المشكلات الثقافية للأقليات المسلمة حلول ومقترحات

المشكلات الثقافية للأقليات المسلمة حلول ومقترحات

 

 

المشكلات الثقافية للأقليات المسلمة حلول ومقترحات

 

 

محمد أمير ناشر النعم

استاد جامعي في سوريا

 

مدخل:

في الثلث الأول من القرن العشرين أعلن برناد شو: «سيأتي على البشر زمان يدينون فيه بدين واحد، ويتكلمون لغة واحدة، أما ذاك الدين فهو الإسلام المجدَّد، وأما اللغة فالإنكليزية» ([1]).

وبالنظر إلى الفترة التي قيل فيها هذا الكلام فإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن أنه مزحة من مزحات برناد شو، المنطوية على المبالغة ودمج المتناقضات أو المتباعدات (الإسلام/ الإنكليزية)، لإضفاء جوٍّ من الترفيه المتبَّل بالسخرية والإثارة. ذلك أنه قيل في زمن أوج سكرة الاستعلاء والصلف والجبروت الأوربي، والذي لم يتورع أربابه عن تسميته بزمن (الاكتشافات الاستعمارية) و(الفتوحات الاستعمارية)، زمن سيادة الرجل الأبيض فاتح العالم وقاهره، الذي عبّر عن نفسيته أدق تعبير الأديب الإنكليزي رديارد كبلنج (ت: 1936م) حين قال: «الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا». يقصد بذلك أن الفاعل العامل العالم لن يلتقي الخامل العاطل الحالم، أو بتحديد أدق أن الحي لن يلتقي الميت، لأنّ الشرق كان في نظر ذلك الزمن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن أطيح به في غيابة رمال صحرائه وفيا فيه.

ولكن بالنظر إلى برنارد شو نفسه، وبالنظر إلى أفكاره وتأملاته التي راعها أن تنساق وراء طنطنات ذلك العصر،  يمكن الجزم بأن هذا الرجل كان في أعلى درجات الجد والمسؤولية حين نطق بهذا الكلام، فقد كان يتمتع بأفق شبيه بأفق غوته القائل في (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي): «لله المشرق والمغرب، وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعاً، فالكل منه وإليه».

ومن هنا فقد رأينا أنه لم يكد ينته ذلك القرن حتى انجلى عن إقرار بصحة تلك المقولة في شقها الثاني، أعني سيادة اللغة الإنكليزية. أما في الشق الأول منها فكانت الأعوام التالية حافلة بالإرهاصات، وغدت طلائع صحة هذا القول تتتابع، وبوادر صدق هذا الاستشراف تتوالى، فانتقلنا، على سبيل المثال، من الحديث عن الأقليات المسلمة الوافدة إلى الغرب، إلى الحديث عن الأقليات المسلمة الغربية، من أبناء الغرب نفسه، ومن سكانه ومواطنيه، وغدا من الواضح لدى ثلة من المفكرين أنّ القطب الذي يتجه إليه مجرى التاريخ هو ما تعبّر عنه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:9). ورصد الراصدون تلك الطلائع، وأحصى المحصون هاتيك البوادر ونظّر المنظرون لشروط النهضة وأسباب الإقلاع في مسيرة الظهور والإظهار، ولنا أن نختار مثالاً لذلك ما كتبه المفكر الفرنسي روجيه غارودي تحت عنوان: (الإسلام دين المستقبل)، أو ما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي حول (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين) حيث قدّم المسوّغات التي تضع استشراف برنارد شو في عالم المعقول والمقبول، بل في عالم الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، غير أنه ربط ذلك كله بشرط وحيد ألا وهو تجاوز (أزمة الحضارة) التي يعاني منها الفرد المسلم، ويضرب لذلك المثل الرمزي التالي: «هل ترون أرضاّ عطشى تنتظر الري من الماء؟ هل نستطيع ريها بماء يجري تحت مستواها؟ الجواب: لا .. لن يسقي الماء الأرض بالصعود إليها، وإنما بالانحدار، وذلك بحكم السنن الإلهية عن طريق الجاذبية. إذن: إذا أراد المسلم أن يقوم بدور الري بالنسبة إلى الشعوب المتحضرة، وأراد بعبارة أوضح، أن يقدم المبررات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلاً القيام بهذا الدور، إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادراً على تعميم ذلك الفضل الذي أعطاه الله له (أعني دينه)، وعندها فقط يصبح قادراً أيضاً على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة، فيرويها بالحقيقة الإسلامية والهدى» ([2]) .

والآن وبعد أن تجاوزنا الثلث الأخير من القرن العشرين برمته يجب أن نقف وقفة مساءلة ومراجعة وتقييم: أين كنا؟ وأين صرنا؟ وهل بلغ ماؤنا مستوى الأرض العطشى؟ وهل تجاوزه وسما عليه؟

والجواب: على الرغم من تجاوزنا عتبة ذلك القرن، وانتقالنا إلى رحاب قرن جديد، فإنّ من طلائعنا لمن تسلل لواذاً، وتوارى خجلاً، وإنّ منها لمن خرّ صريع نوم عميق، وإنّ منها لمن ظل يراوح في مكانه باحتشاد فوضوي رهيب، وكانت النتيجة أن دعمنا مقولة كبلنج، وأضعفنا رؤية غوته، وكذّبنا استشراف برنارد شو بعد أن أثبتنا للعالم أجمع أننا لم ننضج له بتاتاً.

وهذا ما يدفعنا للحديث عن أزمة تعصف بنا، وهي في رأيي أزمة ثقافة تجلّت في ناحيتين:

1ـ غوغائية في إدراك المفاهيم والمعطيات المعرفية الإسلامية.

2- خلل في التحويل والتطبيق.

فالثقافة هي مخزون القيم والمعارف المحرّك، أو لنقل: العقل الباطن المحرّك، على اعتبار أنها: «ذلك الذي يبقى حينما ننسى كل شيء» ([3]) ، كما عبر إدوار هوريو، وهي في الوقت ذاته السلوك الظاهري المجسد لذلك المخزون على اعتبار أنها: «استخدام، وإعمال، وتحويل المعطى المعرفي إلى سلوك يصبّ في مصبِّ هدف واضح، كما يجعل الإنسان السهم مثقفاً جاهزاً للرمي ويرميه،  فكذلك الاستخدام للمعطى المعرفي» ([4]) ، كما عرّفها أستاذنا محمود عكّام.

 

أهمية البحث:

تنطلق أهمية  الحديث عن هذه الأزمة لدى الأقليات المسلمة من خلال حيثيتين:

أـ حيثية العدد، إذ تشير معظم الإحصاءات إلى أن عدد الأقليات المسلمة يبلغ ثلث عدد المسلمين في العالم.

ب – حيثية الدور النوعي الذي يمكن أن تضطلع به هذه الأقليات، ولا سيما الغربية منها، فهي الواجهة الأولى التي يتم عرض الإسلام من خلالها عرضاً عالمياً، ومن هنا كان صلاح أمرها صلاحاً لنا، وفساده أو ضعفه وبالاً علينا.

 

تفصيل البحث:

أولا: غوغائية في إدراك المفاهيم والمعطيات المعرفية الإسلامية:

والغوغائية هي انعدام في التوثيق والتحقيق أو ضعف فيهما.

أـ الغوغائية في مستوى التوثيق:

ـ بعدم تحري الدقة في النقل، وبالتقصير في التأكد من صحة نسبة تلك المفاهيم والمعطيات إلى الإسلام، ويظهر هذا من خلال الكم الهائل من الروايات التي نتناقلها وننسبها إلى من لا علاقة له بها، سواء أكانت أحاديث ترفع إلى النبي(ص) لتسويغ ما هو قائم من العادات المستحكمة، أو آراء ومقولات تنسب إلى المذاهب المخالفة تشنيعاً عليها، وإظهاراً لها في مستوى فظيع من الضحالة في فهم الإسلام، تبريراً لأحكام الفسق أو الكفر التي توصم بها.

ـ وبالخلط بين العادة والدين، وإنزال العادة منزلة الدين، وتصديرها إلى غير المسلمين على أنها عاملة شاملة، ولكن شتان ما بينهما، فالدين وضع إلهي مرتبط بالإنسان، حيثما كان الإنسان. أما العادة فوضع قائم على البيئة والظرف الاجتماعي، ومرتبط بهما، لذا كان من الطبيعي أن تختلف العادة من بيئة إلى بيئة، ومن مجتمع إلى مجتمع،  ومن زمن إلى آخر.

يقول الدكتور محمود عكام: »قد نرى أنّ الإسلام يُرفض أحياناً، وذلك لأنه حُمّل عاداتنا على أنها جزء هام منه، وعلى أنها جزء من أخلاقه، ولطالما طبع بعضنا عاداته – التي تكونت نتيجة بيئة – بطابع الإسلام، وراح يدعو إليها على أنها أخلاق الإسلام، أو على أنها أخلاق الإنسان، أو على أنها اخلاق قابلة للتصدير عبر القارات، وعبر الأزمنة لكل الإنسان» ([5]) .

ـ ويجعل الفهوم نصوصاً، ومعاملتها معاملة النصوص، بل حجب النصوص بها وحلولها محل النصوص. وهنا تطالعنا مشكلة هي في رأيي من أخطر المشكلات الثقافية الإسلامية في الغرب، ألا وهي مشكلة ترجمة القرآن الكريم، فكثير من الترجمات تتجاوز منطوق الآيات إلى فهوم المترجم، أو إلى فهوم جماعته أو حلفه أو مشربه، وتقدمها على أنها هي منطوق الآيات.

إنّ هذه الغوغائية التي تجتاح العالم الإسلامي بأسره، بما فيه الأقليات المسلمة هي المسؤولة عن إيجاد أكثر من نسخة للإسلام، ولأجل ذلك يتكرر الاعتراض المحق ويتجدد: عن أي إسلام تحدثوننا؟ عن الإسلام الأفغاني، أم الإسلام الإيراني، أم الإسلام السعودي، أم الإسلام السوداني؟ إلى آخر ما هنالك.

ب – الغوغائية في مستوى التحقيق:

بالأخذ المشتت لهذه المفاهيم والمعطيات، وعدم ضبط معانيها المرادة ودلالاتها المقصودة ضبطاً واضحاً، وعدم مراعاة تماسكها ومنطقيتها وتكاملها، وطغيان جانب منها على بقية الجوانب، في حين إن النبي(ص) يقول في حديث يرويه صاحب دلائل النبوة: (لا يقوم بهذا الدين إلا من حاطه بكل جوانبه) ([6]) .

وأن تحوطه بكل جوانبه يعني: أن تعرفه وتتصوره أولاً، وأن يكون تصورك له متكاملاً ثانياُ، فالكليات مع الجزئيات تشكل كلاً منسجماً، ولوحة متناسقة الألوان مترابطة الأجزاء، فهل يعي المسلمون أنهم بحاجة إلى التوثق والتحقيق، فالأخذ المشتت للمفاهيم والمعطيات لثغ عقل طفولي، وتأتأة في المعنى هي أشد عيباً من التأتأة في اللفظ، والناس اليوم في بحثهم عن مضمون يتبنونه إنما يتلمسون التكامل في مفاهيمه، والانسجام في أجزائه، والتوافق والتناسق بين جزئياته، لأنّ مسيرة الإنسان تكاملية، وهو باحث عن الكمال من خلال التكامل.

 

غوغائية فقه الأقليات:

ومن بين أخلاط هذه الحالة الغوغائية انبثق ما دُعي بـ (فقه الأقليات) الذي أراد له روّاده كالدكتور طه جابر العلواني، والدكتور يوسف القرضاوي أن يقوم بدور المواءمة والأقلمة بين أحكام الشرع ومتطلبات الواقع، وأن يغدو هذا الفقه دليلاُ آخر على صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في الظروف والأحوال الخاصة بجماعة معينة في مكان معين.

غير أن الفقهاء المعاصرين انقسموا حيال هذا المصطلح إلى فئتين:

أ- فئة أنكرته من أصله، ورأت فيه مؤامرة على الإسلام، ومن هؤلاء الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حيث يقول: «كنّا سعداء بعدد المسلمين المتنامي في الغرب، حتى راودنا الأمل بأن يعمل تمسكهم بالإسلام وطاعة أحكامه على صهر المقاومة الباردة للحضارة الغربية المنحرفة في تيار الحضارة الاسلامية، لكن الدعوة اليوم إلى (فقه الأقليات) تنذرنا بكارثة تنقض آمالنا، وها نحن ننذر بصهر الوجود الإسلامي في تيار الحضارة الغربية المنحرفة، وهذا النوع من الفقه كفيل بوقوع هذه الكارثة» ([7]) .

ب – فئة أخرى أقرته، ولكنها عبأته بأحكام فوق الزمان وفوق المكان، وفتاوى فوق الحاجة وفوق الضرورة، فتاوى تتناقض تناقضاً تاماً مع مصالح هذه الأقليات ومنافعها، ذلك أنها صدرت عن فقه مكبّل بمصطلحات ومبادئ تاريخية، أو غير واقعية، أو مشكوك فيها أصلاً، كـ: دار الإسلام، ودار الحرب، ودار الكفر، وسد الذرائع.

وقد انطلقت هذه الفتاوى من الإستراتيجيات التالية:

1ـ الحماية بالعزل، أي حماية الجسد الاجتماعي والثقافي المسلم بعزله عن محيطه الملوث.

2- اعتبار وجود المسلمين في تلك الديار مؤقت، على الرغم من أنهم يعيشون فيها منذ ثلاثة أجيال.

3- اعتبار الأقليات المسلمة مستوطنين تابعين للعالم الإسلامي.

وهنا تطالعنا الفتاوى التي تمنع المسلمين من تهنئة المسيحيين في مناسباتهم الدينية ([8]) ، والفتاوى التي تحرم عليهم التجنس بجنسية البلد الذي يقطنون فيه ([9]) ، وتلك التي تحرم عليهم أخذ القروض البنكية لأجل السكن، حتى ولو كان ما يدفعونه للبنك من قسط شهري أقل من قسط الإيجار ([10]) ، وتلك التي تحرّم عليهم العمل السياسي في تلك البلدان ([11]) .

نعم يا ويح هذا الفقه الذي يحوّل حياة المسلم إلى نوع من إعلان حالة طوارئ دائمة، بما يرافقها من استنفار مزعج وتوتر مقلق. يقول الإنجيل: «والويل لكم أيضاً يا علماء الشريعة فإنكم تحملون الناس أحمالاً مرهقة، وأنتم لا تمسونها بإصبع من أصابعكم» لوقا: 11/47.

 

ثانياً: خلل في التحويل والتطبيق:

إذا كانت الثقافة في أحد تعريفاتها، كما رأينا، هي: «تحويل المعطى المعرفي إلى سلوك»، فإنّ مما يفتّ بعضدها ضخامة المعطى المعرفي، وهزالة التحويل، وهذا بالتحديد ما نعاني منه، فهزالة التحويل عنوان عريض من عناوين ثقافتنا، وسمة لافتة من سماتها، وهو ههنا متفاوت الأشكال في السخف، فمرة هو تحويل متعثر لا يواكبه إلا الزلل، وأخرى هو تحويل متعسف يتحاذى فيه العدل والظلم، وثالثة هو تحويل حرفي ناتج عن تصلب شرايين الفهم، ورابعة هو تحويل غير منسجم لا يعود على المعطى المعرفي إلا بالنقض.

ولا أجدني هنا محتاجاً لسرد الأمثلة والقصص الواقعية على هذا الخلل، ولا لالتقاط صور من مظاهره، فهي تقفز في وجوهنا من حيث لا نحتسب، لذا أكتفي هنا بذكر العناوين لأقول:

لننظر في معطياتنا المعرفية:

ـ المؤسسة للعمل والجد والمثابرة، وكيف جلوناها  في التحويل بطالة وتهاوناً ومهاترة!

ـ والداعية للجهاد والصبر والمصابرة، وكيف غدت في التطبيق تقاعساً ولجاجة ومكابرة!

ـ والراعية للتثبّت والضبط والإتقان، وكيف أضحت نوعاً من التضييع والتراخي والفلتان!

ـ والداعمة للتزكية والمراقبة والإحسان، وكيف باتت ضروباً من العفونة والغفلة والنسيان!

والقائمة تطول لتشمل العدل، والصدق، والرفق، والتيسير، والسماحة، والنظافة، وإماطة الأذى عن الطريق، وترك المرء ما لا يعنيه، وإن ذهبنا في إحصاء هذه المفردات لعددنا منها على الأقل بضعاً وسبعين مفردة.

على أنّ هذا الخلل يظهر لدى الأقليات المسلمة في الغرب بشكل أفدح بحسب قاعدة: «وبضدها تتميز الأشياء»، فالغرب، مهما قيل عنه، يبقى أكثر وفاءً وانسجاماً في تحويله وتطبيقه لمعطياته المعرفية منا، لذا سبقنا وبزّنا، وبذا غدونا، بالقياس إليه، في حالة إفلاس حضاري.

 

ثالثاً: حلول ومقترحات:

إعلان حالة الإفلاس:

فلنعترف، والاعتراف، كما يقال، يزيل الاقتراف، فلنعترف أننا أفلسنا، ولو بيننا وبين أنفسنا، من أجل أن نزيح عن كاهلنا كل ركام المرحلة السابقة التي خنقت روحنا وآمالنا. إنّ هذا الإعلان هو أولى درجات التحضير للمرحلة الجديدة التي يجب أن نفتح فيها صفحات جديدة في دفتر جديد، وعندها فقط يمكن أن نسدّد ديوننا لأنفسنا وللآخرين. أما الآن فيجب وضع حد للانزلاق والاستهتار والمكابرة والتضييع. يجب أن نعترف بصدق، وكفانا أن نكرر سؤال: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، وكأننا لم ندرك حتى هذه اللحظة أنه لم يكن من خاسر أكبر سوانا، فقد خسرنا أنفسنا قبل أن يخسرنا العالم.

إذا فلنمسك بدفترنا الجديد، ولتكن عناوين صفحاته مايلي:

 

الصفحة الأولى: صفحة التوثيق

إننا مطالبون بـ (التوثيق)، لأنه الضامن الوحيد للثقافة أن لا تتحول إلى فلكلور، ومأمورون به لأننا نتحدث عن ثقافة مبدئية تستقي من معين النص الإلهي، والتعليم النبوي.

وهنا يجب أن نطالب المنظمات والهيئات الإسلامية المسؤولة عن الحالة الثقافية الإسلامية أن تضع في أولى اهتماماتها قضية (التوثيق)، بل أن تضعها في صلب إستراتيجية العمل الإسلامي الثقافي في الغرب ([12]) .

التوثيق وقلة المصادر:

مما يؤثر على قضية (التوثيق) سلباً قلة مصادر المعطيات المعرفية الإسلامية في الغرب، من صحافة، وتلفزيون، وإذاعة، وكتب دينية، وكتب مدرسية.

ولنضرب لذلك مثلاً:

يُعد الإسلام الدين الثاني في فرنسا، ويأتي ترتيبه بعد الكاثوليكية، وقبل البروتستانتية واليهودية، وعلى الرغم من ذلك لا توجد جريدة يومية مسلمة، والمجلات الموجودة أو التي وجدت ذات توزيع ضيق، وهي:

ـ المسلم: (تصدر كل ثلاثة أشهر). تأسست سنة 1987م، ولها ألف مشترك.

ـ العالم الإسلامي: (أسبوعية) في شكل جريدة. توقف نشرها في صيف سنة 1996م.

 إسلام فرنسا: (تصدر كل ثلاثة أشهر)، في إخراج ممتاز، تأسست سنة 1996م.

ـ نجم الدين: (أسبوعية) بالعربية والفرنسية، ذات طابع تجاري، ولم تعد تصدر منذ سنة 1997م.

ـ أما المكتبات الدينية فقليلة جداً، ويوجد نقص في الترجمة إلى الفرنسية للكتب الدينية المناسبة لاحتياجات المواطنين المسلمين، كما لا توجد كتب لتعليم الدين للأطفال، باستثناء بعض الكتيبات الصغيرة عن الإسلام، نُشرت في مدينة ليون.

وفي الأجنحة الدينية في أغلب المكتبات الكبرى، فإنّ القسم المخصص للإسلام صغير جداً، والكتب المعروضة فيها مخصصة للأشخاص المهتمين بالاستشراق، أكثر من توجّهها للقراء المسلمين([13]) .

الصفحة الثانية: صفحة (التحقيق)

بينما لجأت اليهودية والمسيحية إلى المعجزات والتنبؤات، للبرهان على صدق الوحي، لجأ الإسلام إلى كمال النظرية الداخلي، في ذلك البرهان. ومن هنا طالبنا بـ (التحقيق) لأنه الكفيل ببيان هذا الكمال الذي يشكل الدليل الأعظم على صحة الإسلام وصلاحيته.

إن (التحقيق) لا يقوم إلا على الفهم، بل على أشد الفهم، الذي يختزن في طياته: الدراية والإلمام والشمول والاتساع، والرسم والتحديد، والضبط والتدقيق، وبهذا يقوم (التحقيق) بدور الصمغ الذي يمسك مفردات المعطى المعرفي الإسلامي أن تنزلق في وهاد الفوضى والتشتت والاختلال.

على أنّ أخطر مشكلة ثقافية ودعوية تواجهنا اليوم هو تحول الثقافة والدعوة إلى صناعة إعلامية تقوم على مبدأ الإثارة، وتخضع لمنطق الاستهلاك وقانون المنافسة التجارية، وعندها حدث عن الغوغائية ولا حرج! وها نحن اليوم أمام نجوم فيديو كليب ثقافي ودعوي مهمتهم إمتاع المشاهد لا تثقيفه، من خلال معطيات معرفية تخلو من (التوثيق) و(التحقيق) فيمزجون فيها الصفو بالكدر، والغرر بالعرر.

نعم! نحن مطالبون بتعرية كل من يطرح نفسه ناطقاً باسم الإسلام والثقافة الإسلامية من دون أن يقوم نطقه على صفتي (التوثيق) و(التحقيق)، تعريته من خلال تسليط الضوء على المستحفظين من أهل العلم، ممن قدم رؤية بانورامية إسلامية عامة، فكان في تقديمه معبراّ صادقاً، وممثلاً أميناً للثقافة الإسلامية خصوصاً، وللإسلام عموماً، فهؤلاء من يجب لفت النظر لهم، وإيصالهم، ونشر تراثهم، وتقريبه للناشئة وللشباب وللناس عامة دعماً لثقافة إسلامية صادقة متكاملة (موثقة) و(محققة). وهنا يحضرني ماقاله حجة الاسلام الإمام الغزالي حين دعا في (الإحياء)  إلى عدم لوم الناس إن رفضوا محمداً(ص) حين يدعون إليه، فلربما كان الداعي غير موثق ولا محقق، فدعاهم إلى مذمَّم لا إلى محمد، وهم في الحقيقة لم يرفضوا محمداً، وإنما رفضوا مذمماً.

 

(تحقيق) المصطلحات والمفاهيم:

كثيرة هي المصطلحات والمفاهيم في ثقافتنا الإسلامية التي تحتاج إلى إعادة رسم وإلى تجديد ضبط، ذلك أنها تمتلئ بإيحاءات يغلب على الظن أنها لم تكن مرادة من قبل الشارع ألبتة، ولكن مرادة من قبل التخلف والجمود والانحطاط، وهذا ما يعود على تحويلنا بالوبال، ففي حين نريد لأفرادنا أن يكونوا في تحويلهم نماذج مقنعة إذا هم نماذج مفجعة، وبينما نريد لهم أن يشكلوا بمجموعهم واقعاً داعماً، إذا بهم يتحولون واقعاً فاحماً، ولننظر، على سبيل المثال، في المصطلحات والمفاهيم التالية: (التدين)، (التقوى)، (الورع)، (الحجاب)، (الجهاد)! ولنفكّر في إيحاءاتها المرافقة لها! ولننظر فيمن يحكمها: هل هو المعنى والجوهر، أم الصورة والمظهر؟ وهكذا دواليك...

 

مسلمو الغرب و(التحقيق):

إذا كان المفكر لا يرى عمقاً إلا في الفكر الذي بينه وبين فكره صلة قربى، فإنه يجب على المسلم الغربي، ولا سيما الباحث والمثقف منه، أن يكون رائدنا في البحث عن صلات القربى الفكرية بين الإسلام والثقافة الإسلامية، وبين الفكر الغربي والعالمي، شرط أن تكون هذه الصلاة شرعية وغير متكلفة، وهذا ما يصب في مصلحة تقريب الثقافة الإسلامية للآخرين وتحبيبها إليهم، ولنا في أول أقلية مسلمة في تاريخنا قدوة حسنة، فها هو سيدنا جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) يقيم صلة القربى الفكرية بينه وبين النجاشي ملك الحبشة حين يتلو عليه آيات كريمات من سورة مريم، فيرق النجاشي له ولأصحابه، ويمنعهم من أعدائهم المكيين، ويسلم في نهاية المطاف.

 

الصفحة الثالثة: صفحة النموذج المقنع

في الصفحتين السابقتين: (التوثيق) و(التحقيق) عالجنا مشكلة الغوغائية في إدراك المعطيات المعرفية الثقافية، ها نحن الآن نقدّم إشارات في معالجة مشكلة الخلل في التحويل والتطبيق فنقول:

إنّ الثقافة الإسلامية ستبقى خداجاً حتى يجسدها حملة أوفياء يشكلون نماذج مقنعة في شتى حالاتهم وأوضاعهم ومجالاتهم، وفي ميادين الحياة كافة، فـ «منطقية الفكرة تقنع، ورؤيتها مطبقة تطمئن»، كما يقول أستاذنا الدكتور محمود عكام، وعليه فإنّ الغرب لن يطمئن إلى ديننا ولا إلى ثقافتنا إلا عندما يجدها مطبقة ومجسّدة في صورة مقنعة ومحببة، باعتبارها نموذجاً من النماذج البشرية التي تصنعها الثقافة الاسلامية.

ومن هنا نستطيع أن نعرّف النموذج المقنع بأنه: من يحول المعطيات المعرفية الموثقة والمحققة تحويلا شاملاً منسجماً غير متكلف ولا متعسف.

ومن أجل تفعيل هذا التحويل نشدد على قضية (الأسوة) بأن نتعرّفها  ونتبعها، فالمولى سبحانه وتعالى قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21)، يعني نموذجا مقنعاً  تتبعونه لتصيروا نماذج مقنعة كذلك، وقال تعالى ايضا: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108) فيه رجال.. فيه نماذج مقنعة على المستويات كافة، وفي الحالات جميعاً.

ويعجبني في هذا المقام وصف كزنتزاكس لقس قال عنه: «كان ذلك القس يجوب العالم، وهو يتحدث ويمازح السيدات، ولكن خلف هذا المظهر الخارجي اللاهي والديناميكي كان المسيح يتدلى».

 

وفي الختام:

على الرغم من كل شيء سنبقى نردد وقول ربنا سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:9).

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

([1]) انظر: مجلة الثقافة، ص 332. السنة الأولى 1993م، تحرير جميل صليبا، وكامل عياد، وخليل مردم بك.

([2]) مالك بن نبي: «مجالس دمشق»، ص 172 – 173، دمشق: دار الفكر.

([3]) نقلاً عن مالك بن نبي: «مشكلات الثقافة»، ص، دمشق: دار الفكر.

([4]) محمود عكام: «عصارات: كلمات في المنهج والنقد والحب»، ص 42، ط 1، دار فصلت).

([5]) انظر: محمود عكام: «رؤية مسلم حول الإنسان والأخلاق» ص 30، ط 2001م، حلب: دار فصلت.

([6]) أبو نعيم الأصبهاني: «دلائل النبوة» حديث رقم / 214/ ج 1، ص 371.

([7]) انظر: www.bouti.com.

([8]) انظر في هذا الصدد كتاب «الأقليات المسلمة: فتوى حول المسلمين الذين يعيشون كأقليات» للشيخين ابن باز والعثيمين، ففيه فتاوى وتوجيهات من هذا لقبيل..

([9]) انظر: وهبة الزحيلي: «فتاوى معاصرة»، ص 289. ط 1، دمشق: دار الفكر. وقد أفتى فيه: «وأما التجنس: فالأصل فيه الحرمة، لأنه انضمام لراية أو مظلة غير إسلامية، ولأنه يؤدي إلى تقوية الأعداء، كما هو الحاصل في هجرة الأدمغة، ولأن الجنسية يترتب عليها التزامات بواجبات قد تتنافى مع أصول الإسلام وأحكامه، كالمشاركة في القتال لمسلمين أو غير مسلمين، والإلزام ببعض التكاليف التي لا يقرها الإسلام، ولأن الرضا بالمقام بين غير المسلمين يؤدي الى محبة عاداتهم أو التأُثر بها واستحسانها، وبخاصة في عقول الأولاد، وللبيئة تأثير ملحوظ، لذا قال النبي(ص) فيما رواه أبو داود: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى نارهما.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) انظر: طه جابر العلواني: «مقدمة في فقه الأقليات» ط 1، سنة 1994، وفيه مناقشة فقهية حول دخول المسلمين ساحة المشاركة السياسية الأمريكية.

([12]) من هذه المنظمات نذكر المجلس الأعلى للتربية والثقافة في الغرب المنبثق في عام 2001 عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ويعقد المجلس دوراته سنوياً في إحدى العواصم الغربية.

([13]) للاستفاضة أكثر حول: وسائل التعبير التي يتوفر عليها المسلمون في فرنسا، وما تواجهه من محدودية ومعوقات، وما يطرح من مقترحات لتطوير هذه الوسائل، يراجع: محمد صلاح الدين المستاوي: «من أجل اندماج حقيق للإسلام في فرنسا». مقال في مجلة «الإسلام اليوم» عدد: 16-17، ص 37 وما بعدها.