الشورى دراسة في الأسس الفقهية والتاريخية

الشورى دراسة في الأسس الفقهية والتاريخية

 

 

الشورى دراسة في الأسس الفقهية والتاريخية

 

شذى الخفاجي

باحثة من العراق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

الوحدة ورصّ الصفوف من أهم مقومات البناء الحضاري للأُمة الإسلامية والوحدة ضرورة شرعية وعقلية أكدّ عليها القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وحكم بها العقل السليم التاريخ أثبت لنا ضرورتها في تتبعه لسير الحضارات التي نمت وترعرعت وازدهرت بالوحدة، وتدهورت واضمحلت حينما بدأ التمزق والفرقة يدبان في سيرها، والوحدة الإسلامية ممكنة التحقيق وليست مستحيلة كما يشيع أعداء الإسلام، ويأتي إمكان تحققها لوجود ثوابت مشتركة بين جميع المذاهب، أما الفواصل فهي فواصل جزئية لا تمنع من الاشتراك في الأفق الواسع، أفق العقيدة والمصير والمصالح والمواقف الواحدة، ومن نقاط الاشتراك خصوصاً في مجال الحكومة الإسلامية هو دور الأُمة فيها عن طريق الالتزام بمبدأ الشورى بين الحاكم الإسلامي والأُمة، لتقوم الأُمة متعاونة مع الحاكم في أداء دورها مسؤوليتها التاريخية باختيارها ودوافعها الذاتية، وفي بحثنا هذا تسلط الأضواء على أُسس

ـ(184)ـ

الشورى الفقهية والتاريخية، والاستفادة من التطبيق العملي لها في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وعهد الخلفاء الراشدين وعهد الجمهورية الإسلامية لتضع بعض الأسس التي تتعلق بالشورى، والتي تجسدت من خلال التطبيق أروع مظاهر السماح للأُمة بأداء دورها وتلاحمها مع حكامها لإدامة المسيرة التي وضع أسسها النبي الأكرم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

الشورى قبل الإسلام:

إنّ المتتبع لأخبار الماضين وقصصهم من القرآن الكريم ومن أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يجد أن الشورى كان معمولاً بها من قبل الأنبياء والصالحين ومن قبل الطالحين الذين وقفوا في ساحات المواجهة مع أنبيائهم، فلم يستغن عنها أحد حتى الطغاة والفراعنة، فإبراهيم عليه السلام شاور ابنه في بناء الكعبة لاختيار أفضل الطرق في تشييدها، وشاوره في قضية الذبح ليعلم قدرته على التنفيذ، وكان موسى عليه السلام يشاور هارون وبعض أصحابه،تشاور رهط من قوم ثمود للتآمر على النبي صالح عليه السلام وحتى فرعون الذي ادّعى انه الرب الأعلى كان يستشير بطانته في أغلب شؤونه ومنها مشاورته لهم في شأن موسى عليه السلام ومشاورت ملكة سبأ قومها بشأن رسالة سليمان عليه السلام، وتشاور أخوة يوسف في شأنه، وفي اختيار الجواب المقنع لأبيهم، وكان عرب الجاهلية يشاور بعضهم بعضاً، وكان حلف الفضول قد جسدّ الشورى بكل مفاهيمها،حينما صدع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بإعلان الدعوة وأحست قريش بالخطر المحدق بكيانها وبمصالحها تشاورت في كيفية المواجهة اتخذت مواقف عديدة بعد الاستشارة، ابتداء ً بتوجيه التهم والإشاعات، ثم الأغراء والترغيب بالأموال والجاه والسلطان، ثم التعذيب والأذى والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، وآخر ما توصلت إليه بعد اجتماع لكبار الشخصيات في حوار طويل هو الأقدام على قتل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في

ـ(185)ـ

ليلة هجرته(1) ولولا الشورى لما توصلوا إلى مثل هذا الرأي الذي يضيع فيه دمه، ولا يطالب به أحد لاجتماع القبائل جميعها على قتله فالشورى أمر ضروري في التخطيط والتنفيذ، ولم يستغن عنه أحد من الأفراد والمجتمعات إلاّ من كان مرتبطاً بالله تعالى الذي يسدد أنبياءه عن طريق الوحي المتواصل، ومع ذلك كان الأنبياء يستشيرون ويشركون أممهم في كثير من القرارات والمواقف قبل اتخاذها.

الشورى في القرآن الكريم:

وردت الشورى في القرآن الكريم في ثلاث آيات: اختصت الأولى بشؤون الأسرة وكيفية إرضاع الطفل، قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لـه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لـه بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(2).

ودعت الآية الشريفة الأبوين للتشاور بينهما لاتخاذ القرار النهائي المشترك بعد تبادل الآراء.

والآية الثانية: كان خطاباً للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم تحدد لـه أسلوب التعامل مع أصحابه، قال تعالى:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(3).

وفي تفسير الشيخ الطوسي v للآية يقول:

___________________________

1ـ تاريخ الطبري، الكامل في التاريخ، تاريخ اليعقوبي، الدرّ المنثور.

2ـ سورة البقرة: 233.

3ـ سورة آل عمران: 159.

ـ(186)ـ

(أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه)(1).

وسيأتي الحديث عن وجوب الشورى أم استحبابها من الآية الشريفة والآية الثالثة قولـه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(2).

والآية الكريمة جاءت في سياق إبراز صفات المؤمنين الممدوحة وجاءت الشورى مقرونة بسائر الصفات بالصلاة والأنفاق.

والشورى في الآيات الثلاثة كانت ممدوحة من قبل الله تعالى، ابتداءً من الأسرة كأصغر وحدة اجتماعية، ومروراً بالعلاقة بين الحاكم الإسلامي وأصحابه ورعيته وانتهاءً بعلاقات المؤمنين فيما بينهم والخصائص المميزة لهم.

الشورى في السنة:

عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت «وشاورهم في الأمر» قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

«أما ان الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً»(3).

فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد استغنى عن الشورى بالوحي الذي يرشده إلى اختيار الرأي الأصوب والموقف الأصوب، ومع ذلك أمره الله تعالى بالشورى وكان صلّى الله عليه وآله وسلم كثير الاستشارة لأصحابه، فاستشار أصحابه وخصوصاً الأنصار ليعلم استعدادهم للقتال خارج المدينة، بعد أن بايعوه على نصرته مادام معهم داخل المدينة فأعلنوا عن استعدادهم للقتال،

___________________________

1ـ التبيان للطوسي 3: 31.

2ـ سورة الشورى: 38.

3ـ الدر المنثور 2: 90، السيوطي، دار المعرفة، بيروت، 1979.

ـ(187)ـ

وحينما نزل صلّى الله عليه وآله وسلم بإحدى المواقع العسكرية أشار عليه الحباب بن المنذر بتغيير موقعه، فاستجاب صلّى الله عليه وآله وسلم لمشورته تطييباً لخاطره واحتراماً من القائد لأراء أصحابه ورعيته وأثنى صلّى الله عليه وآله وسلم على سعد بن معاذ خيراً حينما أشار عليه ببناء عريشاً لـه صلّى الله عليه وآله وسلم وبعد انتهاء غزوة بدر استشار أصحابه بشأن أسرى المشركين(1).

وقبل غزوة أحد كان رأي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم التحصن داخل المدينة والقتال من داخلها، وكان يكره الخروج، فاستشار أصحابه فكان رأي الأغلبية منهم هو الخروج من المدينة،ازداد إلحاح المتحمسين للقاء العدو، فأخذ صلّى الله عليه وآله وسلم بآرائهم لتربيتهم على الاستشارة، وحينما تجهزّ للخروج ندموا على عدم الأخذ برأيه وأشاروا عليه ثانية بالبقاء داخل المدينة فأبى صلّى الله عليه وآله وسلم الآخذ بهذا الرأي بعد حسمه للموقف(2) لكي لا تقود الشورى إلى الفوضى انفلات الأمور والتردد والتراجع.

وحينما سمع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بخبر الأحزاب أجرى صلحاً مع قائد غط فان لتحييـد موقفه على أن يعطيه ثلث ثمار المدينة، وقبل أن يتم التوقيع على بنود الصلح، أشار عليه سعد بن معاذ بإلغاء الصلح وأعلن استعداده للقتال والتضحية، وافق صلّى الله عليه وآله وسلم سعداً على رأيه ألغى الصلح(3).

وأشار سلمان الفارسي عليه صلّى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق حول المدينة فقبل مشورته وأمر المسلمين بحفر الخندق(4).

وأشار عليه عمه العباس بأن يجعل لأبي سفيان مقاماً لحبه للفخر فاستجاب لـه قال:

«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(5).

___________________________

1ـ السيرة النبوية 2: 266ـ 272، ابن هشام، السيرة النبوية، 2: 402ـ 458، ابن كثير.

2ـ سيرة ابن هشام 3: 67، سيرة ابن كثير 3: 25.

3ـ سيرة ابن هشام 3: 234.

4ـ سيرة ابن كثير 3: 183، تفسير علي بن إبراهيم 2: 177.

5ـ سيرة ابن هشام 4: 46.

ـ(188)ـ

وهنالك مجالات عديدة استشار صلّى الله عليه وآله وسلم أصحابه فيها أو قبل مشورتهم ابتداءً لا موجب لذكرها بعد أن تواتر في كتب السيرة أنه كان صلّى الله عليه وآله وسلم كثير الاستشارة وإن كان مستغنياً عنها لارتباطه بالوحي، ومع كل ذلك هنالك قرارات ومواقف انفرد باتخاذها ولم يستشر أحداً فيها، بل خالف آراء أغلب أصحابه ولم يلتفت لها، ففي صلح الحديبية رفض أغلب الصحابة قرار الصلح واعتبروه ضعفاً، ورفضوا أن يمح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم اسمه من الرسالة يكتفي بالتوقيع باسم(محمد) دون(رسول الله) ولكنه لم يستجب لآراء الصحابة وأمضى الصلح وكتب في صحيفة المعاهدة:(من محمد) وحذف(رسول الله) وخالف رأي الغالبية من أصحابه(1) ولم يستشر صلّى الله عليه وآله وسلم أحدا في غزوة بني قريظة، ولم يستشر أحداً في التوجه إلى فتح مكة ولم يخبر أحداً إلاّ بعد أن قطع مسافة طويلـة مبتعـداً عـن المدينـة، فكان صلّى الله عليه وآله وسلم لا يستشير في بعض المواقف التي لا تزيدها الشورى قوة بل قد تؤدي إلى الفوضى الاضطراب والتردد وتأخر اتخاذ القرار أو تسرب المعلومات إلى العدو، وفي المجالات التي كان يستشير بها يستمع إلى جميع وجهات النظر ثم يتخذ قراره.

قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد)(2).

الشورى في عهد الخلفاء:

لا أريد أن أتحدث عن الأحداث التي جرت في السقيفة لأنها محل خلاف بين المسلمين من حيث صحة ما أفرزته من نتائج، ولكن أتحدث عن الواقع العملي بعد ان استقرت حكومة الخليفة الأول ببيعة المعارضين لـه بعد ثلاثة أشهر أو ستة أشهر، ففي الواقع

___________________________

1ـ سيرة ابن كثير 3: 320، تاريخ اليعقوبي 2: 54.

2ـ المحاسن 601، البرقي، دار الكتب الإسلامية، قم، 1371.

ـ(189)ـ

العملي كان أبو بكر إذا نزل به أمر دعا(عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبىّ بن كعب وزيد بن ثابت) واستشارهم(1).

وكان يستشير في مختلف شؤون المسلمين وكان(إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله... وان علمه من سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أقضى به، وإن لم يـعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فان أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم(2).

وكان يستشير في القضاء وفي تولية العمال والأمراء(3).

وكان يستشير في الشؤون العسكرية فحينما أراد غزو الروم(استشار جماعة فقدّموا وأخروا، ولم يقطعوا برأي فاستشار علياً في الأمر فقال: ان فعلت ظفرت، فقال: بشرّت بخير)(4).

وكان إذا عجز عن الإجابة على بعض المسائل دعا علياً عليه السلام فأجابه عنها، فمثلاً سأله اليهود عن مسائل متعدد فحول الجواب إلى عليّ فأجابهم(5).

وسأله ملك الروم عن مسائل فأخبر بذلك علياً فأجابه(6).

وأراد أن يقيم الحدّ على شارب خمر فقال الرجل أني شربتها ولا علم لي بتحريمها، فاستشار أبو بكر علياً فقال: أمر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين الأنصار وينشدانهم: هل فيهم أحداً تلا عليه آية التحريم ففعل... ثم خلى سبيله لم يحدّه(7).

___________________________

1ـ كنز العمال 5: 627.

2ـ السنن الكبرى 10: 114، البيهقي، دار المعرفة، بيروت.

3ـ كنز العمال 5: 469، 620.

4ـ تاريخ اليعقوبي 2: 133، دار صادر ببيروت.

5ـ ذخائر العقبى 80، الطبري، مؤسسة الوفاء، 1401 هـ.

6ـ مناقب آل أبي طالب 2: 397 ـ 399، ابن شهر آشوب، دار الأضواء 1412 هـ ط 2.

7ـ نفس المصدر السابق.

ـ(190)ـ

وكان أبو بكر ينفرد برأيه أحياناً ولا يلتفت إلى آراء الصحابة، فانفرد بقتال مانعي الزكاة، ولم يلتفت إلى رأي عمر بن الخطاب وبعض الصحابة في عزل خالد بن الوليد بعد قتله لمالك بن نويرة(1).

وكان عمر بن الخطاب كثير الاستشارة وكان يستشير مختلف الطبقات من الصحابة وغيرهم، فكان يستشير كبار الصحابة الذين استشارهم أبو بكر(2).

(وكان إذا نزل به الأمر المفصل دعا الفتيات فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم)(3).

وكان يستشير حتى النساء خصوصاً ابنته حفصة(4).

وفي مختلف الغزوات كان يستشير أهل الخبرة العسكرية وخصوصاً علي بن أبي طالب عليه السلام فاستشاره في الخروج بنفسه إلى غزو الروم، فأشار عليّ عليه السلام بالبقاء في المدينة وأن يرسل قائداً شجاعاً بدلاً عنه وقال:(فان أظهرك الله فذاك ما تحب، وان تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين)(5).

وفي غزوة نهاوند أشار عليه بالبقاء في المدينة وإبقاء أهل الشام واليمن في بلدانهم خوفاً من هجوم الروم والحبشة عليهم من الخلف، وان يستعين بثلث أهل البصرة وثلث أهل الكوفة، فأخذ عمر برأي علىّ ونفذّ ما أشار عليه(6).

وكان يستشير علياً عليه السلام في شؤون القضاء، فاستشاره في عقوبة شارب الخمر فقال:(أرى أن تجلده ثمانين، فانه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى) فجلد في الخمر ثمانين(7).

___________________________

1ـ تاريخ اليعقوبي 2: 131ـ 132.

2ـ كنز العمال 5: 627.

3ـ السنن الكبرى 10: 113.

4ـ تاريخ عمر بن الخطاب، ص 101، ابن الجوزي، دمشق، ط 2.

5ـ نهج البلاغة 192، تحقيق صبحي الصالح، تاريخ الطبري 2: 449.

6ـ المنتظم 4: 273، ابن الجوزي، دار الكتب العلمية 1412، ط 1.

7ـ تاريخ المدينة المنورة، 2: 732، ابن شبه النميري، مكة المكرمة، 1399 هـ.

ـ(191)ـ

واستشار الصحابة في امرأة دعاها عمر لما بلغه عنها أمر مريب فارتاعت وسقط جنينها فقال الصحابة: ما نرى عليك شيئاً فقال عليّ عليه السلام:(أما المأثم فأرجوا أن يكون محطوطاً عنك وأرى عليك الدية)(1).

وذكر الطبري عدة روايات استعان بها عمر بعليّ في شؤون القضاء وكان عليّ يتدخل ابتداءً دون استشارة ليغير الحكم الذي حكم به عمر ويمضي عمر ما حكم به عليّ(2).

واستشار عمر الصحابة في ما يتعلق بأسلوب تداول الثروة وكان يختار رأي عليّ من بين الآراء، فاستشارهم في حقه في بيت المال فقال الصحابة:(القول قول ابن أبي طالب)(3).

وشاور في سواد الكوفة فأشار عليه عليّ أن يقرّ الأراضي في أيدي أصحابها لتكون للمسلمين في هذا العصر والعصور التي تليه فقال عمر:(وفقك الله هذا الرأي)(4).

وحينما أراد كتابة التاريخ استشار الصحابة فقدموا وأخروا، ولكنه ترك أقوالهم وأخذ برأيّ عليّ من أن يكتب من يوم الهجرة إلى المدينة(5).

واختار في أغلب استشاراته رأي عليّ لأنه الأعلم بالكتاب والسنة كما هو الظاهر من الروايات المستفيضة عن رسول الله في كتب الفريقين، ومع كثرة استشارة عمر إلاّ انه انفرد في بعض القرارات والمواقف برأيه ولم يلتفت إلى آراء الصحابة وعلى سبيل المثال أنه أبقى رؤوس الصحابة في المدينة ولم يسمح لهم بالخروج منها إلى باقي الأمصار أو الاشتراك في الغزوات وقال:(ها أني ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في

___________________________

1ـ اعلام الموقعين 1: 215، ابن قيم الجوزية، دار الجيل، ببيروت.

2 ـ ذخائر العقبى 81 ـ 82.

3 ـ تاريخ الطبري 2: 453، المنتظم 4: 197.

4 ـ تاريخ اليعقوبي 2: 151 ـ 152.

5ـ تاريخ المدينة المنورة 2: 758، الكامل في التاريخ، 2: 526.

ـ(192)ـ

الناس...)(1).

وفي عهد عثمان بن عفان كانت الشورى قائمة في أغلب شؤون الدولة، ففي القضاء كان إذا جاءه الخصمان(قال لأحدهما اذهب ادع علياً، وقال للآخر: اذهب فادع طلحة الزبير ونفراً من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم... فان قالوا ما يوافق رأيه أمضاه وإلاّ نظر فيه بعد...)(2).

وكان علي عليه السلام يتدخل أحياناً لتغيير الحكم الذي أصدره عثمان ويشير عليه بالحكم الأصوب فيأخذ برأيه(3).

واستشار عثمان الصحابة في جمع القرآن على قراءة واحدة بعد اختلاف القراءات، فأخذ برأي عليّ ولم يأخذ بآراء بعض الصحابة(4).

وحينما ثار أهل الكوفة على واليه عليها جمع أمراء الجيش وبعض الولاة فاستشارهم فأشاروا عليه بان يشغلهم بالجهاد ففعل(5).

وحينما توسع نطاق المعارضة واجتمع المعارضون من مختلف الأمصار وتوجهوا إلى المدينة فاستشار علياً، فأشار عليه بإصلاح بعض الأوضاع وتغيير بعض الولاة، فتقبل عثمان ما أشار به عليه(6).

ولكن عثمان ـ مع كثرة استشارته ـ كان ينفرد برأيه في كثير من الأحيان ولم يلتفت إلى رأي أحد، فلم يلتفت إلى آراء الصحابة وخصوصاً عليّ عليه السلام في عزل مروان أو التحديد من صلاحياته، وقد كلمه عليّ وبعض الصحابة عدّة مرّات في ذلك فلم يستجب لهم(7).

___________________________

1ـ شرح نهج البلاغة 20: 20.

2ـ السنن الكبرى 10: 112.

3ـ الموطأ 2: 825، مالك بن أنس.

4ـ الكامل في التاريخ 3: 112.

5ـ البداية والنهاية 7: 167.

6ـ البداية والنهاية 7: 171.

7ـ حوادث سنة 35 هـ من تاريخ الطبري، الكامل في التاريخ، البداية والنهاية.

ـ(193)ـ

وفي عهد عليّ عليه السلام كانت الشورى قائمة، ففي بداية البيعة أشار عليه المغيرة بن شعبة بإبقاء معاوية على الشام، ولكنه لم يستجب لـه(1).

لان من أسباب الثورة على عثمان هو تولية معاوية على الشام فإبقائه خلافاً لرأي الأغلبية من الأُمة وخلافاً لمطاليبهم، وأشار عليه بعض أصحابه بتفضيل الأشراف في العطاء وتقديمهم على غيرهم فرفض الالتزام بتلك المشورة(2) لأنه يرى ان التوزيع يجب أن يكون متساوياً كما كان في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان يستشير في تعيين العمال والأمراء وقادة الجيش، واستشار أصحابه في التوجه إلى الشام فأجابه الاشتر:(يا أمير المؤمنين إنّما لنا أن نقول قبل أن تقول فإذا عزمت فلم نقل، فلو سرت بنا إلى الشام بهذا الحدّ والجدّ لم يلقوك بمثله...)(3).

وحينما بعث جرير إلى معاوية وأبطأ عليه أشار البعض عليه بالمقام بالكوفة، وأشار البعض الآخر عليه بالتوجه إلى الشام، ولكنه وضع لهم حداً وسطاً وقال:(ان استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه، ولكني قد وقت لـه وقتاً لا يقيم بعده إلاّ أن يكون مخدوعاً أو عاصياً، ولا أكره لكم الأعداء)(4).

ومن المعروف والمشهور عنه انه كان لا يستشير في أمور القضاء، فلم يحدثنا التاريخ انه استشار أحداً في هذا المجال وكان عليه السلام حينما يستشير قد يأخذ بآراء البعض قد ينفرد برأيه إن كان هو الأصلح، وكان رأيه في الشورى يظهر من قولـه لعبد الله بن عباس:(لك أن تشير عليّ وأرى فإذا عصيتك فأطعني)(5).

___________________________

1ـ تاريخ اليعقوبي 2: 180.

2ـ شرح نهج البلاغة 2: 197.

3ـ الإمامة والسياسة 1: 89.

4ـ الإمامة والسياسة 1: 89.

5ـ نهج البلاغة 531.

ـ(194)ـ

الشورى في عهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية:

طبقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبدأ الشورى في كل مجالات الحياة وكانت الشورى هي الحاكمة على أغلب مقررات القيادة العليا أو رئاسة الجمهورية وكان للشعب الدور الأكبر في المشاركة في أغلبها ففي بداية الانتصار شارك الشعب في تحديد نوعية النظام الذي يريده في انتخابات مرّة اختار من خلالها النظام الإسلامي بأكثر من 99 % من الأصوات.

واشترك الشعب في انتخابات رئاسة الجمهورية وفي اختيار أعضاء مجلس الشورى، وفي تحديد أعضاء مجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، وللتأكيد على الشورى أوردها الدستور في اليمين الذي يقسم به رئيس الجمهورية بأن يحترز من الاستبداد كما جاء في المادة 121، ونصت المادة السادسة والسبعون على ان: لمجلس الشورى حق التحقيق والفحص في كل شأن من شؤون البلاد، والمادة السابعة والسبعون نصت على وجوب مصادقة مجلس الشورى على المواثيق والمقاولات والمعاهدات والاتفاقات الدولية، وفي الواقع العملي كان الإمام الخميني كثير الاستشارة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكذلك الإمام الخامنئي(حفظه الله) ورئيس الجمهورية، وكانت الشورى هي الحاكمة على مواقفهم المتنوعة فلم ينفردوا بالرأي إلاّ في المجالات الضرورية وكان انفرادهم محددًا جدّاً، والشورى لها امتداد في كل بقعة جغرافية في إيران، فهنالك شورى في النواحي والأقضية والمحافظات على هيئة مجالس إضافة إلى مجلس الشورى الوطني الذي يضم في صفوفه أعضاءاً من مختلف الأديان والمذاهب،الجلسات التي يعقدها تكون علنية وتبث من أجهزة الأعلام المختلفة، وإضافة إلى كل ذلك ان مكاتب القائد أو رئيس الجمهورية تستقبل اقتراحات وآراء المواطنين مباشرة أو عبر الرسائل أو عن طريق أعضاء مجلس الشورى أو أئمة الجمعة.

ـ(195)ـ

فوائد الشورى:

أكدّ الإسلام على الشورى لما يترتب عليها من نتائج إيجابية تنعكس على سير الأحداث ومسيرة المسلمين التاريخية نحو إقرار مبادئ الإسلام وقيمه في واقع الحياة ليكون الدين كله لله، وقد وردت روايات عديدة في أهمية الشورى منها:

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:(ما خاب من استخار ولا ندم من استشار...)(1).

 وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(من أراد أمراً فشاور فيه امرءاً مسلماً وفقه الله لإنجاز أموره)(2).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا)(3).

وقال عليّ عليه السلام:

(كفى بالمشاورة ظهيراً.

نعم المظاهرة المشاورة.

من شاور الرجال شاركها في عقولها.

المشورة تجلب لك صواب غيرك.

شاوروا فالنجاح في المشاورة.

لا يتسغني العاقل عن المشاورة )(4).

وقال عمر بن الخطاب:(لا خير في أمر أبرم من غير شورى)(5).

وحدّد عليّ عليه السلام سبع خصال في الشورى فقال:

(في الشورى سبع خصال: استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة،

___________________________

1ـ مجمع الزوائد 8: 96.

2ـ كنز العمال 3: 409.

3ـ مستدرك الوسائل 2: 65.

4ـ تصنيف غرر الحكم 441.

5ـ تاريخ الأمم الإسلامية 2: 17 محمد الخضري.

ـ(196)ـ

وحرز من الملاقه، ونجاة من الندامة، وألفة القلوب وأتباع الأثر).

أولاً: فوائد الشورى للائمة:

1ـ توثيق العلاقة بين الحاكم والأُمة بمختلف طبقاتها بالوزراء والأمراء والقضاة والقادة العسكريين وباقي الأفراد، وتعميق العلاقة عامل من عوامل الطاعة للحاكم الإخلاص لـه وأداء الواجب عن قناعة.

2ـ تجعل الأفراد يشعرون بشخصيتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، وتشعرهم بأنهم أصحاب القرار، فلا يترددون في تنفيذه.

3ـ إبراز للكفاءات والقدرات وعامل مساعد على الإبداع والابتكار.

4ـ تجسيد الحرية في الرأي والقول.

5ـ تدريب الأُمة على الشجاعة في القول وفي مواجهة الأمور.

6ـ وهي مظهر من مظاهر الاهتمام بالأحداث والمواقف والقرارات، تتمرن عليه الأُمة.

7ـ أشعار الأُمة بالمسؤولية الشرعية اتجاه تطبيق الإسلام ورعاية المصلحة الإسلامية.

ثانياً : فوائد الشورى للحاكم الإسلامي:

1ـ زيادة ثقة الأُمة بالحاكم الذي يستشيرها مباشرة أو عن طريق ممثليها فتستجيب لأوامره ونواهيه بقناعة تامة وتندفع ذاتياً في التنفيذ.

2ـ التوصل إلى الرأي الأصوب الذي يحقق الأهداف بأسرع الأوقات وبأقل التكاليف.

___________________________

1ـ العقد الفريد للملك السعيد 43، النصيبي، مطبعة الوطن، القاهرة 1306 هـ.

ـ(197)ـ

3ـ توزيع المسؤولية بين الحاكم والأُمة والتخفيف من الجهد المبذول في جمع المعلومات ومعرفة الظروف وفي التخطيط واتخاذ القرار.

4ـ اطلاعه على درجة استعداد الأُمة للقيام بالمسؤولية والتكليف وعلى قدراتهم المتنوعة في شتى المجالات.

5ـ اطلاعه على أفكار الآخرين وتوجهاتهم من حيث الإخلاص ودرجة الولاء والاستعداد للطاعة، والفرز بين الأولياء والأعداء.

6ـ تحصين الحاكم من الانزلاق والانحراف وتقويمه ليستطيع أن يقوم بأداء المسؤولية على أفضل وجه وطبقاً للدستور الإسلامي.

7ـ التقليل من شأن الانتقادات الموجهة للحاكم بعد تعثر الأعمال المقررة من قبل الشورى.

8ـ سد الثغرات أمام الأعداء والمغرضين للنيل من سمعة الحاكم واتهامه بالاستبداد بالرأي وعدم احترام آراء الآخرين.

وجوب الشورى:

أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بالشورى، ويقول الأصوليون ان الأمر ظاهر في الوجوب ما لم توجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، ولا أريد أن أبحث في وجوب الشورى أو استحبابها على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لاستغنائه عنها، ولكن أنظر إلى الواقع العملي فان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاستشارة في مختلف الأمور باستثناء الأمور التي فيها نهي ثابت ورد في القرآن الكريم كالأحكام الشرعية وغيرها، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يأخذ برأي أصحابه أحيانا وينفرد برأيه أحياناً أخرى، وكان لا يستشير في الأمور الحساسة التي تحتاج إلى سرعة في الحسم واتخاذ القرار، وكان يستشير من أجل الاقتداء به من قبل ولاته وعماله أو من قبل

ـ(198)ـ

الحكّام المسلمين في كل زمان ومكان، والذي يهمنا في الموضوع هو ما يتعلق بالحاكم غير المعصوم هل تجب الشورى عليه؟ والصحيح هو وجوب الشورى، وقد دلت على ذلك الوجوب دلائل وشواهد عديدة، منها تأكيد القرآن الكريم على الشورى وتأكيد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عليها حتى في الأمور الشخصية بين فردين، والسيرة قائمة على الشورى سواء كانت سيرة نبوية أو سيرة الحكام المسلمين والأولوية تدل على وجوبها على غير المعصوم من الحكام، فالنووي(ت: 676 هـ) يقول:( واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أم كانت سنة في حقه... والصحيح عندهم وجوبها وهو المختار)(1).

وبما ان الحاكم غير المعصوم لا يستطيع بمفرده الوصول إلى الرأي الأصوب الموقف الأصوب في كثير من الأحيان فتجب عليه الشورى لتأمينه من الخطأ والانزلاق، إضافة إلى ما تقدّم من أحاديث حول فائدة الشورى كلها تدل على وجوبها على غير المعصوم، ووجوب الشورى على الحاكم الإسلامي محل اتفاق الفقهاء والعلماء من جميع المذاهب(2).

حتى جعلها ابن عطية(ت: 546 هـ) من أهم واجبات الحاكم:

(والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه)(3).

هل الشورى ملزمة للحاكم الإسلامي؟

بعد الاستشارة يتفحص الحاكم آراء أتباعه من أهل الرأي والعلم أو آراء الأُمة ثم

___________________________

1ـ شرح صحيح مسلم 4: 46، النووي.

2ـ المفيد، الطوسي، الطبرسي، ابن عطية، أبو بكر الجصاص، ابن تيمية، حسن البنا، المودودي، الشهيد الصدر.

3ـ المحرر الوجيز 3: 397.

ـ(199)ـ

يختار الرأي الأصوب منها ثم يعزم على ما يريد، ووقع الاختلاف بين الفقهاء هل نتائج الشورى ملزمة للحاكم بالأخذ بها أو ببعضها أم غير ملزمة، فالشيعة متفقون على عدم إلزامها، أما السنة فاختلفوا في إلزامها فذهب ابن عطية المالكي، والجصاص الحنفي، وابن تيمية الحنبلي، والقرطبي المالكي، وحسن البنا، ومحمد سعيد البوطي، إلى عدم لزومها، فالحاكم هو الذي يقرر الرأي النهائي سواء كان مطابقاً لأحد الآراء أو مطابقاً لرأيه(1).

وذهب بعض المتأخرين إلى ان الشورى ملزمة ويجب على الحاكم الإسلامي الالتزام بنتائـج الشورى، وهي آراء محمود شلتوت وعبد الكريم زيدان، ومحمد عبده، واحمد مصطفى المراغي(2).

وعدم الإلزام دلت عليه السيرة النبوية وسيرة الإمام عليّ عليه السلام وسيرة الخلفاء الراشدين كما تقدّم فكانوا يستشيرون ثم يتخذون الموقف الحاسم، المطابق لأحد الآراء أو المطابق لرأيهم فقط، والعقل يحكم بذلك فالحاكم الإسلامي هو الذي يحسم الموقف وان لم يتقيّد برأي من الآراء ان وجد المصلحة كامنة في رأيه، لان الشورى قد تؤدي أحياناً إلى الفوضى والاضطراب وانفلات الأمور وخصوصاً ان التزام الحاكم برأي البعض دون البعض فالحسم موكول إليه في النهاية.

وفي عصرنا الحاضر ومن خلال التجربة العملية للجمهورية الإسلامية في إيران الذي وضع دستورها عدد من كبار الفقهاء والمفكرين وأصحاب الاختصاص نجد ان الحاكم الأعلى وهو الإمام الخميني v أو الخامنئي هو الذي يحسم الأمر النهائي وان كان مخالفاً أحياناً لرأي الأكثرية ان وجد المصلحة في ذلك.

___________________________

1ـ المحرر الوجيز 3: 399، أحكام القرآن 2: 41، السياسة الشرعية 170، الجامع لأحكام القرآن 4: 254، مواقف في الدعوة 156، فقه السيرة 324.

2ـ الإسلام عقيدة وشريعة 462، الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية 47، تفسير المنار 4: 199، تفسير المراغي 4: 113.

ـ(200)ـ

مجالات الشورى

الشورى متعلقة بجميع المجالات التي لم يرد فيه نص ثابت واضح الدلالة من كتاب أو سنة أو إجماع وخصوصاً الأحكام الشرعية، وبتعبير آخر ان مجالات الشورى تتعلق بالتطبيقات العملية فقط، في الحرب والسلم وفي العمليات الاقتصادية في إصدار القوانين التنظيمية للدولة، وفي تعيين الولاة والقضاة والموظفين، وفي مجالات التعليم والمؤسسات التربوية والإعلامية، وفي مراقبة سير الأعمال وفي اختيار الحاكم الإسلامي الجديد، وفي اختيار الأمناء على الدستور وعلى التطبيق.

طريقة الشورى ونموذج تجربة الجمهورية الإسلامية

لم يحدّد القرآن الكريم والسنة النبوية طريقة خاصة للشورى، فلم يكن في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم مجلس خاص للشورى متكون من أشخاص معينين، وإنّما كان يستشير رؤوس المهاجرين والأنصار أحياناً وعموم الصحابة أحياناً آخر لبساطة الحياة السياسية الاجتماعية حيث كانت العلاقات يسيرة النشوء، فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلم متواجد بين أصحابه في المسجد أو في منزلـه ومنازلهم وكذلك الحال في العقد الأول من القرن الأول الهجري، ولهذا فان الإسلام ترك للمسلمين اختيار الطريقة المناسبة لظروفهم الملائمة للعصر الذي يعيشون فيه، لان الإسلام صالح لكل زمان ومكان،الهدف هو النتيجة بأي طريقة مشروعة، والطريقة المعمول بها في الجمهورية الإسلامية في إيران تصلح أن تكون نموذجاً للشورى في جميع الحكومات الإسلامية، حيث تبدأ بمجلس شورى مصغرة في كل محلة وفي كل ناحية وقضاء ومحافظة، ثم المجلس الوطني الذي يضم أعضاءً من جميع المدن كل مدينة يمثلها عدد من الأعضاء حسب حجم نفوسها، وهو يضم أعضاءاً من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات ويضم بعض النساء من بين أعضائه، ولهم جلسات

ـ(201)ـ

مستمرة ومنظمة ومناقشات لمختلف شؤون البلاد، والأعضاء منتخبون من قبل الشعب وبحرية تامة، وهو المسؤول عن جميع ما يجري في البلاد وتصدّق جميع المشاريع السياسية والاقتصادية من قبله، وللحاكم الإسلامي الأعلى مجموعة من المستشارين وكذلك الحال في رئاسة الجمهورية حيث لـه مستشارين في كل شؤون الحياة ومن مختلف الاختصاصات، وهنالك مجلس الخبراء في شؤون الدستور وفي شؤون تحديد الحاكم ومدى صلاحيته للاستمرار في حاكميته، وهنالك مجلس جديد وهو مجلس تشخيص المصلحة الإسلامية، وجميع هذه المجالس تتم فيها الشورى بأروع صورها وبحرية تامة، وجميع الأعضاء منتخبون من قبل الشعب، واستشارة الشعب يتم عن طريق صناديق الاقتراح حيث يبدي الفرد رأيه بحرية تامة دون ضغـط أو إكراه، حتى صدق القول:(ان حكومة الجمهورية الإسلامية هي حكومة الشعب) فالشعب هو الذي يختار الحاكم الأعلى ورئيس الجمهورية وباقي أعضاء المجالس القائمة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة وقد أثرت طريقة الشورى واشتراك الشعب في مختلف المجالات، في سير الأحداث والمواقف، فكان الشعب يقوم بالتكاليف والأعمال والنشاطات بصورة تلقائية، ويستجيب لأوامر المسؤولين استجابة ذاتية مصحوبة بالرضا الارتياح لأنه يشعر بأنه شارك في قرار الجمهورية الإسلامية، ويشعر بكرامته وشخصيته واستقلاله، فكان يسارع في إنجاح جميع المشاريع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، ولا تتكلف الدولة عناء الحث والمتابعة المراقبة إضافة إلى تعميق الثقة بين الشعب والمسؤولين ووصولها إلى أوج درجاتها، وكان الشعب ينظر إلى الأوامر والتوجيهات والقوانين نظرة مقدسة، ويشعر بحرمة المخالفة ووجوب التطبيق، ويجعل الله تعالى هو الرقيب عليه.

ـ(202)ـ

شروط المستشارين

في تحديد شروط المستشارين ومواصفاتـهم قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام:(شاور في أمورك ما يقتضي الدين من فيه خمس خصال: عقل، وعلم، وتجربة، ونصح وتقوى، فان تجد فاستعمل الخمسة وأعزم وتوكل على الله فان ذلك يؤديك إلى الصواب)(1).

فهذه أهم الشروط والمواصفات ويمكن تقسيمها إلى محاور من خلال أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وآراء غيره.

1ـ التقوى:

قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: استشيروا في أمركم الذين يخشون ربهم)(2).

فالذي يخشى الله ويكون ملازماً للتقوى فانه يبدي رأيه الواضح الصريح ويقدم المصلحة الإسلامية على مصلحته الشخصية.

2ـ أن يكون عاقلاً ناصحاً:

قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فان في ذلك العطب)(3).

فالمستشار إذا كان ناصحاً وفي أعلى درجات الوعي فانه لا يشير إلاّ بالرأي الأصلح والأصوب.

___________________________

1ـ مستدرك الوسائل 2: 65.

2ـ المحاسن ص 600 ـ 601.

3ـ المحاسن ص 600 ـ 601.

ـ(203)ـ

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(الحزم مشاورة ذويّ الرأي وأتباعهم)(1).

3 ـ العلم والعدالة والكفاءة:

في مجال اختيار الحاكم الإسلامي يقوم المجلس المخصص لذلك بالتشاور بين أعضائه للوصول إلى تشخيص الحاكم واختياره، ويجب ان تتوفر فيهم الشروط الثلاثة وهي العدالة والعلم والكفاءة، يقول القراء:(أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاث شروط: أحدهما العدالة والثاني العلم، الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة، والثالث: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح)(2).

 4 ـ موضع ثقة الأُمة:

يـرى المودودي وجوب حصول المستشارين على ثقة الأُمة فيقول:(... أن يشاور في أمـر الـمسلمين من يكون حائزاً لثقة عامتهم، ويكون الناس على اطمئنان من إخلاصه)(3).

5 ـ الأمانة:

يجب أن يتصف المستشارون بالأمانة والنزاهة حتى تكون القرارات والآراء السابقة لها موضع اطمئنان، قال ابن قدامة:(ويشاور أهل العلم والأمانة)(4).

وقال الكاشاني:(... ان يكونوا ممن يثق بدينه وأمانته)(5).

___________________________

1ـ المحاسن ص 600ـ 601.

2ـ الأحكام السلطانية ص 19.

3ـ تدوين الدستور الإسلامي ص 58.

4ـ المغني 10: 139.

5ـ بدائع الصنائع 7: 12.

ـ(204)ـ

كلمة أخيرة:

قد تبين من خلال ما تقدم أهمية اشتراك الأُمة في الشورى لكي تتعمق العلاقة بين الحاكم ورعيته ويتوصلوا إلى الرأي الأصوب والموقف الأصوب المنسجم مع المصلحة الإسلامية الكبرى، فالأحرى بالمجتمعين في مؤتمرات الوحدة والتقريب أن يتشاوروا في كل أمر يتعلق بالوحدة والتقريب ويضعوا برامج ومناهج عمل مشتركة ويشكلوا لجان متخصصة تعمل على مدار السنة، وتتابع فيها حركة الوحدة والتقريب، وتتجاوز المعوقات الثغرات ووضع خطط جديدة تساعد على الوصول إلى الأهداف الكبرى بتظافر الجهود والإمكانيات، ثم يكون المؤتمر الجديد مناسبة جديدة لتقييم مسيرة الوحدة التقريب، ولا يقتصر على إلقاء الخطب وقراءة البيان الختامي، فيجب أن تكون النشاطات الأعمال بمستوى الطموح، وبمستوى التحديات التي تتعرض لها امتنا الإسلامية وخصوصاً ما تقوم به الدول الاستكبارية من مؤامرات لإبقاء حالة الفرقة والتمزّق وما يقوم به أذنابهم من إثارة الفرقة تحت لافتات إسلامية أو مذهبية، فلنتشاور معاً ولتوسع عدد المتشاورين لكي نصل إلى وحدة الأُمة الإسلامية بأسرع وقت وبأقل التكاليف.