الترابط والانسجام بين النظام السياسي وسائر الأنظمة الإسلامية

الترابط والانسجام بين النظام السياسي وسائر الأنظمة الإسلامية

 

 

الترابط والانسجام بين النظام السياسي وسائر الأنظمة الإسلامية

 

ولاء الحسيني

قم ـ إيران

 

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

إنّ الترابط والانسجام بين الأنظمة الإسلامية قائم على أساس وحدة المصدر، ووحدة الغاية، ووحدة الطريق، ووحدة المصير ; فالمصدر هو الله تعالى، والغاية مرضاته، والطريق هو التقيد بالمفاهيم العقائدية والقيم التشريعية، والمصير هو المسؤولية أمام الله في الدار الآخرة.

وحلقة الترابط والانسجام هي شمولية الإسلام، واستيعابها للكون والحياة وللمسيرة الإنسانية بكل مقوماتها العقلية والروحية والعاطفية والسلوكية، ولجميع مراحلها، وأبعادها الفردية والاجتماعية والتاريخية.

وكل نظام هو جزء من كل، قسيم للأجزاء الأخرى ومتداخل معها، فلا فصل ولا

ـ(274)ـ

تنافي ومن هنا فانّ النظام السياسي في الإسلام هو جزء من كل، وهو كبقية الأنظمة الإسلامية في أهدافه وغاياته وفي وسائله وأساليبه; يهدف إلى تحقيق مباديء الإسلام في الواقع، وقد أوكلت لـه هذه المهمة، ومن هنا فيمكن القول انّه المحور الثاني بعد النظام العقائدي الذي تتمحور حوله بقية الأنظمة الإسلامية، لأنّه الأقدر على إسناد قواعدها وأسسها وجعلها حاكمة على حركة الإنسان والمجتمع في الواقع الموضوعي المتجه نحو الله تعالى في كماله وسموّه وارتقائه.

والمحورية ناشئة من دور النظام السياسي في الإصلاح والتغيير طبقاً لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(1).

وهي شاملة لجميع مرافق الحياة، كما قال الإمام الحسين بن علي عليه السلام:

 «انّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظالم ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها»(2).

والنظام السياسي قائم على أساس الإمامة والقيادة وهي مسؤولة عن تطبيق أسس وقواعد بقية الأنظمة الإسلامية، قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام:

«إنّ الإمام زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، الإمام أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والجهاد وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور

________________________________

1 ـ الحج: 41.

2 ـ تحف العقول: 168، ابن شعبة الحرّاني، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف، 1386 هـ.، ط 5.

ـ(275)ـ

والأطراف... الإمام يقيم حدود الله ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة»(1).

فالنظام السياسي وان كان جزءاً من كل; إلاّ انه يمتاز بالمحورية لسائر الأنظمة الإسلامية بعد النظام العقائدي.

ولذا فان المحافظة على النظام السياسي تأتي في قائمة الأولويات التكليفية، سواء كانت في خصوص مفاهيمه أو وجوده القائم في واقع الحياة.

وفي بحثنا هذا نسلط الأضواء على الترابط والانسجام بين النظام السياسي الإسلامي، وسائر الأنظمة وأهمها:

النظام العقائدي، النظام التعليمي والتربوي، النظام الأخلاقي، النظام الاجتماعي، والنظام الاقتصادي.

 واعتمدنا على القرآن الكريم، والسنة النبوية، وسيرة الخلفاء، وآراء العلماء، ودستور الجمهورية الإسلامية في إيران وتجربتها العملية; في وضع قواعد كلية للبحث المطروح.

________________________________

[1]- الكافي 1: 200، الكليني، دار التعارف بيروت، 1401 هـ، ط 4.

ـ(276)ـ

المبحث الأول

الترابط والانسجام بين النظامين: السياسي والعقائدي

النظام السياسي قائم على أساس المبدأ الإسلامي (لا إله إلاّ الله) الذي يعني: انّ الله تعالى هو المصدر الوحيد الذي يستمد منه النظام السياسي جميع أسسه وقواعده الفكرية والتشريعية، وتطبيقاته العملية، ويتجلى هذا الترابط والانسجام بوحدة المباديء والمفاهيم.

أولاً: ان الله تعالى هو المصدر والقاعدة الفكرية للنظام السياسي.

الله تعالى هو المشرّع الوحيد للأسس والقواعد التي يقوم عليها النظام السياسي، وهو نظام يحمل رسالة فكرية لا تعترف بحدود إلاّ حدودها، وبذلك يصبح قابلاً للتحقيق في أوسع مدى إنساني ممكن، لأنه من وضع خالق الإنسان، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾(1).

وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(2).

ورئيس الدولة - على ضوء ذلك - ليس مشرّعاً وإنّمـا هو مجرّد منفّذ للأحكام الإلهية، ومتقيّد بها.

________________________________

[1]- النساء: 105.

2- الشورى: 10.

ـ(277)ـ

ثانياً - انّ الله تعالى هو مصدر السلطات

إنّ عقيدة التوحيد تتجسد في الاستسلام لسلطة واحدة وهي سلطة الله تعالى، ولا سلطة لإنسان على آخر إلاّ من خلال تلك السلطة، فهي التي تمنح لمن تشاء صلاحيات الأمر والنهي، فالله تعالى هو الذي يمنح السلطة لبعض الناس عن طريق التعيين الخاص، كما في حكومة الأنبياء وأوصيائهم، أو التعيين العام كما في حكومة الفقهاء العدول.

قال الشهيد الصدر:

(والمرجع الشهيد معيّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص أي بالشروط العامة في كل الشهداء... ومعيّن من قبل الأمة بالشخص، إذ تقع على الأمة مسؤولية الاختيار الواعي لـه)(1)

فالجعل هو من الله تعالى، قال تعالى:

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾(2).

وهو الذي ردّ الأمر إلى من نصّبه مسؤولاً عن النظام السياسي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(3).

وهو تعالى الذي جعل الولاية للبعض دون غيرهم، ولم يجعل الولاية للكافر على المسلم:

________________________________

[1]- الإسلام يقود الحياة: 170، محمد باقر الصدر، وزارة الإرشاد، طهران، 1403 هـ.

2-  سورة السجدة: 24.

3- سورة النساء: 59.

ـ(278)ـ

﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(1).

ومن هنا فانّ المتولي والمشرف على النظام السياسي هو نائب عن الله تعالى; الذي منحه وأعاره تلك الصلاحية، وليس لـه صلاحية مستقلة ولا سلطة مستقلة عنه تعالى، فهي لـه ما دام منفذاً لأوامر الله تعالى ومطبقاً لإحكامه، وتسلب منه ان لم ينفذ ما عليه، وتسلب منه خاصية الإيمان والعدالة التي نصّب على ضوئها.

قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(3).

ثالثاً - ان الله تعالى هو مصدر الطاعة

ان طاعة الإمام أو الخليفة أو رئيس النظام السياسي ليست طاعة مستقلة، فلا طاعة لإنسان على آخر إلاّ بما منحه الله تعالى، فهو مصدر الطاعة، وطاعة من نصّبه هي جزء من طاعته تعالى، كما جاء في قولـه تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(4).

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾(5).

________________________________

[1]- النساء: 141.

2- المائدة: 44.

3- المائدة: 47.

4- النساء: 59.

5- النساء: 64.

ـ(279)ـ

فالطاعة هي لله تعالى، وطاعة من نصّبه هي جزء من طاعته وتبع لها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).

وتنخرم هذه الطاعة ان خالف الشخص المأمور بطاعته مفهوماً إسلامياً أو قيمة سلوكية، أوامر بخلاف ما قُيّد به.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(2).

فالطاعة في النظام السياسي مرتبطة بأساس عقائدي، وليست هي طاعة مطلقة، فلا طاعة إلاّ لمن جسّد أوامر الله تعالى ونواهيه في سيرته العملية، وان يكون الأمر الصادر أمراً مشروعاً.

قال الإمام علي عليه السلام: «يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا لـه ويطيعوه ويجيبوه إذا دعا»(3).

رابعاً - المساواة بين الحاكم والمحكومين

يقوم النظام السياسي على مفهوم عقائدي وهو المساواة بين الناس بلا فرق بين الحاكم والمحكومين، فهم جميعاً عباد لله، وهم أحرار كما خلقهم الله تعالى، واستخلفهم في الأرض لأداء المسؤولية والتكليف الإلهي، فلا ميزة لأحد على آخر حتى صلاحية الحكم، فإنها ليست وسيلة للتمييز، فكل إنسان مسؤول سواء كان حاكماً

________________________________

[1]- الفتح: 10.

2- مسند احمد بن حنبل: 1: 131، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1993 م، ط 2.

3- الأموال، 13، أبو عبيد القاسم بن سلام، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ، ط 1.

ـ(280)ـ

أو محكوماً.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(1).

والحرية المناطة بجميع الناس مرتبطة بالمسؤولية أمام الله تعالى، فلكل فرد حدوده وقيوده طبقاً لقواعد الحقوق والواجبات، وهم مكرّمون من قبل الله تعالى بأصل الخلقة والنشأة، لذا نهى الإمام علي عليه السلام الناس عن خلق الفوارق بين الحاكم وبينهم، كما جاء في قولـه: «إنّ من حق من عظُمَ الله سبحانه في نفسه، وجلّ موضعه من قلبه، أن يصغُرَ عنده - لعظم ذلك - كلُّ ما سواه... فلا تكلموني بما تُكَلَّمُ به الجبابرة،ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي... فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربٍّ لا ربَّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا...»(2).

والعلاقة بين الحاكم وسائر ولاته وعمّاله وبين الناس هي علاقة أُخوة في الاعتقاد والإيمان، وعلاقة توزيع في المسؤولية.

والنظام السياسي الذي وضع قواعده الإمام الخميني رضى الله عنه في التجربة الإسلامية المعاصرة، واشترك كثير من الفقهاء في تحديد مواد دستوره، ينص على قيامه على قاعدة الإيمان، وهو مترابط ومنسجم مع النظام العقائدي،كما نصت عليه المادة الثانية من مواد دستور الجمهورية الإسلامية في إيران: (الجمهورية الإسلامية هي نظام يقوم على قاعدة الإيمان:

________________________________

[1]- بحار الأنوار 57: 138، محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983 م، ط 2.

2- نهج البلاغة: 334، 335، تحقيق: د. صبحي الصالح، دار الكتاب، بيروت،1982 م، ط 2.

ـ(281)ـ

1 - بالله الأحد (لا اله إلاّ الله) واختصاص الحاكمية والتشريع به، والتسليم لـه.

2 - بالوحي الإلهي، ودوره الأساسي في بيان القوانين.

3 - بالمعاد ودوره الخلاّق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله.

4 - بعدل الله في التكوين والتشريع.

5 - بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساسي في ديمومة الثورة الإسلامية.

6 - بالكرامة والقيمة الرفيعة للإنسان، وحريته التوأم مع المسؤولية أمام الله.

ونصّت المادة الرابعة على وجوب (أن تكون كافة القوانين، والمقررات المدنية، والجزائية، والمالية، والاقتصادية، والإدارية، والثقافية، والعسكرية، والسياسية، وغيرها قائمة على أساس الموازين الإسلامية، وهذه المادة حاكمة على إطلاق كافة مواد الدستور، والقوانين والمقررات الأخرى).

ومن أهم الواجبات الملقاة على عاتق المشرفين على تطبيق النظام السياسي هي نشر العقيدة الإسلامية، ومفاهيمها حول الكون والحياة والإنسان، وإيصالها إلى جميع من في الأرض، وتهيئة الأرضية المناسبة لاداء هذا الواجب، بتكثير عدد المبلغين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وخصوصاً ما يتعلق بالعقيدة لأنها أساس التشريع والقوانيـن، وإزالة الشبهات العقائدية، فمـن الواجبات هي:

(حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فان زاغ ذو شبهة عنه بيّن لـه الحجة وأوضح لـه الصواب).

وأول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  هو نشر العقيدة الإسلامية قبل تأسيسه للدولة أو بعد قيامها، طبقاً لقواعد النظام السياسي، وكان يقول: «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا».

وقد سار أصحابه على سيرته في إعلان التوحيد ونشر مفاهيمه في واقع الحياة

ـ(282)ـ

مستثمرين جميع الطاقات والإمكانيات المتاحة.

وخلاصة القول: ان النظام السياسي الإسلامي لـه ارتباط وثيق بالنظام العقائدي، وانسجام كامل مع أصوله وقواعده، ولا يقوم أحد النظامين بمعزل عن الآخر، بل يشدّ أحدهما الآخر ويسنده نظرياً وعملياً، فالعقيدة تضفي على النظام السياسي هالة من القدسية في نفوس اتباعه، وهو بدوره يقوم بنشر مفاهيمها التوحيدية، ويمنع من التشكيك والطعن في أصولها ومتبنياتها الأساسية.

المبحث الثاني

الترابط والانسجام بين النظام السياسي

والنظام التعليمي والتربوي

من أهم مظاهر الترابط والانسجام بين النظام السياسي والنظام التعليمي والتربوي; هو اشتراط الفقاهة في المتصدي لقيادة الدولة والنظام السياسي العملي القائم في الواقع، لانّ الفقيه هو الأعراف بالتشريعات والقوانين، والأقدر على استنباط الأحكام السياسية وسائر الأحكام التي تحتاجها الأمة يحتاجها النظام السياسي، في مسيرته لهداية الناس وقيادتها نحو المطلق سبحانه وتعالى، ولا يستطيع القيام بوظيفة الهداية إلاّ من يكون عالماً بأسسها وقواعدها الثابتة والمتحركة، وقيادة الفقيه هي القيادة الوحيدة التي تجعل القانون والتوجيهات والأوامر والنواهي ذات قدسية خاصة في العقول والقلوب.

وقد أكدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على دور الفقيه في حركة الأمة الإسلامية فقال:

ـ(283)ـ

«المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة»(1).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم ارحم خلفائي... الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي»(2).

وربط الإمام علي عليه السلام بين الفقاهة والقدرة على القيادة فقال: «إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه»(3).

وقال أيضاً: «والواجب في حكم وحكم الإسلام على المسلمين... أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً وعارفاً بالقضاء والسنّة»(4).

ومن عوامل اشتراط الفقاهة في المتصدي: (ليقوم بأمور الدين متمكناً من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية مستقلاً بالفتوى في النوازل والأحكام والوقائع نصاً واستنباطاً)(5).

وقال الإمام الخميني رضى الله عنه: (وقد أصبح من المسلمات لدى المسلمين من أول يوم وحتى يومنا هذا أنّ الحاكم أو الخليفة ينبغي أن يتحلى بالعلم بالقانون...)(6).

ويشترط في تعيين بقية العاملين في مرافق الدولة أن يكونوا من أهل العلم

________________________________

[1]- بحار الأنوار 1: 216.

2- من لا يحضره الفقيه 4: 420، الشيخ الصدوق، جماعة المدرسين، قم، 1404 هـ، ط 2.

3- نهج البلاغة: 247، الخطبة: 173.

4- كتاب سليم بن قيس الهلالي 2: 752، مطبعة الهادي، قم، 1415 هـ، ط 1.

5- شرح المواقف 8: 349، على بن محمد الجرجاني، مطبعة السعادة، مصر، 1325 هـ، اوفسيت، منشورات الرضي، قم.

6- الحكومة الإسلامية: 46، الإمام الخميني، المكتبة الإسلامية الكبرى، طهران، 1389 هـ.

ـ(284)ـ

والتجربة، فالقاضي يجب أن يكون فقيهاً، والوزراء والأمراء يجب أن يكونوا على قدر من العلم والاطلاع والتجربة.

الواجبات التعليمية والتربوية لمؤسسات النظام السياسي

 

تقع على عاتق مؤسسات النظام السياسي ابتداءاً برأس النظام مسؤولية تعليم وتربية الأمة; بنشر المفاهيم والقيّم الإسلامية، وتحصينها من الانحراف العقائدي والسلوكي، وتعليمها مختلف العلوم الضرورية في سير الفرد والمجتمع، مع التركيز على العلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة، ففي رواية: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  المسجد فإذا جماعة محيطين برجل أعلم الناس بالأنساب والأشعار فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل»(1).

وأكدّ الإمام علي عليه السلام على مسؤولية القائد والحاكم في التعليم والتربية فقال:

«على الإمام أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان»(2).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يحث على العلم بمختلف جوانبه، فقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم  فداء كل أسير من أسرى بدر ممّن يحسنون القراءة و الكتابة، أن يعلم عشرة من الصحابة و أبنائهم القراءة و الكتابة(3).

وأمر صلى الله عليه وآله وسلم  أحد الصحابة أن يتعلم اللغات غير العربية ليتولى أعمال الترجمة(4).

________________________________

[1]- الكافي 1: 32.

2- تصنيف غرر الحكم: 341.

3- الحاوي الكبير 20: 83، الماوردي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ.

4- الحاوي الكبير 20: 82.

ـ(285)ـ

و أسر المسلمون ثلاثين من أصحاب الصناعات فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعتهم»(1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يصدر أوامره لعدد من الصحابة بتعليم غيرهم(2).

وكان يبعث المعلمين للأمصار لإشاعة العلم و نشره عند الجميع.

و ينبغي على الحاكم و سائر مؤسساته تشجيع الناس على طلب العلم، فقد كان أبو الدرداء إذا رأى طلبة العلم قال: (مرحباً بطلبة العلم... ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أوصى بكم)(3).

وكان بعض ولاة الخلفاء يستخدمون القوة في فرض التعليم، فقد بعث الخليفة الثاني رجلاً يستقرأ أهل البوادي القرآن، فمن لم يقرأ ضربه بالسوط(4).

ويجب على الدولة وعلى رئيسها التدخل لمنع انتشار العلم الذي يخلق البلبلة والتشكيك في عقول الناس و عواطفهم، فقد روي ان عمر بن الخطاب أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بنسخة من الكتب الإلهية السابقة، و جعل يقرأ و وجه رسول الله يتغيّر، فقال أبو بكر:

(ثكلتك الثواكل ما ترى بوجه رسول الله... فقال عمر: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله)(5).

فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم  يريد تعليم الأمة على ضوء المفاهيم الإسلامية، ولا يريد الخلط واللبس بينها و بين غيرها و الناس حديثوا عهد بالإسلام، فمنع من ذلك.

________________________________

[1]- التراتيب الإدارية 2: 75، الكتاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

2- النظم الإسلامية: 141، 142، د. محمد كاظم مكّي، دار الزهراء، بيروت، 1411 هـ، ط 1.

3- سنن الدارمي 1: 99، عبد الله بن بهرام الدارمي، دار الفكر، القاهرة، 1398 هـ.

4- الإصابة في تمييز الصحابة 1: 151، احمد بن علي (ابن حجر)، دار نهضة مصر، القاهرة، بدون تاريخ.

5- سنن الدارمي 1: 116.

 

ـ(286)ـ

و ضرب عمر في خلافته رجلاً من عبد القيس ثلاث مرات، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أنت الذي نسخت كتب دانيال... انطلق فامحه... ثم لا تقرأه أنت ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك انك قرأته أو اقرأته أحداً من الناس لانهكتك عقوبة)(1).

و حرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  طلب العلم لغير نفع الناس فقال: «من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء أو يريد أن يقبل بوجوه الناس إليه أدخله الله جهنّم»(2).

ومن واجبات الحكومة في إسناد النظام التعليمي و التربوي كما في المادة الثالثة من دستور الجمهورية الإسلامية:

1 - رفع مستوى الوعي الجماهيري على كافة الأصعدة، بالاستفادة السليمة من الصحافة، و وسائل الإعلام العامة، و الوسائل الأخرى.

2 - توفير التربية و التعليم... مجاناً للجميع، وفي مختلف الأصعدة، و تسهيل و تعميم التعليم العالي.

3 - تقوية روح التحقيق، والبحث و الإبداع في كافة المجالات العلمية، و الفنية و الثقافية والإسلامية، عن طريق تأسيس مراكز التحقيق، و تشجيع الباحثين.

و نصت المادة الثلاثون على انّ:

(الحكومة مسؤولة عن توفير وسائل التربية و التعليم المجاني لكافة أبناء الشعب حتى نهاية المرحلة الثانوية، وعن توسيع وسائل التعليم العالي، بصورة مجانية، حتى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي).

________________________________

[1]- مجمع الزوائد 1: 182، علي بن أبى بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، دون تاريخ.

2- سنن الدارمي 1: 104، 105.

ـ(287)ـ

دور النظام التعليمي و التربوي في

إرساء أسس النظام السياسي

إن إقرار أسس و قواعد النظام السياسي في مفاهيمه و قيّمه بحاجة إلى تعليم دائم و إرشاد متواصل، لتشخيص الأحداث والمواقف، و الحكم على الأشخاص و الوجودات السياسية من أجل أن لا تضطرب الموازين ولا تختلف المعايير في الأذهان والقلوب والارادات، ومن أجل المساهمة في إنجاح البرامج والخطط والأعمال، فان ذلك لا يتـم إلاّ بقيـام النظام التعليمي و التربوي بدوره الموضوع لـه.

ومن أهم الأدوار التي يقوم بها في إرساء أسس النظام السياسي هي رفد الأجهزة و المؤسسات السياسية بالعناصر الواعية الكفوءة المخلصة، لتنهض بمسؤوليتها في إدارة البرامج والأعمال والنشاطات، و بعبارة أخرى أعداد الكوادر المختصة في مختلف الحقوق السياسية التي يتألف منها النظام السياسي، إضافة إلى توعية الأمة على معرفة أسس وقواعد النظام السياسي، و تشخيص صفات كوادره و مصداقيتها في الواقع، و أسلوب التعامل مع أجهزة و مؤسسات النظام السياسي القائم بكيان الدولة الإسلامية، إضافة إلى دوره في إرشاد كوادر النظام إلى اتخاذ الموقف المناسب اتجاه الأشخاص والأحداث، و يمكن تحديد دور النظام التعليمي والتربوي في إرساء أسس النظام السياسي في النقاط التالية:

أولاً: الإرشاد إلى معرفة خصائص القائد و الحاكم

إنّ النظام التعليمي و التربوي قد حدّد خصائص من يتصدى لقيادة و حاكمية الناس، وهي الفقاهة و العدالة و الكفاءة، لكي يختاروا من بينهم من يتصف بها في حال التشاح و التزاحم، و قد تقدم ذكر بعض الروايات في ذلك، وهنالك روايات تحدّد الخصائص الأخرى، وهي: العدالة و الكفاءة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ـ(288)ـ

«لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»(1).

ومن خصائص القائد هي الأفضلية في الفقاهة و العدالة والكفاءة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من تقدم على قوم من المسلمين، يرى أن فيهم من هو أفضل منه، فقد خان الله و رسوله و المسلمين»(2).

والقائد هو المتقيّد باتّباع السنّة والعمل بطاعة الله، قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام: «إنّما الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  و عمل بطاعة الله»(3).

وإرشاد و تعليم الأمة على معرفة هذه الخصاص، يجعلها قادرة على التشخيص في بداية اختيار القائد و في إثناء ممارساته التطبيقية، لمعرفة مدى مطابقتها للأسس و القواعد الثابتة، و معرفة درجة القرب والبعد عنها، ومن إرشادات النظام التعليمي والتربوي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يفلح قوم أسدوا أمرهم إلى امرأة»(4).

ثانياً: الإرشاد إلى معرفة واجبات الحاكم و مؤسسات الدولة

من مسؤولية النظام التعليمي والتربوي إرشاد الأمة لمعرفة واجبات الحاكم و مؤسسات الدولة المرتبطة بالنظام السياسي، ومن أهم تلك الواجبات هي إقرار العقيدة و الشريعة في الواقع; لتكون هي الحاكمة على تصورات الناس و أخلاقهم و علاقاتهم، ومن الواجبات الملقاة على عاتق الحاكم و أجهزته هي الشورى:

________________________________

[1]- الكافي 1: 407.

2- تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل: 474، الباقلاني، بيروت، 1414 هـ.

3- تحف العقول: 164.

4- تحف العقول: 25.

ـ(289)ـ

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).

وان يستعين في تعيين المناصب على الأخيار قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«... و أن يستعين على أمورهم بخير من يعلم...»(2).

ومن واجباته إعلان الحريات العامة، والقضاء العادل بين الناس، قال تعالى:

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(3).

وأن يكون عادلاً في مساواته بين الناس دون تمييز بين قريب أو بعيد، قال الإمام علي عليه السلام:

«ثلاثة من كنّ فيه من الأئمة صلح أن يكون إماماً، اضطلع بأمانته: إذا عدل في حكمه، ولم يتحجب دون رعيته، و أقام كتاب الله تعالى في القريب والبعيد»(4).

ومن واجباته النظر في حوائج المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من ولي شيئاً من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم»(5).

ومن واجباته التي ارشد إليها النظام التعليمي والتربوي هي تحقيق التوازن الاقتصادي، وإشباع حاجات الفقراء، و المنع من الاعتداء على الأموال و الممتلكات، و العدالة في العطاء.

و إرشاد الأمة إلى معرفة هذه الواجبات يجعلها قادرة على متابعة التطبيقات العملية

________________________________

[1]- آل عمران: 159.

2- كنز العمال 5: 764.

3- النساء: 58.

4- كنز العمال 5: 764.

5- مجمع الزوائد 5: 211.

ـ(290)ـ

 للتشريعات النظرية.

ثالثاً: الإرشاد إلى معرفة حقوق الحاكم و مؤسسات الدولة

يتبنى النظام التعليمي والتربوي إرشاد الأمة لمعرفة حقوق الحاكم، و معرفة واجباتها اتجاهه، لتقوم بأدائها على أحسن صورة، ومن أهم هذه الحقوق هي حق الطاعة و تنفيذ الأوامر، والانتهاء عن النواهي، مادامت مشروعة، و تصب في المصلحة العامة، و إرشاد الأمة إلى وجوب النصيحة والإخلاص للحاكم المتصدي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لائمة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم...»(1).

و يرشد النظام التعليمي والتربوي الأمة إلى نصرة الحاكم والنظام السياسي، وإسناد المؤسسات الحكومية، والانخراط في العمل في مرافقها، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام حول هذا الحق:

«... والعمل لـه في ولايته و ولاية ولاته، و ولاة ولاته بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل الله به،ولا نقصان منه، ولا تحريف لقوله... فالولاية لـه، والعمل معه،و معونته في ولايته، وتقويته حلال محلّل; وذلك ان في ولاية والي العدل، و ولاته إحياء كلّ حق، وكل عدل، و إماتة كل ظلم وكل جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين لـه على ولايته ساعياً إلى طاعة الله مقوياً لدينه...»(2).

ومن حقوق الحاكم هي الاستمرار في منصبه ما دام متقيداً بالشريعة، في سلوكه

________________________________

[1]- الكافي 1: 403.

2- تحف العقول: 246.

ـ(291)ـ

و مواقفه، وفي ممارسات مؤسساته المتنوعة، فلا يجوز العمل على إزالته أو إنهاء حكومته، قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: «ثلاثة موبقات: نكث الصفقة - أي البيعة - و ترك السنّة، و فراق الجماعة»(1).

رابعاً: إرشاد الحاكم و مؤسساته

يتبنى النظام التعليمي والتربوي توعية المسلمين و إرشادهم إلى اتخاذ الخطط و البرامج و الأعمال المنسجمة مع العقيدة والشريعة، بلا تمييز بين الحاكم و المحكومين، والحاكم مكلّف بتحسين سياسته بما فيها خدمة للإسلام و المسلمين، و يرشده إلى اختيار الأكفاء و الأمناء و تنصيبهم في المناصب الحساسة، و ان لا تأخذه لومة لائم في تطبيق العدالة والمساواة، و يرشده إلى السعي لإزالة المعوقات التي تقف أمام تطبيق الخطط و البرامج، و يرشده إلى اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب في السلم والحرب، وفي التعامل مع المسلمين وغير المسلمين.

والحاكم مأمور بالسير على ضوء التعليمات المرسومة لـه من قبل النظام التعليمي والتربوي، كبقية أفراد المجتمع، فهو معهم على حدٍّ سواء، وهو مجرد أمين مكلف بالمسؤولية، و لكل فرد مسؤوليته، في إرساء دعائم العقيدة والشريعة الإسلامية.

________________________________

[1]- بحار الأنوار 20: 226.

ـ(292)ـ

المبحث الثالث

الترابط والانسجام بين النظام السياسي والنظام الأخلاقي

جاء الإسلام من أجل إتمام مكارم الأخلاق، و جعلها الحاكمة على جميع التصورات و العواطف والمواقف، وعلى جميع مرافق حياة الإنسان فرداً كان أم مجتمعاً، و تقع مسؤولية إتمام مكارم الأخلاق على جميع طبقات المجتمع، وعلى جميع الأنظمة الإسلامية، فلا انفصال بينها في ذلك، فالنظام السياسي هو نظام سياسي و أخلاقي في آن واحد، فجميع أسسه و قواعده و متبنياته هي أسس وقواعد و متبنيات أخلاقية، لانّ السياسة سلوك و علاقات و ممارسات عملية، لذا فان صلاح و فساد المجتمع متوقف على صلاح و فساد المؤسسات السياسية وعلى رأسها الحاكم و ولاته و العمّال العاملين معه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أُمتي، و إذا فسدا فسدت أمتي: الفقهاء والأمراء»(1).

و تؤكد مسيرة المجتمعات على هذه السنّة التاريخية، فان صلاح المجتمعات بصلاح الحاكم والدولة، و فسادها بفسادهما، لأنهما يملكان وسائل التأثير على المجتمع، كالأعلام والأموال والمعنويات، والتلاعب بالقوانين، فهما يستطيعان توجيه المجتمع طبقاً لتوجهاتهم التي تؤثر إيجاباً و سلباً على أخلاقه و سيرته العملية ابتداءً بمرحلة الطفولة و انتهاءً بالشيخوخة.

ومن مظاهر الترابط والانسجام بين النظام السياسي والنظام الأخلاقي:

________________________________

[1]- تحف العقول: 36.

ـ(293)ـ

أولاً - اشتراط التقوى والعدالة في الحاكم الإسلامي

التقوى والعدالة من أهم الشروط التي يجب اتّصاف الحاكم بها;لانّ الحكومة أمانة تتطلب السير على ضوء المبادئ الإسلامية، والتقيّد بأحكام الشريعة في جميع جوانب شخصية الحاكم و بطانته و مؤسساته، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1).

وقد تقدم الحديث الشريف في توضيح خاصية العدالة: «... ورع يحجزه عن معاصي الله».

و نفى الإمام علي عليه السلام الصفات المذمومة عن الحاكم، وهي تستلزم العدالة، فقال: «وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء و المغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل... ولا الجافي... ولا الحائف للدول... ولا المرتشي في الحكم... ولا المعطّل للسنّة»(2).

واشتراط العدالة محل اتفاق جميع المسلمين من السنّة و الشيعة(3).

ثانياً - حرمة الطاعة للحاكم الجائر و الفاسق

من الأسس والقواعد التي يقوم عليها النظام الأخلاقي في المجال السياسي هي حرمة الطاعة للحاكم الجائر والفاسق، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ _ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(4).

________________________________

[1]- سورة البقرة: 124.

2- شرح نهج البلاغة 8: 263، ابن أبي الحديد، القاهرة، 1378 هـ، ط 1.

3- طرق توليّ القائد: 178، شهاب الدين الحسيني، منشورات مهرجان الشيخ الطوسي، قم، 1418 هـ، عن عدة مصادر.

4- سورة الشعراء: 151 ـ 152.

والفاسق لا يصلح أن يكون قائداً و حاكماً كما هو الظاهر من آراء الفقهاء، قال الزمخشري: «ان الفاسق لا يصلح للإمامة، و كيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة...»(1).

وقد أطبق جميع المفسرين - للآية الكريمة: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ على عدم جواز تولّي الظالم والفاسق للحكم، وبالتالي لا تجب طاعته، بل تحرم وخصوصاً في الأوامر التي تستبطن المعصية، فعن معاذ قال: يا رسول الله أرأيت ان كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني من أمرهم ؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا طاعة لمن لم يطع الله»(2).

وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى وجوب عزل الحاكم الفاسق ان أصرّ على فسقه، وهو محل اتفاق فقهاء الشيعة، وتابع بعض فقهاء السنّة هذا الرأي ومنهم: الماوردي، وعبد القاهر البغدادي، واليزدوي وابن حزم الظاهري والجرجاني(3).

ثالثاً - وجوب الالتزام بالأخلاق الإسلامية من قبل الحاكم

يجب على الحاكم و ولاته و جميع العاملين في مؤسسات الدولة الالتزام بالأخلاق الإسلامية، بل يجب عليه أن يكون قدوة لغيره في ذلك، قال الإمام علي عليه السلام: «ينبغي لمن ولي أمر قوم أن يبدأ بتقويم نفسه قبل أن يشرع في تقويم رعيته...»(4).

وقال عليه السلام:

________________________________

[1]- الكشاف 1: 184، الزمخشري، نشر البلاغة، قم، 1415 هـ.

2- مجمع الزوائد 5: 225.

3- طرق تولي القائد: 202، عن الأحكام السلطانية: 17، أصول الدين: 190، الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 175، شرح المواقف 8: 353.

4- شرح نهج البلاغة 20: 269.

ـ(295)ـ

«من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، و معلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس و مؤدبهم»(1).

وقال أيضاً: «أجلُّ الأمراء من لم يكن الهوى عليه أميراً».

«استعن على العدل بحسن النيّة في الرعية، وقلة الطمع، و كثرة الورع».

«أفضل الملوك أعفهم نفساً»(2).

رابعاً: وجوب إشاعة الفضيلة و حسن الأخلاق

الحاكم مأمور من قبل الله تعالى بإشاعة الفضيلة و حسن الأخلاق، لتكون هي الحاكمة على المواقف و الممارسات السلوكية، فيجب عليه تهيأة جميع المقدمات والوسائل الموصلة لها، بأعداد المبلغين والمصلحين ونشرهم في أوساط المجتمع، وان يختار الصالحين في مرافق و مؤسسات الدولة، وان يتابع سلوكهم باستمرار، ويحثهم على الاستقامة والثبات على أسس و قواعد الأخلاق الصالحة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يوصي أمراءه و عمّاله بذلك فمن وصيته لمعاذ بن جبل: «يا معاذ علمهم كتاب الله و أحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة... و أظهر أمر الإسلام كله، صغيره و كبيره و إياك أن تشتم مسلماً أو تطيع آثماً...»(3).

ومن عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر: «... أمره بتقوى الله، و إيثار طاعته، اتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه و سننه...

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 480.

2- تصنيف غرر الحكم: 342، 343.

3- تحف العقول: 19.

ـ(296)ـ

وان يكسر نفسه من الشهوات... والصق بأهل الورع والصدق... ثم الصق بذوي المروءات والاحساب، و أهل البيوتات الصالحة، و السوابق الحسنة...»(1).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  و خلفاؤه يستثمرون الفرص المتاحة لإلقاء الخطب التوجيهية في إصلاح أخلاق المجتمع و ممارساته العملية، و يحثون على التقوى، و حسن الخلق، وينهون عن الرذيلة و سوء الخلق، حتى تركوا لنا تراثاً ضخماً من الأحاديث والأقوال التي تتضمن الحث على الأخلاق و الالتزام بحسن السلوك.

خامساً: الالتزام بشروط البيعة من قبل الحاكم والمحكومين

البيعة هي المعاهدة على الالتزام من قبل الطرفين، الحاكم المبايع لـه، وأفراد الأمة المبايعين للحاكم، حيث يعاهد الحاكم الأمة على الالتزام بالمنهج الإسلامي في سياسته، وان تكون أخلاقه منسجمة مع توجيهات الإسلام، و يعاهد أفراد الأمة الحاكم على الطاعة والنصيحة، و يجب على الطرفين الوفاء بشروطها، و الالتزام بما تقرّر بينهما والالتزام والوفاء أحد مظاهر الأخلاق الحسنة و الممارسات الفاضلة، و قد أكدّ النظام الأخلاقي في الإسلام على هذا الوفاء واعتبره من الواجبات الأكيدة في سيرة الحاكم والأمة.

ومن مظاهر الانسجام والترابط هي استخدام القوة من قبل الحاكم و مؤسساته للقضاء على جميع مظاهر الفساد والانحراف، و تنفيذ قانون العقوبات بحق المتجاهرين بالانحراف والمتلبسين به، كتعزير شارب الخمر، و إقامة الحدود في حق من يمارس الانحراف الجنسي، والى غير ذلك من ألوان الفساد و الانحراف.

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 427 - 433.

 

 

ـ(297)ـ

الترابط و الانسجام بين النظامين في دستور الجمهورية الإسلامية

نصّت المادة الثالثة في الدستور على مسؤولية الجمهورية في توظيف كافة إمكانياتها في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية بخلق (المناخ المساعد لنضج الأخلاق الفاضلة على أساس الإيمان والتقوى، ومكافحة كل مظاهر الفساد والجريمة).

ونصت المادة السابعة والستون على مسألة القسم الذي يؤديه أعضاء مجلس الشورى، حيث جاء في بعض فقراته (وان أراعي في تأدية مسؤوليات النيابة، الأمانة والتقوى...).

واشترطت المادة التاسعة بعد المأة أن يكون القائد متصفاً بالتقوى والعدالة، وإذا أخل القائد بهذه الصفة وصفات أخرى فانه يعزل عن منصبه كما نصت المادة الحادية عشرة بعد المأة.

 واشترطت المادة الخامسة عشرة بعد المأة أن تتوفر في رئيس الجمهورية بعض الصفات ومنها (الأمانة والتقوى).

وفي سيرة مسؤولي الجمهورية الإسلامية في إيران كانوا يؤكدون على إشاعة الأخلاق الحسنة، والالتزام بالفضيلة وحسن السيرة، وكانوا يتواصون بها، ويوصون أبناء الشعب بالالتزام بحسن السلوك، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائماً بين مختلف الطبقات، وإضافة إلى ذلك، هنالك مؤسسات خاصة تقوم بمهمام الإصلاح الأخلاقي كلجان الناصحين، و لجان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ـ(298)ـ

المبحث الرابع

الترابط والانسجام بين النظام السياسي والنظام الاجتماعي

إنّ من مسؤولية الحاكم الإسلامي و مؤسساته التنفيذية هي رعاية شؤون الأمة، فهو مسؤول عن تنظيم العلاقات الاجتماعية، وأقامتها على العدل والإحسان والمودة والتكافل والتراحم والتناصح، وهذه الرعاية هي العامل المشترك بين النظامين السياسي والاجتماعي، وهي الموجبة للترابط والانسجام بينهما، فالحاكم مسؤول أمام الأمة، والأمة مسؤولة أمام الحاكم، والنظام الاجتماعي يخاطبهما معاً، كما يخاطبهما النظام السياسي، فلا فواصل ولا فوارق في أسس النظرية، وفي مقومات التطبيق، و تتجلى مظاهر الترابط والانسجام في خطوات عديدة أهمها مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي مسؤولية سياسية واجتماعية في آن واحد، وقد جاء القرآن الكريم ليحث على تكوين أمة تدعو إلى الخير و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و الأمة تعني الحركة المنظمة التي تضم في صفوفها القيادة و القاعدة، والحاكم و المحكومين، و جميع مقومات تكوين الحركة المنظمة الشاملة للجانبين السياسي والاجتماعي، ومن مظاهر الترابط والانسجام بين النظامين:

أولاً: الحرص على وحدة الأمة الإسلامية

من واجبات الحاكم الإسلامي هي الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، ومن واجبات الأمة الإسلامية الحفاظ على مركز القوة لإقامة الوحدة وهو الحكومة الإسلامية ونظامها السياسي القائم، ويحرم التفريط بهذا الواجب على الحاكم والأمة، وهذا ما يؤكده النظامان السياسي والاجتماعي، فالمسؤولية متبادلة في تحقيق الهدف المشترك، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعمل جاهداً لتحقيق الوحدة السياسية والاجتماعية،

ـ(299)ـ

 بإرشاداته وتوجيهاته و خطواته العملية، وأول كتاب كتبه بعد إعلان قيام الدولة الإسلامية، يؤكد على وحدة الأمة بما فيها الطبقات المختلفة و الوجودات المتعددة من مهاجرين و أنصار، حيث جاء فيه:

(... انهم أمة واحدة من دون الناس... وان المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وانه من تبعنا من يهود فانّ لـه النصر والأسوة)(1).

ومن خطواته العملية هي المساواة بين المهاجرين والأنصار، والأمر بالتآخي فيما بينهم.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يحذر من المخططات الهادفة إلى تمزيق الكيان السياسي والكيان الاجتماعي في آن واحد، وحينما اشتدت مخططات المنافقين و تحولت إلى ممارسات سياسية و اجتماعية، اتخذ خطوات صارمة و حاسمة، فأمر بإحراق مسجد ضرار الذي أسس لهذا الغرض، و أحرق منزل سويلم اليهودي لاجتماع المنافقين فيه(2).

ومن أجل الحفاظ على أسس النظامين السياسي والاجتماعي، حارب الخلفاء، المتمردين والمرتدين والبغاة لإعادتهم إلى الطاعة، ومنع البلبلة والخلل الواقع في داخل الوجود والكيان الإسلامي، بشقيه السياسي والاجتماعي.

وتنازل الإمام الحسن عليه السلام عن الخلافة للحفاظ على وحدة النظامين، ومن التصدّع والخلل القائم.

وكان الإمام الخميني رضى الله عنه يوصي بوحدة الجمهورية الإسلامية والمجتمع الإيراني، و بوحدة الأمة الإسلامية جمعاء، و أصدر فتاويه التي تدعو الشيعة إلى

________________________________

[1]- السيرة النبوية2: 148، ابن هشام، مصطفى البابي، مصر، 1355 هـ.

2- السيرة النبوية 4: 160، 170.

ـ(300)ـ

الصلاة خلف إمام الجماعة السنّي في مواسم الحج، وان يقوموا بممارسات عملية مطابقة للشعائر الواقعة، منسجمة مع مذهب أهل السنة، وفي عهد الإمام الخامنئي (حفظه الله) أقيمت عدة مؤتمرات للوحدة والتقريب، وفي ظل قيادته تآخى المسلمون سنة و شيعة.

ثانياً: المحافظة على الأمن والاستقرار

من واجبات الحاكم الإسلامي و مؤسسات و جميع أبناء الأمة هي المحافظة على الأمن والاستقرار وإزالة عوامل الخطر والاضطراب، الداخلية والخارجية، فهم مسؤولون عن إقامة العلاقات الاجتماعية الصالحة في داخل الأمة الإسلامية وداخل البقعة الجغرافية التي تتبع لوجودها السياسي،ومنع و إزالة جميع ألوان و مظاهر التفكك والانحلال الاجتماعية التي تؤدي إلى الاضطراب وفقدان الأمن والهدوء.

فيحرم الاعتداء على أرواح و أعراض و ممتلكات و حريات المواطنين و يحرم الاعتداء على الأمة من قبل الحاكم، وبالعكس.

و يجب على الجميع جهاد العدو الخارجي، و صد العدوان الذي يستهدف فقدان الأمن والاستقرار.

ويجب التعاون لإزالة الفتن الداخلية، ومنع المشاحنات وعوامل العداء والبغضاء.

و يجب على الدولة أن تقوم بإجراء العقوبات بحق كل من يساهم في خلخلة الأمن وإشاعة الاضطراب السياسي والاجتماعي، و يجب على المواطنين التعاون مع الدولة و مؤسساتها للحفاظ على سلامة الدولة والأمة في آن واحد، وان يكونوا عيوناً ساهرة، لملاحقة مشيري الشغب والاضطراب.

و مراعاة حقوق كل من الحاكم والأمة كفيل بإشاعة الأمن والاستقرار، كما روي عن الإمام علي عليه السلام انه قال:

ـ(301)ـ

«... فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقّه، وأدى الوالي إليها حقّها عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، و جرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، و طمع في بقاء الدولة، و يئست مطامع الأعداء، و إذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، و ظهرت معالم الجور، و كثر الأدغال في الدين، و تركت محاجّ السنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس... فعليكم بالتناصح في ذلك، و حسن التعاون عليه...»(1).

ثالثاً: مشاركة الأمة في السرّاء و الضرّاء

فرض النظام السياسي على الحاكم الإسلامي أن يشارك الأمة في السرّاء و الضرّاء، و ان يحمل آمالها وآلامها باعتباره أحد أفرادها، سواء كانت معه في بقعته الجغرافية التي يحكمها أو خارجها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  باعتباره حاكم المسلمين يشارك الأمة الإسلامية في أفراحها وأحزانها، و يحمل همومها و آمالها، وكان الإمام علي عليه السلام يقول:

«أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر...»(2).

و يجب على الحاكم إزالة الحواجز بينه و بين الرعية، قال الإمام علي عليه السلام:

«ثلاث من كنّ فيه من الأئمة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته، إذا أعدل في حكمه، ولم يحتجب دون رعيته، و أقام كتاب الله تعالى في القريب و البعيد»(3).

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 333، 334.

2- نهج البلاغة: 418.

3- كنز العمال 5: 64.

ـ(302)ـ

ومن واجباته الاجتماعية النظر في حوائج الرعية،قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

«من وليّ شيئاً من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم»(1).

ومن واجباته تخصيص جزء من وقته للنظر في ذلك، ففي عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر إنّه قال:

«واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع»(2).

ومن واجبات الحاكم و ولاته و العاملين في مؤسسات الدولة الاصحار إلى الأمة لإزالة جميع مظاهر التشكيك و سوء الظن، قال الإمام علي عليه السلام:

«... و إن ظنت الرعية بك حيفاً فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، و رفقاً برعيتك، و أعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق»(3).

رابعاً: حسن التعامل الاجتماعي

إنّ منصب الحاكمية وسائر المناصب الحكومية ما هي إلاّ مظهر من مظاهر المسؤولية و التكليف; للنهوض بالواجب و إيصاله إلى أفضل صور التطبيق والتحقيق، فهو مسؤول والأمة مسؤولة، ومن هنا فيجب على الحاكم أن يتعامل مع الأمة تعاملاً حسناً، فقد أرشد الله تعالى رسول صلى الله عليه وآله وسلم  إلى اتباع الأساليب الحكيمة في التعامل، وهي إرشاد إلى مطلق المتصدين لقيادة الأمة:

________________________________

[1]- مجمع الزوائد 5: 211.

2- نهج البلاغة: 439.

3- نهج البلاغة: 442.

 

 

ـ(303)ـ

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).

و أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أحد ولاته بحسن التعامل فقال:

«و أوصيك بتقوى الله، و صدق الحديث، و الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، و ترك الخيانة، ولين الكلام، و بذل السلام، و حفظ الجار، ورحمة اليتيم، و حسن العمل، و كظم الغيظ و خفض الجناح»(2).

و رسم الإمام علي عليه السلام منهجاً واقعياً في تعامل الحاكم مع رعيته، وقد ظهر ذلك في أقواله و خطاباته و كتبه إلى الولاة و العمّال، و فيما يلي نستعرض الأسس العامة لهذا المنهج(3).

(أفضل الملوك من حسن فعله و نيته و عدل في جنده ورعيته).

(أحسن الملوك حالاً من حسن عيش الناس في عيشه و عمّ رعيته بعدله).

(الحلم رأس الرياسة).

(آلة الرياسة سعة الصدر).

( رأس السياسة استعمال الرفق).

(من وثق بإحسانك أشفق على سلطانك).

(من استبدَّ برأيه زلّ).

وقال أيضاً - موضحاً التوازن في أسلوب التعامل السياسي والاجتماعي:

________________________________

[1]- آل عمران: 159.

2- تحف العقول: 19.

3- تصنيف غرر الحكم: 340 - 344.

ـ(304)ـ

(من علامات المأمون على دين الله بعد الإقرار والعمل:

الحزم في أمره.

و الصدق في قولـه.

و العدل في حكمه.

والشفقة على رعيته.

لا تخرجه القدرة إلى فرق، ولا اللين إلى ضعف.

ولا تمنعه العزّة من كرم عفو، ولا يدعوه العفو إلى إضاعة حقّ.

ولا يدخله الإعطاء في سرف، ولا يتخطى به القصد إلى بخل.

ولا تأخذه نعم الله ببطر)(1).

و كتب إلى مالك الاشتر أروع وثيقة سياسية اجتماعية في علاقات أجهزة الدولة مع المجتمع حيث جاء فيها: «... واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، و اللطف بهم... فانهم صنفان: أمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق... فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ و ترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه... انصف الله و انصف الناس من نفسك، و من خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك... ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء... و إياك والمنّ على رعيتك بإحسانك أو التزيّد فيما كان من فعلك، أو أن تصدّهم، فتتبع موعدك بخلفك...»(2).

خامساً: مراعاة قوانين الأحوال الشخصية والمدنية

من واجبات الحاكم الإسلامي مراقبة تطبيق قوانين الأحوال الشخصية والمدنية،

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 427 - 344.

2- نهج البلاغة: 427 - 344.

ـ(305)ـ

والتدخل المباشر وغير المباشر في إعطاء كل ذي حقٍّ حقّه، في قوانين الزواج والطلاق، والإرث، والوصية، والوقف، والصدقة، والحقوق الفردية، وإعلان حرية الاعتقاد والرأي والانتقاد، فقد وردت روايات عديدة تؤكد على تلك المراعاة، فقد روي انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبطل زواج امرأة زوّجها أبوها وهي كارهة، و فرّق بينهما(1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم  لا يستثمر منصبه في إجبار الآخرين على التنازل عن حقوقهم، فحينما أسر المسلمون صهره (أبو العاص) قال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «ان هذا الرجل منّا حيث قد علمتم، وقد أصبتم لـه مالاً، فان تحسنوا و تردوا عليه الذي لـه، فانّا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحقّ به...»(2).

وقد أعطى صلى الله عليه وآله وسلم  للمسلمين ولغيرهم حق التمتع بالحرية في الاعتقاد والقول، فقد اعترض عليه الصحابة في صلح الحديبية فأعطاهم الحرية الكاملة في تبيان وجهات نظرهم(3).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يتدخل في إرجاع كل حق إلى صاحبه، ويوصي ولاته بذلك واتبع الخلفاء هذا النهج في مراعاة قوانين الأحوال الشخصية والمدنية، و توسعت على مرور الزمن مؤسسات الدولة المعنية بذلك، وقد التزمت العدالة في الحكم بين الناس، و المساواة بينهم في الحقوق والواجبات.

________________________________

[1]- سنن الدارقطني 3: 235، علي بن عمر الدارقطني، دار المعرفة ببيروت، 1386 هـ.

2- السيرة النبوية 2: 313، ابن هشام.

3- السيرة النبوية 3: 320، ابن كثير، دار إحياء التراث، بيروت، 1383 هـ.

ـ(306)ـ

المبحث الثامن

الترابط والانسجام بين النظام السياسي والنظام الاقتصادي

من الصعب تطبيق أسس وقواعد النظام السياسي في الواقع من دون إسناد و دعم من النظام الاقتصادي في أسسه النظرية وتطبيقاته العملية التي تحدد ملكية النظام القائم المتمثل بالدولة و أجهزتها، والتي تسند النظام ليقوى على النهوض، و يصعب أيضاً تطبيق التوازن الاقتصادي، والعدالة في الإنتاج والتوزيع، والرفاه الاقتصادي، و حماية ممتلكات الناس و أموالهم، إلاّ بالرجوع إلى قوة تشرف على سير الأعمال و الموازنات الاقتصادية، فلا يمكن لأحد النظامين أن يحقق أهدافه و خططه المرسومة بمعزل عن النظام الآخر.

فالنظام الاقتصادي يحدّد للحاكم و للدولة ولأفراد المجتمع ملكياتهم، و يرجع جميع الممتلكات من الناحية المفهومية إلى الله تعالى، فهو المالك الحقيقي لها، و ليست ملكاً شخصياً لأحد، و إنما هي ملكه بالإعارة و الاستخلاف، فالحاكم يتصرف بالأموال حسب ما مرسوم لـه من منهج، فهي أمانة بيده، قال الإمام علي عليه السلام:

«والله ما هو بكدّ يدي ولا بتراثي عن والدي ولكنّها أمانة أوعيتها»(1).

وكان يقول:

«لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله»(2).

و يجب النظر إلى النظام الاقتصادي باعتباره أحد أجزاء الكل وهو النظام الإسلامي العام، وفي هذا الصدد قال الإمام محمد باقر الصدر:

________________________________

[1]- مناقب آل أبي طالب 2: 127، ابن شهر آشوب، دار الأضواء، 1412 هـ، ط 2.

2- نهج البلاغة: 183.

ـ(207)ـ

(يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع)(1).

وتتجلى حقائق الترابط والانسجام بين النظامين في المظاهر التالية:

أولاً: دور الدولة في إقامة التوازن الاقتصادي

الدولة الإسلامية استناداً إلى أسس و قواعد النظامين السياسي والاقتصادي مسؤولة عن تحقيق و إقامة التوازن الاقتصادي طبقاً للآية الكريمة: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(2).

ولا يتم ذلك إلاّ بالقيام بإجراءات عملية ابتداءً بالدعوة الإصلاحية، والحث على الأنفاق في وجوه الخير، و إشباع حاجات الفقراء و المساكين الضرورية، و الدعوة إلى القناعة و الكفاف، والاقتصاد في الأنفاق على النفس وعدم التبذير، والنهي عن الغش والربا وأكل الأموال بالباطل، وأن لا يكون المال أساساً للتفاضل والتكريم.

واتخاذ إجراءات تمنع من تركيز الثروة بيد جماعة معينة، عن طريق فرض الضرائب على أموال الأغنياء و أنفاقها على الفقراء، كالزكاة والخمس التي تعتبر عبادات مالية بحاجة إلى قصد القربة إلى الله تعالى، لكي يتحقق التوازن عن قناعة و اندفاع ذاتي ليسهل تطبيقه.

وللدولة حق إكراه أصحاب الثروة على إشباع حاجات الآخرين، قال الإمام محمد باقر الصدر:

(للدولة حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، ان امتنعوا عن القيام بها، و بموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن

________________________________

[1]- اقتصادنا: 308، محمد باقر الصدر، دار التعارف، بيروت، 1399 هـ، ط 11.

2- الحشر: 7.

ـ(308)ـ

المسلمين)(1).

وإضافة على ذلك، فالدولة مسؤولة عن متابعة المعتدين على أموال الناس و ممتلكاتهم تحت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، فتحاسب المغتصبين للأموال بغش و سرقة أو خيانة.

ثانياً: دور الدولة في ضمان معيشة الناس

فرض النظام الاقتصادي على الدولة الإسلامية ضمان معيشة الناس ضماناً كاملاً، عن طريق القيام بخطوات على مرحلتين:

(ففي المرحلة الأولى تهيء الدولة للفرد وسائل العمل، فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل، جاء دور المرحلة الثانية، التي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان، عن طريق تهيئة المال الكافي، لسد حاجات الفرد، وتوفير حد خاص من المعيشة لـه)(2).

وفي عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  لبعض الصحابة جاء فيه:

(لم نبعث لجمع الأموال، ولكن بعثنا لانفاقه)(3).

وفي عهد الإمام علي عليه السلام لولاته أكد على ضمان معيشة الناس، فقال:

«... وانّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً و حقاً معلوماً، و شركاء أهل مسكنة، و ضفعاء ذوي فاقة... فوفّهم حقوقهم، و بؤسى لمن خصمه عند الله الفقراء و المساكين

________________________________

[1]- اقتصادنا: 698.

2- اقتصادنا: 697.

3- مشكاة الأنوار: 183.

ـ(309)ـ

و السائلون و المدفوعون و الغارمون وابن السبيل»(1).

و كتب إلى عامله على مكة:

«... وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة مصيباً به مواضع الفاقة و الخلاّت و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا»(2).

والدولة بإمكانياتها قادرة على ضمان معيشة الناس عن طريق إيجاد القطعات الاقتصادية العامة التي تتكون من موارد الملكية العامة و ملكية الدولة لكي تكون (ضماناً لحق الضعفاء من أفراد الجماعة، و حائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة كلها، و رصيداً للدولة يمدّها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي)(3).

ثالثاً: مراقبة الحركة الاقتصادية

الحركة الاقتصادية بحاجة إلى قوة ضاغطة تجعلها تتحرك ضمن الموازين الاقتصادية العادلة المنسجمة مع روح الإسلام، و تتكفل الدولة تحقيق ذلك، عن طريق النصح أولاً واستخدام الصلاحيات القانونية ثانياً، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاحتكار(4).

وعهد الإمام علي عليه السلام إلى واليه على مصر:

«فامنع من الاحتكار... وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 382.

2- نهج البلاغة: 457.

3- اقتصادنا: 703.

4- المستدرك على الصحيحين، 2: 22، الحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ.

ـ(310)ـ

بالفريقين»(1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يتجوّل في الأسواق مراقباً الحركة الاقتصادية، فقد مرّ على بائع يغش في بضاعته فقال لـه: «... من غشَّ فليس منّا »(2).

وكان الإمام علي عليه السلام يتجول في أسواق الكوفة ومعه الدرة لمحاسبة المتلاعبين بالميزان والمكيال، و الذين يغشون الناس(3).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  و الخلفاء من بعده يحاسبون الولاة والعمّال ان أحدثوا خللاً في سير العمليات الاقتصادية، أو يمنعونا من الثراء الفاحش على حساب الفقراء و الضعفاء، وكان الخليفة الثاني يشاطر عمّاله في الأموال إن وجد فيها ظلماً لحقوق الآخرين.

و تتطلب مراقبة الحركة الاقتصادية أن يكون الحاكم و ولاته عادلين في العطاء، بمعنى إعطاء كل ذي حق حقّه حسب القوانين الإسلامية، فقد مرت ابل الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ وبرة منها وقال: ما أنا بأحقّ بهذه الوبرة من رجل من المسلمين»(4).

وقال الإمام علي عليه السلام لأخيه عقيل: «ما أنا وأنت فيه - بيت المال - إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين»(5).

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 438.

2- التراتيب الإدارية 1: 284.

3- سفينة البحار 1: 450، عباس القمّي، دار الأسوة، قم، 1414 هـ.

4- مجمع الزوائد 5: 231.

5- مناقب آل أبي طالب 2: 125.

 

 

ـ(311)ـ

وقد نهر الخليفة الثاني أحد أقربائه لأنه طلب مالاً زيادة على حقه(1).

رابعاً: مواساة الحاكم للناس في المستوى المعاشي

من تعاليم النظام الاقتصادي في الإسلام هي بث روح الاخوة بين الطبقات، بالحث على الأنفاق والتصدّق، ومحاربة البذخ و الثراء الفاحش، و اكتساب المال بطريقة مشروعة، وهذه التعاليم تكون موجهة للحاكم أكثر من غيره، لتصديه للمسؤولية، وان عمله الدؤوب في تطبيق الإسلام لا يتيح لـه أي فرصة للثراء الفاحش لانّ الأموال التي في حوزة دولته هي أمانة بيده، وان ما يخصص لـه من بيت المال يقتصر على إشباع حاجاته الأساسية و الضرورية وهذا ما يجعله مواسياً للرعية في المستوى المعاشي، و يمنعه من الثراء الفاحش، وعلى سبيل المثال ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يشرف على بيت المال بنفسه، ومع ذلك فانه اشترى من أحد اليهود طعاماً إلى أجل و رهنه درعاً لـه(2)، فلو كان يملك ثمن الطعام لدفعه إليه دون أن يعطيه رهناً.

و الحاكم الإسلامي مأمور بمواساة الرعية في المستوى المعاشي ليكون قادراً على التأثير عليها في إرشادها إلى الاستقامة على مبادئ الإسلام و قيمه، وان تتعالى على الموازين المادية و تنطلق نحو التكامل والسمو، و تصبر على الحرمان والفقر، ان وجدت في قدوتها زهداً و مواساة لها، قال الإمام علي عليه السلام:

«انّ الله فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(3).

وقال أيضاً:

________________________________

[1]- شرح نهج البلاغة 12: 62.

2- نصب الراية 4 319:، عبدالله الزيعلي، دار إحياء التراث، بيروت، 1407 هـ، ط 3.

3- شرح نهج البلاغة 11: 32.

 

 

 

ـ(312)ـ

«... ألا وإنّ أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع لـه في القرص، ولا عهد لـه بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى...»(1).

وكان الخليفة الأول يأخذ من بيت المال بقدر ما حدّده لـه المسلمون ولا يأخذ أكثر من ذلك(2).

وكان الخليفة الثاني إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً، و اشهد عليه رهطاً من المسلمين: (ألاّ يركب برذوناً ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين)(3).

وكلّم بعض الصحابة ابنته لتحثه على اللين في العيش والتنعم بالخيرات، فأجابها: (يابنية غششت أباك، و نصحت لقومك)(4).

خامساً: ملكية الدولة في النظام الاقتصادي

من أجل تثبيت أركان الدولة الإسلامية،و تقوية هيكلية النظام السياسي، جعل النظام الاقتصادي الملكية على عدة أنحاء، ومنها ملكية الدولة، فللدولة حق في بعض الموارد المالية، كالأنفال، قال تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(5).

________________________________

[1]- نهج البلاغة: 417، 418.

2- الطبقات الكبرى 3: 185، ابن سعد، دار صادر، بيروت، 1405 هـ.

3- شرح نهج البلاغة 12: 23.

4- شرح نهج البلاغة 12: 33.

5- الأنفال: 1.

ـ(313)ـ

ولها الحق في خمس الغنائم، قال تعالى:

﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(1).

ولها الحق في الأموال الناجمة عن الجزية، وعن الزكاة، ولها حق في الأراضي التي لا مالك لها، إضافة إلى ملكيتها للأموال العائدة إليها من المشاريع العمرانية التي تقوم بإنشائها، ولها الحق في فرض ضرائب على مال التجارة أو سائر الأموال إن وجدت المصلحة في فرضها.

والنظام الاقتصادي في إسناده لملكية الدولة يساهم في تثبيت وجودها و كيانها، وفي إدامة مسؤولياتها للنهوض بأعباء الرسالة، وتطبيق مبادئ الإسلام في الواقع.

ومن هنا فلا فصل بين النظامين: السياسي و الاقتصادي في الإسلام، لارتباطهما و تداخلهما في كثير من مجالات الارتباط والتداخل، ولارتباطهما بالنظام الإسلامي العام، الموضوع من قبل الله تعالى، وكل منها جزء من كلّ يساهم في إرساء دعائم العقيدة و الشريعة الإسلامية.

الترابط والانسجام بين النظامين في دستور الجمهورية الإسلامية

نصت المادة الثامنة و العشرون على انّ (لكل شخص الحق في اختيار أي عمل يرغب فيه ولا يتعارض مع الإسلام، و المصالح العامة، وحقوق الآخرين، والحكومة مسؤولة عن توفير فرص العمل للجميع).

و نصّت المادة التاسعة و العشرون على مسؤولية الحكومة عن ضمان معيشة الناس، وان لهم حق التمتع بالضمان الاجتماعي في مجالات التقاعد، والبطالة،

________________________________

[1]- الأنفال: 41.

ـ(314)ـ

والشيخوخة، والعجز عن العمل، وفقد القيم، والحوادث والطوارئ، والخدمات الصحية والعلاجية.

ونصّت المادة الواحدة والثلاثون على مسؤولية الحكومة في تمهيد الأرضية لامتلاك كل عائلة على مسكن متناسب مع الحاجة.

و نصت المادة الثالثة والأربعون على مسؤولية الحكومة في اجتثاث جذور الفقر والحرمان، بالقيام بأداء دورها في:

1 - توفير الحاجات الأساسية للجميع.

2 - توفير فرص و إمكانيات العمل للجميع.

3 - منع الأضرار بالغير، والاحتكار، والربا، و بقية المعاملات الباطلة والمحرمة.

4 - منع الإسراف والتبذير في كافة الشؤون المرتبطة بالاقتصاد، التي تشمل الاستهلاك، والاستثمار، والإنتاج، والتوزيع، والخدمات.

5 - منع التسلط الاقتصادي الأجنبي على الاقتصاد الوطني.

6 - التأكيد على مضاعفة الإنتاج الزراعي، والحيواني، والصناعي الذي يسد الحاجات العامة، و يوصل الدولة إلى حد الاكتفاء الذاتي، و يحررها من التبعية.

و نصت المادة السادسة والأربعون على ان (كل فرد يملك حصيلة كسبه وعمله المشروع، ولا يستطيع أحد أن يسلب الآخرين فرص الاكتساب والعمل).

و نصت المادة الثانية والأربعون بعد المأة على انه (يتم التحقيق في ملكية القائد، أو أعضاء مجلس القيادة، و رئيس الجمهورية، و رئيس الوزراء، و الوزراء، و زوجاتهم و أولادهم، قبل و بعد حمل المسؤولية بواسطة المحكمة العليا لكي لا تتضاعف بغير حق).

وفي استقرائنا للواقع السياسي والاقتصادي داخل الجمهورية الإسلامية، نجد ان

ـ(315)ـ

القيادة العليا قد واست المواطنين في معيشتهم، فالإمام الخميني رضى الله عنه كانت لـه بطاقة تموينية كبقية أفراد المجتمع، فيأخذ حصته المقررة لكل فرد، وكذا الحال في خليفته الإمام الخامنئي (حفظه الله).

وقد رحل الإمام الخميني رضى الله عنه وهو لا يملك إلاّ بيتاً متواضعاً ملكه عن طريق حصته من الإرث، وكان فيه شريكاً لأخيه الأكبر، وكان زاهداً في بيت مال المسلمين، ويعيش حياة الكفاف والتقشف، وقد نقلت لنا إحدى النساء التي كانت تخدم في بيت الإمام - في اجتماع نسوي ضمنا و إياها - إنها اشترت عدة كيلو غرامات من الفواكـه بسعر زهيد، فقـال لها الإمام انّ للآخرين حقـاً في شرائه، فلماذا حرمتيهم منه.

و عاش الإمام الخامنئي (حفظه الله) حياة الزهد، فكان يقدم لضيوفه الشخصيين، ما يأكله و يشربه في منزله دون تكلف لأنه لا يملك غير ذلك.

و يقوم النظام الإسلامي برعاية شؤون الفقراء والضعفاء، فبالإضافة إلى كفالة الدولة و أجهزتها لهم، تقوم المكاتب التابعة للقائد و لبعض المسؤولين بمد يد العون لهم، و هنالك مؤسسة خاصة لدعم الفقراء وهي مؤسسة الإمام الخميني الخيرية.

و يقوم ما يسمى بجهاد البناء في العمل لتوفير الخدمات الرفاهية للمواطنين، ومن خلال متابعتنا لسير الأحداث ومن خلال تصريحات المسؤولين وجدنا أن أكثر من ثلاثة أرباع الإيرانيين يتمتعون بملكية السكن، بل ان كثيراً من العوائل تملك سكناً على عدد أفرادها، وانّ المنازل المعروضة للبيع أكثر من المنازل المعروضة للإيجار.

فالترابط والانسجام بين النظامين: السياسي والاقتصادي من الضرورات التي لا تنفصل عن سير النظامين في حركتهما نحو بناء نظام سياسي و اقتصادي متين لإنهاء التبعية السياسية والاقتصادية للغير.