالصحابة والتابعين، السالكون سبيل أوليائه المتقين وعباده الصالحين، هم ثلاثة أصناف: أصحاب الحديث، والفقهاء، والصوفية... وكذلك أنواع العلوم كثيرة؛ فعلم الدين من ذلك ثلاثة علوم: علم القرآن، وعلم السّنن والبيان، وعلم حقائق الإيمان."[1]

ويقرّر السراج الطوسي أنّ علماء الحديث والفقهاء والصوفية هم الملاذ لكل طالب علم، ولكل من التبس عليه فهم، أو أشكل عليه أمر، وذلك كي يتجنب الإنسان مزالق الشطوط، والسقوط في وديان سحيقة إن هو ترك قياده للجهلة أو أنصاف المتعلمين أو الأدعياء وأصحاب الأهواء. قال السراج الطوسي: "فكلّ من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقوقه وحقائقه وحدوده، وأحكامه ظاهراً وباطناً فلا بدّ له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة: أصحاب الحديث، والفقهاء والصوفية، وكلّ صنف من هؤلاء مترسّم بنوع من العلم والعمل والحقيقة والحال، ولكل صنف منهم في معناه علم، وعمل، ومقام ومقال، وفهم، ومكان، وفقه."[2]

إن الدعوة ومسار حياة المسلم باعتدال وتوازن لا إفراط فيه ولا تفريط يحتاج للمخزون الفكري الفقهي والعلمي، وفي الوقت عينه يحتاج المخزون الروحي الذي يشحذ العزائم ويهذّب الشخصية، ويقوّم السلوك والفعل.

وقد تناول هذا الأمر عبد الرحمن بن خلدون حين قال: "وصار علم الشريعة على صنفين:

-            صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات.

-            وصنف مخصوص بالقوم (الصوفية) في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد."[3]

وإن إعداد جيل واعد يستطيع النهوض بإنجاز حضاري مرموق يكون بتربية رشيدة تعتني بكلا جانبي الشخصية: العقلية والوجدانية. ومن أراد سلوك طريق التصوف لا بدّ له من قسط من الفقه، وقدر من العلوم والأفكار، وإلا يُخشى عليه من الشطط والشطح لو أنّه سلك الطريق الصوفي وهو لا يملك ما هو ضروري من مباني المعرفة.

ومما جاء في هذا الباب واقعة ذكرها أبو طالب المكيّ هي: "حدّثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السّقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي. فقال: نعم، خذ من علمه وأدبه... قال: فلمّا ولّيت سمعته يقول: جعلك الله –تعالى- صاحب حديث صوفياً، ولا جعلك صوفياً صاحب حديث.

يعني أنّك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن، ثمّ تزهّدت وتعبّدت تقدّمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً. وإذا ابتدأت بالتعبّد والتقوى والحال شغلت به عن علم السنن، فخرجت إمّا شاطحاً أو غالطاً، لجهلك بالأصول والسنن، فأحسن أحوالك أن ترجع إلى علم الظاهر وكتب الحديث، لأنّه هو الأصل الذي تفرّع عنه العبادة والعلم، وأنت قد بدأت بالفرع قبل الأصل."[4]

فالبداية السليمة للطريق الصوفي أن يحصّل السالك العلوم الدينية أولاً، ثمّ يأتي دور المقامات والأحوال، وأولها الزهد. لكن الصوفية يتجنبون ما فيه شغب وتناقض، ويعتمدون مرجعية الفقه مع التقدير لكل فقيه مصيب في اجتهاده انطلق من الكتاب والسّنّة.

وقد بيّن الكلاباذي ذلك حيث قال: "إنهم يأخذون لأنفسهم بالأحوط والأوثق فيما اختلف فيه الفقهاء؛ وهم مع إجماع الفريقين فيما أمكن. ويرون اختلاف الفقهاء صواباً، ولا يعترض الواحد منهم على الآخر، وكلّ مجتهد عندهم مصيب، وكلّ من اعتقد مذهباً في الشّرع، وصحّ ذلك عنده بما يصحّ مثله مما يدلّ عليه الكتاب والسّنّة، وكان من أهل الاستنباط فهو مصيب باستفادة ذلك، ومن لم يكن من أهل الاجتهاد أخذ بقول من أفتاه ممن سبق إلى قلبه من الفقهاء أنّه أعلم وقوله حجّة."[5]

وإنّ واقعنا المعاصر يحتاج هذا المنهج الذي هو الرجوع إلى أهل الفقه ممن توافرت لهم مقوّمات الشخصية العلمائية ليقدموا الاجتهادات والآراء، وبعد ذلك يكون دور المجامع الفقهية التي تدرس بشكل جماعي الاجتهادات والآراء وصولاً إلى إصدار الفتاوى المناسبة التي تنطلق من المصدر الأصلي في الكتاب والسّنّة، وبعدها يكون التراث الفقهي والفكري، ومن ثمّ يأتي دور الرؤى المعاصرة التي تكون على علم ودراية تامّين بشؤون العصر ونوازله، والتي تحيط علماً بكل متعلّقات الموضوعات المطروحة، ومعها الإحاطة بالظروف والتحديات كي تأتي الفتاوى والتوجيهات الشرعية بالشكل الملائم الذي يلبي حاجات الأجيال فكرياً وتربوياً، وبالقوة التي تردّ كل التحديات. وإذا كان المسلمون قد زادوا عن 1700 مليون في العالم، وإذا كان منسوبو التصوف بمئات الملايين، وقد يقاربون مع أسرهم ثلث المسلمين. لكنّ المهمة الفقهية العلمائية إنّما هي مهمة منوطة بأعداد غير كبيرة من المؤهلين، وإلى هذا وجّهت الآية الكريمة في قول الله تعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾. (سورة التوبة، الآية 122).

نخلص مما تقدّم إلى القول: إن التجديد ضرورة كي تستميل معاقل التزكية والتربية أجيال الأمة، وليجد فيها الناشئة المنهل العذب والمورد الكافي فكراً وروحاً، وبذلك تنطلق مسيرة التحصين لشباب اليوم من مغريات تجذبهم إلى الغلو وردّات الفعل غير المحسوبة النتائج التي تظهر من خلال السلوك المتطرف والإرهابي، أو تجذبهم إلى الخطر الآخر الذي هو تفريط واستهتار بالقيم، وانحدار إلى مستويات هابطة من السلوك والفنون.

والتصوف تربوياً مؤهل للإصلاح حين يجمع القائمون عليه بين علوم الشريعة وعلم الحقيقة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الالتزام بالمقاصد الشرعية السامية مع الاستفادة من تقنيات العصر واختراعاته وعمرانه، وهذا التصوف يمكنه أن يجدد في الدعوة والدعاة، وفي الالتزام بالسلوك القويم في الحياة العامة لتنطلق المسيرة في سفينة نجاة البشرية جمعاء من خلال رسالة الأمة الوسط التي تدعو إلى الخير، وتمارس مهمة الأمر بالمعروف قولاً وفعلاً، والتي تقاوم المنكر والباطل بأعلى الدرجات، وبأغلى الأثمان كي تنجو البشرية من شرور مدارس الاستعمار والعدوان المادي والمعنوي الظالم المتستر بغطاء حضارة مزيّفة يعتمد قادتها أنظمة جائرة، ورأسمالية متوحشة، كل ذلك ليكون في ظلال فكر وسلوك الأمة الوسط أمان واطمئنان، وكرامة للإنسان وحرية مع عدالة وعدل لا ميز معهما بين بلد وآخر، ولا إنسان وآخر، إلا بمقدار ما يكون ملتزماً قيم الخير والحق والعدل والجمال.

إن المهمة غير سهلة، لكنها غير مستحيلة، ويسرها يبدأ من الإيمان بلا تعصب، ومن العمل الذي يسير على الطريق القويم، والذي يتمتع القادة والمتقدمون والعلماء فيه بالحكمة والعقل الرشيد.

 

2- التربية:

تشمل التربية جانب القول والفعل، والفكر والسلوك، كما أنّها تعنى بالحياة النفسيّة الجوّانيّة للشخص وبحاجاته العضويّة/الماديّة. ومدارس التصوّف وضعت منذ أصل النشأة هذه الأمور في دائرة اهتماماتها، حيث كان ولا يزال الزهد المقام الرئيس والأول في الطريق، ومعه التزكية للنفس بالإيمان الراسخ، وبالفضائل ومنظومة القيم التي تتسامى بالإنسان علوياً سعياً لتحقيق القرب من الله تعالى، وذلك تأسيساً على القاعدة القرآنية: ﴿قد أفلح من زكّاها﴾ (سورة الشمس، الآية 9) وعلى القاعدة المحدّدة في الحديث النبوي الشريف: "إزهد في الدنيا يحبّك الله - تعالى-، وازهد فيما في أيدي الناس يحبّوك."[6]

إن الشيخ في الطريقة الصوفيّة أو من ينوب عنه ليس أكثر من مربٍّ للسالك يُعنى بصقل شخصيّته، وتهذيبها وتذخيرها بالفضائل والقيم والمثل العليا بحيث تكون هذه العمليّة التربويّة في حلقات الذكر والتوجيه إسهاماً في التشكيل الجديد لشخصيّة السالك، وفي التكوين البنيوي للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع.

وإذا كان أبناء الجيل في هذه الأيّام معرّضين لأشكال من البلاء والاختبار، والتحدّيات التي لا حصر لها، وفي الوقت عينه يجد المتابع أنّ العمليّة التعليمية تتمّ من قبل الغالبيّة من المدرّسين بشكلٍ آليّ يقدّم المادة العلمية دونما انتباه للجانب التربوي، ويصحّ مع ذلك القول: إنّ عدداً غير قليل من العاملين في التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات يمارسون التعليم بلا اهتمام بالتربية، وبصقل شخصية الطالب.

إنّ الدور الحضاري لا ينطلق إن لم يتمّ إعداد أجيال واعدة مسلّحة مع العلم والخبرات بالإيمان والخُلق، لأنّ من يكيدون لمجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة يريدون لأجيالنا أن تحيا بين حالتيّ الإفراط والتفريط، وكلاهما كأنّه عبادة لله تعالى على حرف، وصاحبه غير واثق الخطى، ولا هو متوازن الشخصيّة، وإنّما تغويه الإغراءات وترعبه التهديدات.

وقد حذّرنا الحقّ سبحانه وتعالى من ذلك في الآية الكريمة: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.﴾ (سورة الحج، الآية 11).

إنّ التربية المتوازنة للشخصيّة، وللنفس الزاكية هي التي تستطيع تحصين الناشئة من مخاطر الانفعال، ومن الغلوّ الذي هو مرض، لا بل داء فتّاك عواقبه وخيمة. وهذه التربية المتوازنة تقي الجيل من التهويل والوعيد، وكذلك تقيه من التهوين والتفريط الذي يدفع بعض أبناء الجيل إلى سلوكيّات فيها لستهتار بالقيم.

والتربية القويمة سلوكياً، وفي إطار الاهتمامات المطلوبة التي تلتزم هوية الأمة في الوسطية، والتي يعطي فيها السالك لكلٍّ من الدنيا والآخرة ما هو وافٍ بتحقيق الفوز والسعادة، وقد حدّد ذلك الأمر الربّاني في الآية الكريمة: ﴿وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحبّ المفسدين﴾ (سورة القصص، الآية 77).

هذا ما يناسب التربية الصوفية، إنّه الاكتفاء من المطالب الدنيويّة بما يسدّ الحاجات، ويؤمّن أسباب العيش الكريم، لكنّ الاتّجاه الأساس يكون في كلّ قول وفعل إلى الإعداد للسعادة الأُخرويّة، ويدخل في هذا الإعداد أمر الفداء والتضحية من أجل الآخرين، ومن أجل القيم والمثل العليا، ومن أجل الوطن والمجتمع، ومن أجل حماية الدين والمقدسات، ومن أجل تحقيق كرامة الإنسان المستخلف في الأرض، وكلّ ذلك في دائرة الاهتمام الصوفي تربوياً.

أمّا إذا عاد الكلام إلى العمليّة التعليمية فإنّ المتابع يجد أنّ تأسيس حلقات العلم، وأماكن التحصيل العلميّ قد دخل في اهتمامات كلّ الطرق الصوفية لأنّها حاولت السعي للارتقاء بمريديها معرفياً، لأنّ الجهل جذر الشرور كلّها.

وإذا يممنا شطر السنغال فإنّنا نجد الحال كسواها من البلدان وكان بالنسبة للصوفيّة والتعليم ما يلي: "اعتمد مؤسّسو الطرق وناشروها على التعليم كوسيلة للدعوة. فقد أنشأوا لذلك مدارس يحفّظ فيها القرآن الكريم، وتدرّس العلوم الإسلاميّة، وكان كبار الشيوخ يقومون بالتدريس فيها، ويعدّون أولادهم لمواصلة العمل. وكان المتخرّجون من هذه المدارس يقومون بإنشاء مدارس مماثلة في مناطقهم."[7]

أما المريدية فقد قرّر مؤسّسها أن يجمع بين العلم وتهذيب الشخصيّة وتزكية النفس. وقد قيل فيه: " والحاصل أنّ هذا الشيخ عزم على تجربة نظام يجمع بين التعليم الأساسي الضروري لمعرفة أحكام الدين والتربية الصوفيّة القائمة على التطبيق، لأنّه رأى أن مجرّد التكثير من حفظ أقوال السادة العلماء يمكن أن ينال به المرء إعجاب أصحابه، ولكن لا ينال رضى الله -تعالى-، إلّا إذا زاد عليه عملاً يقوم على الإخلاص."[8]

إلاّ أنّ ما يجدر تسجيله كملاحظة هو أنّ المؤسّسات التعليمية التابعة للطرق الصوفيّة اقتصرت بداية على العلوم الدينية، وعلوم اللغة العربيّة، وبعض المعارف الضرورية؛ هذا ما كان عليه ما يسمّى: التعليم الأصلي الذي انتظم في محاضر أو خلاوي أو معاهد. وباتت مواكبة العصر محتاجة إلى تنظيم تعليمي يعتمد التمدرس، والهيكليات التعليمية المتدرجة كي تحصل الملاءمة بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق العمل، لأنّه من الأهمّية بمكان أن ينخرط الصوفيّون وحملة العلوم الدينية في مؤسسات العمل وفي الإدارات العامّة بوصفهم مسلّحين بالخُلق القويم، ومتربّين على الفضائل السامية مع التأهيل العلمي والتقني، وهذا التعليم حاجةٌ لسلامة الإدارات، ولإتقان العمل بما يحقّق التنمية المطلوبة، والتطوّر المنشود.

 

3- الطرق الصوفيّة ومواكبة العصر:

لقد عرفت العقود الأخيرة منذ منتصف القرن العشرين الميلادي إلى يومنا هذا تطوّراً هائلاً في المنجزات الحضاريّة، خاصّة في ميدان التقنية، حيث أصبح هناك يسرٌ في التواصل والاتصال، وفي الانتقال، وفي نقل المعلومة دونما حاجة إلى وقت.

لذلك يكون الواقع محتاجاً إلى مواكبة يقوم بها الدعاة المسلمون في كلّ ميادين الدعوة، ونشر الفقه والفكر وسائر مندرجات الدعوة، والصوفيون مطالبون كذلك بأن ينحوا الاتجاه نفسه، ويكون ذلك بتأهيل منسوبي الطرق الصوفية من جهة استخدام تقنيات أدوات العصر، لا بل الواجب إقامة المصانع للاختراع والإسهام في التصنيع، ولتجهيز مؤسّسات الصيانة، والتدريب على استعمال الأدوات بكلّ أنواعها، لأنّ المؤمن الذي كتب الله تعالى له العزّة، لا يُقبل أن يكون فاقد الأهلية والاقتدار بأيّ من ميادين الحضارة، ولا يتناسب مع عزّة المؤمن أيّ إحساس بالدونيّة في النظرة إلى الآخر؛ ولا يجوز في حقّ المؤمن العزيز أن يكون في جانبه الجوّاني النفسي أي مركب نقص من الاستعلاء أو الدونيّة، وإنّما يكون المؤمن متوازن الشخصيّة، واثق الخطى، معتداً بانتمائه ومكونات شخصيّته ليكون مؤهّلاً لقيادة سفينة النجاة بالأمم والشعوب إلى شاطئ الأمان والأمن.

إنّ الخطر المحدق بالإنسان فرداً ومجتمعاً إنّما هو آتٍ من جهة انفلات التعامل مع الثروة والمادّيات من أيّة ضوابط، ومن التزام منظومة عمادها الكمّ والرقم، وترك العالم للحيتان باسم العولمة حيث تقود الولايات المتّحدة الأمريكية وشركاؤها مسيرة رأسمالية متوحّشة تمارس نشر المفاسد والرذائل لأنّها مسيرة بلا قيم ناظمة تلتزم الأخلاق والمثل العليا، بل تركت لمسارها العنان في الاحتلال والاغتصاب، ونشر القواعد العسكرية ومعها الرعب عالمياً، هذا عدا السرقة بجشع للثروات، وجلب الشقاء والفقر للملايين في العالم.

ولأنّ الإنسان هو الأصل في الفهم الإسلامي، فإنّ واجب المنتظمين في الطرق الصوفية أن يعملوا لامتلاك القدرات والكفايات التي تمكّنهم من المواجهة لإنقاذ المعذّبين من براثن الوحوش الأطلسية الرأسماليّة، ومن المعتدين الصهيوأمريكان الذين يعيثون في الأرض فساداً ويهلكون الحرث والنسل.

إنّ حشد الطاقات محتاج لوسائل التقنية، وللجذب والتيسير ولتهيئة مناخات روحانية تسدّ الفراغ الذي ولّدته المفاهيم المادّيّة، ولتأمين فضاء ثقافي دعوي يجد فيه المريدون السبيل إلى حياة هانئة، وتتحقّق في ظلالها كرامة الإنسان التزاماً بقول الله تعالى: ﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً.﴾ (سورة الإسراء، الآية 70).

 

4- الاقتصاد في رحاب التصوّف:

لقد استخلف الله تعالى الإنسان في الأرض، ووهبه منحاً وأرزاقاً، وإذا كان حفظ النوع وحماية الحياة محتاجين لهذه العطاءات الإلهيّة، فإنّ المطلوب في رحاب الفهم الإيمانيّ أن يكون هناك عاصم من الضمير والأخلاق السامية كي لا يكون حال من الإسراف أو من الشحّ والبخل.

والأمر الآخر هو الاتّجاه للإنسان لتحقيق منهجيّة التسخير لا أن يكون الإنسان عبداً للمادّة والتقنيّة. ولهذا نجد الإنسان المؤمن والواثق من نفسه، والأصيل في التزامه بالشريعة عاملاً "بداعٍ من طبيعته من أجل الحفاظ على النوع، وبوحي من ضميره من أجل تقدّمه، فهو إذن مزوّد بسلطة مزدوجة، ولكنّ التكليف هو الذي ينظّم العلاقة الداخلية لهذه السلطة المزدوجة، بحيث يكون عمل الغرائز واندماجها مطابقاً لرسالته الاجتماعيّة، ومن هذا التركيب ينتج نظام الأفعال الاجتماعية المنعكسة."[9]

هنا تأتي التربية الصوفية التي تثري ضمير الإنسان بالروحانية وبالقيم وبالسير في الحياة مع الإحساس الدائم برقابة الله تعالى، ممّا يجعل الإنسان مستقيماً عادلاً لا مكان في ممارساته لاستغلال أو ظلم أو فساد اقتصادي، وعند هذا الحدّ يأتي التأكيد على دور التربية عموماً، والتربية الصوفية في صقل شخصية الإنسان بوصفه الرأسمال الرئيس في صناعة التقدّم والتنمية.

" فالمشكلة الاقتصاديّة يبدأ حلّها السليم، عندما تكون الخطوة الأولى هي إعادة الثقة بالنفس للإنسان والمجتمع، خاصّة من يكون في موقع السلطة والقيادة، فضمانة استمرار التقدّم الاقتصادي هو الإنسان، بما يقدّم من جهد وعمل، وبما يحدّده من قنوات للصرف دون هدر أو إفراط.

إنّ بناء المصانع المتّعدّدة، واستصلاح المساحات الواسعة من الأرض عملية ممكنة، ولا تعترضها مصاعب وعقبات، ولكنّ الأمر الأكثر صعوبة هو بناء الإنسان بناءً متجدّداً مؤسّساً على قواعد التوازن الروحي - المادي في الذات، والتوازن بين أداء الواجب والمطالبة بالحقّ في العمل."[10]

لقد أشاعوا فلسفة الاستهلاك، وعمل الغرب مع البنك الدولي كي يكون الوطن العربي والعالم الإسلامي مستهلكين لا منتجين، وهنا يحضر الدور الفاعل للتصوّف حين يتّجه إلى تربية وتثقيف عمادهما إنتاج الحضارة قبل استهلاك منجزاتها، وتخصيص المال والإمكان المادّي للإنفاق الإنتاجي قبل الإنفاق الاستهلاكي، ومقاومة الخلل الاقتصادي الذي ترك ملايين الناس أسيري الفقر والجهل والمرض والتشرّد، لتتوافر مقوّمات العيش الكريم لكلّ إنسان انطلاقاً من أنّ الله تعالى قد كتب له التكريم.

والطرق الصوفية عندها مهمات مضافة إلى تربية المريدين على هذا المفهوم الاقتصادي، هي تنظيم مؤسّسات زراعيّة وصناعيّة وإنتاجيّة تكون على شكل شركات مساهمة تتموّل من المريدين المقتدرين، فهذه المؤسّسات الإنتاجيّة تكون من خلالها فرص عمل لأعداد كبيرة من المؤهّلين، وتكون الأموال موظّفة في مؤسّسات ملتزمة بالضوابط الشرعية في كلّ جوانبها، ويسهم ذلك في تعزيز الناتج الاقتصادي الوطني والقومي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وبذلك تتّجه المسيرة إلى الاكتفاء، والاستقلال، والمنافسة، بدل التبعيّة لمنظومة اقتصاديّة ظالمة يقودها الرأسماليون المتوحّشون.

 

5- دور التصوّف في الثورة والمقاومة:

إنّ التصوّف ثورات متنوّعة؛ أوّلها تلك الثورة الروحيّة أو الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، فالمقاومة الأولى مع الأنا إذا فاز بها الإنسان يُتوقّع منه الانتصار في كلّ مقاومة يخوضها. وثاني الثورات هي الثورة على الأمّيّة والجهل لأنّ المعرفة في رأس اهتمامات الصوفيّة، وتحصيل قدر من العلم الضروري شرط للانتساب إلى الطريقة عند أغلب الطرق. وثالث الثورات الصوفية هي الثورة ضدّ الظلم والعدوان، وقد تمثّل ذلك في أساس النشأة؛ لأنّ التصوّف بدأ رباطات في الثغور كان منها رباط عبادان على الحدود العراقية - الفارسية، ورباط المنستير في تونس وسواهما، وكانت الرباطات متكاملة الدور، تكون فيها العائلات والمساكن، والمرافق الاقتصادية والإنتاجية الضرورية، وينطلق منها المرابطون للفتح أو للدفاع عن الثغور.

ولقد جاءت التسمية من نصّ الآية الكريمة: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون.﴾ (سورة الأنفال، الآية 60).

وقد ذكر محمّد البهلي النيّال بشأن الرباط في المغرب العربي ما يلي: "قصر هرقلة، وقصر سوسة، وقصر الطوب، وقصر أبي الجعد، وقصر المنستير... والرباط يسمّى بالقصر إذا كان مشرفاً بزيادة عالية في بنائه أو بمنارات الاستكشاف، وهذه الرباطات كلّها من تدبير الدولة الأغلبية في تحصين الثغور جرياً على ما تقوم به دولة بني العباس في المشرق. كانت هذه الرباطات عامرة بالمرابطين والصلحاء والصوفية."[11]

أمّا في المشرق العربي فإنّ "عبادان كانت في الأصل أول رباط تجمّع فيه متطوّعة البصرة للدفاع عن هذا الثغر الإسلامي، وفيه رابط عدد كبير من مشايخ الصوفية مثل مقاتل بن سليمان (المتوفّي سنة 158 هـ) وحماد بن سلمة (المتوفي سنة 167 هـ)، وبشر الحافي ..."[12]

ويتواصل الدور الصوفي في المقاومة، فأبو الحسن الشاذلي الذي كان قد تجاوز السبعين من العمر وفقد بصره أصرّ أن يخرج على رأس المقاومة لغزو المحتلّ الفرنسي لويس التاسع الذي كانت هزيمته في المنصورة بمصر زمن المماليك في 1249م.

والصوفيون في الجزائر كان لهم دور مميّز في الحفاظ على العربيّة بمواجهة الفرنسة التي عمل لها المحتلّ الفرنسي، كما أنّهم قاموا بثورات مسلّحة وحملات في المقاومة من أجل تحرير البلاد. ولا يختلف الدور الصوفي عن ذلك في كلّ بلاد الغرب الإسلامي والشرق الإسلامي.

ويبرز في هذا المجال في بلاد السنغال الدور الثوري المقاوم ضدّ المستعمر الفرنسي الذي قام به مؤسّس الطريقة المريدية الشيخ أحمد بمبا عبدالله خديم رسول الله عليه الصلاة والسلام (1853-1927). فقد دعا الشيخ إلى مقاومة المحتلّ والحشد العام ضدّه لنيل استقلال البلاد، ولتخليص البلاد من ظلمه وسلطته، ومن تعليمه غير المناسب، ومن نهبه للثروات، واستغلاله لطاقات الناس، وكانت ردّة فعل المحتلّ الفرنسي هي فرض السجن والنفي والإقامة الجبريّة على الشيخ مدّة وصلت إلى 33 سنة، وإذا حذفنا مرحلة الطفولة والفتوّة تكون النتيجة أنّ مؤسّس الطريقة المريدية الشيخ أحمد بمبا قد أمضى أكثر من نصف مراحل حياته مقاوماً ثابت الخطى، لا يثنيه وعيد، ولا يغريه وعد، وهذا النموذج من الشخصيات المقاومة تحتاجه الأمة العربية والإسلامية هذه الأيام من أجل تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، ومن أجل تحرير القدس والمقدسات من تدنيسه وتهويده، وتحتاج مقاومة عامّة ضدّ كلّ المؤامرات والأطماع الاستعمارية في مشرق الأمّة ومغربها، والمقاومة تشمل كلّ ميادين الحياة وليس الاحتلال العسكري فقط، بل إنّنا نحتاج المقاومة الثقافية، والمقاومة التربوية التعليمية، والمقاومة الإعلامية، والمقاومة الاقتصادية، والمقاومة الأدبية، والمقاومة الفنيّة، والمقاومة العسكرية.

وإذا كنّا نلتقي في رحاب ذكرى المنفى من قبل المستعمر لمؤسّس الطريقة المريدية الشيخ أحمد بن محمّد بن حبيب الله إمباكي عبدالله خديم رسول الله تعالى عليه الصلاة والسلام، فهل يحتاج المعاصرون من الصوفية وغيرهم درساً أبلغ ليهبّوا إلى الإعداد وساحات المقاومة من أجل التحرير وتحقيق الاستقلال بكلّ تجلّياته؟

 



[1]  السراج، الطوسي، اللمع، تحقيق د. عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، القاهرة، دار الكتب الحديثة، وبغداد، مكتبة المثنى، سنة 1380 هـ - 1960م، ص22.

[2]  السراج، الطوسي، م.س,، ص 23.

[3]  عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ضبط وتقيم وشرح د. محمد الاسكندراني، بيروت، دار الكتاب العربي، سنة 2012، ص 433.

[4]  أبو طالب المكّيّ، قوت القلوب في معاملة المحبوب، ج1، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، سنة 1381هـ - 1961 م، ص 322.

[5]  أبو بكر الكلاباذي، التعرّف لمذهب أهل التصوّف، بيروت، دار الكتب العلمية، سنة 1400هـ - 1980م، ص 84.

[6]  أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد وقال: حديث صحيح.

[7]  خديم محمّد سعيد إمباكي، التصوّف والطرق الصوفيّة في السنغال، الرباط، منشورات معهد الدراسات الأفريقيّة، سنة 2002، ص119.

[8]  خديم محمّد سعيد إمباكي، م.س.، ص89.

[9]  مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة أ.د. عبدالصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، سنة 1974، ص65.

[10]  أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً، بيروت، دار النفائس، ط2، سنة 1406هـ - 1986م، ص283.

[11]  النيّال، محمد البهلي، الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي، تونس، مكتبة النجاح، سنة 1384 هـ - 1965م، ص 158، 159.

[12]  أ.د. عبدالحمن البدوي، تاريخ التصوّف الإسلامي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط1، سنة 1975، ص26.