إلهية المصدر (الوحي ـ القرآن ـ السنة الشريفة)

إلهية المصدر (الوحي ـ القرآن ـ السنة الشريفة)

 

 

إلهية المصدر

(الوحي ـ القرآن ـ السنة الشريفة)

 

الدكتور أبو بكر صديق

أستاذ اللغة العربية جامعة داكا ـ بنغلادش

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين، وبعد،

معالي رئيس الجلسة..

أصحاب المعالي...

أصحاب السعادة...

أيها الأخوة الكرام...

أحييكم بهذه التحية المباركة الطيبة، تحية الإيمان، تحية الإسلام، تحية الله لعباده في الجنة، تحية عباده المؤمنين فيما بينهم في الدنيا والآخرة.

في البداية أشكر الأمانة العامة للمؤتمر الدولي الحادي عشر للوحدة الإسلامية بطهران لانعقاد هذا المؤتمر تحت شعار «خصائص الإسلام العامة» بحيث الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾.  (سورة آل عمران، آية 103).

ـ(52)ـ

تمهيد:

المصدر التشريعي

لا يجد المؤمنون مشقة في معرفة الأصل التشريعي، لأن الكتب السماوية كلها تتحدث عن آدم عليه السلام باعتباره الإنسان الأول،الذي سكن هذه الأرض، وتلقى عند نزوله إليها كلمات من ربه هدت طريقه إلى تنظيم حياته وحياة ذريته، حتى خرجت تلك الذريّة على ما أنزله الله على آدم، فجاءتهم أنبياء توالوا على الأمم يربطونهم بالله تعالى عبادة وسلوكا وأخلاقا وتعاملا. ومن هنا فإن الإنسان الأول نزل ومعه من التوجيهات الإلهية ما به تستقيم حياته، فلم يكن في حاجة إلى ان يتعلم في المجال التشريعي عن طريق التجربة والخطأ، لأن الوحي كفاه هذه المهمة.

ولكن المفكرين الذين لم يستضيئوا بنور الوحي، ولم ينظروا إلى الدين النظرة الدقيقة التي من شأنها ان تنير سبيلهم إلى معرفة نشأة الأصل التشريعي للقوانين التي سارت عليها البشرية. منذ ان بدأ التسجيل لتاريخها، هؤلاء اضطروا إلى ان يبحثوا عن تعليل مقبول يربطون به وجود القوانين والتشريعات التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.

ومن هنا برزت في تاريخ علم الاجتماع والقانون النظريات التي ظن هؤلاء المفكرون أنها الأساس الذي أدى إلى ظهور القوانين، وترقيها من قوانين يسيرة تنظم حياة جماعة صغيرة من الجماعات إلى القوانين الأكثر تقدما وتطورا والتي أصبحت تسود الحضارات غير الإسلامية الحالية.

ومن ابرز هذه النظريات تلك النظرية التي قال بها روسو وهي نظرية العقد

ـ(53)ـ

الاجتماعي. فهو يرى ان الإنسان كان يحيا في جماعات صغيرة وحاجاته الأساسية كانت محدودة. إلا انها حين تطورت أخذت المصالح الشخصية تتعارض مع بعضها البعض. وتفادياً للصدام والتنازع أخذت هذه الجماعات في تنظيم حياتها على أساس التنازل عن بعض الحقوق، مقابل ان يحظى الجميع بحياة يسودها السلام والاستقرار.

وفي مقابل هذه النظرية، كانت هناك النظرة الواقعية التي ترعرعت في الفلسفة الإنجليزية، وهي نظرية المنفعة. هذه النظرية تقول ان المنفعة هي أساس النشاط البشري. وكثيرا ما تتعارض مصالح الأشخاص، وهذا وضع من شأنه ان يثير النزاع المستمر، فرأت الجماعات المتطورة ان تجعل مقياسا عاما يلتزم به الأفراد بحيث يمكنهم من تحقيق منافعهم مع القضاء على التعارض الذي ينشأ عن اختلاف المنافع، ومن هنا أخذ المشرّعون يسنّون من القوانين ما يمكنهم من تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد من الناس، وإن أدى ذلك إلى التعارض مع بعض المصالح الفردية؛ لأن المصلحة العامة لها الأولوية في الاعتبار.

هذه أهم النظريات التي تحدثت عن التطور الاجتماعي وما صاحبه من تطور تشريعي يحقق مصالح تلك المجتمعات.

ومما لا شك فيه ان هؤلاء المفكرين كانوا يهدفون إلى اكتشاف الأصل القانوني الذي يحكم المجتمعات، حتى يستطيعوا على ضوئه ان يحددوا العلاقات الإنسانية في المجتمعات الحديثة، أملا في القضاء على التسلط و السلطان المطلق، الذي كانت تتمتع به الأسر الحاكمة في أوروبا وقد كانوا في سعيهم هذا مدفوعين بالمصلحة الاجتماعية كما تصوروها، فإن هذه المصلحة محددة بحدود الفكر الإنساني مكانا وزمانا، ولذلك تغيرت التشريعات القائمة

ـ(54)ـ

على هذه النظريات من جيل لجيل، ومن جماعة إلى جماعة أخرى، ومن فترة حضارية إلى فترة حضارية مختلفة.

فالتشريعات التي تناسب أصحاب الإقطاع غير تلك التي تتناسب مع أصحاب رؤوس الأموال. والتي تتناسب مع ازدهار الصناعة وانتقال الثقل السياسي والاجتماعي إلى أصحابها تختلف عن سابقتها، وهي في الوقت نفسه تختلف عن تلك التي تناسب التطور الاجتماعي في البلاد الصناعية وحصول الطبقات العاملة على حقوق ضمنتها التشريعات التي وقفوا وراءها مؤيدين ومطالبين.

وهكذا تختلف التشريعات لأن مصدرها الإنسان المحدود بحدود الزمان والمكان والوضع الاجتماعي.

التشريعات الإلهية:

أما التشريعات الإلهية فهي تصدر عن الخالق جل وعلا. وقد شاءت إرادته تعالى ان تتدرج هذه التشريعات مع التدرج البشري، وانتشار المجتمعات البشرية.

وهي وان كانت واحدة في أصولها: وحدانية الله تبارك وتعالى، وقانون الأخلاق الكريمة التي يلتزم بها الناس جميعا، واليقين بمصير الإنسان إلى ربه، وبين ذلك شؤون الحياة وتنظيماتها، إلا انها كانت تراعي التطور الإنساني سعة وانتشارا ومعرفة. ولذلك كانت شريعة آدم كافية للوضع الاجتماعي الذي صاحب رحلة الإنسان الأولى على وجه البسيطة ثم جاءت شريعة نوح عليه السلام ناسخة التشريعات المؤقتة في شريعة آدم، موسعة نطاق الالتزام فيها متعددة الجوانب، وهكذا تدرجت التشريعات الإلهية حتى وصلت إلى مرحلة النمو الإنساني الكامل عند نزول الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، فخوطبت فيها الإنسانية

ـ(55)ـ

جمعاء.

قال الله تعالى: ﴿وأوحى إلى هذا القرآن لا نذركم به ومن بلغ﴾  (سورة الأنعام، آية 190).

وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا﴾  (سورة الفرقان، آية 1).

وقال الله عز وجل: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾ (سورة الأنبياء، آية 107).

وجاء مسك الختام فيها في ذلك الموقف التاريخي الذي اجتمع فيه لرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أكبر تجمع بشري تشهده عرفات في تاريخها الماضي، حيث احتشد فيها ما يزيد على مائة ألف، ونزل عليه قول الله تبارك وتعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾  (سورة المائدة، آية 3).

فكان هذا الإعلان الرباني الخاتم الإلهي على كمال الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لقيادة الإنسانية إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها.

الشريعة الإسلامية:

وإذا كان الوحي هو السمة الأساسية في شرائع الأنبياء فإن شريعة النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ امتازت بالثوابت التي لا تتغير من جيل إلى جيل أو من بيئة إلى بيئة، كما وضح فيها عناصر المرونة والتيسير، ورفع الحرج ومراعاة مصالح المجتمع الإنساني. فهي بثوابتها تحول دون التذبذب والتأرجح والخضوع للأهواء والأغراض البشرية، كما انها بالمرونة التي تتمتع بها تستطيع ان تستوعب المستجدات في المجتمع البشري مهما اختلفت درجة رقيّه أو تعقدت

ـ(56)ـ

علاقاته العامة.

وهذا مرجعه إلى انها شريعة جاءت من عند الله الذي يعلم من خلق، وما يصلح لما خلق، كما سيتضح ذلك من بحثنا في مصادر الشريعة الإسلامية، تلك المصادر التي اعترف جهابذة الفكر التشريعي الغربي بأنها غنية المادة واسعة الآفاق، قادرة على استيعاب حاجات المجتمع الإنساني في أعلى درجات حضارته الإنسانية.

ومما لا ريب فيه ان الآثار المباركة المترتبة على الصحوة الإسلامية التي تشهدها أمة الإسلام في وقتنا الحاضر ان فاءت كثير من الدول الإسلامية التي تأثرت في تشريعاتها وأنظمتها بالقوانين الأوروبية إلى البحث من جديد عن أسس التشريع الإسلامي التي شكلت المجتمعات الإسلامية على مدى ما يزيد على الآلف عام.

وقد حفظ المولى جلت حكمته المصدرين الأساسيين لهذه الشريعة الخالدة الباقية ما بقيت السماوات والأرض من التحريف والتبديل، حتى يرجع المسلمون إليها لتصحيح مسارهم إذا انحرفت بهم السبل.

وقد أسهم رجال العلم في إثراء الشريعة الإسلامية بناء على الأصول العامة التي جاءت في الاصلين الأساسيين فبنوا للأجيال من بعدهم صرحا عاليا من التفكير التشريعي المستقبلي، مضبوطا بالقواعد والأصول التي تحفظ للشريعة الإسلامية حدودها ومعالمها الواضحة، حتى لا تضل بهم السبل، كما تعمل على تشجيع روح الاجتهاد والاستنباط حتى تستجيب هذه الأصول للمستجدات في حياة الأمة الإسلامية، بما يحقق صالح الجماعة ويدفعها إلى الرقي والازدهار في غير خروج عن المعنى العام والروح الحقة في شريعة الإسلام.

ـ(57)ـ

وفي بحثنا هذا سنتناول أصول هذه الشريعة بالبحث والتجلية لنبين الأسس التي قامت عليها حضارة تشريعية ازدهرت فيها الصناعات والرياضيات والعلوم التجريبية، كما ترسخ فيها الالتزام الأخلاقي الذي يعتبر الأساس المتين للحفاظ على سلامة تطبيق الشرائع.

مصادر الشريعة الإسلامية

لابد لكل قانون من القوانين سواء أكان سماويا أم وضعيا من مصادر يستقي منها احكامه، وتستند إليه قواعده، والشريعة الإسلامية قد اعتمدت على مصدر يفوق جميع المصادر الأخرى، وهو الوحي السماوي.

والأصل لهذا الوحي هو الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، فهذان هما المصدران الأصليان للشريعة الإسلامية ويجانبهما مصادر فرعية ترجع إليهما.

ويذكر الأصوليون أن مصادر الشريعة الأصلية والفرعية أو المصادر التبعية هي: كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والسنة المطهرة، والإجماع والقياس والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب، والإباحة الأصلية.

وللعلماء طرائق مختلفة في تقسيمها؛ ففريق يقسمها إلى مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة، ومصادر فرعية وهي الباقي، وبعضهم يقسمها إلى مصادر متفق عليها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع، ومصادر مختلف فيها وهي الباقي، وبعضهم يقسمها إلى مصادر مستقلة بنفسها في التشريع وهي الكتاب والسنة والإجماع وما يرجع إليها من الأدلة الأخرى كالاستحسان، والى مصادر لا تستقل

ـ(58)ـ

بنفسها في التشريع وهي القياس، وبعضهم يقسمها إلي نقلية وعقلية؛ فالنقلية هي الكتاب والسنة والإجماع ويلحق بها العرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي، والعقلية هي القياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان.

وارجح هذه التقسيمات في نظرنا هو التقسيم الأول، وسنتكلم بإيجاز عن هذه المصادر للشريعة التي تبنى عليها أحكامها، ولا يوجد لها مصادر سواها:

1 ـ الكتاب الكريم:

وهو القرآن الكريم، وقد عرفه الأصوليون بتعريفات كثيرة أبرزها:

إنه كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ باللفظ العربي المنقول بالتواتر والمكتوب في المصاحف، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس، المتعبد بتلاوته، المتحدى بأقصر سورة منه. ويمتاز القرآن بخصائص تميزه عن الكتب السماوية السابقة، وعن السنة الواردة عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وهذه الخصائص هي:

1 ـ إن القرآن الكريم قد نزل بألفاظه ومعانيه باللغة العربية من عند الله.

2 ـ إن القرآن الكريم قطعي الثبوت بلا خلاف بين المسلمين.

3 ـ إنه اشتمل على نظام كامل تناول جميع شؤون الحياة المتعلقة بالعقيدة والأخلاق والنظم الاقتصادية إلى جانب القواعد التي تنظم حياة جميع الناس بما يحقق المصلحة والعدالة، ولا يجوز العدول عن القرآن إلى غيره من الأدلة أو المصادر إلا إذا لم ينص فيه على حكم الحادثة التي يراد معرفة حكمها.

ونحب ان ننبه هنا إلى أمرين:

ـ(59)ـ

الأول: إن دلالة الكتاب الكريم على الأحكام ظنية في الجملة. بمعنى أن بعض نصوصه تدل على الحكم دلالة قطعية، والبعض الآخر يدل عليها دلالة ظنية، فإذا كان لفظ النص لا يحتمل إلا معنى واحدا كانت دلالته على الحكم قطعية، ويبطل الاجتهاد فيه، وذلك كالآيات الواردة في المواريث والحدود، وان كان اللفظ يحتمل معنى آخر كانت دلالته على الحكم دلالة ظنية، وكان النص محلا للاجتهاد وذلك كلفظ  (قروء) في قولـه تعالى: ﴿والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ (سورة البقرة، آية 228).

فإن هذا اللفظ يحتمل معنيين هما الحيض والطهر، فتكون دلالته على أحد المعنيين بخصوصه ظنية لا قطعية.

الثاني: إن طريقة تشريعه للأحكام تتنوع إلى نوعين:

النوع الأول: تشريع تفصيلي جزئي، وقد جاء هذا في تشريع أحكام العقائد والأخلاق، وبعض الأحكام العملية الثابتة كأحكام المواريث ونظام الأسرة، والسر في ذلك انها لا تتغير بتغيير الزمان أو المكان أو البينات، وان كثيرا من أحكام العقائد لا يستقل العقل بإدراكها وحده، ولذلك تولى الله سبحانه وتعالى بيانها بنفسه على سبيل التفصيل في الكتاب الكريم، ويلاحظ أن الأحكام العملية التي جاءت مفصلة في الكتاب الكريم قليلة بالنسبة لبقية الأحكام العملية وأحكام العقائد والأخلاق.

والنوع الثاني: تشريع كلي إجمالي صيغ في مبادئ عامة وقواعد كلية يندرج تحتها كثير من الجزئيات، مثل قولـه تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ (سورة المائدة، آية 1).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا

 

 

ـ(60)ـ

ان تكون تجارة عن تراض منكم﴾ (سورة النساء آية 29).

وقد جاء هذا النوع في الأحكام العملية غير الثابتة التي تتغير فيه المصلحة بتغير الزمان، وتختلف باختلاف الأماكن والمجتمعات.

2 ـ السنة المطهرة:

وهي ما اثر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد بعثته من قول أو فعل أو تقرير. وتنقسم السنة إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ سنة قولية: وهي الأحاديث التي قالها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في المناسبات المختلفة والأغراض المتعددة، وتنقسم السنة القولية إلى أحاديث قدسية، وأحاديث نبوية.

2 ـ سنة فعلية: وهي ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من أفعال كالوضوء والصلاة ومناسك الحج وغيرها.

3 ـ سنة تقريرية: وهي سكوت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عن إنكار فعل أو قول صدر في حضرته أو في غيبته وعلم به فأقره، كسكوته عن إنكار أكل الصحابة من الضب حين رآهم يأكلونه، فإن ذلك يدل على جواز اكل لحم الضب، ومن السنة التقريرية أيضاً إقرار النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعض النظم التي كان العرب عليها قبل الإسلام، كإقراره عقود بعض الشركات كالمضاربة وغيرها.

وتنقسم السنة بحسب روايتها ووصولها إلينا إلى قسمين:

1 ـ سنة متواترة: وهي ما رواها مجموعة من الرجال عن مثلهم في كل عصر حتى وصلت إلينا ممن يستحيل اتفاقهم على الكذب. وينقسم الحديث المتواتر إلى قسمين: متواتر لفظي: وهو ان يكون ما يرويه كل واحد متفقا في اللفظ والمعنى مع ما يرويه الآخر مثل حديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من

ـ(61)ـ

النار». ( أخرجه البخاري في كتاب العلم، ومسلم في كتاب الزهد). ومتواتر معنوي: وهو ان يكون اللفظ المروي مختلفا، مع الاتحاد في المعنى مثل حديث رفع اليدين عند الدعاء.

2 ـ سنة آحاد: وهي ما رواها عدد من الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ورواها عنهم في العصور التالية عدد لا يبلغ حد التواتر حتى وصلت إلينا، وقد تنوعت سنة الآحاد باعتبار مقدار الثقة في روايتها إلى أحاديث صحيحة، وحسنة، وضعيفة، كما تنوعت باعتبارات أخرى إلى أحاديث موصولة، ومنقطعة، ومرفوعة، ومرسلة، وموقوفة والى غير ذلك مما هو مقرر في مصطلح علم الحديث.

وعلى ضوء ما تقدم يتبين لنا أن السنة ظنية الثبوت فيما عدا المتواتر منها، أما دلالتها فيه في ذلك مثل الكتاب، بعضها يدل على الحكم دلالة قطعية وبعضها يدل عليه دلالة ظنية.

والسنة النبوية مصدر للأحكام وحجة يجب العمل بها بإجماع المسلمين، وسند الإجماع قولـه تعالى: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ (سورة المائدة آية 92).

وقولـه تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ (سورة النساء آية 80).

وقولـه عز وجل: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه﴾ (سورة الحشر آية 7) وغيرها من آيات القرآن الكريم.

منزلة السنة من القرآن:

السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون موافقة لـه من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على

ـ(62)ـ

الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.

الثاني: ان تكون بيانا لما اجمل في القرآن وتفسيرا لـه.

الثالث: ان تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن ايجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما. (أعلام الموقعين 2/ 237).

وإذن فمهمّة السنة ووظيفتها هي البيان بكافة طرق البيان وأنواعه، فقد تأتي موافقة للكتاب وتكون حينئذ واردة مورد التأكيد كما في قولـه عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه فإنها موافقة لقوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ (سورة البقرة آية 188).

وقد تأتي مبينة لمجمل الكتاب كالأحاديث التي بينت كيفية الصلاة وأوقاتها، وعدد الصلوات في كل يوم، وعدد ركعات كل صلاة، وسائر ما يتعلق بتفاصيل الصلاة، والأحاديث التي بيّنت نصاب الزكاة في كل نوع من أنواع الزكاة، والمقدار الذي يؤخذ من كل نوع منها، وكل ما يتعلق بتفاصيل الزكاة، فإن هذه الأحاديث قد بيّنت الإجمال الوارد في قولـه تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكوة﴾ (سورة المزمل آية 20) الذي لم يتعرض لشيء من هذه التفاصيل وقد تأتي موضحة للمشاكل كبيان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ الخيط الأبيض والخيط الأسود في قولـه تعالى: ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ (سورة البقرة، آية 187) بأنه بياض النهار وسواد الليل.

وقد تأتي مخصصة للعام كتخصيصه عليه الصلاة والسلام الظلم الوارد في قولـه تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ (سورة الأنعام،آية 82) بأنه الشرك.

ـ(63)ـ

   وقد تأتي مقيدة للمطلق كتقييده عليه الصلاة والسلام اليد في قولـه تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله﴾. (سورة المائدة، آية 38) باليمين.

وقد تأتي ناسخة لحكم ثبت بالكتاب كقوله عليه الصلاة والسلام: لا وصية لوارث فإنه ناسخ لوجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارد في قولـه تعالى: ﴿كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين﴾(سورة البقرة آية 180).

وقد تأتي مثبتة لحكم سكت عنه القرآن فلم يذكره صراحة، وذلك مثل الأحاديث الدالة على رجم الزاني المحصن، والشفعة وصدقة الفطر والحد من الخمر، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وإعطاء الجدة السدس، وأنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير إلى غير ذلك من الأحكام.

3 ـ الإجماع:

هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. فلا يعتبر من الإجماع: اتفاق العوام. واتفاق من لم يبلغ درجة الاجتهاد، واتفاق أكثر المجتهدين، واتفاق المجتهدين في أمة من الأمم السابقة واتفاق المجتهدين في عصره ـ صلى الله عليه وآله ـ، واتفاق المجتهدين على حكم لغوي أو عقلي أو وضعي فإن كل هذه الاتفاقات لا تعتبر من الإجماع.

ويلجأ إلى الإجماع إذا لم ينص على الحكم في الكتاب الكريم أو السنة

ـ(64)ـ

النبوية أو نص عليه فيهما، ولكن كان النص ظنيا فيرفع الإجماع الحكم من الظنية إلى القطعية.

ومن أمثلة الأحكام الثابتة بالإجماع: تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، توريث الجد السدس عند عدم الأب مع وجود الابن.

وينقسم الإجماع إلى إجماع صريح والى إجماع سكوتي:

فالإجماع الصريح، هو ان يتفق كل المجتهدين بالقول أو الفعل على حكم شرعي مجتهد فيه، ولا خلاف في اعتبار هذا النوع مصدرا من مصادر الفقه، ويؤيد هذا قولـه تعالى: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين لـه الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾(سورة النساء آية 115).

وقولـه عليه الصلاة والسلام: لا تجتمع أمتي على ضلالة. (رواه الإمام احمد والطبراني، ينظر كشف الخفاء ـ 2 / 488).

والإجماع السكوتي، هو ان يبدي بعض المجتهدين رأيه في مسألة من المسائل، ويعلم به باقي المجتهدين في عصره فيسكتون ولا يكون منهم إقرار ولا إنكار، وذلك كفتوى الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه بتوريث المطلقة في مرض الموت من زوجها، وهذا القسم الأخير من الإجماع محل خلاف بين الفقهاء هل يمكن اعتباره دليلا أو لا؟ والصحيح أنه دليل معتبر، ولابد للمجتهدين من دليل يعتمدون عليه في الحكم الذي يجمعون عليه، وهو ما يعرف بسند الإجماع وقد يكون هذا السند من الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أو القياس أو المصلحة المرسلة.

فمثال الإجماع المستند إلى الكتاب هو الإجماع على حرمة التزوج ببنت البنت فإنه يستند إلى قولـه تعالى: ﴿حرمت عليكم امهتكم وبناتكم﴾. (سورة النساء،

ـ(65)ـ

آية 23).

ومثال الإجماع المستند إلى السنة هو الإجماع على إعطاء الجدة السدس في الميراث فإنه يستند إلى المروي عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه أعطاها السدس.

ومثال الإجماع المستند إلى القياس هو الإجماع على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان بالقياس على إمامته في الصلاة، يدل على ذلك قولهم: رضيه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.

ومثال الإجماع المستند إلى المصلحة المرسلة هو الإجماع على جعل الأراضي المفتوحة ملكا للدولة، وعدم تقسيمها بين الفاتحين، وجمع القرآن في مصحف واحد فإن ذلك أساسه المصلحة.

4 ـ القياس:

هو إلحاق أمر لم ينص على حكمه في الكتاب أو السنة أو الإجماع بأمر نص عليه في أحدها لاشتراكهما في علة الحكم، فإذا وجدت حادثة لم ينص على حكمها، أو يجمع عليه، ولها شبه بحادثة أخرى قد نص على حكمها، فإنه يثبت حكم الحادثة المنصوص عليها للحادثة التي لم ينص على حكمها إذا وجدت علة الحكم فيها.

وأركان القياس أربعة: الأصل وهو المقيس عليه، والفرع وهو المقيس والعلة وهي وجه الشبه بين الأصل والفرع، والحكم وهو ما أثبته النص في الأصل ومن أمثلة ذلك:

1 ـ قرر العلماء حرمان الموصى لـه من الوصية إذا قتل الموصي قياسا على

ـ(66)ـ

حرمان الوارث من الميراث إذا قتل مورثه، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يرث القاتل، وعلة الحرمان هي استعجال القاتل للميراث قبل أو انه بفعل محرم، فقاس الفقهاء على ذلك قتل الموصى لـه الموصي فحرموه من الوصية لوجود علة الحرمان وهي استعجال الشيء قبل أوانه بفعل محرم، فالأصل هو قتل الوارث مورثه، والفرع هو قتل الموصى لـه الموصي، والحكم هو الحرمان من الحق الذي كان ثابتا، والعلة هي استعجال كل منهما الحق قبل أوانه بفعل محرم.

2 ـ قرر العلماء عدم جواز الإجارة على الإجارة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذر. (أخرجه البخاري في كتاب النكاح، وفي كتاب البيوع، ومسلم9 / 189)، فقاس العلماء الإجارة على الإجارة والخطبة على الخطبة والبيع على البيع لوجود العلة وهي الحاق الضرر بالمستأجر الأول.

والقياس من الطرق التي تدل على أن أحكام الشريعة عامة كلية فالمثال الأول يفيد أن كل من استعجل الشيء قبل أوانه بفعل محرم فإنه يعاقب بالحرمان منه، والمثال الثاني يفيد أن كل ما يضر بالغير فهو محرم.

 

أهداف الدعوة

مما تقدم تتضح لنا أهمية التضامن الإسلامي كأعظم هدف من أهداف الدعوة الإسلامية، وإنكم مدعوون اليوم للعمل لتعزيز هذا التضامن بإخلاص وصدق.

وترتيبا على ذلك نقول: إن أهداف الدعوة تتفرع إلى شقين نجملهما فيما يلي:

ـ(67)ـ

الشق الأول: يتعلق بأمور المسلمين أنفسهم كافة نحو الإسلام وتطبيقه.

الشق الثاني: يتعلق بنشر الإسلام بين غير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وتعميق الإسلام في نفوس المسلمين.

1 ـ أهداف الدعوة فيما يتعلق بالمسلمين:

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (سورة الرعد، آية 11).

وقال تعالى:﴿وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال﴾ (سورة إبراهيم، آية 45).

وقال تعالى: ﴿لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء﴾ (سورة آل عمران، آية 28).

وقال تعالى: ﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك ما وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به، لعلكم تذكرون وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلك وصاكم به، لعلكم تتقون﴾(سورة الأنعام، الآيات 151 ـ 152 ـ 153).

 وأخيرا وليس آخرا قولـه تعالى: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾(سورة الأنبياء، آية 92).

فإذا نظرنا للآيتين الأولى والثانية نجد أن الله سبحانه وتعالى تنبأ للمسلمين

ـ(68)ـ

وقت نزولهما بما يحدث لهم في هذه الأيام من ضياع وذل وتفكك بعد عزة وقوة ومنعة واتحاد، لأنهم غيروا ما بأنفسهم من اتباع تعاليم الإسلام ولم يتبعوا ما أمرهم الله به وينتهوا عما نهاهم الله عنه، وخالفوا قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حين قال: لقد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله سنتي.

فإذا شاء المسلمون ان يعودوا إلى ما كانوا عليه من عزة ومنعة وقوة فعليهم ان يعودوا إلى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

ونرى في الآية الثالثة تحذيرا من الله سبحانه وتعالى للمسلمين بأن لا يتخذوا من غير المسلمين أولياء لهم لأنهم سيخدعونهم ويضرونهم بدعوى انهم ينفعونهم، ويحرضون بعضهم على بعض فتضعف شوكتهم فينقضوا عليهم ويمزقوهم وهم متفرقون بعد أن استحال عليهم ضربهم وهم متّحدون وهذا حال المسلمين اليوم.

وإذا نظرنا إلى الآيات التالية نجد أن الله سبحانه وتعالى يأمر المسلمين بعد إسلامهم بالإحسان إلى الوالدين وان لا يقتلوا أولادهم من الفقر وأمّنهم على أرزاقهم معهم وأمرهم بألا يقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم قتل النفس واكل مال اليتيم، وأن يفوا بالكيل، وان يزنوا بالقسطاس المستقيم، وكل ذلك جاء مفسرا لقوله تعالى: ﴿إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾(سورة العنكبوت، آية 45).

لان معنى الصلاة أنها هي تطبيق معاني هذه الآيات من أمر ونهي.

وإذا تأملنا الآية الأخيرة التي تقول: ﴿ان هذه أمتكم أمة واحدة﴾. نجد أنها تقرير وتأكيد بأن الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمة الإسلامية كيان الأمة

ـ(69)ـ

الواحدة بإرادته وبأمره، لكي تكون في وحدتها هذه قوة تحمي نفسها من كل معتد عليها من خارج دائرتها، فكل من عمل أو يعمل على تمزيق هذه الوحدة أو إضعافها فهو فاسق عن أمر ربه وعدو لله ومحارب لإرادته التي أرادها في قولـه تعالى: ﴿ان هذه أمتكم أمة واحدة﴾. والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أكد هذا المعنى لإرادته في آيتين كريمتين بنفس الصفة للتوكيد فجاء في إحداهما: «ان هذه أمتكم أمة واحدة» وفي الأخرى «وان هذه أمتكم أمة واحدة»..آيتان كريمتان لم ينزلهما الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بنفس الصيغة وبنفس المعنى وبنفس الأسلوب إلا لتبليغ المسلمين وإعلانهم بأنه أراد لهم كيان الأمة الواحدة، وأنه يكلفهم بالحفاظ على وحدة هذه الأمة، ومعنى هذا أنهم مكلفون بمحاربة كل من يحاول تفكيكها أو إضعافها باعتباره خارجا عن جماعة المسلمين وعدوا لله ولهم، ولقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله وهو أصدق القائلين: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا﴾ (سورة آل عمران، آية 103).

ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يأمر المسلمين بالبقاء على وحدة أمتهم وان يعتصموا بحبل الله واختار لهم صيغة جميعا لتفيد معنى الشمول للكافة ثم يأمرهم بالحفاظ على وحدة أمتهم مرة أخرى بالا يتفرقوا ويذكرهم بأنهم كانوا قبل هذه الوحدة أعداء متفرقين، فألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته اخوانا، فكل من يحاول أن يفرق بينهم إنّما يحاول أن يعيدهم إلى ما قبل الإسلام من جاهلية عمياء في قبائل متفرقة ليعودوا إلى الضعف والتفرق فيضيع بتفرقهم الإسلام.

فوحدة الأمة الإسلامية إذن هي جسد الإسلام والإسلام روحه ولا اثر لروح

ـ(70)ـ

بلا جسد كما انه لا حياة لجسد بلا روح والدليل على ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وقولـه عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وقولـه: (حب لأخيك ما تحب لنفسك).

ومن أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية من التفكك حدد الله لهم ما ينبغي عليهم أن يقوموا به لكي تبقى وحدتهم متماسكة، فقال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنّما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾. (سورة الحجرات، الآيتان 9 ـ 10).

2 ـ الدعوة بالنسبة لغير المسلمين:

وتنحصر الدعوة بالنسبة لغير المسلم في التبليغ وما على الداعية إلا القيام بدعوة غير المسلم إلى الإسلام لقوله تعالى: ﴿وما على الرسول إلا بالبلاغ﴾ وليس معنى ذلك ان يتوجه الداعية إلى غير المسلم ويطرق بابه أو يعترضه في الطريق ثم يخاطبه بلهجة غليظة قائلا: اسلم وإلا دخلت النار فمثل هذا الأسلوب الجاف وتلك الطريقة المنفرة تعطي غير المسلم صورة غير لائقة بسجايا المسلم في آداب الحديث وحسن الخطاب مع انه مكلف بأن يكون مهذبا في إبلاغ دعوته دمث الخلق في إعلانه عنها، لأن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام ولأخيه هارون عندما أرسلهما إلى فرعون: ﴿اذهبا إلى فرعون انه طغى ، فقولا لـه قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾(سورة طه ن الآيتان 43 ـ 44) فالله سبحانه وتعالى

ـ(71)ـ

أمرهما بالغرم من علمه بطغيان فرعون ان يقولا لـه قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، مع ان الله سبحانه وتعالى قادر على ان يخسف به الأرض. لكنه مع ذلك طاوله وأمهله في الدعوة حتى أغرقه وقومه ونجى موسى ومن معه. ودليل آخر على ضرورة تحلي الداعية بلين العريكة والكياسة في الخطاب قولـه تعالى: ﴿أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ (سورة النحل، آية 125).

وقولـه: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾(سورة آل عمران، آية 159).

وقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ(أُمرت ان أخاطب الناس على قدر عقولهم) ذلك لأن الداعية سيلتقي في مجال نشر دعوته الوثني والمشرك والكتابي، وكل من أولئك قد درج على أسلوب معين في العبادة والاعتقاد، منهم المتعصب والمزعزع العقيدة والمنحل والعالم والدارس، وقد يكون كاهنا أو راهبا، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن﴾.

وأخيرا لدينا كلمة وجيزة يجب ان نقولها من أجل إعلاء كلمة الحق والدين، وهي إننا نرى اليوم وقد تحولت أفريقيا والبلاد غير الإسلامية الأخرى إلى ميدان للصراع التبشيري. أصبحنا في مواجهة تحدي التبشير المسيحي للإسلام، وإننا ملتزمون بحق الإسلام علينا كأمانة في أعناقنا نحن رجال الدعوة لقبول ذلك التحدي ولخوض غمار ذلك المضمار بكل طاقاتنا وإمكاناتنا المادية والأدبية.

ونحن مع الشعوب الإسلامية نبارك باسم الإسلام كل حاكم مسلم حمى بيضة الإسلام، وندعو الله لكل حاكم قصر في حقه ان يلهمه الرشد بعد الزيغ، وينفث في صدره غيرة الراشدين على الإسلام، وليكن نبراسنا إلى ذلك قولـه سبحانه وتعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن

ـ(72)ـ

 المنكر وتؤمنون بالله﴾. (سورة آل عمران، آية 110).

وقولـه تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾(سورة آل عمران، آية 104).

وأخيرا ليس من المروءة في الإسلام بعد ان قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ (سورة المائدة، آية 3).

في عهد رسوله الكريم، ان ننقص في زماننا بأعمالنا ما كان قد اكتمل من أسلافنا وأئمة دين الله من نعمته علينا في تلك الآية الكريمة.. لأننا مكلفون بالمحافظة على كمال الإسلام، كما أكمله الله لنا لنحظى بتمام نعمته عليها كما أتمها علينا من قبل، يوم نزلت هذه الآية على رسوله الكريم.

وآخر ما نوصي به شعوب المسلمين في مواجهة كل حاكم في كل زمان قولـه سبحانه وتعالى: ﴿ان هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فأعبدون﴾ (سورة الأنبياء، آية 92).

وقولـه تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا﴾ (سورة آل عمران، آية 103).

خطة المواجهة:

إن عنصر الحياة في كل أمة من الأمم هو الإيمان والمعرفة، وبدونها تصبح مفككة ضائعة، ولو كانت حرة مستقلة.. ومن هنا تجيء ضرورة العمل الإسلامي المشترك الجاد والمخلص، وعلى أهل الغيرة والنخوة من رجال الإسلام علماء

ـ(73)ـ

ورواداد ان يلبسوا صوت هذا النفير، وان يلتفوا حول راية الإسلام وقد ظهرت إمامهم ووضحت علامات الطريق.

وعلى هؤلاء واجبان: الواجب الأول يتمثل في كشف الاعيب الاستعمار الغربي وبعثاته التبشيرية وإرسالياته والرد عليهم بما ينسخ حججهم ويكشف أباطيلهم وافتراءاتهم على الإسلام. والواجب الثاني التبصير بتعاليم الإسلام المسحة والتبشيرية بكل الوسائل قديمها وحديثها دون كلل أو ملل، بما في ذلك من إيفاد البعثات الدعوية الإسلامية المزودة بالوسائل الإعلامية الحديثة وطرق التوغيب، بما في ذلك تقديم الإعانات المالية لمن ينفتح قلبه للإسلام وهو فقير حتى لا يدفعه الفقر إلى الوقوع في براثن اولئك المبشرين حتى يتعمق الإسلام في صدره ويصبح في مأمن بإيمانه من لطمات الفقر وتأثير المغريات، وليس في ذلك شيء عجيب، فالرسول عليه افضل الصلاة والسلام كان يؤثر المؤلفة قلوبهم وهم الذين اعتنقوا الإسلام ولم ينقض عليهم فيه وقت عهد طويل. يؤصله ويعمقه في نفوسهم بكثير من المزايا كالهبات وزيادة الأنسبة من الغنائم وما إلى ذلك ليحببهم في الإسلام، مثل هذه الرخص في الدين ينبغي الأخذ بها في مجال الدعوة إليه وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ(بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا).

وإذا وضعنا في اعتبارنا ما هو حقيقة واقعة أن هدف الحركات الاستعمارية التي تحمل عناوين تبشيرية عريضة هو تقويض الإسلام في بلاده، نرى أن مقاومة هذا اللون من العدوان الغربي ليس واجبا إسلاميا فحسب، بل إنه بالضرورة واجب عربي في الوقت نفسه، ذلك لأن العلاقة بين العروبة والإسلام علاقة وثيقة لا انفصام لها، ومرتبطة برباط عميق يجمع بينهما كارتباط الروح بالجسد، ولأننا لا يخالجنا أدنى شك لي ان العروبة جسد الإسلام، وان الإسلام روح العروبة،

ـ(74)ـ

يؤيد ذلك قولـه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ(إذا ذل العرب ذل الإسلام)، كما إننا نؤمن إيمانا عميقا بأن الأخطبوط الاستعماري المختفي وراء العنوان التبشيري المسيحي يستهدف من ورائه تمزيق وزعزعة الوعي الوطني وإضعافه، كما يهدف في الوقت نفسه إلى زعزعة الوعي الديني، كما أنه يجب علينا أن نفهم أن مناهضة ذلك الداء العضال من أوجب الواجبات الإنسانية ذاتها للحفاظ على حرية العقيدة للإنسان.. ذلك لأن هذا الضرب من التبشير يقوم على التضليل والغش وتشويه الحقائق ولا يبالي في سبيل الوصول إلى هدفه بسلوك اقذر الطرق، وهذا الأسلوب فضلا عن همجيته، يعتبر مصادرة لحريات الناس الشخصية في أخص ما تحرص عليه من معتقدات.

وقد أكد القرآن الكريم هذا الشعار في حرية الاعتقاد حيث يقول: ﴿لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون﴾. (سورة البقرة، آية 256 ـ 257).

وقولـه تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ (سورة القصص،آية 52).

وقولـه تعالى: ﴿من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾(سورة الإسراء، آية 15).

وقولـه تعالى: ﴿قل إنّما انا بشر مثلكم يوحى إلي إنّما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد﴾ (سورة الكهف،

ـ(75)ـ

آية 110).

وقولـه تعالى: ﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾(سورة المائدة، آية 99).

وقولـه تعالى أيضاً: ﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾(سورة الأنعام: آية 107).

كل هذه الآيات البينات تؤكد حرية الإنسان في الاعتقاد لذلك كان واجبا علينا إزاء إيماننا بما أمرنا به الله عز وجل في كتابه الكريم ان لا نسمح بالإكراه في الدين بأية وسيلة من الوسائل، وإذا كنا ملتزمين بذلك الدفع عمن يدين بغير الإسلام فنحن مطالبون من باب أولى بدفع الإكراه عن أهل ديننا، ونحن في مواجهة ذلك أحوج الناس إلى دعاة يصدق فيهم قولـه سبحانه وتعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾(سورة التوبة، آية 122).

وقولـه تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون﴾ (سورة آل عمران، آية 104).

فما أحوجنا إلى من يحسنون التذكر بالدعوة لقوله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين﴾ (سورة يوسف، آية 108).

وقولـه تعالى: ﴿قل إنّما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه ادعوا واليه مئاب﴾(سورة الرعد، آية 32).

وقولـه تعالى: وأنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم. (سورة المؤمنون، آية 73).

مثل هؤلاء الدعاة ما كان أحوج الإسلام إليهم اليوم ونحن على هذه الحال

ـ(76)ـ

ولا يمكن ان يرجى من دعوتهم ثمرة إلا إذا كانت لدى قدراتهم الطاقة على تحقيق الأمرين اللازمين اللذين استلزما وجوبهما ، الأول تطهير بلاد المسلمين من سموم أولئك الاستعماريين من المستشرقين والمبشرين وجماعات الإرساليات الغربية، والثاني نشر دعوة الإسلام والتبشير بها بعد تطهير البلاد من سمومهم.

وينبغي لاختيار الداعية الإسلامي من بين أولئك الدعاة ان تتوافر في تصورنا الشروط والمواصفات المثالية التي يمكن لنا ان نجملها فيما يلي:

أولاً: ان يكون الداعية في سنّ تؤهله للقيام بأعباء الدعوة ومسؤولياتها، فلا هو بالشاب الناشيء، ولا هو بالشيخ الهرم حتى لا تقعد به همته للراحة قانعا بما يبذله من جهود.

ثانياً: ان يكون ذا صحة وحيوية ونشاط وذا بنية سليمة تعينه على القيام بما تتطلبه الدعوة من جهد واعباء على نشر تعاليم الإسلام.

ثالثا: ان يكون متحليا بسلوك الإسلام وتعاليمه وأخلاقه متصفا بآدابه وأحكامه، وبالاختصار أن يكون قدوة حسنة وأسوة لغيره.

رابعاً: ان يكون مطلعا على ألوان مختلفة من الثقافات الدينية والاجتماعية متفقها في الدين عارفا بفلسفات الشرق والغرب، وقارئا متخصصا في مجال المؤلفات التبشيرية وخاصة لكتابات المستشرقين حتى يكون لديه الاستعداد الكافي للرد على ما قد يفاجأ به من عقد علمية أو موضوعات دينية معقدة تحتاج لسرعة بديهة ولباقة في تحليلها وإسكات المجادل بالرد الحاسم المقنع.

خامسا: ان يكون متفقها في اللغة العربية عارفا بأسرارها لأنها مفاتيح التفسير للقرآن وشرح آياته، ومدخل أبواب تعاليم الإسلام ودليله إلى منابعها الأصلية، وبالإضافة إلى ذلك كله يلزمه ان يكون مُجيداً للغة البينة التي يبشر فيها بدين الإسلام العظيم. وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم.