الاجتهاد واجب ديني وحضاري

الاجتهاد واجب ديني وحضاري

 

 

الاجتهاد واجب ديني وحضاري

 

الشيخ الدكتور كمال الدين جعيط

مفتي الجمهورية التونسية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

([1])

1) التمهيد

إن التغيّرات الهائلة، والتطورات الفائقة، التي يشهدها عالمنا اليوم، تفرض على الأمة الإسلامية سياقا كبيرا من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ليس لها فيها من خيار إلا تأكيد جدارتها وقدرتها على الفعل والانجاز ومسابقة الأمم على المواقع الأمامية. هذا قدرها، إن أرادت إثبات وجودها، وأن يكون لها موضع جدير بإمكانياتها العظيمة، في عالم تكبر فيه، التكتـّلات والتحالفات، يوما بعد يوم، ويسود فيه منطق توسع المصالح على حساب الحدود المحلية الضيقة اقتصاديا وثقافيا.

وليس لنا من سبيل إلى إدراك غاياتنا في الوحدة والقوة، وتجاوز حالة التشتت الراهنة، إلا بتجديد الأوضاع، وتحديث البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وذلك مشروط بإطلاق الفكر الحر القادر على الانتاج والاجتهاد والتوليد، وبالاستثمار الجيّد في قطاعات البحث المعرفي العلمي، وإزاحة كل ما يثبّط جهد الابتكار والإبداع.

إنه لا يسعنا أن نتجاهل أننا نعيش على تخوم حضارات وثقافات مختلفة المشارب، مغايرة لنا في المنطلقات، مفارقة لنا في الأهداف والغايات. وإن شهودنا الحضاري هو الذي يحدد موقعنا داخل هذه الخارطة العالمية، أفولا أو بروزا، قوة أو ضعفا. وليس بـإمكان أية حضارة ما، أن تنغلق على نفسها، أو أن تنفي غيرها، وإلا فقدت شروط تجددها وحيويتها، بفقدان مايلزمها من اللواقح المخصبة.

ويلزم الأمة أن تثق في إمكانياتها وقدراتها، بتفعيل أدواتها الناجعة لتغيير واقعها الرديء، واستعادة عافيتها الحضارية، وذلك باعادة تأصيل الرؤية التاسيسية للإسلام، لقضايا الحرية في علاقتها مع القدر، ولقضايا العقل في محاورته للنص والوحي، بغية تخليص الدين من التأويل الجاهل، والانتحال الباطل، والتحريف المغالي، وبناء الفكر الناقد القادر على التحليل والاستقراء، والاستنتاج والتقويم والمراجعة، وتجريد الرؤية الشرعية من حدود الزمان والمكان تحقيقا لمعنى الخلود فيها. ويلزم مع ذلك، كسب الاستعدادات الضرورية للتعامل مع المتغيرات العالمية، بامتلاك ناصية العلوم والتقنيات، مع القدرة على الابتكار فيها والمنافسة. إننا مطلوبون إلى أن لا نبقى في غربة عن الزمان والمكان، وأن لا نركن إلى الاجترار، لكي لا نقع في الجمود القاتل.

وكان لابد أن يفسح الإسلام في داخله مجالا للتطور الإنساني، بعد أن كمل الدين، بإتاحة مساحات شاسعة للاجتهاد، من أجل ملاءمة الأوضاع المتغيرة، والاستجابة للحاجات المتجددة، ومتى تعطلت هذه الآلة، توقف العقل عن دوره في إنتاج الحضارة. وكل دعوى إلى إيقاف حركة الاجتهاد، إنما تصدر من جهل بحقيقة الإسلام، وهي في بعض الحالات دعوى باطنة مغرضة، لا تخلو من دسائس ومؤامرات تريد الوقيعة بالمسلمين.

إن مؤتمرنا هذا، يتيح لنا فرصة ذات بال، للإفصاح عن حقيقة ما يجيش في أنفسنا من آمال عريضة إلى تجاوز هنات الماضي، ومعوّقات الحاضر، بغية استشراف مستقبل أكثر توحّدا وتكاتفا، وتشابكا للمصالح والمصير.

وما اجتماعنا هذا، إلا مجال مناسب للتلاقي، من أجل تبادل الخبرات، وتصويب وجهات النظر، وتوحيد الجهود، وإزالة عقبات الخلاف المقيت. وهي مسؤولية جسيمة يتحملها العالم على وجه الخصوص، امام الله، وأمام الأمة، بهدف إنشاء وعي إيجابي جديد، كفيل باستنهاض القوائم وتحريك الهمم والسواعد.

قال الله تبارك وتعالى (فلولا  نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون) (التوبة / 122). وقال رسول الله o (العلماء ورثة الأنبياء).

 

2) مفهوم الاجتهاد ودلالاته

الاشتقاق اللغوي: وأصله في اللغة، بذل الجهد واستفراغ الوسع، في أمر لا يكون إلا بكلفة ومشقة.

- المفهوم الاصطلاحي: ويراد به عند علماء الأُصول: بذل الفقيه جهده العقلي في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، من الكتاب والسنّة والاجماع والقياس. ويعرّفه العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، w، تعريفا دقيقا بقوله: هو إعطاء حكم لفعل، أو حادث حدث للناس، لا يعرف حكمه، فيما لاح للمجتهدين من أدلّة الشريعة. ويقول عنه الشاطبي: هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم.

ونطاق الاجتهاد يتسع إلى آماد فسيحة وآفاق رحبة، نوجزها كالتالي:

1- الاجتهاد في مدى ثبوت النص الشرعي، ويشمل السنّة دون النص القرآني باعتباره نصاً قطعي الثبوت. أما السنّة التي وردت بطريق ظني، كأحاديث الآحاد، فإن المجتهد لابدّ له أن يبحث عن سند الحديث ورجاله، ومدى توافر شروط الصحة فيهم، لقبوله والأخذ به، أو عدم الأخذ به لعدم رجحان صحة الحديث لديه، متنا وسندا.

2- الاجتهاد في مدى دلالة النص الشرعي على حكمه. ويراد بالنص هنا، النص الذي يدلّ على حكمه دلالة ظنية، غير قطعية ولا صريحة. ومهمة المجتهد في هذا النوع من الاستدلال، البحث عن تفسير النص وتأويله، عن طريق الاعتماد على القواعد اللغوية والقواعد الشرعية التي تساعد على التفسير والتأويل والترجيح.

3- الاجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص. وهنا تبدو مهمة المجتهد دقيقة غير يسيرة، إذ هي مشروطة في تحقيق أغراضها ومقاصدها، بمدى كفاءة المجتهد، وتوسع قدرته، وإلمامه بقضايا زمانه، وضرورات عصره. فهو مطلوب بتوليد الحكم الشرعي وإنزاله على الوقائع المستجدة، إنزالا يلائم بين مقصد الشارع الحكيم، في جلب المصالح ودرء المفاسد، وبين مقتضيات العصر ومستجداته.

وهذا المعنى يعد من الأغراض الأساسية المطلوبة شرعا، لرفع المشقة والحرج عن المكلّف، وتحقيق الحاجيات والمصالح الفردية والاجتماعية، مع مراعاة سياق الضوابط والشروط المعتبرة نصا وعقلا. وبذلك نجنب أنفسنا الوقوع في التعطيل والجمود، سواء بإعاقة العقل عن أداء دوره، أو إلجام النص وإزاحته عن واقع الأحداث.

ويلوح لنا، بعد هذا البيان، أن المراد بالاجتهاد، لا أن نلغي تجارب السابقين، ولا أن نشيح بوجهنا، عن جملة الانجازات والتراكمات التي حدثت بتعاقب السنين، والتي استفادت من زخمها حضارة العصر، أو أن نقطع مع الجذور والأصول ونعدم الموروث، لنعيد البداية ونرجع بحركة التأسيس إلى نقطة الصفر، فنكون بذلك كمن بتر جزءا من بدنه، أو عطل عضوا من أعضاء حركته. وليس القصد من الاجتهاد كذلك، أن نهمل واقعنا، ونضرب صفحا عن مشاكلنا وقضايانا، فنكون مغيبين عن سياق عصرنا، ضاربين في متاهات الأزمنة البائدة.

وفي تقديرنا، أن الاجتهاد يستوجب فهم الواقع في إطار النص المرجع، وفي ضوء القدرات والاستطاعات المتوفرة، وضمن القضايا والإشكاليات التي تطرحها سياقات العصر وتمخضات الأحداث. لتكتمل بذلك عناصر المعادلة، وهي: النص، والعقل، والحادثة. ولابد لنا أن نلاحظ أن توفـّر المعارف والتخصصات، والأدوات المساعدة، التقنية والعلمية، التي تمكّن من التعامل مع حركة الحياة والمجتمع، من شأنها أن تساعد على توليد الأفكار وتجديدها، مجردة عن المشاعر الضيقة والأماني القصيرة المدى.

3- حكم الاجتهاد وحجيّته من النص والعقل

حكمه:

هو فرض عين على القادر، إذا توفـّرت فيه أهلية المعرفة بالشرعيات، والعلوم المساعدة والمساندة لها، لاستجلاء الحكم المناسب في القضايا المعروضة عليه. وهو قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين.

حجيته:

لاشكّ أن هناك نصوصا من القرآن والسنـّة، تؤكّد وجوب الأخذ بالاجتهاد، واستعمال الرأي الحصيف، وحثّ المسلمين على إمعان النظر في أمورهم، والتدبّر في قضاياهم وشؤونهم، مع حسن الفهم والتطبيق. من ذلك قول الله تبارك وتعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون) (التوبة/ 122)، وقوله جلّت حكمته (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها) (محمد/ 24). ولو استرسلنا في سرد الشواهد من الآيات القرآنية، لضاق بنا المجال عن حصرها والإتيان على مجملها. وعلى المهتم أن يرجع إلى كتب التفسير والإعجاز، ليجد بغيته فيها.

والحق الذي لا يشوبه شك، أن القرآن – من خلال ماورد فيه من معان ورموز، وأمثال وقصص، وحِكم وأحكام  - يتضمٍن دعوة صريحة لاستخدام العقل والفكر، بالتمعٍن والتدبر، والنظر والتبصر، وفيه من أساليب الحجاج المحكمة، والمحاورة المقنعة، وضرب الأمثلة البيّنة، المؤيدة والمفحمة، ما يحفز العقل على استقصاء دلالات  نصوصه، واستكناه مكنوناتها ومغاليقها، واستنباط معانيها وأحكامها.

وفي السنة النبوية  المطهّرة، أيضاً، شواهد عديدة على وجوب الاجتهاد. منها قول رسول الله o لمعاذ بن جبل w، لما بعثه قاضيا إلى اليمن (بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله o على صدري وقال: الحمد لله الذي هدى رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله). وقال عليه الصلاة والسلام في المشهور في أقواله (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد).

ومن الشواهد والآثار، قول عمر بن الخطاب، وهو يأمر أحد قضاته، أبا موسى الأشعري، بالاجتهاد وتحكيم الرأي، لتصويب الفهم، وتسديد النظر (الفهم، الفهم، فيما تلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب أو سنة. ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها).

نماذج من أقوال العلماء:

ومن الآراء الحكيمة السديدة، الداعية إلى الاجتهاد، ما ذهب إليه أبو الفتح الشهرستاني (تـ 548هـ  / 1153م) في كتابه «الملل والنحل» قائلاً (إن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات، هي مما لا يقبل الحصر والعدّ. ونعلم قطعا، أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصوّر ذلك أيضاً. والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى، لا يضبطه مايتناهى، علمنا قطعا أن الاجتهاد واجب الاعتبار، حتى يكون بعدد كل حادثة اجتهاد).

ويعضّد هذا الرأي، كلام أبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ/1388م) في كتابه »الموافقات«، وخلاصته (أنه لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد عند ذلك لابد للاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان).

هذا، وإن توافق هؤلاء الفقهاء وغيرهم من الأصوليين، على تحديد المفاهيم وضبط التعريفات، ووضع الشروط والتقييدات، التي لا يكون الاجتهاد إلا ضمن حدود دائرتها، قد أدّى، في رأينا، إلى نشوء وتشكيل ذهنية الاستحالة والقصور، في عصور التخلّف والانحطاط، الأمر الذي انحسرت معه عملية الاجتهاد فهما وتطبيقا، وضاقت بسببها مجالات التجديد واستنباط التشريعات المستجيبة للحاجيات المتولّدة والمصالح المرسلة.

على أنه، لابد لنا أن نراعي في زماننا وعصرنا، اتساع مجالات البحث والاجتهاد، وكثافة القضايا المعروضة، وتعقد الإشكاليات المطروحة، بما لا تتسع له قدرة الفرد الواحد، مهما بلغت إحاطته، وتنامت إمكانياته، ولو أفرغ الجهد وصرف العمر. الأمر الذي أدّى إلى ظهور الاختصاصات في شتى المجالات، بل إلى تدقيقها، حتى آلت إلى اختصاصات ضمن الاختصاصات.

ولذا، نرى، ضرورة جمع القدرات، وانصهارها في جهد جماعي، ضمن مجامع أو أكاديميات علمية، لتتيسر بذلك العملية الاجتهادية في أبعادها المتكاملة: الزمن، الجهد، النجاعة، والدقة.

4 – الاجتهاد وأهميته في عصرنا الحديث

إننا لا نبالغ، حين نقول، أن عصرنا الحالي، هو عصر الحوادث، بلا منازع. إذ تتغيّر فيه وتيرة الأحداث، على نحو متكاثف ومتسارع، بغير تقطّع ولا تراخ. إنه عصر الثورة المعلوماتية، وعصر الذكاء الاصطناعي، وعصر الثورة الهائلة في ميدان تكنولوجيات الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية، ومن خلال الشاشات الالكترونية، وشبكات المعلومات العالمية كالأنترنات وغيرها. وهذه الثورة المذهلة، أدّت فيما أدّت إليه، إلى ثورة في المفاهيم والتصورات، عن العالم والحضارة والثقافة.

وغَدا مصير الانسانية، في ضوء تشابك المصالح، مصيرا واحدا مشتركا. وليس من باب المبالغة في التقدير العلمي، ولا من قبيل الإنشاء الأدبي التوصيفي، أن نقر بأن العالم، على اتساع حدوده وامتداد رقعته، قد تحوّل، في رمزية وجوده، من حجم الذرة إلى صغر نواتها، مع فارق القياس. أو لنقل عنه، كما يروق للعلماء أن يصفوه، هو قرية الكترونية صغيرة.

هذه صورة من صور معاينتها للواقع القائم، بمختلف تجلياته وغزارة أحداثه وتحولاته، لا يمكن أن نقف حياله موقف المكتفي بالمشاهدة عن بعد، ولا موقف المنبهر وقد أعشت عينيه انعكاسات الضوء المتدفـّق. بل نحن مطلوبون إلى سرعة الانخراط والتفاعل، ومطالبون بالمشاركة الفاعلة والمساهمة الإيجابية، حتى لا تفوتنا قاطرة الأحداث، فنبقى مراوحين مكاننا، يرفضنا الحاضر، ويتخطّانا المستقبل.

وليس لنا من طريق إلى تحقيق الذات، إلا بخوض غمار الأحداث، فعلا وانفعالا، أخذا وعطاء. وكل ذلك مشروط بالاستجابة الواعية لمتطلبات العصر، وتمثّل خاصياته تصوّرا وتطبيقا، مع امتلاك أسرار آليّاته المتعددةفي تحقيق التنمية والتقدّم.

وهل من سبيل إلى ذلك، إلا بإعلاء راية الاجتهاد، وتكريس مبدا التفكير العلمي الحر، وتشجيع طاقات البحث والمعرفة. فما العطاء الحضاري إلا صورة لتجلي عالم الأفكار، من خلال الإمكانات المتاحة، وامتلاك الخصوبة الكاملة، والقدرة على الابتكار والإبداع، مع فتح نوافذ عريضة للتبادل المعرفي، واللقاح الحضاري، والمثاقفة مع الآخر، بشرط امتلاك القدرة على الثبات والتوازن، وعدم فقدان المعايير.

ومن هنا تبرز القيمة القصوى، لضرورة تطوير مناهج البحث وتحديثها، وتزويدها بالإمكانات واللوازم الضرورية، وتحويل الفضاءات العلمية الجامعية إلى ورشات ومخابر تنتج المعرفة وتصنعها وتسوقها، وتولّد الطاقات الخلاقة، المبدعة المقتدرة، التي على سواعدها يبني مجد الأوطان وقوّتها.

إننا لمستيقنون، مطمئنون، إلى أن جملة هذه السياقات والاختيارات، ومجموع هذه التصورات، مع ما يترتب عليها من مستتبعات التمدن والرقي، لا يضيق بها صدر الإسلام، ولا ينوء بها كاهل الاجتهاد كقدرة على التوليد والتجديد والامتداد. بل إن الآفاق الرحبة التي يجلّيها الوحي، وتدعو إليها تعاليم الإسلام، لا يتحدد مداها، ولا يقصر منتهاها، بل تخترق الحجب وتنفذ إلى كل الأبعاد والمسافات، ولو طالت إلى ماوراء العرش، كما أخبر بذلك رسول الله o بقوله: (لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله). وإذا كانت عجائب الكون وأسرار التاريخ والحضارة لا تتوقف، فإن دلائل الآيات عليها في القرآن لا تنضب. قال تعالى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف/ 109).

4) الاجتهاد الجماعي وأثره في التقريب بين المذاهب

معوّقات الوحدة:

وأخطرها على الأمة عوامل التجزّء والتشتت ضمن الإقليمية الضيّقة، وغياب الشعور الجماعي بوحدة الانتماء والمصير. ومن أسبابه التاريخية استهداف المخططات الاستعمارية، قديما وحديثا، تفتيت كيان العرب والمسلمين، والعمل على زرع فتن الصراعات والخلافات وإشعال فتيل النزاعات والحروب. ولا زالت المصالح الاستعمارية تغذّي دواعي الشكوك، وتدعّم مشاعر فقدان الثقة. ولم يكن ليتهيأ للاستعمار الأجنبي ما تهيّأ له من فرص الانقضاض والتسلل إلى أعماق الأمة، إلا بما وجده من أسباب الوهن والضعف فيها، بسبب تخليها عن واجبها الديني والحضاري في أن تكون وحدة قوية في مدافعة قوى الشر والبغي. بل توسع الخرق وتباعدت المسافات على قربها، وحلّت العداوة محل التآخي، والدسائس محل التآزر والتناصر والتعاون. ولقد حاول الاستعمار جهده تأييد عوامل الفرقة، بإحياء نوازع عرقية ولغوية قديمة، من شأنها، إذا تمكّنت من الوجدان العام أن تلغي، في زعم هؤلاء، عوامل الوحدة الجغرافية والتاريخية والثقافية. إنها محاولة خطيرة لاستبدال جغرافيا الوحدة بجغرافيا الشتات، ولتحريف تاريخ الوحدة وتشويه معالم التجانس الثقافي والحضاري.

ولقد سبق زعماء الاصلاح الديني والسياسي منذ بدايات القرن التاسع عشر، إلى تنبيه الغافلين إلى هذه الحقائق، بالكشف عنها، وتوعية الشعوب إلى مخاطرها القريبة والبعيدة.

إن الأمة تتحمل مسؤولية تاريخية لا يستهان بها في تغيير أوضاعها المتخلفة، بإدخال عوامل الحيوية الثقافية، وتجديد البنى الفكرية، واقتباس ما يلائمها من أشكال النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وابتكار أساليب حديثة من شأنها أن تجدد الروح العامة، وتنشئ في الأجيال المتعاقبة أملا قويا دافعا إلى الانجاز والتعمير وبناء أسباب القوّة. قال الله تعالى: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) (الرعد/11).

إن انتشار التعليم في كل الأوطان العربية والاسلامية، هو السبيل الذي لا بديل عنه إلى مقاومة الجهل والأمية، من أجل تحرير العقول وتخليصها من رواسب التخلّف والانحطاط. ومتى أدركنا هذه الغاية الطموحة، بوسائل التخطيط العلمي السديد، واستجماع القدرات المادية والمعنوية اللازمة لتحقيقها وإنجاحها، نكون حينئذ قد خطونا شوطا متقدما نحو امتلاك الشروط الأساسية لصناعة المعرفة وإنتاج الكفاءات المقتدرة.

إن الرقي لا ينبت في بيئة جدباء، كما أن العلم لا يحصل في العقول الهزيلة المظلمة. ولن يجدينا الخوض في مقولات الماضي، واجترار المسائل القديمة، بعيدا عن هموم واقعنا ومتطلباته. بل لن تكون للماضي أية قيمة جوهرية حضارية، مالم تستخلص منه عصارة جهد الأقدمين وخلاصة تجاربهم بما يكون طاقة حيوية تدفع الحاضر، ومصدر إلهام حقيقي يفتّق المواهب ويذكي قيم الإبداع. ولن ينفع  التراث الأجيال المتعاقبة، إذا ما سكنت إليه ونامت على مقولاته، واستعاضت بالأمجاد القديمة عن صنع  أمجادها الجديدة.

وسائل التقريب

إن جهد الاجتهاد يجب أن ينصبّ في بلورة فهم صحيح سوي، تتشخص فيه سلبيات الماضي وإيجابياته، وإشكاليات الحاضر وهمومه، بغرض التوفق إلى صياغة معاصرة تتوفر فيها ضمانات التقدم والازدهار للأجيال القادمة. ومن أجل ذلك، نرى لزوما تخطي عقبات الخلاف القديم بمختلف سلبياته العقيمة، بالبحث عن مساحة جديدة تتجمع فيها كل الطاقات والقدرات متضامنة متراصة، مع توظيف مجال الاختلاف في الرؤى والتصورات إلى عامل ثراء و تنوّع وإبداع. وهل من سبيل إلى ذلك إلا بتوحيد الإرادات والعزائم الصادقة، التي تريد أن تخدم شعوبها وأوطانها بإخلاص وتفان.

وإن الحرص على إنشاء المجامع العلمية والأكاديميات المتخصصة، في شتّى فروع العلم واختصاصاته، كفيل بأن يمكّن للطاقات الخلاقة المبدعة مجالا للتعبير الحر واستثمار عطاءاتها ومواهبها، وتحويلها إلى جهد جماعي يختصر الزمن ويحقق الكيف في أعلى درجات جودته وامتيازه.

إن مجمعا كمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيره من المجامع العلمية، هو إطار مثال لتلاقي العلماء وتبادل الآراء والخبرات، على تنوّعها واختلافها، بتوظيف مجموعها في صياغة اجتهادية جماعية متكاملة، تصدر عن إرادة أعضائها وموافقتهم، في تدارس حر نقدي، لا مراعاة فيه إلا للمصلحة العامة للمسلمين.

وعلى منوال هذه المؤسسات، يستلزم الأمر قيام نظيراتها في مجالات أخرى لا تقل عنها أهمية، ومنها المجامع الاقتصادية التي يمكن أن تتيح توظيفا أكبر لطاقات الدول والشعوب، في مجالات البحث العلمي، والدراسات الاستراتيجية. وعلى هذه الرؤية الاستشرافية، تتهيأ الظروف المناسبة لقيام تعاون مثمر في كل المجالات، من أجل توظيف الثروات الكبيرة للعرب والمسلمين، في خدمة أغراض التنمية والتكامل الاقتصادي. إنه لا مناص من مواجهة هذه التحديات الجسمية، ومسابقة الزمن، بقيام التكتل العربي والاسلامي المنشود، على غرار ما يقع في العالم من تجمعات كبرى.

إنه بمستطاعنا، موضوعيا، أن نستجمع قوانا، ونلم شتاتنا، بأن ننتصر إلى ما هو مشترك بيننا، جامع لا مفرّق. إننا نلتقي حول عقيدة واحدة، تمثل الرابطة الجامعة بين كل المذاهب والطرق، وبين كل المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم. قال تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء / 92). وهذه الوحدة تقتضي مسؤولية استحداث الأطر والهياكل الجامعة، بما يتيح اللقاء والتعارف والتقارب. ولعله من مسؤوليات منظمة المؤتمر الإسلامي، استحداث هيكل يهتم بالبرامج والتخطيطات لأشكال من التجمعات العلمية والثقافية والاقتصادية، مع توفير الامكانات اللازمة لتفعيل دوره وتحقيق أهدافه.

إن تعدد المذاهب، وكثرتها، واختلاف مناهجها، هي عنوان الحيوية الفكرية والثراء الثقافي. وما أحوج واقعنا اليوم إلى مثل هذه الديناميكية للبعث الحضاري، بشرط أن لا نقع في مطبات الماضي وتعقيداته، وأن لا يفضي التعدد إلى صراعات، تتناحر  فيها المذاهب، فتتحول المذهبية الفكرية على اتساعها، إلى مذهبية ضيقة سياسية أو عرقية، لا يجني من ورائها المسلمون إلا مزيد التشرذم وتفتت القوى. وهذا هو غرض الاستعمار فينا.

وإننا نرى أن الخلافات القديمة قد تأسست على خلفيات تاريخية وسياسية ومذهبية، قد ولاها الزمن وعفت عنها الأحداث والأيام، ولم يعد لها اليوم بيننا مبرر وجود، إلا في بعض الذهنيات الفكرية العاجزة القاصرة. بل إن المذهبية الجديدة، يجب أن تتشكل، في تصورنا، وفق وعي جماعي جديد، وأن تتوجّه بكليتها إلى التجميع والتوحيد حيال المخاطر التي تتهدد الكل، من غير تخصيص ولا استثناء. ولن تجدي المصالح الضيقة، ولا الاعتبارات السياسية الحزبية، ولا الانتماءات الثقافية المحلية، في أن تحمي بعضنا أو أن يفلت من قبضتها البعض الآخر.

الوحدة شرط الندية في التعامل مع الآخر

إننا لا نتوحّد من أجل أن نلغي غيرنا، أو أن ندخل في مواجهة حضارية أو مصادمة بين الأديان. بل إننا نطمح إلى أن يكون لنا موقع حضور كامل وفاعل ومميّز بين أمم وشعوب العالم، تملأنا الثقة الكاملة في عدالة مبادئنا وشرعية قضايانا، مع الوثوق في قدراتنا الذاتية.

وإن من الخصائص القوية للإسلام، أنه نص مفتوح على الزمن، متواصل في حواره مع الأجيال المتجددة، في مرونة تكفل الاستمرارية والدوام.

وهو أيضاً مفتوح على قضايا الإنسان من غير ميز ولا عنصرية. قال تعالى: (ومـا أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ / 28).

ونص بهذه المكوّنات الفريدة، لا يمكن أن يكون إلا رسالة سلام ومحبة إلى الانسانية جمعاء. ولمّا أعلن الإسلام مبدأ الكرامة الانسانية، من غير تفضيل ولا محاباة، ولا تحقير ولا تهميش، إلا من فضل العمل الصالح الذي به تكون إفادة الإنسان، فقد مهّد به السبيل لبناء الأخوة الانسانية، باستنبات مشاعر الأًلفة

والتقارب والتحابب، وإزالة كل ما من شأنه أن يحول بين القلوب ويملأها كراهية وكدرا.

إن رسالة الإسلام، باعتبارها اختتاما للرسالات السماوية، تعد امتدادا تاريخيا دينيا لكل الرسالات في صورتها المكتملة. وعلى هذا الأساس المتين، دعا القرآن الكريم جميع الأديان السماوية إلى الالتقاء على كلمة التوحيد التي هي أصل مشترك بينها، كمنطلق للحوار وتقريب الشقة والخلاف، وإزالة شوائب الصدام والمواجهة. قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا) (آل عمران / 64).

ولاشك أن علماء الإسلام حريصون على إقامة هذا الحوار الحضاري والديني، لتجاوز منغّصات الماضي وتخطي العقبات الكاداء. وهو شرط لا غنى عنه، لتدعيم أبنية السلام الروحي والمادي في العالم.

 

5- الخاتمة

إن حركة التاريخ لا تنفك عن حركة الفكر الإنساني. وإن تولّد الحضارات من تولّد طاقات الفعل والابداع. وإن التجدد والتغير هو ناموس الكون وقانونه الساري، لا يتخلف عنه ولا يتوقف. ولقد نبه القرآن إلى  هذه الحقيقة الكبرى، ورددها في غير موضع من السور والآيات، ومنها قول الله تبارك وتعالى: (أو من كان ميتا فاَحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (الأنعام / 122). وقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال / 24).

إن الأمة الإسلامية، هي اليوم، في طور دقيق من محاولة النهوض، بعد أن صدمها وعيها بواقعها المرير المنهزم. وهي تتلمس الخطى إلى الخلاص، باستجماع قواها لأغراض التنمية والتقدم. وابتدأت التجارب الأولى، بعد الاستقلال، باقتباس بعض المناهج والنماذج. ولاقت كثيرا من العنت في تطبيق هذه النظريات الجاهزة، ولم يفلح كثير منها في تحقيق أهدافها. ولعلنا اليوم، قد بلغنا مرحلة من النضج، يتيح طورا جديدا من الاعتماد على الكفاءات الذاتية القادرة على إنتاج التطور، وكسب تحديات التقدم.

وإن لنا من الإمكانيات، والثروات، والاستعدادات، والقدرات البشرية، ما لو انصهرت في جهد جماعي، عبر تخطيط معمق مدروس، ومن خلال رؤيا صائبة في تحديد والوسائل والأهداف، مع حسن تفعيلها وتطبيقها في الواقع القائم، لتحققت آمالنا التي طالما راودتنا في إعلاء مجد الأوطان وإسعاد الشعوب.

ولكن نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تجاوز المخلّفات السلبية، بما تعنيه من صراعات مذهبية وسياسية، وفجوات بين المشاعر، وتعارض في تقدير المصالح، وتمسك البعض بجراحات الماضي القريب والبعيد.

إن قدر هذه الأمة في أن تتوحد، وهل يسعها غير ذلك، في عالم لا حضور فيه إلا للتجمعات والتكتلات القوية. بل إن تاريخها الواحد المشترك، ومميزاتها الثقافية المتجانسة، هي عوامل قوة حقيقية مساندة، تمتاز بها عن غيرها من التكتلات.

ولعلنا محتاجون، على طريق إنجاز مشروع الوحدة، إلى مرحلة من التكامل التدريجي، نؤمن نحن في تونس بحتميته في جميع المجالات، كإنشاء الأسواق المشتركة، وتنشيط مجالات تبادل المنافع، مع إعطاء الأهمية للتعاون بين الشعوب العربية والاسلامية. إن إرادة العزيمة السياسية في تونس، منذ التحول المبارك فيها، بحكمة الرؤية المتبصرة لسيادة الرئيس زين العابدين بن علي حفظه الله، لماضية قدما نحو تدعيم هذا الخيار الاستراتيجي في التعاون العربي – عربي، والعربي – إسلامي.

وإني لأثني على العزيمة الصادقة لفضيلة الشيخ محمد علي تسخيري، بإتاحة هذا المجال المثمر من تبادل الخبرات وتلاقح الآراء والأفكار. ونحن نعوّل على مؤتمرنا أن يهتدي إلى السبل الصحيحة، ليكون لبنة جديدة في بناء الصرح الإسلامي المنشود. قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (التوبة/ 105).

ولن يفوتني في خاتمة هذا البحث، أن أعبّر عن صادق مشاعر التقدير والشكر لإخواننا الإيرانيين، على حسن الضيافة وكرم الاستقبال، متمنيا لشعب إيران الشقيق وقيادته مزيد التقدم والازدهار.

([1] ).