القدس (مؤتمر التقريب)

القدس (مؤتمر التقريب)

القدس (مؤتمر التقريب)

 

بقلم: السيد علي فضل الله

في البدايةِ، أتوجه بالتحية والشكر للأمين العام لمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، سماحة آية الله الشيخ محسن الأراكي، وإلى كل الأخوة في المجمع وكل المشاركين ومن كان له دور في انعقاد هذا المؤتمر حول القدس، التي تمثل قضيتها القضية المركزية للعالم العربي والإسلامي، والتي من الواجب على الجميع، أدياناً ومذاهب وتيارات فكرية وسياسية، أن يمارس دوره في تحرير القدس وأن تتعاون معاً في هذا السبيل..

عندما تثار هذه القضية يطرح دائماً السؤال التالي: ما لنا وللقدس! فالقدس هي قضية الفلسطينيين، ونحن، كأقطار عربية وإسلامية، لدى كلاً منها الكثير من القضايا والهموم التي تشغلنا عنها، حيث يعاني كل قطر أزمات اقتصادية واجتماعية، وفساداً، وصراعات سياسية بين مكوناته، وتهديدات التطرف والإرهاب، ومشكلات مع جواره.. فلماذا نشغل بالنا بقضيّة جديدة؟

نحن معنيون بالقدس وبالتالي فلسطين، لأنَّنا معنيون بأن نبقي إنسانيتنا حية، فلا يمكن لنا أن نعيش إنسانيتنا من دون أن نهتم بمصير شعب يُعمل على اقتلاعه من أرضه، ولا يملك قراره وحريته في وطنه..

إننا ننتقص من إنسانيتنا، عندما نرى شعباً يُظلم، وأعراضاً تنتهك، ومقدّسات يُساء إليها، ولا نحرك يداً أو لساناً، أو نعبّر عن مشاعر الغضب ضد المحتل، أو نبدي مشاعر التعاطف مع هذا الشعب الصابر، ولا سيما إذا كان هذا المحتل ينفذ دوراً استعمارياً يخدم مصالح حماته الجيوسياسية والاقتصادية، ويحول دون أيّ تقدمٍ للشعوب العربية والمسلمة..

إنا معنيون بالقدس لأننا معنيون بالعدالة التي لا تبنى الحياة إلا بها، وهي هدف الرسالات السماوية، فلا يمكن أن تكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً وتظلم أو ترضى بظلم شعب أو تميز بين ظلم وظلم، فالظلم ملّة واحدة يتقوّى بعضه ببعض.

إنّنا كعرب ومسلمين معنيون بالقدس، لأن القدس أرض عربية وإسلامية.. صحيح أننا لبنانيون أو أردنيون أو مصريون أو أتراك أو إيرانيون، ولكننا جزء من هذا العالم العربي الإسلامي وقضاياه والذي يراد إنهاكه وتفتيته ليدور في الفلك الصهيوني الاستعماري.

إننا معنيون بالقدس، لأنَّ القدس تربطنا بتاريخ نحن جزء منه؛ سواء أكنا مسلمين أو مسيحيين أو سنة أو شيعة، فالقدس مدينة الإيمان، عاش فيها أبو الأنبياء إبراهيم A، وهي قبلة المسلمين الأولى التي وجَّهوا وجهتهم نحوها، ومسرى نبيهم، ومنطلق معراجهم، وفيها المسجد الأقصى... وقد رسم القرآن علاقة إيمانية قوية بين مكة والقدس عندما قال: Pسُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرO..

وهي للنصارى موطن السيد المسيح A، ومنطلق مشروعه لخلاص البشر، وفيها المكان الذي شهد بعثة المسيح A ووفاته، وإليها يحج الملايين من كل أنحاء العالم يزورون مهد السيد المسيح، وهي حسب المصادر اليهودية المكان الأكثر قداسة لليهود، فيها حائط المبكى وفيها همَّ النبي إبراهيم A بذبح ولده لولا تدخل الله وفداه بذبح عظيم، وفيها محطة من تاريخهم...

إنَّنا معنيون بالقدس، لأنها تمثل هذه الصورة النموذج، هي الصورة الجامعة للأديان.. ونحن لا نرى الأديان إلا كذلك.. فالأديان جاءت لتجمع الناس، لتوحدهم.. وهذه الصورة كانت دائماً في دائرة الاستهداف، وبعدما كانت القدس في عهد المسلمين مدينة إيمانية جامعة بين أهل الكتاب جميعاً، سعى الفرنجة منذ احتلالها في العام 1099م إلى تغيير معلمها الجامع، عندما حولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة، وحولوا قبة الصخرة إلى إسطبل للخيول.. وهذا ما عمل العدو الصهيوني عليه منذ احتلاله للقدس وإعلانها عاصمة لكيانه العدواني.. فهو عمل لتغيير ديموغرافيتها، وهدم الكثير من معالمها الإسلامية والمسيحية، بحيث لم يبق من القدس التاريخية سوى ميل مربع يوجد فيه المسجد الأقصى وقبّة الصخرة ومسجد عمر وبعض المساجد وكنيسة المهد وكنائس أخرى، ولا سيما القبر المقدس (قبر المسيح) وفقاً للمصادر المسيحية..

وإسرائيل في كل ذلك تنكَّرت لقرارات الأمم المتحدة القاضية بنزع السيطرة الصهيونية عن القدس، ورفض التهويد وتغيير المعالم التاريخية، وهي بعد استيطان القدس الغربية بأكملها، استقدمت عشرات الآلاف من اليهود للاستيطان بالقوة في القدس الشرقية، بحيث أن اليهود والذين كانوا يملكون واحداً في المئة من القدس الشرقية، هم الآن يملكون 75% منها..

القدس الآن تذوب في بحر الاحتلال، ويساهم في ذلك عاملان؛ الأول: التخاذل العربي والإسلامي، وعدم تنفيذ كل مقررات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي الخاصة بحفظ القدس، وعدم وضع استراتيجية لتحرير المدينة ومجابهة خطر التوسع، بل على العكس، بدأنا نشهد التطبيع مع هذا العدو والسعي لاستبدال القدس بغيرها..

والأمر الثاني: الدعم الذي يحظى به الكيان الصهيوني من والغرب والشرق، والذي أمَّن التغطية لكل جرائمه بحق القدس والفلسطينيين، إلى حد اتخاذ الكونغرس بمجلسي الشيوخ والنواب قراراً في العام 1995 بنقل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس..

ثالثاً: دخول العالم العربي وحتى الفلسطينيين في نزاعات شتت قدراتهم وغيرت وجهتهم بحيث لم تعد فلسطين وجهتهم الحقيقية بل انتقلت لمواجهة هذا البلد العربي أو الإسلامي أو إلى هذا المذهب أو ذاك.. وهذا الدين أو ذاك..

رابعاً: النفوذ المتزايد للاتجاهات الإنجيلية المتصهينة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقف إلى جانب إسرائيل، انطلاقاً من إيمانها بالعودة الثانية للمسيح، والتي لن تتم ــ في نظرهم ــ إلا بعد توافر شروط هذه العودة، وهي تتمثل بثلاثة شروط:

الأول: قيام صهيون إسرائيل، أي إقامة الكيان الصهيوني. وقد اعتبر المسيحيون المتصهينون إقامة الكيان الصهيوني أعظم حدث في التاريخ، لأنه جاء مصدقاً للنبوءة الدينية التي تقول إن صهيون يجب أن تعود إلى اليهود حتى يعود المسيح، الذي لا يظهر إلا بين اليهود، ولذلك لا بد من المساعدة على تجمعهم كشرط للظهور الثاني للمسيح.

الثاني: تهويد مدينة القدس، إذ يعتقد الإنجيليون أنها المدينة التي سيمارس المسيح فيها حكم العالم بعد قدومه الثاني المنتظر، ولذلك تضغط الكنائس الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة من أجل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.

الثالث: إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى..

ويؤمن أتباع الكنائس الصهيونية المسيحية أنه بعد اكتمال هذه الشروط، ستقع معركة هرمجيدون المدمرة، وسيظهر السيد المسيح ليحكم العالم من القدس مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة.

إنَّ هذه المشتركات بين الحركة الصهيونية والاتجاهات الإنجيلية مدعومة بسياسات أميركية، وكان آخرها إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل باتخاذ القدس عاصمة لها، تعطي لإسرائيل الحافز، ليس لإقامة دولة يهودية داخل حدود فلسطين، إنما في كل الأرض الموعودة من الفرات إلى النيل، وبالتالي على العرب والمسلمين الخروج من هذه الأراضي بذريعة أن الله أعطاها لليهود..

ونحن مقابل هذا التوجّه العنصري الذي يتخذ من الدين اليهودي ذريعة للعدوان، فيما نحن نرى في اليهودية التي جاء بها النبي موسى A صورة عن كل الديانات السماوية في الدعوة إلى الرحمة والمحبة، ورفض العنصرية والتي تقوم على حساب الأخوة الإيمانية بين الأديان السماوية، التي أشار إليها القرآن الكريم: Pقُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَO.. وعلى حساب كلّ تقارب إيماني حرصت الأديان السماوية على تأكيده في كل مناسبة، وهو ما كرسه رسول الله o في عهده مع النصارى، حيث ألزم المسلمين إيمانياً بحفظهم وحماية مقدساتهم وكنائسهم وحريتم الدينية...

والذي جاء تعبيراً عن قوله سبحانه لرسوله: Pقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِO..

إن هذه المنطلقات هي التي ينبغي أن تحكمنا في العمل لإنقاذ القدس وتخليصها من براثن التهويد الذي لا يستهدف معالمها الإسلامية والمسيحية فحسب، بل يستهدف أيضاً القضاء حتى على هذا الوجود الإسلامي ــ المسيحي ووحدته، حيث لا يمكن مواجهة هذا المشروع الصهيوني التدميري إلا بهذا التعاون بين الإسلام والمسيحية ومعهم ممن يعيدون لليهودية أصالتها ويبعدونها عن العنصرية...

إنَّ المخطط الصّهيونيّ لتدمير المسجد الأقصى وبناء هيكل يهودي، لم يعد سراً من أسرار الحركة الصهيونية، وكذلك مشاريع هدم الصروح الدينية المسيحية، بما فيها كنيسة القيامة، التي تتواصل الضغوط لإخضاعها، من دون جدوى...

إنَّ إسرائيل ليست خطراً على القدس فحسب، بل هي خطر على المنطقة ووحدتها، إنها لا تتوقف عن استهداف العيش الوطني الواحد بين المسلمين والمسيحيين، لأنه يتناقض مع المشروع الصهيوني العنصري والتهويدي.. وهي تعمل على أن لا تكون هناك تجربة ناجحة في قدرة الأديان على التعايش في ما بينها..

وبالتالي، فإنَّ القدس تبقى عنوان توحيد للمسلمين من جميع المذاهب، وللمسلمين والمسيحيين المستهدفين معاً في وجودهم ومصيرهم وإيمانهم، الأمر الذي لا بد من أن يشكّل حافزاً لهم، ليزيدوا من التضامن والتعاون في مواجهة هذه القوة الهدامة التي لا تكل عن العمل على تكريس الانقسامات بين العرب والمسلمين واللعب على وتر الطوائف والأقليات لتفتيت هذه المنطقة..

إننا، وانطلاقاً من هذا اللقاء، وبعد القرار الأميركي بإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بالسيطرة على القدس، والتوجه لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، لا بد من تشكيل هيئة إسلامية مسيحية مشتركة تضع مخطط عمل يستهدف أولاً: استنفار الوحدة الإسلامية المسيحية لحفظ القدس وصونها..

ثانياً: التحرك لحشد مسلمي العالم ومسيحييه إلى جانب الحق العربي في القدس الشريف.

ثالثاً: شرح الأبعاد الدينية للقدس لدى المسلمين والمسيحيين في المحافل والمنظّمات والهيئات الدولية المختلفة، من خلال التوجه إلى الرأي العام المسيحي، والدفع باتجاه الفصل بين الكنيسة المسيحية والكنائس الأخرى المتصهينة.

إنَّ علينا، كمسلمين ومسيحيين، أن ننطلق من قيم الإسلام وقيم المسيحية التي تدعو إلى العدل ورفع الظلم والاحتلال، وإلى عدم استغلال الدين وقيمه لظلم الناس.. لنرفض الظلم الذي تتعرض له القدس، ومن خلالها كل فلسطين، فلا يمكن لمن ينتمي إلى هذه الأديان أن يقبل بأن يستولي شعب على أرض شعب آخر، مهما كانت الذرائع...

ويبقى السّؤال التاريخي الذي ينتصب أمامنا: إذا قبل العالم بسيطرة إسرائيل، وأصبح الاعتراف بها أمراً واقعاً، كما يتحدث الكثيرون في هذه الأيام، ماذا سوف يكون موقفنا؟ هل نبقى وحدنا الذين لا نعترف بها؟

نعَم، نبقى وحدَنا، لأنْ لا شرعيةَ للظلمِ والاحتلالِ.. واعترافُ الآخرينَ لا يغيرُ منْ واقعِ الظلمِ شيئاً، وهذا الكيانُ، إنْ لم تقفْ قوةُ العدالة في وجهِه، فسوفَ يواصلُ ظلمَه في كلِ الاتجاهاتِ... فالمشروعُ الصهيونيُ، ومنْ يقف وراءه، لم يستهدف فلسطين ليعيش ضمن حدودها، بل ليتوسّع ويمتدّ ويخدم استراتيجيات غربية لا تزال تراودها أحلام قديمة في الاستيلاء على ثروات المنطقة وإضعافها بمشاريع التقسيم والتفتيت، وذلك للحؤول دون نهوضها سياسياً واقتصادياً وتحقيق أمانيها في الحرية والعدالة...

إننا سنبقى نثق بالشعب الفلسطيني بقدرته على تجاوز محنته ومعه الشعوب والدول العربية والإسلامية التي من واجبها أن تدعم هذا الشعب لا لحسابه فحسب، بل لحسابها، لأن السماح لهذا الكيان بتثبيت احتلاله وعبثه بالمقدسات سيمهد الطريق للعبث في الداخل العربي والإسلامي.. فهو كيان لم يحدد بعد حدوده تاركاً ذلك لقوة جيشه..

إن الطريق لإعادة القدس إلى أحضان هذه الأمة قد يكون له أكثر من سبيل، ولكن مع الأسف هذا الكيان لا يفهم أساساً إلا لغة واحدة لغة القوة والضغط.. نحن لسنا في مشكلة مع اليهودية، مشكلتنا مع الاحتلال واستبدال شعب بشعب وهذا ما لا نريد انطلاقاً من إنسانيتنا ومن كل القيم الدينية والرسالات السماوية.