المسلمون في المجتمعات غير الإسلامية جدلية الهوية والانتماء

المسلمون في المجتمعات غير الإسلامية جدلية الهوية والانتماء

 

 

المسلمون في المجتمعات غير الإسلامية جدلية الهوية والانتماء

 

  زكي الميلاد

رئيس تحرير مجلة الكلمة- السعودية

 

ـ 1 ـ

يفترض أن رؤية المسلمين لأنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم, في المجتمعات غير الإسلامية التي ينتمون إليها, قد تغيرت وتجددت, بعد كل هذه التحولات والتطورات الواسعة والمتعاظمة التي حصلت, ومازالت تحصل في العالم, وعلى كافة الأصعدة, والتي تسارعت وتيرتها وتكثفت في ظل ثورة المعلومات وانفجار المعرفة, ومع انبعاث تيار العولمة الذي نبه الجماعات والمجتمعات إلى ذاتها, وأعاد إليها الوعي بذاتها ووجودها, وفتح عليها سؤال الهوية, والعلاقة مع الآخر, وجعلها تدرك أنها باتت أكثر اتصالاً وتشابكاً مع العالم, بكل ثقافاته وقومياته ولغاته وجغرافياته.

وكان من المهم أن يحدث مثل هذا التغير والتجدد, في النظرة إلى الذات عند هؤلاء المسلمين, ليكون باعثاً لحالة من الوعي واليقظة, وضرورة للبحث عن أفق جديد, لعله يساهم في تحريك وتطوير وتحسين وضعية هؤلاء المسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية.

والحديث عن هذا الموضوع في هذا الوقت, إما أنه يأتي كمؤشر لوجود تغير وتجدد على مستوى الواقع الموضوعي, بالشكل الذي يستدعي البحث والنظر في هذا الموضوع, وإما أنه يأتي في سياق البحث عن أفق جديد على مستوى النظر, يمكن أن يساهم في تطوير رؤية هذه المجتمعات لمستقبلياتها في عالم متغير ومتقلب.

ولاشك أن مثل هذا التغير في النظرة إلى الذات, نلمسه بقوة وبعمق عند المسلمين في بلاد القوقاز, فنظرة هؤلاء لأنفسهم اليوم تختلف بصورة جذرية وتامة, عن نظرتهم لأنفسهم في ظل وجود كيان الاتحاد السوفيتي المنهار, وفي ظل حاكمية الإيديولوجية الماركسية المتصدعة, وما حصل في منطقة الشيشان يظل شاهداً على هذه الحقيقة, في تغير النظرة إلى الذات, والبحث عن مستقبل مختلف.

وهو التغير نفسه الذي نلمسه عند دول ومجتمعات آسيا الوسطى الإسلامية المستقلة اليوم عن روسيا, والتي ضمت بالقوة من قبل إلى الإتحاد السوفيتي, وهي دول (كازاخستان وأوزبكستان وتركمنستان وقرغيزيا وطاجكستان), فظهور هذه الدول وعودة السيادة لها غير تركيبة الجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى, وجعل هذه الدول والمجتمعات تستعيد ذاكرتها التاريخية المجمدة, وإرثها الحضاري المنقطع, وهويتها الروحية والثقافية بالحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية.

ومع هذا التحول حصل أعظم جدل فكري وسياسي بين كافة النخب والجماعات هناك, وامتد هذا الجدل حول ما سمي بالعامل الإسلامي, إلى روسيا وما حولها, وهذا ما حاول شرحه المستشرق الروسي الدكتور الكسي مالا شينكو ـ مدير دائرة الدين والإيديولوجيا في قسم الدراسات الاجتماعية النظرية في معهد الاستشراق, التابع لأكاديمية العلوم الروسية ـ  في كتابه: (الإسلام.. الثابت الحضاري والمتغيرات السياسية) الصادر عام 1999م, وعن هذا الجدل في روسيا يقول: (بعد تفكك الإتحاد السوفيتي, تبدل الوضع السياسي في الدول التي كانت تشكله, فبدأت روسيا تعاني من مضاعفات اجتماعية وسياسية لم تشهدها من قبل, إذ في الوقت الذي بدأ فيه العامل الإسلامي بالتعاظم تدريجياً, إلى درجة بات يهدد فيها استقرار روسيا من الداخل (تتارستان, الشيشان, انغوشيا), أخذ الحديث يكثر حول تشكيل اتحاد للدول الإسلامية في آسيا الوسطى المتاخمة لروسيا, كما ضعف اهتمام السياسة الخارجية لروسيا بهذه الدول, وأخذت روسيا في الوضع الجديد بالتعامل مع المسلمين, وفق أبعاد ثلاثة:

البعد الأول: ويمثله المسلمون الذين يقطنون في روسيا الفيدرالية.

البعد الثاني: وتمثله جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق.

البعد الثالث: وتمثله البلدان الإسلامية في الشرقين الأوسط والأدنى, والمناطق الإسلامية البعيدة الأخرى.

وما نريد قوله: أن روسيا قد وجدت نفسها تمثل جزءاً من الهيكل الحضاري الإسلامي, ولم يكن بإمكانها رغم المحاولات الجادة, القضاء على ملامحه, وجعله يذوب في المحيط غير المسلم. ويشهد التاريخ أنه بالرغم من توافر ظروف اقتصادية متشابهة ضمن إطار النظام السياسي الواحد, إلا أن محاولات السلطات الروسية ومن بعدها السلطات السوفيتية, الرامية إلى إخضاع ومحو الثقافة الإسلامية, قد باءت بالفشل, وظل الإسلام هناك يمثل أساس الوعي, وصلب طريقة الحياة لدى السكان المسلمين في روسيا. وقد بدأ ذلك جلياً خلال مرحلة ما بعد البيريسترويكا, بمجرد القراءة العابرة لواقع المسلمين التتار والبشكيريين, الذين خضعوا أكثر من غيرهم لعمليات الضغط الخارجي هناك)([1]).

وعلى مستوى النظر, نلمس مثل هذا التغير في نظرة المسلمين إلى أنفسهم في بلاد البلقان, وذلك حين نقارب بين محاولتين فكريتين كانتا لهما أهمية وتأثيراً في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم, في زمنين مختلفين, زمن ينتمي إلى حقبة الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين, حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش, في المقالات التي نشرها آنذاك بمجلة جمعية العلماء في يوغسلافيا, إلى ما اسماه ب(الإعلان الإسلامي), في كتابه الذي حمل هذا العنوان, والصادر عام 1981م. وزمن ينتمي إلى بدايات القرن الحادي والعشرين, وإلى ما بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر, حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك,  إلى إعلان إسلامي آخر, أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين).

في الإعلان الأول, كان بيجوفيتش ناظراً إلى اندماج المسلمين هناك بالعالم الإسلامي, ورابطاً مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية, ونهضتهم بنهضة العالم الإسلامي, على قاعدة الاشتراك في الهوية.

وفي الإعلان الثاني كان تسيريتش, ناظراً إلى اندماج المسلمين هناك بمحيطهم الأوروبي, على قاعدة المواطنة والعقد الاجتماعي والسياسي. فقد جاء هذا النداء الثاني موجهاً باسم المسلمين الأوروبيين إلى الإتحاد الأوروبي, داعياً على عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة في إطار الاحتفاظ بالهوية, حيث تضمن كما يقول تسيريتش: أن المسلمين الأوروبيين ملتزمين بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل, ومبادئ التسامح, وقيم الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وبالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تصان حقوقه الضرورية الخمسة, وهي: النفس, والدين, والعقل, والمال, والعرض. ويأمل تسيريتش من هذا الإعلان, في أن يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي, بالإسلام والمؤسسات الإسلامية في أوروبا, وحمايتهم من جرائم التطهير العرقي, والإبادة الجماعية([2]).

تكشف هذه المفارقة, بين هذين الإعلانين عن جدلية الهوية والانتماء, وطبيعة التطور التراكمي في تجدد الفهم لهذه الجدلية, التي لها طبيعة الحضور الملح. بمعنى أن وضعيات المسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية, كان لابد لها أن تتطور مع مرور الوقت نحو الاقتراب والإلتفات لمسألة المواطنة, بوصفها إطاراً لتحسين أحوالهم العامة, ومدخلاً للمطالبة بحقهم في المشاركة السياسية, ومساواتهم مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات, وتأكيداً لرغبتهم في التفاهم والتعايش, مع مختلف مكونات التعدد والتنوع العرقي والقومي, اللغوي واللساني, الديني والمذهبي في مجتمعاتهم.

وعلى خلفية أن الهوية لا تتعارض أو تتصادم مع مفهوم المواطنة, وبالتالي فإن الهوية لا ينبغي أن تتحول إلى عامل يدفع نحو الانغلاق والانكفاء على الذات, أو الممانعة عن التفاعل والمشاركة السياسية وفي قضايا الشأن العام. كما لا ينبغي أن تتحول الهوية إلى عامل يدفع نحو القطيعة أو الصدام, أو العزلة بكافة صورها الشعورية والحسية, وهجران الآخرين تحت أي ذريعة كانت, إلا في ظل أسباب قاهرة من الصعب التحكم بها, ويقررها العقلاء. فحماية الهوية ليس بالعزلة أو الانغلاق, وكقانون عام لا يمكن أساساً حماية الهويات, مهما كانت طبيعتها وبنيتها ومكوناتها بالعزلة أو الانغلاق, لأن العزلة تؤدي إلى ضمور الهويات وتكلسها من الداخل, وقد تؤدي إلى تفتتها واضمحلالها إذا استمرت هذه العزلة لفترة طويلة, ويمكن أن تؤدي كذلك إلى ظهور انحرافات وانقلابات جوهرية فيها. وهذا بخلاف التواصل والانفتاح الرشيد الذي يتيح إلى الهويات, فرص النمو والانطلاق, وإمكانيات التجدد والنهوض, وهي الملامح والبواعث التي لا تتشكل ولا تظهر في ظل وضعيات العزلة والانغلاق, وهي الوضعيات التي تكون فيها الهويات, محكومة بذهنية الخوف والشك والتعلق بالماضي, والتشبث بالتراث.

ويفترض أن يشجع اقتراب المسلمين من مفهوم المواطنة, حكومات هذه الدول ومجتمعاتها غير المسلمة, في المزيد من التواصل والانفتاح على المسلمين, وفتح فرص المشاركة لهم, وتفهم حقوقهم ومطالبهم, لتعزيز الاندماج الوطني, وترسيخ تماسك النسيج المجتمعي, وتقوية هذا الحس الوطني عند المسلمين, وتشجيعهم على مواصلة التواصل والانفتاح, والمزيد من المشاركة.

ـ 2 ـ

من جانب آخر, تؤثر جدلية الهوية والانتماء, في شكل ونمط العلاقة بين المسلمين في المجتمعات غير الإسلامية, وبين العالم الإسلامي, حيث تعيد هذه الجدلية صياغة العلاقة بطريقة متوازنة تخدم مصلحة الطرفين, فمن جهة لا تحدث خللاً في ناحية انتماء هؤلاء المسلمين إلى مجتمعاتهم غير الإسلامية على أساس مفهوم المواطنة, ومن جهة أخرى لا تحدث خللاً في ناحية علاقة هؤلاء بالعالم الإسلامي من جهة الاشتراك في مفهوم الهوية.

فالهوية لا تأتي لكي تقتلع هؤلاء المسلمين عن الانتماء إلى مجتمعاتهم وأوطانهم, أو تمتص منهم هذا الشعور الرائع في الانتماء إلى الوطن, وتغيبه أو تضعفه وتحد منه, وحتى لا يقال عن هؤلاء المسلمين أنهم لا ينتمون إلى أوطانهم, وهذا من أسوأ ما يمكن أن يقال بحقهم, ومن أخطر ما يترتب بسببه من ضرر عليهم.

كما أن انتماء هؤلاء إلى أوطانهم لا يعني انقطاع صلتهم بهويتهم, أو إضعاف علاقتهم بهذه الهوية, أو تفكيك تواصلهم بالمحيط الإسلامي, وقطع روابطهم به.

والمنطق الصحيح هو أن تساهم الهوية في بناء وترسيخ مفهوم الانتماء, وتقوية الشعور به, والمحافظة على ثباته وتجذره. والمحيط الإسلامي من جهته لا ينبغي عليه أن يتعامل مع هؤلاء المسلمين بعيداً عن مفهوم الانتماء إلى أوطانهم ومجتمعاتهم, أو يأتي هذا التعامل لإضعاف شعور هؤلاء بالانتماء بقصد أو بدون قصد, أو على أساس أن هؤلاء لا انتماء لهم, أو بخلفية أن الانتماء هو للهوية وليس للوطن, وكان الارتباط بالهوية يتعارض أو يتصادم مع الانتماء إلى الوطن. وهذه فرضية ليست خاطئة فحسب بل وخطيرة أيضاً, فمثل هذه الفرضية تساهم في تكوين صورة مشوهة عن المسلمين في أوطانهم, وطالما استغلت مثل هذه الصورة في تعمد الإضرار بالمسلمين في بعض المجتمعات غير الإسلامية, والتعامل معهم بسياسات تمييزية تهدف إلى التضييق عليهم, وتهميشهم, واستنقاص حقوقهم, وإهمال مناطقهم من ناحية التنمية والعمران, وهو الواقع الذي يظهر ويتجلى في العديد من المدن والمناطق التي يقطنها هؤلاء المسلمين.

من هنا ندرك قيمة وأهمية البحث والنظر في جدلية العلاقة بين الهوية والانتماء, وتأثير هذه الجدلية على واقع ومصير المسلمين في مجتمعاتهم غير المسلمة.

ـ 3 ـ

وفي نطاق هذه الجدلية أيضاً, ولكن من بعد آخر, هناك تأثير متبادل بين ما هو كائن, وما ينبغي أن يكون في العالم الإسلامي, وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون للمسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية. بمعنى أن واقع هؤلاء المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم يتأثر بصورة بالغة وكبيرة بواقع العالم الإسلامي, ضعفاً وقوة, تراجعاً وتقدماً, تخلفاً وتمدناً, فكلما ازداد العالم الإسلامي ضعفاً وتراجعاً وتخلفا,ً انعكس هذا الوضع سلباً على واقع أولئك المسلمين في النظرة لأنفسهم من جهة, وفي نظرة الآخرين إليهم من داخل مجتمعاتهم ومن خارجها من جهة أخرى, وكلما ازداد العالم الإسلامي قوة وتقدماً وتمدناً تغيرت مثل تلك النظرة على الذات, وفي نظرة الآخرين كذلك.

ولعل المسلمين في تلك المجتمعات, هم الأكثر إدراكاً وشعوراً بهذا الأمر, وهو أقرب إلى أذهانهم من المسلمين في المجتمعات الإسلامية, وفي هذا الشأن يقول الدكتور علي عزت بيجوفيتش (إن وضع الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية, يتوقف دائماً على قوة المجتمع الإسلامي وهيبته في العالم) ([3]) .

وهذا النمط من التأثير يحمل العالم الإسلامي قدراً من المسؤولية, ويفتح عليه حديث التقدم والتراجع.

وفي المقابل فإن واقع المسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية يؤثر أيضاً, ضعفاً وقوة, تراجعاً وتقدماً, تخلفاً وتمدناً على العالم الإسلامي. فكلما تحسنت أوضاع هؤلاء, وتقدموا في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والحضارية, فإن هذا التقدم يضيف إلى رصيد العالم الإسلامي قوة, وقدراً من الهيبة. وكلما ساءت أوضاع هؤلاء وتراجعوا في تلك المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والحضارية, فإن هذا التراجع يضيف إلى العالم الإسلامي ضعفاً, وينتقص من هيبته ومكانته في العالم.

هذه الصورة المزدوجة في تبادل التأثير, تلفت النظر إلى فكرة التقدم, والحاجة إلى التمدن, كسبيل لتغيير الأوضاع التي نحن عليها, وللارتقاء بالعلاقات بين العالم الإسلامي وبين المسلمين في مجتمعاتهم غير المسلمة, وحتى يكون للمسلمين هيبة ومكانة في هذا العالم.

وتقربنا هذه الفكرة إلى طبيعة المشكلة الحضارية في العالم الإسلامي, فجميع المعضلات والأزمات والتحديات التي نتحدث عنها, ناشئة ومتأثرة في كون أن العالم الإسلامي ما زال غير متمدن, هذا هو أصل الداء, وعلة العلل, وحسب عبارة مالك بن نبي (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته) ([4]), ويصور لنا هذا المنطق أن المشكلة هي في أنفسنا, وليس عند غيرنا (قل هو من عند أنفسكم) ([5]), ويصدق علينا قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ([6])

ـ 4 ـ

إلى جانب تلك الصورتين, هناك صورة ثالثة لا ينبغي أن تغفل في هذا السياق من الحديث, وتتحدد هذه الصورة في تأثير واقع الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية, على واقع الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة. فتحسن أوضاع الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية, يفترض أن يشجع على إمكانية تحسين واقع الأقليات المسلمة في تلك المجتمعات, ويشكل حافزاً قوياً في المطالبة بتحسين واقع هؤلاء والارتقاء به.

لهذا كان يفترض أن تحسن أوضاع الأقلية الصينية الكبيرة في ماليزيا, وبهذا المستوى الذي وصلت إليه هناك, أن يساهم في تشجيع الحكومة الصينية على الالتفات إلى أوضاع المسلمين الصينيين الذين يشكلون ثاني أكبر الأقليات, ويمثلون نسبة 10% من مجموع السكان, وتحسين هذه الأوضاع والارتقاء بها, وهذا ما لم يحدث بالمستوى الذي يقارن بأوضاع الصينيين في ماليزيا. وهذه المفارقة ينبغي أن يلتفت إليها وباهتمام, المسلمون الصينيون, ويركزون عليها, وهم يطالبون بتحسين أوضاعهم, والارتقاء بها بما يعادل مستوى غيرهم من المواطنين الصينيين.

ومن وجه آخر يصلح أن يكون هذا المثال, نموذجاً في إمكانية مساهمة الأقليات غير المسلمة في بناء التقدم الحضاري للمجتمعات الإسلامية, مثل ما ساهمت الأقلية الصينية في بناء التقدم الحضاري لماليزيا, حيث كان لها دور حيوي ومهم في هذا المجال, ويذكره لها الماليزيين قبل غيرهم. وذلك بعد أن تبنت ماليزيا سياسة اقتصادية جديدة منذ عام 1970م, ركزت فيها على اقتران التنمية بالمساواة, لإتاحة فرص النمو والتقدم والمشاركة لمختلف مكونات التعدد الديني والعرقي في ماليزيا. وتمثل ماليزيا اليوم نموذجاً ناجحاً لتعايش الأقليات الدينية والعرقية.

ونفس هذا الدور الذي قامت به الأقلية الصينية في ماليزيا, يمكن أن تقوم به الأقليات الأخرى غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية, متى ما ضمنت هذه الأقليات حقوقها, وشعرت بالمساواة في التعامل معها, وأدمجت في مشاريع التقدم والتنمية, وبتعبير آخر متى ما تحقق عندها التوازن بين جدلية الهوية والانتماء, الهوية التي تعيد لها التوازن النفسي والفكري, والانتماء الذي يبعث فيها روح المشاركة والإحساس بالواجب. بهذا المنظور ينبغي النظر لجدلية العلاقة بين الهوية والانتماء.

 

 

 

[1] _ ألكسي مالا شينكو. الإسلام.. الثابت الحضاري والمتغيرات السياسية, ترجمة: ممتاز بدري الشيخ, دمشق: دار الحارث, 1999م, ص154.

[2] _ حوار مع الدكتور مصطفى تسيريتش. الشرق الأوسط, لندن, الخميس 13 يوليو 2006م, العدد 10089.

[3] _ علي عزت بيجوفيتش. الإعلان الإسلامي, ترجمة: محمد يوسف عدس, القاهرة: دار الشروق, 1999م, ص82.

[4] _ مالك بن نبي. شروط النهضة, ترجمة: عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين, دمشق: دار الفكر, 2000م, ص21.

[5] _ سورة آل عمران, الآية 165.

[6] _ سورة الرعد, الآية 11.