إسلامية المقاومة: وحدة المشروع والأمة - قراءة بالمنهج الحضاري في لزوم ما يلزم

إسلامية المقاومة: وحدة المشروع والأمة - قراءة بالمنهج الحضاري في لزوم ما يلزم

 

 

إسلامية المقاومة: وحدة المشروع والأمة- قراءة بالمنهج الحضاري في لزوم ما يلزم

 

الدكتور سمير سليمان

أستاذ حوار الحضارات وعلم الاجتماع - الجامعة اللبنانية

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

لا تمتلك المقاومة المنتسبة إلى الإسلام بالعنوان أو بالإيديولوجيات أو بكليهما في العالم الإسلامي والعربي، استناداً إلى فرضية هذه المقالة، مشروعاً حضارياً ذاتياً بالمعنى الحقيقي للتملك، بما فيه من حصرية في الإبداع والتفرد والخصوصية. فمشروعها الحضاري من غير هذا العالم متنزل، ومن غيرها وغيره جاءت مشيئة وجدانه، كما سنبين لاحقاً.

أما هي فقد انتمت إليه أو انتسبت، أو اعتنقته وتماهت فيه، قبلها هو كان، وهو مستمر بعدها، بهديه اهتدت، وبقيمه ومُثُلِهِ آمنت واقتدت، ونهج شريعته نهجت وتولّت،.. فجاءت المقاومة هذه أحد أبرز تجلياته ونماذجه، وأحد أنضجها في الأزمنة المتأخرة، حتى أمست إحدى أهم روافع المشروع الإسلامي إلى صدارة النظام العالمي وقلب التدافع الحضاري والثقافي القائم، وقد اشتد فيه السجال واحتدم من أقصى الأرض إلى أقصاها. لكن هذه المقاومة - لحسن الحظ- ما ادعت على وجه العموم أنها معادل للإسلام أو اختزال له، أو أنها واسطة عقده. وهذه نقطة إيجابية تسجل "للمقاومات" الإسلامية في شتى الأقطار. ومن تجاوز بين ظهرانيها هذا "التواضع"، لا يبدو أنه قادر على الذهاب في ما ذهب إليه بعيداً.

 

في فرضية هذه المقالة أيضاً، أن قراءة المقاومة الإسلامية، وإسلامية المقاومة في العالم الإسلامي والعربي قمينة بتسليط الضوء على كثير من الإشكاليات المتعلقة بهما وتقديم مقاربات بحثية ومفهومية أكثر عمقاً وإحاطة من تلك التي توصلت إليها المناهج الأخرى.

 

إلى غير المفكر فيه من هوية المقاومة وانتمائها الحضاري ودلالاتهما، ومن خطابها ومنبثقاته، ومما لم تقله المقاومة في ما قالته، ومما لم تُنطقه في ما أنطقته ونطقت به، إلى ذلك تجنح إذن فرضيتنا لتخوض في علاقة الفعل المقاوم، وكل فعل، بالمسألة الحضارية، وكيف تكون المقاومة بالسلاح تكويناً حضارياً أصيلاً، وبناء على أي تصور، ووفاقاً لأية رؤية، واستناداً إلى أي مشروع، أو منظومة فكرية أو اعتقادية أو تأويلية، وسعياً إلى تحقيق أية أهداف.. ثم: ما المشروع الحضاري، بل ما الحضارة التي ذُهب في تعريفها كل مذهب، وكيف لها أن تكون مشروعاً، وهل لحضارة أو مشروع حضاري أن يكونا مكتفيين بذاتهما، مقطوعين عن ما عداهما لا جامع يجمع بينهما ولا مشترَك يقوم، وهل لمقاومة أن تصدع من غير مشروع حضاري.. ثم ما معنى أن تكون المقاومة ضد المحتل أو المغتصب أو ضد المستبد، إسلامية وهل لهذه المقاومة أن تكون مفاعلاً وحدوياً بين ظهراني المسلمين، وقد أمسوا موقوفين في العقود الأخيرة، كما في العقود المقبلة حسب ما نرى، على أحد أبرز التحديات الحضارية، ألا وهو: استعادة الوحدة الداخلية للمجتمعات المسلمة المتعددة مذهبياً، ولو بشكل نسبي، وبخاصة في بلدان المشرق الإسلامي والعربي؟.

 

هذا غيض من فيض تلك الأسئلة الإشكالية التي تستكنها فرضيتنا.. وكلها في المنهج تتقلب، وبه تستهدي.

 

لقد أمسى من باب تحصيل الحاصل للباحث اليوم اعتبار المنهج الحضاري أحد أكفأ مناهج دراسة تاريخ الاجتماع الإنساني بثوابته ومتغيراته، وأحد أهم مُشكِلي الوعي بحقائقها وصيرورتها. والظاهر بجلاء الآن أن حقل/ حقول الدراسة في «المجال الحضاري» قد تطورت ونمَت مؤخراً إلى درجة أصبحت فيها فضاء مترامي الأطراف يستحيل اقتصاره على نطاق بشري علائقي بعينه.

 

إن حجم الدراسات بهذا المنهج الحضاري قد توسع بصورة مدهشة في غضون عقد ونصف من الزمن، أي منذ إطلاق نظرية صامويل هانتنغتون من خلال القول بـ "صدام الحضارات" عام 1993([1])، حتى بات مستكملاً أكثر شروط العلم "المستقل" القائم بذاته الذي يكاد لا يترك ظاهرة من ظواهر الاجتماع إلا أحصاها...

 

ولأنه يعتمد منهجيات بحثية خاصة أحياناً، متقاطعة مع علوم اجتماعية أخرى سبقته فإننا لا نرى ضيراً في تثبيته علماً من العلوم الاجتماعية الأساسية أو من علوم الاجتماع السياسي أو الأنطروبولوجيا بالمسمى القليل التداول ذاته الذي كان اعتمده بنيامين نيلسون (1911-1977) : "علم اجتماع الحضارات" (Sociologie des Civilisations)، إذ يقدم مقاربة خاصة في دراسة وفهم علاقات البشر والجماعات والدول، كما يوجه إلى وعي مختلف وأكثر عقلنة في إدراك مكامن ومصادر الأفكار والقيم ومكونات الطبائع والسلوكيات الإنسانية الفردية والجمعية، وفي إدراك حراكها الداخلي وصيرورتها ومشتركاتها وخصوصياتها وانتماءاتها وهوياتها كما في فهم مكونات التوحد الداخلي أو التنابذ أو الفرقة في الاجتماع البشري.... إلخ.

 

يشمل هذا العلم - وبشكل أخص -أيضاً المجالات العلائقية بين الحضارات أو بين الثقافات في نشوئها وارتقائها، وفي تفاعلها أو تنافرها، وفي انعكاسات ذلك كله على تقدمها، أو جمودها، أو تحولاتها، أو تمثلاتها في العلاقات بين الدول، أو في أمن العالم وسلمه واستقراره، أو في توتراته وانزلاقه إلى التصادم والحرب...

 

يتجاوز علم اجتماع الحضارات هذا، التشكلات والمكونات والخصوصيات الإثنية و الثقافية والاجتماعية لهذه الحضارات ليتخذ لنفسه من تعالقها الحضاري ونظرتها إلى كل "آخر" ومحصلات هذه النظرة وتمثلاتها علماً آخر استكمالياً، تنطبق عليه تسمية "علم اجتماع الحضارات المقارن" أو "علم الحضارات المقارن". وما الظواهر الحضارية المعاصرة، كالاصطفافات الثقافية والسياسية، وما نشوء التكتلات بين دول المجالات الحضارية الواحدة أو المتقاربة، سوى قيمة مضافة إلى حاجة عالمنا بتنوعاته المختلفة إلى هذا النمط من علوم الاجتماع السياسي، وإلى تطوير منهجياته وطرائق البحث فيها،وذلك على طريق تعزيز وتطوير مقومات التعارف والتفاهم بين الجماعات وبين الشعوب، وإلى إرساء مسالمة حضارية وثقافية واجتماعية، هي بديل التسلط والعدوانية والهيمنة الثقافية والسياسية والتسيّد بكل أشكالها وتجلياتها، وهي كافةً قائمة على قاعدة الاعتراف بالآخر والتسليم بعجز أية قوة في العالم عن أن تستفرد بسيادتها عليه، مهما علا شأنها وارتفعت قوتها. فلا أمن ولا استقرار لعالم تتحكم فيه مركزية ـ أو مركزيات ـ حضارية أو اقتصادية أو ثقافية أو عسكرية، وَعُمّارُ هذه الدنيا اليوم خير الشهود لهذه الحقيقة وعليها، إنْ شئنا أن لا نستنطق التاريخ وحده.

في مفهوم "الحضارة" و"المشروع الحضاري" وإشكاليات المصطلحين:

في رأس المصطلحات/ المفاهيم الإشكالية في ميدان الدراسات الحضارية، يأتي مصطلح "الحضارة" نفسُه، كما أمسى معروفاً .

 

قبالة تعارض المفاهيم وتكثُرها حول مصطلح "الحضارة، وبهدي أبحاث ومتابعات معمقه ومقارنة أجريناها، توصلنا إلى مقاربة نعتبرها معقولة لوضع تعريف جامع لمفهوم "الحضارة" وجدناه الأكثر ملاءمة للقراءة بالمنهج الحضاري، ومن شأنه فض "الاشتباك" الدائم: بين مصطلح/ مفهوم "الحضارة" من جهة، وبين مصطلحي/ مفهومي: "الثقافة" و"المدنية" من جهة أخرى.

 

لنَزْع التداخل المشوّه بين المصطلحات الثلاثة رأينا لزوم التمييز بين مفهوم "الحضارة"، وبين مصدرها الكياني أو التكويني ومنتج هويتها، وهو ما نسميه: "المشروع الحضاري". فالحضارة في اجتهادنا هي شيء/ أو كائن، "والمشروع الحضاري" هو شيء آخر/ كائن آخر، وإن كان وجود أحدهما شرطاً ضرورياً لوجود الآخر.

 

وعليه نرى إلى أن "المشروع الحضاري" هو مجموعة المعتقدات والأفكار والقيم والشرائع والمنظومات الفلسفية المشّكلة لوعي الإنسان ونظرته إلى نفسه وإلى العالم وإلى مقاصد وجوده فيه وإلى معنى الحياة وإلى علاقات البشر وصيغ الاجتماع الأفضل والحياة الأصلح ونواظمها، بحيث تحدد تلك المكونات رؤاه (الإنسان) ومواقفه ومعاييره وأحكامه وسلوكياته في جميع احتياجاته وشؤونه وأنشطته، وذلك في كل الأزمنة والأماكن، على أساس إعتبارها ثوابت ينطلق منها كل حراك إنساني.

 

وبهذا المعنى تشكل الأديان الإلهية الإبراهيمية كلّها مشروعاً حضارياً واحداً، وإنْ بشرائع ومنظومات فقهية وتنظيمية مختلفة نسبياً كما سنرى، كما تشكل المكونات الاعتقادية والفكرية والفلسفية المادية مشروعاً حضارياً مغايراً.

 

على أساس هذه الثوابت الاعتقادية والفلسفية والسياسية والقانونية، ومنها، يتشكل المشروع الحضاري في كلا الوجهتين. فهذه الثوابت هي لحمته وسُداه ومنشئة مكوناته ومبادئه، ومُحدِّدة مثله العليا وأهدافه "النهائية".

 

أما "الحضارة" فهي وليدة "المشروع الحضاري" وناتجه، أي أنها محصلة تسييل "المشروع الحضاري" في حركة الحياة ونواظم المعيش وبنى الاجتماع البشري ومؤسساته وأُطره الواقعية المجسّدة للأفكار والاعتقادات والقيم والمعايير الموضوعة، كما في تشكيل النظرة إلى شؤون الإنسان والحياة كافة.

 

الحضارة في ضوء ذلك تحاكي ثوابت المشروع الذي انبثقت منه، إلا أنها حالة وجود متحرّك ومفتوح ودينامي في فضاء هذي الثوابت، يتطور، أو يتخلّف، أو يراوح مكانه تبعاً لقدرة بُناته وصُنّاعه ونجاحهم في "إحياء" هاتيك الثوابت وتحويلها إلى مؤسسات ناجزة تلبي الأهداف والحاجات وتحاكي المثل التي تقررت في المشروع الحضاري الذي استولدها.

 

بهذه المعاني... وبهذه التمايزات النظرية والواقعية بين مفهوم "الحضارة" ومفهوم "المشروع الحضاري" يمكن اعتبار "الثقافة" المنتج المعنوي من الحضارة، بينما تشكل المدنية المنتج المادي. أي أن الثقافة والمدنية ـ كليهما ـ تدوران في فضاء/ فلك الحضارة الحاضنة لهما، ومنها تُستولدان وتنبجسان، وهما ديناميتان للحضارة مفتوحتان ومتحركتان في ضوابط المشروع الحضاري ذاته وفي منظوماته ونواظمه.

نظرية/ فرضية الحضارتين... لا الحضارات:

استناداً إلى تعريفنا السابق بكل من: "المشروع الحضاري" و "الحضارة"، وفي ضوء المقاربة المنهجية التي رأينا إليها في دراسة "المسألة الحضارية"، لم يعد ممكناً الذهاب مذهب القائلين بتعدد الحضارات، ولا مذهب من زعموا أن "الحضارات" ليست في حقيقة الأمر إلا حضارة واحدة هي عبارة عن سلسلة من حلقات، كل واحدة منها شغلتها أو أبدعتها أمة من الأمم أو شعب من الشعوب([2]).

 

ما نراه الأرجح بالمقاربة الموضوعية هو القول بوجود مشروعين حضاريين اثنين:الإلهي، والمادي المبتدع بالفكر البشري. وكل منهما يشكل بذاته مجموعة اعتقادية وفكرية متكاملة. أما العلاقة بين المشروعين الحضاريين/ الحضارتين فلا تتخذ بعداً واحداً كما يذهب إلى ذلك الكثيرون. أي أن هذه العلاقة غير محكومة بالصدام الدائم، ولا بالتسالم الدائم، ولا "بالحوار الدائم"، كما يحلو للبعض أن يقولوا.

 

هذه العلاقة عندنا: كأنها مستويات: مستوى يتشارك المشروعان/ المجموعتان الفكريتان فيه، ومستوى اختلافي يمكن لهما فيه أن تلتقيا فتتحاوران وتتعارفان فيه وتتمايزان نحو المزيد من التقارب والفهم المتبادل والمشاركة أو الشراكة، ومستوى تناقضي يشكل فراقاً بينهما في الجوهر والبنية الاعتقادية والقيمية والفكرية، لكنه غير مفض إلى الصدام العنفي؛ ثم مستوى تناحري صدامي بين المنتمين والمريدين في حالة شعور أحد الطرفين - بحق أو بغير حق- بتهديد وجودي أو استراتيجي من الطرف المنافس. وعلى ذلك يكون الانتماء إلى أحد المشروعين/ الحضارتين متحركاً أيضاً في ضوء المستويات العلائقية القائمة بينهما والمنوه بها. فقد يكون الانتماء جزئياً/ انتقائياً، أو كلياً، كما قد يكون خياراً نظرياً واعتقادياً في جانب، وخياراً سلوكياً في جانب آخر. وتلك حال البشر في الانتماء الذي غالباً ما يكون انتماءً مركباً فائق التعقيد، وهو في الأصل فطرة طبيعية، لا معنى لعاقل دونها، ولا وجود لاجتماع إنساني.

المشروع الحضاري والمقاومة:استحضار مكونات الاجتماع والوحدة

إذا كان المشروع الحضاري والحضارة هما ما افترضنا وحددنا، فإن كل تصور، وكل حراك أو سلوك أو موقف، وكل قبول أو رفض، وكل منظومة حياة وعيش أو نظام عام،وكل اجتماع أو تفرق، وكل تواؤم أو تنازع، وكل مؤسسة اجتماعية، وكل اعتبار لحق أو لباطل، و لحلال أو حرام... إلخ... كل ذلك لا بد له من أن يأتي معبراً عن رؤية حضارية ومنبثقاً من مشروع حضاري... إنه في حقيقة الأمر موقف حضاري.

 

بهدي هذه الدلالات يكون كل فعل اعتراضي، أو ممانع، أو مقاوم كما كل موافقة، أو إذعان، أو استسلام ... إلخ، كل ذلك إنْ يصدر عن فرد أو جماعة، يَكُن، بطبيعة الحال، فعلاً "حضارياً"، أي صادعاً من مشروع حضاري أو رؤية حضارية.

 

وفي المقابل، كل سلوك استبدادي أو عدواني أو استيلائي أو هيمني، يعتبر ـ هو أيضاً ـ فعلاً "حضارياً" أو "منتجاً حضارياً" صادراً عن مشروع حضاري، ومتشكلاً من نمط وعي "حضاري"، ويكون الفعل بالضرورة تجسيداً لانتماء إلى أحد طرفي الثنائية الحضارية الفكرية الآنفة الذكر... بمعنى آخر: كل من السلوكين هو في ذاته إعلان انتماء إلى: "هوية حضارية" مختلفة.

 

ولأن المقاومة هي ثورة تنتضي السلاح ضد الاحتلال الأجنبي، وتدعو إلى الحرية والاستقلال، أو تواجه الاستبداد والظلم وتسعى إلى استنهاض شعبها ووطنها لمطلب إصلاح أو قضية وطنية عامة، فإنها تغدو بصورة موضوعية مقاومة شعبية ووطنية منتمية إلى مشروع حضاري ومنخرطة في صلبه، إذ يدفع في اتجاه هذه الأهداف، ولا يملك، ولا يرتضي أية قابلية نقيض لها، فتتحول المقاومة إذْ ذاك إلى وسيلة من وسائل تحقيقها (أي تحقيق الأهداف).

 

بمعنى آخر، تتقلد المقاومة هنا وظيفتها السياسية، وهي مستوى من مستويات انتمائها ووظيفتها الحضاريين. فبمجرّد انطلاقها، فإنها تعني حدوث تغيير في مسار الحياة السياسية للاجتماع أو للوطن أو للأمة في اتجاه استنهاضها إيجاباً، كما تعني أيضاً تحوّلاً في الصيرورة السياسية للاحتلال الأجنبي أو للاستبداد الداخلي في اتجاه تهديد وخلخلة وجودهما، سعياً إلى ضربهما وإسقاطهما.

 

بهدي هذه الدلالات تكون المقاومة عملاً سياسياً بامتياز وهي إنما تخاض للحصول على نتائج سياسية، تماماً كما الحرب، وتكون السياسة، كما المقاومة، تعبيراً عن تصور حضاري مستنبت من مشروع حضاري.

 

بل نقول أكثر من ذلك، بحكم الواقع والسنن التاريخية: كل مقاومة هي وجه من وجوه الذود عن الكرامة الإنسانية وإعادة تأسيس للميثاق الاجتماعي والسياسي والوطني في البلد المقاوم. فقبل انفجار المقاومة هو في حال، وبعدها هو في حال أخرى، وبعد انتصارها / أو هزيمتها أو هزيمة المحتل هو في حال ثالثة. وبهذا المعنى وصفنا المقاومة باعتبارها "ثورة"، أو في الأقل باعتبارها "مفاعلاً ثورياً". ولا يكون ذلك في مبدأ نشوء المقاومة فحسب، بل في دعوتها إلى إجراء إصلاحات بنيوية في الحياة السياسية والتربوية والثقافية والاقتصادية للبلاد، أو في أو في استجابة المجتمع موضوعياً لحاجات الانضواء في المقاومة، وذلك بهدي المشروع الحضاري الذي تنتمي إليه، وبدفع من لوازمه وضروراته. فللمجتمع المقاوم احتياجاته الخاصة ولوازمه التي تفرض إحداث تغييرات في الاجتماع السياسي برمته، وفي النظام العام والسياسات العامة، رسمية كانت أم مرتبطة بالحراك الوطني العام لقوى المجتمع الأهلي والمدني.

 

تلك الاستجابة الجمعية للدعوة المقاومة والفعل المقاوم - وهي تحد حضاري أيضاً كما ينبيء تاريخ الثورات والمقاومات -، لا تتم دفعة واحدة فالحادث أن المقاومة - وهي كما سنرى ردة فعل يتحول إلى فعل بل إلى أفعال-، تولد من رحم فعل مضاد معتد ومستفز، وذلك على يد قائد تاريخي حوله نخبة تاريخية، ولا تكون في بداياتها شعبية على نطاق واسع، حتى وهي تصدع انطلاقاً من فطرة الناس وخلدهم ووجدانهم وتطلعاتهم.

 

تبدأ المقاومة نخبوية، هجينة أحياناً ومستوحشة. وقد تكسر وتائرها انتكاسات وارتكاسات وجفاء شعبي مبتنى على حذر، أو قلق أو شك، وهي حالات مألوفة في هذا المجال غالباً ما تترافق والإقدام على صناعة أي تحولِ تاريخي أو استراتيجي، كما التحول بالمقاومة.

 

ثمة زمن موضوعي يحتاجه الفعل المقاوم لينضج ويرتقي من مشروع النخبة إلى مشروع الوطن أو الأمة، أي إلى مشروع المجتمع المقاوم، وهذي مرحلة اختبار وتأسيس للتجربة المقاومة. ثم إن القائد التاريخي والنخبة التاريخية المجترحين للمقاومة لا يمحضهما الجمهور الثقة عادة إلاّ بعد صدقية متعددة الأنواع والأشكال والمستويات إضافة إلى جهودٍ وتضحيات مشهودة يثبتانها في الواقع، وبعد بيناتٍ تشهد لهما في فترة الاختبار، ما يجعل هذا الجمهور ملاقياً للقائد والنخبة أو لأحدهما في منتصف الطريق. وربما قبل ذلك. وعندها ترتفع المقاومة من النخبوية إلى الجماهيرية، حتى ولو لم تتحول إلى حالة إجماع ناجز. فالتجاريب والتاريخ وسنن الارتقاء الإنساني تشهد بأن لا إجماع حقيقياً بين الناس يتم على مشروع إصلاح أو مشروع مواجهة أو مشروع تغييري أو تحولي في حياة وطن أو أمة. بيد أن المقاومة تختنق إلاّ في مياه الجماهير وأوكسجينها.

 

ولأنها تجلٍ لفطرتهم واعتقاداتهم وأفكارهم وأهدافهم، ولأنها تجسيد لبعض آليات المشروع الحضاري الذي يعتنقونه، وبعدما ثبتت صدقيتها وقد تحققت لها خبرات وكفاءات جديدة، فإن من طبيعة الأمور والحال هذه إقبال الناس على الانضواء في المقاومة الشاملة على قدم وساق، لا لينتموا إليها فحسب بل ليتماهوا فيها أيضاً ويتحدوا، متحملين شتى التضحيات التي لا انتصار لفعل المقاوم إلاّ بها ومن خلالها وعندئذٍ تغدو المقاومة الحصاة التي ترمى في بحر الناس فتحرك القابليات والسواكن والخوافت الجمعية النادهة إلى التحرر من داخل ومن خارج، فتزاح من طريقها الكواتم والموانع الأصعب والأدهى . وهكذا لا تكون المقاومة إلاّ مفاعلاً جمعياً وتوحيدياً وحاصل جمع لا قسمة ولا تشتت، وذلك كله باللوازم والحاجات التي نوهنا بها في مرحلة ما قبل انتصار المقاومة وتحقيق أهدافها وإسقاط المشروع المضاد الذي تتصدى لمواجهته. وكذلك هي حال لوازم وحاجات ما بعد التحرير والانعتاق. وبهذه الدلالات تتحول المقاومة من مجرد ردة فعل ضد الاستبداد أو الاحتلال أو الاستتباع، إلى فعل يؤثر في كل الأنساق والسياقات الاجتماعية حولها. وهكذا تكون المقاومة حاملة قضية إيديولوجية وسياسية وأخلاقية كبرى قوامها: إحداث تغيير نسقي (حتمي/ سنني)، إيديولوجي وسياسي وأخلاقي في توجهات الاجتماع بهدف حفظ وحدته وكرامته الوطنية والدفاع عن ترابه الوطني والتشبث بأهداف وقيم المشروع الحضاري الذي تؤمن به، وذلك في مواجهة قضية إيديولوجية وأخلاقية مضادة هي إيديولوجية الاحتلال والسيطرة أو إيديولوجية الاستبداد. وهذه الأخيرة هي النقيض لحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وكلها مستنبعة من تصورات حضارية من نمط مغاير . ويكفي في هذا السياق تخيّل أوضاع جزء من أمة أو بلد محتليّن أو مستذلين أو مستتبعين، ثم تخيل حالهما وصيرورتهما تحت نير الظلم والاحتلال، وذلك قياساً إلى أوضاعهما وهما في حالة مواجهة ومقاومة، أو في ظلهما ليصبح إدراك الفارق في هذا المجال أكثر دقة. وهاتان الإيديولوجيتان تعبيران لذيْنك المشروعين الحضاريين المختلفين، وتجليان من تجلياتهما.

 

والمقاومة إذ تكون كذلك، فإنها إعلان إنضواء كامل وشامل في الصراع الحضاري إذن، بأدواته ومستوياته كافة، وصولاً إلى أشدها تصعيداً: الكفاح الشعبي المسلّح، وهو في حقيقته مصداق لمبدأ مقولة صامويل هانتنغتون في "صدام الحضارات". إلا أنه في سببيته نقيض لتلك المقولة، ولإيديولوجيتها، لأن مقاومة المحتل أو المستبد تضع المقاوم في موقع المتلقي للعدوان، وتشرع له الوثوب إلى مواجهته بشتى الوسائل والسبل،بل تجعل من ذلك واجباً وطنياً وأخلاقياً، وتكليفاً دينياً للمتدينين، مايجعله في مصاف أخلاقي وفكري وإيديولوجي وسياسي مستَدَرٍ من جوهر مثل وقيم المشروع الحضاري الإلهي أصلاً، بل هو مستدر أيضاً من السويّات القيمية للمشروع الحضاري المادي نفسه، لا من جنوح بعض حَمَلَتِه ومعتنقيه إلى نقيض عبر مؤسساتهم السياسية وغيرها. وعند ذلك تسقط بالضرورة مقولة هانتنغتون الشهيرة: :"إن للإسلام حدوداً دموية"، إذْ تنتقل دموية الحدود([3]). إلى جبهة هانتنغتون نفسه، وهو الذي أجرى للمنهج الحضاري في قراءة التاريخ عملية "مونتاج" تبسيطية ومضللة على مستوى القياس والمعايير ولفظ الأحكام وإنتاج الوعي بحقائق التاريخ والتطور التاريخي.

 

بهذه الدلالات نفهم ـ حضارياً ـ المغزى الحقيقي لانتساب الكثرة الساحقة من المقاومات في العالم الإسلامي والعربي إلى الإسلام، أي أن تكون: "مقاومة إسلامية"، وبمعنى آخر أن تكون منتمية إلى مشروع حضاري في مواجهة مشروع حضاري آخر، أو بشكل أدق: مواجهة نوافر هذا الأخير وسلبياته وانحرافاته وسياساته الجائرة ... فإن فيه -بالمقابل-إيجابيات كبرى لا تتناقض مع المشروع الحضاري الإلهي بعامة، ولعلها مقتبسة منه حسب بعض الاجتهادات التي تعتبر قيم الأديان أسبق من الأفكار والقيم التي تشكلت منها، أو تشكل أفكار وخبرات الاجتماع البشري وعمرانه، وهي في كثير منها القيم نفسها التي اهتدى إليها المشروع الحضاري المادي واعتنقها من بعد الرسالات السماوية.

إسلامية المقاومة... ماذا تعني حضارياً؟

لسنا في هذا المقام في صدد اختبار أو محاكمة نوايا الذين "استفظعوا"، أو "استكرهوا"، أو"استرابوا" في إطلاق المقاومات في بلادنا على نفسها تسمية: "المقاومة الإسلامية". حاصل الأمر أنها قاطبة، وإلى أجل غير مسمى مقاومة للاحتلال الصهيوني أو الأجنبي فما نريد أن نشق عن صدر أحد من هؤلاء([4])، ومنهم من نعرف بأنهم "خصوم مبدئيون" لأي مقاومة، ولو كانت علمانية أو قومية أو وطنية. ولا يغير ذلك كله في شيء شرعية النقاش و وجاهة الاعتراض أو القلق المفهومي أو المساءلة الإيديولوجية والسياسية من أي جهة أتت، أو التطلع إلى أطروحة أخرى تعتبر عند دعاتها الأفضل. فما دامت منطلقات التحفظ "وطنية"، أو مرتدية لبوس الوطنية، حتى لو كانت رياءً ونفاقاً، وما دامت ضرباً من المفاضلة الفلسفية والسياسية، فلا ضير في جلاء حقيقة البتة، بل إن التحفظ هو - في الشكل-حق سياسي وديمقراطي للقائلين به، أو الآخذين. أما في المضمون والخلفيات، فثمة سجال بصولات وجولات ليست هذه المقالة مقامها.

 

وفي اعتقادنا أن أهل المقاومة الإسلامية و"إيديولوجيي" هذه التسمية، لو ردوا في الأصل على تلك التوجسات والتحفظات، ما استظهر منها وما استُبطن، بخطاب مستلّ من المنهج الحضاري الذي كنا أفضنا في بيانه، لكانوا كفوا أنفسهم الكثير من "شرور" الكر والفرّ الإيديولوجيين والسياسيين- فالخطاب هذا يفترض أن يكون في أصل لزومياتهم ودينامياتهم التوليديه، ولكانوا علوا علواً كبيراً على جهل أو تجاهل المساجلين إلى أي طرف انتموا، وبخاصة لأننا، نحن المسلمين والعرب، قد بلغ سيلنا الطائفي والمذهبي وعصبياتنا الذبى، بل وما فوقها أيضاً بدرجات.

 

إنه لجدير بالإلفات مثلاً في ما اطلعنا عليه من أدبيات درست المقاومة الإسلامية في لبنان وحزب الله، سواء منها الصادرة عنهما، أو تلك المقبلة من خارجهما، هو عدم الإشارة إلى هذا الجانب من فلسفة التسمية وإيديولوجيتها وخطابها، على ضرورته وجدواه، علماً بأن النخبة والعلماء المقاومين لا يجهلونه مبدئياً.

 

بعض تلك الدراسات المرجعية همّت من غير أن تقدم عندما نوهت بوطنية المقاومة اللبنانية والتزامها الديني والأخلاقي وتقاطعها مع المسيحية في الكثير من التوجهات والتوجيهات الفردية. إلا أنها اعتبرت أن التسمية: (المقاومة الإسلامية)، لا تعدو كونها «تعبيراً» عن الجهة المسؤولة عن العمل، وهي بذلك تريد «الاستفادة» منه للمزيد من العمل التعبوي وحشد الطاقات. واعتبرت أيضاً أن التسمية مهما كانت، فإن السلوك العملي سيكشف طبيعة أهداف الجهة المقاومة، وبالتالي لن تغير التسمية شيئاً من المضمون: وطنية كانت، أم شعبية، أم إسلامية([5]).

 

واقع الحال أن الفصل بين التسمية والمضمون هنا، وفي ظل هذه التناقضات الداخلية المستحكمة، ليس شأناً بسيطاً أو هامشياً في الكلام على ظاهرة كبرى بحجم المقاومة الإسلامية في لبنان وما تحقق على يديها بكل إنجازاته التاريخية وترميزاته ودلالاته الفكرية والسياسية ومؤدياته الاستراتيجية، مع موافقتنا على أن السلوك العملي في المحصلة هو الديدن والجواب. إلا أن العلاقة بين المقاومة والإسلام - بما يتمثل ويمثل - هي علاقة هوية وانتماء يعلو الإسلامي الكوني العالميني (من العالمين) فيها ويتجاوز كل الهويات والانتماءات والانتسابات الأخرى على أهميتها. وبالتالي نجدد القول إن التسمية ليست البتة مجرد نقاش في «التعبير» أو في «الشكل» .

 

دراسة أخرى من تلك الدراسات، وفي السياق نفسه،فسرت مثلاً إنشاء حزب الله «سرايا المقاومة اللبنانية» عام 1997، وهي مجموعات عسكرية مساعدة متعددة الطوائف وملحقة بالمقاومة الإسلامية، بأنها إثبات لاعتبار حزب الله المقاومة الإسلامية مقاومة لبنانية وقومية، تخاض نيابة عن اللبنانيين والعرب كافة، وكذلك نيابة عن المسلمين([6]). لكن هذه الدراسة لم تتوقف عند الدلالات الأخرى الأكثر عمقاً وتأصيلاً في فهم ووعي معنى أن تكون المقاومة إسلامية، بما تمثله «الإسلامية» من أبعاد.

 

خارج لبنان المتعدد دينياً ومذهبياً والمتشقق في بناه الاجتماعية والسياسية كانت إسلامية المقاومة - كما الحال في فلسطين والعراق وغيرهما - ولحسن الطالع، أقل إثارة للحساسيات والعصبيات الإيديولوجية والسياسية نسبياً، لأن تلك البلدان بمكونات اجتماعها التاريخي وطبيعتها الجيو- سياسية ليست مترعة - كما هو معروف بالاحتقانات الدينية والمذهبية والسياسية المزمنة كما حال لبنان، وبالتالي لم تكن " إسلاميتها" مرتعاً لسجال انقسامي حاد، وهذا ما يفسر خلو أدبيات هذا النوع من المقاومات من أية إشارات مباشرة إلى" أيديولوجية التسمية" . لكن إسلامية المقاومة، برغم بعض التلعثم الشعبي هنا أو هناك، ما انفكت عن كونها أحد أهم مشتركات الوحدة الوطنية الداخلية، بما في ذلك لبنان نفسه.

 

أما على مستوى الأمة الإسلامية والعربية فما كانت المقاومة ضد الاحتلال قط إلا عامل استنهاض وحدوي وتوحيدي، سواء تدثرت بعنوانها الإيديولوجي الإسلامي أو بغيره. لكن تقدم صفة " الإسلامية" منها إلى الواجهة في العقود المتأخرة، جعلها ذات عصبية أشد، ومفاعلاً استقطابياً بجماهيرية واسعة مشهودة وغير مسبوقة تمتد من أرخبيل الملايو إلى موريتانيا. ولعل أحد أبرز إيجابيات هذه الجماهيرية جنوحها إلى التطهر المذهبي والفئوي وتجاوزها العصبيات الطائفية الضيقة، فتتحول المقاومة الإسلامية الشيعية في لبنان مثلاً، كما المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي السنيتان في فلسطين، إلى حوامل وحدوية كبرى، وإلى موئدات لمذاري ومسارب الافتتان والانقسام في الأمة بأسرها. ذلك أن هذه المقاومات الإسلامية، بإرادة ووعي وفعل منها، قد استردت نفسها، ومعها الأمة،إلى جوانية أصالتها وهويتها، وإلى مشكل وعيها ولاوعيها وثقافتها وجوامعها ومشتركاتها ومواقفها..، وهو المشروع الحضاري الواحد الموحد الذي تنتمي إليه، وهو الذي لا عصبيات طائفية فيه ولا مذهبيات ولا فئويات.

 

بالمقاومة الإسلامية تلك تسترجع الأمة بعضاً من عافيتها السليب، بل بعضاً من ذاتها وذاكرتها الجمعيتين المفقودتين أو الزائفتين، فتعلو إلى مستوى مشروعها الإلهي الذي لا تقوم لها قائمة ولا تتخذ هوية إلا به وفيه، مستأنفة بذلك بعض الخطو على طريق تقريب أجنحتها ولمّ شعثها وتبعثرها اللذين نمكر فيهما حيناً ويمكرون أحياناً، ما يدفع إلى واجهة الإثبات قولنا الدائم: إن أحد أهم المداخل إلى فضاء التقريب بين المذاهب الإسلامية، كما بين المسلمين وغيرهم، هو المدخل السياسي باعتباره أنجع أدواء التفرق والتنابذ وأكثرها تأثيراً وفاعلية، ولكونه أقرب السبل - على صعوبة تحقيقه غالباً- إلى كسر الجليد العلائقي بين الجماعات ذات الحرارة المذهبية المرتفعة.

 

هكذا ينتفي عن إسلامية المقاومة كونها، بزعم البعض، مجرد تسمية " لن تغير من الأمر شيئاً"، أو مجرد مساجلة في الشكل أو في المصطلح والتعبير- كما سبق وأسلفنا-، فالحاصل يتجاوز بكثير هذا المستوى من التبسيط ويستثير بطبيعة الحال الإشكاليات المطروحة للسجال والمناقشة اللذين نسلم بمشروعيتهما السياسية والفكرية والإيديولوجية والإستراتيجية، وبخاصة لأن إحدى الإشكاليات الكأداء التي تواجه إنشاء التنظيمات السياسية والنضالية عند غيرنا وعندنا عادة، وبخاصة في العالم العربي والإسلامي، لطالما كانت تبدأ من اختيار اسم التنظيم أو المنظمة أو الحزب أو الحركة أو التيار المزمع إنشاؤه...، كما تبدأ أيضاً من الشعارات التأسيسية والأساسية التي يرفعها الرافعون. ولا تزال في ذاكرة من هم من جيلنا والأجيال السابقة المعاصرة والحديثة، الإشكاليات الإيديولوجية والفلسفية والمفهومية والسياسية التي أثيرت في وجه شعارات ومسميات "الحزب القومي السوري الاجتماعي" مثلاً، أو"حزب البعث العربي الاشتراكي"، أو "حركة القوميين العرب" وغيرها...

 

من الذين نجوا مثلا من بعض هذه الإشكاليات ـ جزئياً لا كلياً ـ الأحزاب الشيوعية العربية، لأن التسميات والشعارات التي تبنتها جاءت في الغالب نسقية أو نمطية أو مستنسخة أو جاهزة من الموديل/ النموذج التاريخي لتجربة وأدبيات الأحزاب المماثلة في بلدان ومناطق ومناطق أخرى من العالم.

 

نعم... لا تزال في البال الصراعات والسجالات العاصفة والخطابات التعبوية والتناحرية في مرحلة الأحزاب القومية العربية في شعار حزب البعث مثلاً: "وحدة، حرية، اشتراكية"، أيّها قبل الأخرى... وكذلك في شعار حركة القوميين العرب: "وحدة، تحرر، ثأر"... بأيها يبدأ الفعل النضالي، ووفاقاً لأي تراتبية؟... كان غموض الشعارات والعناوين ونخبويتها، مؤشرين معبرين عن غموض المرحلة النضالية وتجريبيتها، وعن غموض الخيارات السياسية، وذلك في ضوء اضطراب الأفكار والرؤى ومراهقات الوعي وعمى القلوب التي في الصدور عن الاهتداء إلى البدائل السويّة والمؤتلفة مع حاجات مجتمعاتنا وتطورها التاريخي، كما كان ذاك الغموض ناتجاً عن القفز فوق المرجعيات الاعتقادية والثقافية الأصيلة وعن الذاكرة الجمعية لشعوبنا وبلادنا، بل والجهل بها غالباً، أو التجاهل، أو لاعتبارها غير ملائمة لضرورات العصر أو لقصورها عن الاستجابة لحاجاته. وما كان هذا ليحدث لولا قدوم أو استقدام طوفان من الأفكار والإيديولوجيات والتصورات الطموح والخبرات المستوردة التي اجتاحت فضاء الأفكار في عالم القرن العشرين من إيديولوجيات أقصى اليمين وتنظيماته السياسية، وصولاً إلى حركات وتنظيمات أقصى اليسار مروراً بالوسط طبعاً، فلا نستغربنَّ، من بعد، أن يحطب الحاطبون بليل أو نهار، وقد غمرت النسخ المقلدة وعي الأجيال الشابه حتى الاختناق آنئذ.

 

"إسلامية المقاومة" ليست في التسميات الكلاسيكية الحصرية، إنما هي تكثيف لفضاء حضاري كلياني وإنساني.. إنها في رأينا هي إجابة بالإسلام، وحكم منه على العدوان والاحتلال والظلم والهيمنة الفساد..وكل فعل أو موقف أو إنجاز للمقاومات في العالم الإسلامي والعربي، لا تفهم إلا وهي في فلك الإسلام تدور وفي أحكامه تنضبط. وليس الإسلام في الجوهر سوى المشروع الحضاري الإلهي للعالم والإنسان، وهو المشروع نفسه الذي نزلت له وبه الرسالات السماوية الأخرى، قبالة المشروع الحضاري المادي "الأمبيريقي" Empirique. فالإسلام تكثيف واستتمام للنبوات كافة إذْ يضفي "التأليه" [أي ربط كل شيء بالإلهي] على ما ليس "مقدساً"، ويجعل المؤلّه دنيوياً([7])، وذلك في تكامل مشهود.

 

بهدي هذي الدلالة يفهم ويفسر قوله تعالى:"إن الدين عند الله الإسلام"([8])، ما يعني أن الإسلام هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام([9])، بما هي نظام كلي للإنسان والعلاقات والحياة. أي بما هذا النظام مشكّل من حضور سنني وتشريعي واحد موزع في الفطرة الإنسانية. فهو في حقيقته أمرٌ واحد، وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع الأنبياء والرسل انسجاماً مع استعدادات الشعوب والأمم عبر التاريخ([10]).

 

أما الفروقات المشهودة بين الأديان في مجال اللاهوت و التشريع وغيرهما، فهي عند الحكماء الدينين أمور اخترعتها الأهواء واصطنعتها أيدي الناس، "فتقطعوا طوائف وأحزاباً دينية وصبغوا دين الله سبحانه، وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الأغراض والمطامع، مع أن الدين واحد، كما أن الإله المعبود بالدين هو واحد، وهو دين إبراهيم"([11])، فالإسلام يصدق دين الأنبياء كافة([12]). - كذلك يعبّر السيد محمد حسين الطباطبائي، وهو من أعلم علماء التوحيد والأديان في الأزمنة المتأخرة.

 

الإسلام، بهذه الرؤية، يعني الإيمان بالله. والإيمان بالله يعني رفض الظلم والاستبداد والاحتلال والاستتباع والإكراه والفساد... الإيمان بالله يعني أيضاً الإيمان بالعلم المطلق، والحكمة المطلقة، والعدل المطلق، والجمال المطلق. والمؤمن السويّ الحقيقي هو من يعتنق هذه الحقائق ويؤمن بها. وبذلك يغدو الإيمان هو الحرية بعينها، وهو الإيمان ذاته الذي دعا إليه موسى والمسيح ومحمد وجميع الأنبياء([13]).

 

إذا كانت المقاومات الإسلامية ممثلة لهذي الحقائق, إضافة إلى الاعتبارات الاعتقادية و الإيديولوجية والسياسية والفقهية والجذور المعرفية والثقافية والسوسيولوجي التي تمثل بعضاً من خصوصياتها ـ وهذه اعتبارات مشروعة لها وحق من حقوقها..., وإذا كانت المقاومات الإسلامية مجسدة للمعاني والدلالات الإيديولوجية والقيمية والسياسية والأخلاقية التي أثبتناها، وكلها منتج للمشروع الحضاري الإلهي ومنه للإنسان بما هو مستخلف لله في الأرض ومضطلع بمسؤولية " تأليه " الحياة بالمعنى الذي سبق ونوهنا به... إذا كانت المقاومة كل ذلك، فإن إسلاميتها تعني "إبراهميتها" بثلاثيتها الرساليه، بما هي المستلة من رحم الأديان السماوية الثلاثة ووجهٌ من وجوه وحدتها، كما من دعوات الحرية والحق والخير والعدل كلها، سواء صدرت من تلك الأديان بذاتها، أم من غيرها كالفلسفات الإنسانية والدعوات الإصلاحية الكليانية للعالم وللبشرية جمعاء من اليمين إلى اليسار، حتى ولو جاءت تلك الدعوات بالمقاومة صادرة عن ملحدين، أو عن فلسفات وأفكار أنجبتها تجريبية المشروع الحضاري المادي ...نعم... سواء صدرت المقاومات من هذا المشروع الحضاري أم من ذاك. وكأنما المقاومة كمبدأ ـ هي عابرة للطوائف والمذاهب ومفاعل تقاربي أو توحيدي، وقد تكون في هذا السياق عابرة للحضارات والثقافات أيضاً بمعنى من المعاني، وإلا كيف نفهم هذه السنخية المذهلة والجوامع الطائلة بين المقاومات التي قامت بها شعوب مختلفة عبر تاريخ، ولو إستهدت بمرجعيات معتقدية وفلسفية متعددة؟.

 

علام تقوم المقاومات الكبرى ذات التموجات والارتدادات اللامتناهية في التاريخ؟...أليست الأصدق إنباءً هي تلك المقاومات نفسها التي فجرها مشروع حضاري ذو استدامة استراتيجية، ووفاقاً للكثير من الجوامع والمشتركات في القيم والمثل التي تضمنها ودعا إليها طرفا الثنائية الحضارية التاريخية: المشروعان الحضاريان الإلهي والمادي؟؟..

 

أما تعمد التطييف السياسي والمتذهب الفئوي للمقاومات الإسلامية، أو افتراضها كذلك، وقصرها، قسراً، على أحزمة ومكبلات عصبية أو "عصابية" أو مذهبية أو جهَوية، فهو في الانتهازية والذرائعية الإيوديولجية والسياسية يتمنطق، وإلى الانقسام يحبو ويدب... وهذه ذهنية ما بنت وطناً ولا أمة قط، ولا أبقت على اجتماع بين الناس.

 

في مقاومة الاحتلال وردع المحتل، وفي التصدي للاستبداد والفساد في الأرض والأوطان، وفي طلب الإصلاح والسوية يشترك ويشارك ويتداخل المشروعان الحضاريان الإلهي والمادي/ الحضارتان في وجوه عديدة. لكن الأول ما أنتج مقاومة هي النقيض لذاته على مستوى المعتقد والقيم والمرجعية والدور إلا عندما حُرِّف، فردته نخب مارقة أسقطت عليه من تشوهاتها وأهوائها الكثير من منظومات العنصرية والتمذهب والاستكبار والتغلب والقهر والمعايير المزدوجة التي اشتهر بها أيضاً بعض دعاة المشروع الحضاري المنافس/ المادي ومدبريه. بينما أنتج المشروع الحضاري المادي نقيضه، بل نقائضه على مدى التاريخ، نظراً إلى بعض القابليات الفلسفية والإيديولوجية والقيمية الرخوة التي يتضمنها في كثير من المجالات. وما مسؤوليته عن كل الخراب والدمار والاستعمار والدماء والفساد والحروب التي ضربت الإنسانية إلا بعض ظواهر تلك القابليات السلبية، سواء كان ذلك في العصور الغابرة، أو في عصر الليبرالية، أو عصر النيوليبرالية هذا.

 

لكل من المشروعين نقائض ليست من طبيعة الأول، بل مقحمة فيه دخيلة، لكنها مستكنة في الثاني ما تلبث أن تطفو فوقه بطفح ذاتي.

 

إن الفعل المقاوم من أجل الحرية والحق والعدل والإصلاح وخير العمل، هو- على مدى التاريخ- انخراط إحيائي في سويّة الأفكار والقيم والعلاقات بين الأديان والمذاهب والطوائف وجماعاتها، كما بين دعاتها من المنتمين إلى مشارب أخرى، وهو أيضاً نقيض الانهدام الذاتي والافتعال الإيديولوجي والسياسي، لأنه نضح الفطرة الإنسانية، بقدر ما هو سنة في العمران البشري، ولأنه أيضاً مصداق دائم للدعوة المستمرة إلى سوية الحياة، وإلى التسالم الجمعي والوطني والكوني، وإلى المساواة والشراكة التكاملية بين الشعوب والأمم.

 

في تجارب مقاومة المحتل في الشرق الغرب كما في التاريخ .. ما كانت المقاومة إلا عامل توحيد وتدامج وطنيين وجامع ضمائم الأمة... فهل من معتبر؟!..أم أن المسافة بين الحق والباطل قد ضاقت إلى هذا الحد من المعانده الغرّارة الضّرّارة التي نشهدها اليوم فاستنزلت لزوم مايلزم؟.

الهوامش:

([1]). الإشارة تتعلق هنا بمقالته الشهيرة المنشورة في مجلة "FOREIGN AFFAIRS" ـ صيف 1993، ثم تحولت إلى كتاب كبير نشره عام 1997 بعنوان "صدام الحضارات وإعادة النظام العالمي".

(أنظر كتابنا: "الصراع الحضاري والعلاقات الدولية" ـ دار الحق بيروت 2000 ، ص.ص/ 28 ـ 29).

([2]). راجع على سبيل المثال، لا الحصر، نظرية مالك بن نبي في هذا الخصوص، وقد وردت في كتابه:"شروط النهضة" ـ الترجمة العربية ـ دار الفكر ـ (دمشق)، ص ص/19 ـ 20.

([3]). هانتنغتون، صامويل (م.س) ـ ص/28. (راجع أيضاً: كتابنا ـ (م.س) ـ ص/34).

([4]). الطريف، وعلى سبيل المثال، أن اليمين واليسار في العالم العربي بعامة، وفي لبنان بخاصة، ما انفكوا البتة عن الغمز الاعتراضي من قناة المقاومين اللبنانيين، لأنهم تسموا بـ «المقاومة الاسلامية»، فاتهموهم بالتطييف تارة، وبالتمذهب تارة، وبالفئوية تارة ثالثة، وذلك لمجرد اختيارهم الانتساب الى الإسلام وتمثله إيديولوجياً وجعله «القاعدة الفكرية والاعتقادية والإيمانية والعملية» لتشكيلهم - (راجع: قاسم، الشيخ نعيم «حزب الله - المنهج، التجربة ،المستقبل » - ص /25.

([5]). أنظر كتاب الشيخ نعيم قاسم: «حزب الله: النهج، التجربة، المستقبل» - ( م.س)، لا سيما الصفحات 110-111و309-311.

([6]). غريب، أمل سعد: «حزب الله: الدين والسياسة» - دار الكتاب العربي - بيروت،2002- ص 99.

([7]). كتابنا ـ (م.س) ـ ص/58.

([8]). سورة آل عمران/ 19.

([9]). الطباطبائي، السيد محمد حسين ـ "الميزان في تفسير القرآن"مؤسسة الأعلمي - بيروت - ط، 1972 ـ المجلّد3، ص/120.

([10]). (م.ن) ـ ص.ص/120ـ121 [أنظر أيضاً: المطهري، مرتضى ـ "المفهوم التوحيدي للعالم" ـ الترجمة العربية ـ ص/14].

([11]). (م.ن) ـ المجلد الأول ص/310.

([12]). (م.ن) ـ ص/338.

[أنظر أيضاً: شمس الدين، الشيخ محمد مهدي:"بين الجاهلية والإسلام" - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت - ط2، 1984. ص/44و25 ـ53و346].

([13]). خاتمي، محمد ـ جريدة "السفير"، بيروت ـ14 أيار 2003.